
أخرج ابن حجر الهيثمي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلّى عليه وسلم : لألفين ما توزعت أحداً منكم عند الحوض فأقول :
هذا من أصحابي فيقول : أنّك لاتدري ما أحدثوا بعدك .
وعن أبي الدرداء قال : قلت يارسول الله بلغني أنك تقول :
إن ناساً من أمتي سيكفرون بعد إيمانهم قال : أجل يا أبا الدرداء ؟ ولست منهم (1) .
وأخرج الإمام أحمد عن أبي بكرة قال :
قال رسول الله ليردن الحوض عليّ رجال ممن صحبني ، ورآني ، فإذا رفعوا إلى ورأيتهم اختلجوا دوني ، فلأقولنّ أصحابي ، أصحابي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (2) .
وأخرج الإمام أحمد عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال :
ليردن الحوض عليّ رجال حتى إذا رأيتم رفعوا إلى ، فاختلجوا دوني فلأقولنّ :
ياربّ أصحابي ، أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (3) .
وأخرج الإمام أحمد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :
قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بموعظة فقال :
أنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة ، عراة ، غزلاً ، كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين .
فأول الخلايق يكسي ابراهيم خليل الرّحمن عزّوجلّ ، ثم يؤخذ بقوم منكم ذات الشمال .
قال ابن جعفر : وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول :
يارب أصحابي قال : فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك لم يزالوا مرتدّين (4) على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح :
وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ) الآية ، إلى ( إنك أنت العزيز الحكيم ) (5) .
ما أحدثه الصحابة بعد الرسول (صلی الله عليه وآله و سلم)
قال محمد بن عمر الواقدي :
وكان طلحة بن عبيد الله ، وابن عباس ، وجابر بن عبدالله ، يقولون :
صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم على قتلى أحد ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم :
أنا على هؤلاء شهيد .
فقال ابو بكر: يا رسول الله ، أليس إخواننا ؛ أسلموا كما أسلمنا ، وجاهدوا كما جاهدنا ؟ قال : بلى ، ولكن هؤلاء لم يأكلوا من أجورهم شيئأ ، ولا أدري ما تحدثون بعدي ، فبكي أبو بكر وقال : إنّا لكائنون بعدك (6) ؟
وأخرج البخاري عن العلاء بن المسيب عن أبيه قال : لقيت البراء ابن عازب (رض) فقلت : طوبى لك ، صحبت النبي صلى الله عليه وسلم ، وبايعته تحت الشجرة . فقال :
يابن أخي ، لا تدري ما أحدثنا بعده (7) .
وقال العلامة الشيخ لطف الله الصافي دام ظلّه :
نعم : لو قال : لقد رضي الله عن الذين بايعوك ، تشمل كلّ من بايعه كائنا من كان ، وإن شك في إيمانه ، ولكن لا يجوز التمسك به فيمن شككنا في أصل بيعته ، كما لا يثبت إيمان من شككنا في إيمانه بقوله : ( لقد رضي الله عن المؤمنين ) .
وهذا كلام متين في غاية المتانة .
وايضاً هذه الآية لا تدل على حسن خاتمة أمر جميع المبايعين المؤمنين . وإن فسق بعضهم ، أو نافق . لأنها لا تدل على أزيد من أنّ الله تعالى رضي عنهم ببيعتهم هذه ، أي قبل عنهم هذه البيعة ، ويثيبهم عليها ، وهذا مشروط بعدم إحداث المانع من قبلهم .
والحاصل : إن اتصاف الشخص بكونه مرضيّاً لا يكون إلاّ بعمله المرضيّ ، والعامل لا يتّصف بنفسه بهذه الصفة ، فهذه الصفة تعرض على الشخص بواسطة علمه . فإذا صدر عنه الفعل الحسن ، والعمل المرضي ، يوصف العامل بهذه الصفة أيضاً ، ولا دلالة للآية على أن من رضي الله عنه بواسطة عمله يكون مرضيّاً طول عمره ، وإن صدرت منه المعاصي الموبقة بعد ذلك ، ورضا الله تعالى عن أهل بيعة الحديبية ليس مستلزماً لرضاه عنهم إلى الأبد .
والدليل على ذلك قوله تعالى في هذه السورة في شأن أهل هذه البيعة ، وتعظيمها :
( إن الذين يبايعونك ، إنّما يبايعون الله ، يد الله فوق أيديهم ، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً ) .
فلو لم يجز أن يكون في المبايعين من ينكث بيعته ، وكان رضا الله عنهم مستلزماً لرضاه عنهم إلى الأبد لا فائدة لقوله :
( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) .
وأيضاً قد دلّت آيات من القرآن ، وأحاديث صحيحة على وقوع غضب الله تعالى . وسخطه على من يرتكب بعض المعاصي ، ومع ذلك لم يقل أحد بأن هذا مانع من حسن إيمانه في المستقبل ، وذلك مثل قوله تعالى في سورة الأنفال :
( ومن يولّهم يومئذ دبره إلاّ متحرفاً لقتال ، أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير ) .
فإذا لم يكن بوء شخص ، أو قوم إلى غضب الله مانعاً من حسن حاله في المستقبل لم يكن رضاه أيضاً سبباً لعدم صدور فسق ، أو كفر من العبد بعد ذلك .
والقول بدلالة على حسن حال المبايعين مطلقاً ، وعدم تأثير صدور الفسق عنهم في ذلك مستلزم للقول بوقوع التعارض بين هذه الآية ، وبين آية الأنفال المذكورة فيمن ولّى دبره عن الجهاد من المبايعين لأنها أيضاً تدل باطلاقها على سوء حال من يولّي دبره ، وعدم تأثير صدور الحسنات في رفع ذلك .
والحديث الأول صريح بأن حسن خاتمة مثل : أبى بكر من الصحابة المبايعين المهاجرين موقوف على ما يحدث بعد الرّسول (صلی الله عليه وآله و سلم) .
هذا مختصر الكلام حول مدلول الآية الكريمة .
وعليه : ليس المستفاد منها أن أبا بكر وعمر لم يمحضا الإيمان .
نعم : لا يثبت بها إيمان واحد معين من المبايعين على نحو التفصيل ، فلا يصح التمسك بها في إثبات إيمان صحابي خاص ، وعدم نفاقه ، أو حسن إيمانه إذا شك فيه (8) .
لعن الرسول (صلی الله عليه وآله و سلم) لبعض الصحابة
قال برهان الدين الحلبي : وفي رواية :
صار صلّى الله عليه وسلم يقول :
اللهم العن فلاناً ، وفلاناً (9) .
وأخرج البخاري عن يحيى بن عبدالله السّلمي : أخبرنا معمر عن الزهري ، حدثني سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الأخيرة من الفجر يقول :
اللهم العن فلاناً ، وفلاناً بعدما يقول :
سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ، فأنزل الله :
( ليس لك من الأمر شيء ) إلى قوله ( فإنهم ظالمون ) (10) .
وقال السيوطي : وأخرج أحمد ، والبخاري ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جرير ، والبيهقي في ( الدلائل ) عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أحد :
اللهم العن أبا سفيان .
اللهم العن الحرث بن هشام .
اللّهم العن سهيل بن عمرو .
واللّهم العن صفوان بن أمية . ثم قال السيوطي :
وأخرج الترمذي ، وصححه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر قال :
كان النبي صلّى الله عليه وسلم يدعو على أربعة نفر ... وكان يقول في صلاة الفجر :
اللّهم العن فلانا و فلانا .. (11) .
وأخرج نصر بن مزاحم المنقري عن عبدالغفار بن القاسم عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب قال :
أقبل أبو سفيان ومعه معاوية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم :
« اللّهم العن التابع والمتبوع ، اللّهم عليك بالاقعيس » .
فقال ابن البراء لأبيه :
من الاقيعس (12) ؟ قال معاوية (13) .
واخرج نصر عن علي بن الأقمر (14) في آخر حديثه قال :
فنظر رسول الله إلى أبي سفيان وهو راكب ، ومعاوية وأخوه ، أحدهما قائد والآخر سائق ، فلمّا نظر إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال :
« اللّهم العن القائد ، والسائق ، والراكب » .
قلنا :
أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! قال : نعم ، وإلا فصمتا أذناي كما عميتا عيناي (15) .
قال الشيخ أبو رية رحمة الله :
ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن علماء الجرح والتعديل قد بذلوا جهداً كبيراً في تمحيص ما روي من أحاديث رسول الله ممّا يستحقّون عليه الثناء الطيب ، والتقدير الحق .
بيد أنهم على فضلهم وتدقيقهم ، لم يبلغوا الغاية من عملهم ، إذ لا تزال كتب الحديث تحمل الكثير من الأحاديث المشكلة ، أو التي يبدو عليها الوضع ، ولم يكن ذلك عن تقصير منهم ـ رحمهم الله ـ لأنهم قد بذلوا كل طاقتهم في عملهم ، وإنّما كان ذلك لأمر فوق قدرتهم البشريّة ، ذلك بأن حكمهم على الرجال إنّما كان ( لظاهر أحوالهم ) وما وصل إلى علمهم من أخبارهم ، أما بواطنهم ، ودخائل نفوسهم ، ومطويّات ضمائرهم ، فهذا أمر من وراء إدراكهم لا يطلع عليه إلاّ علام الغيوب ، وربّ رجل حسن السمت ، طيب المظهر ، إذا كشف عن دخيلته تبين لك سوء مخبره ، وهذا أمر لا يمتري فيه أحد ، وقد تكلم فيه العلماء المحققون .
قال مجتهد اليمن الوزير اليماني في ( الروض الباسم ) : (1/ 151 ) :
أن الإجماع منعقد على الاعتبار بالظاهر دون الباطن ، ومن نجم نفاقه ، وظهر كفره يترك حديثه ومن ( ظهر إسلامه ) وأمانته ، وصدقه قُبِلَ ، وإن كان في الباطن خلاف ما ظهر منه ، فقد عملنا بما وجب علينا ، وبذلنا في طلب الحق جهدنا ، وقد كان رسول الله يعمل بالظاهر ، ويتبّرأ من علم الباطن ، وإلى ذلك الإشارة في هذه الآية بقوله لا تعلهم نحن نعلهم ) أي إنه (صلی الله عليه وآله و سلم) لم يكن يعلم المنافقين وذلك في الآية « 101 » من سورة التوبة ونصّها :
( وممّن حولكم من الأعراب منافقون ، ومن أهل المدينة مردوا على النّفاق ، لا تعلمهم نحن نعلمهم ، سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم )(16) .
المصادر:
1- مجمع الزوائد 9 / 367 .
2- مسند الإمام أحمد : 5/ 50 الطبعة الأولى .
3- المصدر نفسه : 3 / 281 .
4- الارتداد : الرجوع ، ومنه المرتد ، والردة ـ بالكسر ـ إسم منه ، أي الإرتداد . ( المختار من صحاح اللغة ) .
5- مسند الإمام أحمد : 1 / 235 طبعة مصر
6- كتاب المغازي : 1/ 310 .
7- صحيح البخاري : 3/ 144 ، باب غزوة الحديبية من كتاب المغازي . ط مصر موطأ الإمام مالك : 2 / 462 باب الشهداء في سبيل الله ، الحديث رقم 32 . تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي .
8- مع الخطيب في خطوطه العريضة : ص 120، 122 .
9- السيرة الحلبية : 2/ 234 طبعة مصر .
10- صحيح البخاري مشكول : 3/ 24 طبعة عيسى البابي الحلبي بمصر .
11- الدر المنثور في التفسير المأثور : 2 / 71 .
12- قعس ومنه حديث الأخدود « فتقاعست أن تقع فيها » تقعس أي تأخر ومنه حديث الزبرقان « أبغض صبياننا إلينا الأقعيس الذكر » هو تصغير الأقعس . النهاية في غريب الحديث والأثر 4 / 87 ـ 88 .
13- وقعة صفين ص 217 تحقيق وشرح الأستاذ عبد السلام محمد هارون طبع مصر .
14- هو علي بن الأقمر بن عمر الهمداني الوادعي . كوفي ثقة .
15- أضواء على السنة المحمدية ص 337 ط ثالثة لدار المعارف بمصر .