
لماذا لم يحتل مسلم بن عقيل الكوفة احتلالاً عسكريّاً ويسيطر على الحكم فيها ، وخاصّة بعد أن تمّ لديه مبايعة اثني عشر ألفاً من أنصاره ، وقد كانوا وَعَدوه أو وعَدوا الحسين ( عليه السلام ) ـ في بعض كتبهم إليه ـ أن يطردوا النعمان بن بشير ، حاكم الكوفة ممثّلاً عن الحاكم الأموي ، وقالوا : ( ثمّ إنّه ليس علينا إمام غيرك ، فأقبِل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة ولسنا نجتمع معه في جمعة ولا جماعة ولا عيد ، ولو بَلَغنا إقبالك إلينا ، أخرجناه حتّى نُلحقه بالشام إن شاء الله تعالى ) .
حين أرسل الإمام الحسين ( عليه السلام ) مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، كتبَ معهُ كتاباً يُعرّفه لأهلها ويصفهُ بأنّه : ( أخي وابن عمّي ، وثقتي من أهل بيتي ، والمفضّل عندي ) (1) ، فهذه عدّة صفات :
أمّا كونهُ ابن عمّه : فهو تعبير عن قرابته فعلاً ؛ لأنّ عليّاً وعقيل ( سلام الله عليهما ) أخوان شقيقان ، وهما أبوا الحسين ومسلم .
وأمّا كونهُ أخاه : فهو على ما أعتقد أهمّ هذه الصفات على الإطلاق ؛ لأنّه لم يكن أخاً شقيقاً حقيقة ولا غير شقيق ، فلابدّ من حَمله على أحد معنيين : إمّا المعنى المجازي ، أو المعنى المعنوي ، ولا تنافي بينهما ؛ لأنّه في الظاهر أخ مجازي وفي الباطن أخ معنوي .
وفي هذا الصدد ينبغي أن نلتفت إلى أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) حين آخى بين أفراد المهاجرين والأنصار وترك عليّاً ( عليه السلام ) ، شكى إليه علي بأنّه لم يُعيّن له أخاً ؟ فقال : ( جَعلتك أخاً لنفسي ) (2) ، ومن هنا وردَ تشريفه بهذه الصفة بأنّه المخصوص بالأخوّة ، يعني مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وهذه ليست أخوّة مجازيّة بل أخوّة معنويّة وحقيقية على المستوى الإلهي .
ومحلّ الشاهد من ذلك أنّنا نسأل : لماذا نحمل أخوّة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) على الأخوّة المعنويّة ، ولا نحمل أخوّة الحسين على نفس المضمون ، فإمّا أن نحملهما معاً على عالَم المجاز ، وإمّا أن نحملهما معاً على عالَم المعنى ، و لا يحقّ لنا أن نحمل بعضها هكذا وبعضها هكذا ؟
وحيث تعيّن أن تكون أخوّة علي ( عليه السلام ) لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) معنوية ، كذلك ينبغي أن تكون أخوّة مسلم بن عقيل للحسين ( عليه السلام ) معنوية ، كلّ ما في الأمر أنّ الفرق بين الأخوّتين : هو الفرق بين الشخصين أعني عليّاً ومسلماً من ناحية ، ورسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) والحسين من ناحية ثانية ، فهذه الأخوّة أدنى من تلك الأخوّة ؛ لأنّها تختلف عنها باختلاف الحسين عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، ولكنّها مع ذلك شريفة وعظيمة جدّاً ، بحيث لا تُقاس معها أيّ أخوّة أخرى في البشريّة .
هذا ، وأمّا قوله : ( ثقتي من أهل بيتي ) فهو واضح المعنى ، غير أنّ فيه جهتين من الحديث لابدّ من خوضهما :
الجهة الأولى : أنّ الوثاقة لا مَحالة تختلف ، فهناك الثقة ، وهناك الأوثق ، وهناك الأوثق منه ، وهكذا .
أمّا كلام الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، فيدلّ على أنّ مسلم بن عقيل ( سلام الله عليه ) ثقة للإمام المعصوم ( عليه السلام ) ، وهذه أعلى أشكال الوثاقة بعد العصمة .
الجهة الثانية : أنّه قد يقع السؤال : أنّ في العبارة دلالة أو إشعاراً بأنّه أوثق من غيره من الهاشميّين ( من أهل بيتي ) ، ولا يوجد مَن هو في مستواه ، مع أنّ فيهم الكثيرين ممّن يعدلونهُ في الوثاقة : كالعبّاس بن علي ، وعليّ بن الحسين الأكبر ، والقاسم بن الحسين السبط ، فضلاً عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسين ( عليه وعليهما السلام ) ، وهو الإمام المعصوم بعد الحسين ( عليه السلام ) ؟
وجواب ذلك على مستويين :
المستوى الأوّل : إنّ قوله : ( ثقتي من أهل بيتي ) ، لا دلالة فيه على أنّ ثقاته ( عليه السلام ) منحصرون فيه ، وإنّ غيره ليس من ثقاته ، أو أدنى منه في وثاقته ؛ فإنّ هذه الاستفادة وأمثالها تسمّى في علم الأصول من مفهوم الوصف ، وهو باطل على ما هو المُبرهن عليه هناك ؛ فإنّك لو وصفتَ شخصاً كريماً لم يكن معناه أنّ الآخرين ليسوا كُرماء ، أو لا يوجد كريم غيره ، وخاصّة إذا فَصَلنا نقطة بين الصفتين : أعني ( ثقتي ) من ناحية ، و ( من أهل بيتي ) من ناحية أخرى ؛ فإنّ هذا المعنى يكون واضح جدّاً ، ولا دليل على ارتباطهما من هذه الناحية .وعلى أيّ حال ، فلو كان ظاهر العبارة ذلك ، لابدّ من حَرفها عن ظاهرها وتأويلها ؛ لأنّ الظاهر إنّما يكون حجّة مع عدم قيام الدليل على بطلانه ، ومن العلوم بالضرورة أنّ مثل هذا الظاهر ـ بعد التنزّل جَدلاً عمّا قلناه ـ يكون غير مُحتمل الصحّة .
هذا ، وكلّ هذه المستويات من الكلام يمكن أن نقولها في الصفة الأخرى ، وهي قوله : ( والمفضّل عندي ) ، فراجع وتأمّل ، مضافاً إلى أنّها رواية غير معتبرة السند .
وأمّا قياسه ـ أعني مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) بالإمام المعصوم ( عليه السلام ) ـ فهو غير مُحتمل أصلاً في ضمير المؤمنين ووجدانهم ، وإنّما مراد الحسين ( عليه السلام ) لو أراد تفضيله على الآخرين ، فإنّما يريد غير المعصومين منهم بطبيعة الحال .
المستوى الثاني : أن ننظر إلى أنّ الحسين ( عليه السلام ) لماذا اختار مسلماً بالذات للسفارة عنه في الكوفة ، مع أنّ أهل بيته عديدون ، فإذا أجبنا ـ كما سنسمع بعد قليل ـ أنّه هو الوحيد الصالح منهم للسفارة ، أمكننا عندئذٍ أن نفهم من العبارة أنّه ( ثقتي من أهل بيتي ، والمفضّل عندي ) : ممّن هو صالح لهذه السفارة والمهمّة ، وعندئذٍ لا بأس أن يكون هو الوحيد الموصوف بها .
وعلينا الآن استعراض بعض الموانع المحتملة التي كانت تحول دون إرسال غيره في هذه المهمّة :
أوّلاً : كان هناك جماعة لا يناسبهم العمر اجتماعيّاً للقيام بهذه المهمّة مهما كانوا علماء حكماء ؛ لأنّهم كانوا شبّاناً صغاراً : كالقاسم بن الحسن ، والإمام السجّاد ( عليه السلام ) ، وكذلك عليّ بن الحسين الأكبر على بعض الروايات . حيث كان عُمرُ عليّ الأكبر ـ على ما هو الأشهر بين المؤرّخين وأرباب المقاتل والنَسب ـ نحو 27 سنة ، كما عن الطريحي في المنتخب ، وعُمر السجّاد يوم الطف 23 سنة ، كما في الإيقاد للعظيمي ، وكان عُمر القاسم يوم الطف لا يتجاوز الحُلم ، كما في مقتل الخوارزمي .
ثانياً : كان هناك أكثر من واحد يتّصف بالعوق المانع عن أداء المهمّة : كالعمى في عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، والضُعف العام عن الحرب ، أو ضُعف الذراعين عن الضرب ، كما وردَ عن محمّد بن الحنفية وهو ابن عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
ثالثاً : يبدو أنّ الإمام الحسين ( عليه السلام ) تجنّبَ عن عمدٍ إيكال المهمّة إلى أولاد علي ( عليه السلام ) وأحفاده ، بل أخرَجها عن هذه العائلة تماماً ، والوجه الذي يبدو من ذلك ـ بغضّ النظر عمّا يأتي ـ : هو إجلال هذه العائلة عن مهمّةٍ أدنى منها ، ويمكن لكثيرين من غيرهم القيام بها ، وسيكون مسلم بن عقيل هو خير مَن يكون من خارج الأسرة .
رابعاً : ما يذكرهُ عدد من الخطباء : من أنّ الحسين ( عليه السلام ) حين حَجبَ المهمّة ، أو مَنعها عن أخيه العبّاس ( عليه السلام ) ، وابنه الأكبر وأضرابهم ، إنّما ذَخرها بذلك لنيل الشهادة معه في كربلاء ، وهو مقام أسمى وأعظم ؛ فإنّ مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) وإن كان من شهداء الحسين ( عليه السلام ) ، إلاّ أنّ الشهادة بين يدي الحسين وسمعه وبصره ، ولأجل الدفاع المباشر عنه مهمّة أعلى وأصفى وأقدس أمام الله عزّ وجل ، وهذا على أيّ حال مربوط بالعلم الإلهامي الذي يُعرِّفه الإمام الحسين ( عليه السلام ) من قضاء الله وقَدَره .
احتلالُ الكوفة
قد يخطر على البال السؤال : أنّ مسلم بن عقيل لماذا لم يحتل الكوفة احتلالاً عسكريّاً ويسيطر على الحكم فيها ، وخاصّة بعد أن تمّ لديه مبايعة اثني عشر ألفاً من أنصاره (3) ، وقد كانوا وَعَدوه أو وعَدوا الحسين ( عليه السلام ) ـ في بعض كتبهم إليه ـ أن يطردوا النعمان بن بشير ، حاكم الكوفة ممثّلاً عن الحاكم الأموي ، وقالوا :( ثمّ إنّه ليس علينا إمام غيرك ، فأقبِل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة ولسنا نجتمع معه في جمعة ولا جماعة ولا عيد ، ولو بَلَغنا إقبالك إلينا ، أخرجناه حتّى نُلحقه بالشام إن شاء الله تعالى ) (4) .
وواضحٌ : أنّ إقبال مُمثّل الحسين ورسوله عليهم ، كإقبال الحسين نفسه ، فلماذا لم يفعلوا ذلك ، ويتسبّبوا في أخذ زمام السلطة من قِبل مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) ؟
والجوابُ على ذلك ـ بغضّ النظر عمّا قلناه في مقدّمات هذا البحث من أنّ عقولنا قد تقصر عن نيل الواقعيات أوّلاً ، وأنّ هؤلاء العظماء عند الله كأمثال مسلم بن عقيل ممّن لهم التأييد والتسديد من الله سبحانه ثانياً ، ومعهُ ينسدّ السؤال عن ذلك وغيره ـ يمكن بأمور :
الأمر الأوّل : إنّ مسلم بن عقيل ( سلام الله عليه ) لم يكن مُخوّلاً من قِبل الحسين ( عليه السلام ) بالحرب ، ولا باستلام الحكم في الكوفة ؛ وإنّما كان مخوّلاً فقط لاستكشاف الحال في الكوفة وإرسال الخبر إلى الحسين ( عليه السلام ) ،
ومن المعلوم أنّ السيطرة على الكوفة تحتاج إلى قتال ، وهو ممّا لم يأذن به الحسين ( عليه السلام ) .
فإنّ نصّ جواب الحسين ( عليه السلام ) يقول : ( أمّا بعد ، فقد فهمتُ كلّ الذي اقتصَصتم وذَكرتم ، ومقالة جُلّكم : إنّه ليس علينا إمام فأقبِل لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى والحقّ ، وأنا باعثٌ لكم بأخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل ، وأمرتهُ أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم ، فإن كتبَ إليّ أنّه قد اجتمعَ رأي مَلأكم وذوي الحِجى منكم على مثل ما قدّمت به رُسلكم وتواترت به كتبكم ، أقدِم إليكم وشيكاً إن شاء الله ) (5) إلى آخر ما قال ، وهو خالٍ من التخويل بالحرب ، كما هو واضح .
الأمر الثاني : إنّ استلام حكم الكوفة من قِبل مسلم بن عقيل إن كان بدون حرب ـ كما يُشعر به كتاب أهلها الذي سمعناه حين يقولون عن حاكمها : ( أخرجناهُ وألحقناه بالشام ) هكذا بكلّ سهولة ـ لهانَ الأمر ، بل أمكنَ القول شرعاً ، بأنّه تجب السيطرة على الكوفة عندئذٍ ، إلاّ أنّ الأمر لم يكن كذلك جزماً ، لعدّة أمور منها :
أوّلاًً : وجود المنافين والمعاندين في الكوفة بمقدار معتدٍّ به ، وهم بلا شكّ مستعدّون للوقوف ضدّ هذا الاتّجاه ، سواء بالحرب لمنعه أو بالتآمر لإفشاله وإسقاطه لو تمّ ، ومن هنا يصعب حصول الأمر بالنجاح التام والمستمر .
ثانياً : إنّ حاكم الكوفة يومئذٍ ( النعمان بن بشير ) ، وإن كان حسب ما وردَ في التاريخ : أنّه كان رجلاً متخاذلاً مشكّكاً يحبّ العافية ، ويُفضّل الراحة والسلامة (6) ، ولكنّه مع ذلك ورد أنّه خَطبَ وهدّد الكوفيين بأنّ استعمالهم للسلاح ضدّه ، يعني استعماله ضدّهم ، ولن يستطيعوا أن يزيلوه بسهولة ؛ وإنّما لابدّ من أن تنشب الحرب بينهم ، وسيستعين في نفس الوقت بالمعاندين والمنافقين والفسقة الذين هم على استعداد لمعونته جزماً .
ونسمعهُ يقول في خطبته : ( إنّي لا أقاتل مَن لم يقاتلني ، ولا أثب على مَن لا يثِب عليّ ..... ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم ( يعني الحاكم الأموي ) ، فو الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبتَ قائمه بيدي ، ولو لم يكن لي منكم ناصر ولا مُعين ، أمّا إنّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يُرديه الباطل ) (7) ، إلى آخر ما قاله ، وهذا يعني عدّة أمور :
أوّلاً : مناجزتهم الحرب إذا هم حاربوا .
ثانياً : إعطاء الحريّة لهم في أن يفعلوا ما يشاءون ضمن التصرّف السلمي غير القائم على السلاح ، وأعتقدُ أنّ هذا من النِعم الإلهيّة على مسلم بن عقيل وأنصاره استطاعوا فيه أن يُثبتوا وجودهم تامّاً .
ويكفينا تقييماً للحالة ، لو استطعنا المقايسة بينها وبين ما أصبحَ عليه الحال عند حُكم عُبيد الله بن زياد ، الذي عيّنه الحاكم الأموي بعد النعمان بن بشير .
ثالثاً : المسؤوليّة الأخلاقيّة تجاه النعمان بن بشير هذا ، من حيث إنّه كفّ عنهم شرّه ، فاللازم أن يكفّوا عنه شرّهم ، وإذا لم يحاربوه ، لم يمكنهم عزلهُ والسيطرة على الحكم ، وعلى أيّ حالٍ فقد استطاع النعمان بن بشير بذلك أن يبقى هو الحاكم ما دام غير معزول من قِبل سيّده الأصلي الحاكم الأموي .
الأمر الثالث : إنّ مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) شعرَ أنّ قيام حرب واسعة في داخل المجتمع الإسلامي الجديد ، الذي لم يكن قد تجاوز قَرنهُ الأوّل ، سوف يكون كارثة على الإسلام كلّه ، وسيُقتل من المسلمين عامّة ومن المخلِصين خاصّة العدد الكثير ، وسيفتح ثغرة وفرصة لأعداء الإسلام من الخارج والداخل للسيطرة على المجتمع سيطرة كاملة ومحكمة .
إذاً ، فقد اقتنعَ مسلم بكلا الأمرين وهما : تعذّر السيطرة سلميّاً على الكوفة ، والآخر : عدم المصلحة في السيطرة عليها عسكريّاً ، إذاً فلا ضرورة إلى تلك السيطرة حتّى لو كان مسموحاً له من قِبل الحسين ( عليه السلام ) بها ما لم يكن مأموراً بها ، وهو جَزماً لم يكن كذلك .
الأمر الرابع : إنّ هناك أمراً قلّما يأخذهُ عامّة الناس بنظر الاعتبار ، وهو : التناسل البشري ، يعني احتمال ولادة مؤمن من مؤمن ، أو من كافر ، أو منافق ، غير أنّ هذا ممّا يؤخذ في الحكمة الإلهيّة جَزماً ، فيكون من الحكمة المحافظة على بعض النفوس ، لكي يوجد من ذراريها ولو بعد جيلٍ أو أجيال ، جماعة من المؤمنين الذين يعبدون الله وينصرون دين الله بإخلاص ، وإذا كانت أيّ حربٍ مانعة عن ذلك ـ والحرب بطبيعتها مانعة عن ذلك ـ إذاً فمن الضروري عدم وقوعها .
وهناك وجهٌ آخر مهم ذكرنا أُسسه في كتابنا ( اليوم الموعود ) ، إلاّ أنّ إيضاحه الكامل يتوقّف على ذِكر تلك الأسس فيطول المقام بنا ، ومن هنا يكون الأحجى الإعراض عن ذلك مؤقّتاً .
اغتيالُ ابن زياد
يقول لنا المؤرّخون ما مضمونهُ باختصار : إنّ شُريك بن عبد الله الحارثي ومسلم بن عقيل ، كانا معاً نازلين في دار هانئ بن عروة المذحجي (هانئ بن عروة المرادي المِذحجي : لقد ذَكر المؤرّخون أنّه كان شديد التشيّع ، ومن أشراف الكوفة وقرّائها ، ومن خواصّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، حضرَ حروبهُ الثلاث ، وأدركَ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) وتشرّف بصحبته ، وكان له يوم قتله بضع وتسعون سنة ، وكان شيخ مراد وزعيمها إذا ركبَ ركبَ معه أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل ، فإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع)(8) ، فتمرّض شريك واشتدّ به المرض ، فعلمَ بذلك عُبيد الله بن زياد حاكم الكوفة يومئذٍ ، وكان له معهُ رفاقة ، فأرسلَ إليه أنّه سيعوده في دار هانئ ، وقبل مجيء ابن زياد تواطأ شريك مع مسلم على أن يغتال ابن زياد عند مجيئه ، فلمّا كان من العشي أقبلَ ابن زياد وتخفّى مسلم في إحدى الغُرف كأنّه يستعدّ لاغتياله ، ولكنّ هانئ اعترضهُ قائلاً : ( إنّي لا أُحبّ أن يُقتل في داري ) .والمهمّ : أنّ مسلماً لم يقبل لقتل ابن زياد وخرجَ ابن زياد سالماً ، فخرج مسلم من مكانه .
فقال له شريك : ما مَنعك من قتله ؟ قال : خصلتان : أمّا إحداهما : فكراهة هانئ أن يُقتل في داره ، وأمّا الأخرى : فحديث حدّثنيه الناس عن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) : ( إنّ الإيمان قيّد الفتك ، ولا يَفتك مؤمن ) (9) .
فقال هانئ : أمَا والله ، لو قتلتهُ لقتلتَ فاسقاً فاجراً كافراً غادراً ، ولكن كرهتُ أن يُقتل في داري (10) .
فمن هنا قد يخطر في البال : السؤال عن السبب الذي حَدا بمسلم بن عقيل على أن لا يقتل عبيد الله بن زياد ، بعد أن أصبحَ كاللقمة السائغة بيده ، وهو يَعلم أنّه عدوّه وعدوّ الحسين ( عليه السلام ) وعدوّ الله عزّ وجل ، وإنّ قتلهُ مهمّ جدّاً في إمكان السيطرة على المجتمع في الكوفة ، وتفريق القيادة من المنافقين الذين جَمعهم ابن زياد وتركيزها بيد أهل الحقّ .
والجواب على ذلك يكون من وجوه :
الوجه الأوّل : كراهة هانئ بن عروة أن يُقتل عبيد الله بن زياد في داره ، ومسلم بن عقيل كان ضيفاً لدى هانئ ، وكان ولا يزال يخدمه بالسمع والبصر ويؤدّي لمسلم أيّ مصلحة عامّة أو خاصّة ، فإذا فعلَ في داره ما يكرهه حَصلت عدّة مضاعفات :
أوّلاً : الإحراج أمام هانئ نفسه أخلاقيّاً ؛ فإنّ مقتضى المسؤوليّة الأخلاقيّة أن لا يفعل في داره ما لا يُحب ، وخاصّة وهو بهذه الصفة العظيمة في الانتصار له .
ثانياً : تحريم تصرّفه في الدار بعد ذلك ، لو كان قد فعلَ ما يكرههُ صاحبها ، ممّا يضطرّه للانتقال إلى دار شخص آخر ، وقد لا يجد شخصاً جامعاً للشرائط المتوفرة في هانئ ، أو قل : لا يجد له مثيلاً في سكّان الكوفة .
ثالثاً : إحراج موقف هانئ من حصول هذا القتل في داره ، الأمر الذي أثار في نفسه هذه الكراهة ؛ فإنّه كان رئيساً لقبيلة مذحج ، ولهُ اتصالات ومجاملات ومصالح في مختلف أوساط المجتمع ، فإذا قُتل ابن زياد في داره كان ذلك إحراجاً لهُ أمام شريحة مهمّة في المجتمع ، وهذا ما يكرهه ، ولا يريد مسلم بن عقيل إثارة هذا الإحراج أمامه ، وتفكير هانئ بهذا الشكل ، تفكيرٌ على المستوى الدنيوي ، ولكنّه قائم على أيّ حال .
وهو بطبيعة الحال ، لا يَدرك ما ندركه أو نحتمله نحن الآن بعد ألف سنة وحوالي النصف من ذلك التاريخ ، من وجود مصلحة عامّة في قتله ، بحيث تجب عليه التضحية في سبيلها بكلّ غالٍ وعزيز ، وإذا كان غافلاً عن ذلك ـ وهو غير معصوم على أيّ حال ـ فالله سبحانه يعذر الغافل .
الوجه الثاني : لعدم اغتيال ابن زياد : ما ذكرهُ مسلم نفسه حسب الرواية ( إنّ الإيمان قيّد الفتك ، ولا يفتك مؤمن ) .
إلاّ أنّ هذا بمجرّده لا يتمّ ، إلاّ أن يرجع معناه إلى الوجه الآتي ؛ وذلك لأنّ هذا الخبر يحتاج إلى الصحّة سَنداً ودلالة ، أمّا السند ، فيظهر حصول مسلم عليه مرسلاً غير موثوق ؛ لأنّه عبّر عن أنّه حديث حدّثنيه الناس عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، الأمر الذي يدلّ على أن يجهل راويه ، أو لا يوثّقه على أقلّ تقدير .
وأمّا من ناحية الدلالة ، فهذا الأمر الذي كان عازماً عليه هو الغيلة أو الاغتيال ، وليس الفتك فإنّه وإن كان قد يَرد في اللغة بهذا المعنى أيضاً ، إلاّ أنّ لهُ معانٍ أخرى كالشجاعة بحيث لا يهاب أحداً ، والاستقلال بالرأي عن الآخرين وغير ذلك (11) ، فلا يتعيّن أن يكون المراد من الخبر ذلك .
مضافاً إلى أنّ الاعتماد على خبرٍ من هذا القبيل ، بل حتّى ولو كان صحيحاً ، في دفع مصلحة عامّة في قتله ، أو جلب مفسدة عامّة في حياته ، كما قد حصلَ فعلاً ، غير صحيح جزماً وغير مرضيّ لله عزّ وجل ، ما لم يعِد الأمر إلى وجوه أخرى ، أو إلى الوجه الآتي الذي سنذكره الآن .
الوجه الثالث : الأخلاقيّة في العلاقات مع الآخرين ، الأصدقاء منهم والأعداء سِلماً كانت العلاقة أم حرباً أم قتلاً ، ومن جملة الأسس الأخلاقيّة التي التزمَ بها المسلمون ونَصحت بها تعاليم الإسلام عدم البدء بالحرب والضرب ، وإنّما يكون أهل الحقّ هم ثاني الضاربين لو صحّ التعبير ، ليكون موقفهم أمام الله والناس هو الدفاع فقط ، وكان ولازال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) هو نبيّ الرحمة ، وليس من مقتضى الرحمة البدء بالهجوم ، حتّى أنّ الحسين ( عليه السلام ) في ساحة كربلاء العسكرية التزمَ بذلك ، وهذه مصلحة أخلاقيّة جليلة في الحرب والقتل والقتال ، ذات تأثير عام في إحسان الظنّ بالمعسكر المحقّ وجلب القلوب نحوه ، وهي مصلحة عامّة تعدل الكثير من المصالح العام الأخرى التي قد ندركها ممّا تكون مصالح وقتيّة وإن كانت صحيحة ، في حين أنّ هذه القاعدة الأخلاقية دائمة الصحّة جيلاً بعد جيل .
فإذا عرفنا ذلك ، استطعنا تقييم وتمييز موقف ابن عقيل من ابن زياد ، من حيث إنّ ابن زياد لم يكن محارباً في ذلك الحين ولا ناوياً لقتل أحد ، إذاً ، فهو لم يبدأ بالقتال ولم ينوِ السوء ، فلا يجوز بَدؤه به أو نية السوء ضدّه ؛ لأنّه خلاف القاعدة الأخلاقية المشار إليها .
الوجه الرابع : كون مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) مُسدّداً مُلهماً ، ولا أقلّ من احتمال ذلك ، إذاً فيمكن أن يكون قد واجه نهياً عن قتل عُبيد الله بن زياد ، كما يُحتمل أن يكون هذا النهي مأخوذاً عنده من الحسين ( عليه السلام ) ، أو من جدّه النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بخصوص هذه الواقعة أو ما يشملها ، فيجب عليه الامتثال ، وقد سبقَ أن قلنا في أمثال ذلك : إنّ مجرّد الاحتمال يكفينا ؛ لأنّه إذا دخلَ الاحتمال بطل الاستدلال ، يعني يفسد السؤال عن إعراضه ( عليه السلام ) عن اغتيال ابن زياد ، وإنّ ذلك كان على خلاف المصلحة أو السياسة العامّة .
الوجه الخامس : أحد الوجوه التي قلناها في نفي سيطرة مسلم بن عقيل على الكوفة ، وهو اقتضاء الحكمة الإلهيّة الإبقاء على بعض الفاسقين والكافرين ، من أجل ميلاد بعض المؤمنين من ذراريهم ولو في جيلٍ متأخّر ، ولو عدّة مئات من السنين أو أكثر ، فليكن ابن زياد كذلك .
وهذا لا يتوقف على علم مسلم بن عقيل أو التفاته إلى ذلك ، بل إمّا أن يكون ملتفتاً ، وإمّا أنّ الله سبحانه صَرَفه عن قتله لهذه الجهة ، والاحتمال في ذلك يكفينا لقطع الاستدلال المعاكس ، كما كرّرنا في أمثاله .
السيطرةُ على الكوفة مؤخّراً
إذ قد يخطر على البال : أنّ مسلم بن عقيل ( سلام الله عليه ) ، ما دام لم يسيطر على الكوفة في زمن النعمان بن بشير ولم يقتل عبيد الله بن زياد ، فلا أقلّ من أن يحاول السيطرة على الكوفة عندما أصبح ابن زياد حاكماً عليها ، إذ كان الشرّ قليلاً وغير واضح في زمن ابن بشير ، في حين أصبحَ واضحاً في زمن عبيد الله بن زياد ، ومن هنا كانت السيطرة على الكوفة أرجح جدّاً من ذلك الزمن السابق ، فلماذا لم يفعل ذلك مسلم ؟وجوابُ ذلك : إنّه يمكن القول بورود جميع الأجوبة التي قلناها فيما سبق عن سيطرة مسلم بن عقيل في الماضي ( يعني في عهد النعمان بن بشير ) ، كلّها تأتي عن سيطرته الآن ، مع زيادات معتدّ بها كما سنذكر ، ويكفينا أن نلتفت إلى أنّ زيادة الشرّ تقتضي زيادة الصعوبة في السيطرة ، الأمر الذي يجرّ إلى أمورٍ غير محمودة كما سنرى ، وهذه الصعوبة تتمثّل في أمور :
الأمرُ الأوّل : الزيادة في الضيق لجانب مسلم بن عقيل أعني في الحرّية العامّة ، وإعطاء الجانب الأفضل والتحرّك الأشمل لأعدائه .
الأمرُ الثاني : وجود تجسّس دقيق وكامل على كلّ أقوال وأفعال ابن عقيل وأصحابه ، ويمكن أن تكون العيون كثيرة ، غير أنّ التاريخ ينصّ على واحدٍ بعينه يسمّى ( معقل ) ، استطاع الوصول بدهاء إلى الدار التي يرتادها مسلم وأصحابه ، فكان أوّل داخل وآخر خارج بعنوان كونه مؤيِّداً لهم ، وينقل كلّ ما سمعه ورآه إلى عبيد الله بن زياد .
الأمرُ الثالث : السرّية والتكتّم التي تعمّدها جانب مسلم بن عقيل وأصحابه ، بغضّ النظر عن التجسّس المشار إليه ، ومع التكتّم المتعمّد يصعب جدّاً وضع برنامج واضح وواسع لأجل السيطرة على المجتمع ، كما يتوقّع السائل أن يكون .
الأمرُ الرابع : إمكان التشكيك في العدّة والعدد اللذَين يمكن لابن عقيل أن يجمعهما في ذلك المجتمع ؛ فإنّ أفراد الناس هناك لم يكونوا معتادين على الحرب ومصاعبها وويلاتها ، وإنّما استطاع عبيد الله بن زياد أن يجمع منهم جيشاً ضخماً بعد التفكير بعدّة خطط ماكرة ، اكتسبها بصفته مُمثّلاً للدولة الحاكمة لا أكثر ، وهذا ما لا يستطيع طبعاً مسلم بن عقيل توفيره للناس بصفته معارِضاً للدولة ، فيكون احتمال حصوله على الجيش الكافي في العدّة والعدد احتمالاً غير قوي ، وحسبُنا أن ننظر إلى أهمّ الأفكار التي حاولَ عبيد الله بن زياد بثّها في المجتمع صدقاً أو كذباً ليستقطب الناس إلى جانبه :
أوّلاً : التهديد العسكري ، حيث زعمَ لهم أنّ هناك جيشاً مُقبلاً عليهم من الشام ضخم جدّاً ، يريد استئصالهم إن هم عصوا الدولة .
ثانياً : التهديد الشخصي بالسجن والضرب ، بل والقتل أيضاً .
ثالثاً : التهديد الاقتصادي بالمقاطعة مع كلّ معارِض .
رابعاً : الطمع ، بإضافة مبلغ من المال إلى راتب كلّ واحد يكون إلى جانبه ، ويخرج في حرب الحسين ( عليه السلام ) ،
ويُنقل ذلك تاريخيّاً على شكلين : أشهرهما : إضافة عشرة دنانير ذهبية إلى أيّ فرد ، والآخر : مضاعفة الراتب الذي يصله .
خامساً : الإحراج الاجتماعي عن طريق العلاقات والصداقات المبثوثة في تلك المدينة المنكوبة .
وكلّ هذه الأمور قائمة ضدّ مسلم بن عقيل ، ومن المتعذّر أن يكون مثلها إلى جانبه ، سوى التضحية في الرضوخ للحقّ لا أكثر ، وهو ممّا يقلّ العاملون به في أيّ مجتمع ، وخاصّة تحت ظروف من ذلك القبيل .
وقد بادرَ عبيد الله بن زياد إلى تغيير كفّة المجتمع إلى جانبه بمجرّد وروده ، وألقى في الناس خطبة تتكفّل بيان تلك التهديدات والأطماع ، مع بثّ شرطته وأنصاره بين الناس ، لأجل الطمع والتخويف والإحراج ، ممّا أنتجَ ما ينقلهُ بعض الخطباء الحسينيّين من أنّ الأم أصبحت تأتي إلى ابنها ، والزوجة إلى زوجها ، والبنت إلى أبيها ، والأخ إلى أخيه ، فيحذرّونهم مغبّة مناصرة مسلم ويقال لهم :
( مالَكَ والدخول بين السلاطين ) ، ويأخذون بيده ويُرجعونهُ إلى بيته ، ومهما يكن في هذا النقل التاريخي من المبالغة إن أخذناه على سعته ، كما سبقَ أن قلنا : إنّ الكوفة والمجتمع الكوفي لا يمكن أن ينقلب تماماً من الولاء إلى العداء بين عشيّة وضحاها ، وقد أقمنا على ذلك ما يكفي من القرائن والدلائل ، إلاّ أنّه من الممكن أن يكون قد حدثَ مثل هذا التخذيل فعلاً على نطاق ضيّق قلّ أو كثُر ؛ فإنّه على أيّ حال مُضر بجانب مسلم بن عقيل ، ويُضاعف عليه الصعوبة والبلاء .
مَعقل
يقول المؤرّخون : إنّ مَعقلاً حين أراد التجسّس لابن زياد ، أقبلَ إلى المسجد ، فرأى مسلم بن عوسجة يُصلّي فيه فسألَ عنه ؟ فقيل له : هذا يبايع للحسين بن علي ، فجاءه وجلس إلى جانبه ، حتّى إذا فرغَ من صلاته سلّم عليه وأظهرَ لهُ أنّه رجل من أهل الشام ، وأنّه مولى لذي الكلاع الحميري ، وممّن أنعمَ الله عليه بحبّ أهل البيت وحُبّ مَن أحبّهم وتباكى له ، وقال له : إنّ عنده ثلاثة آلاف درهم يريد بها لقاء رجل من أهل البيت ، بَلَغه أنّه قدمَ إلى الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، فقبلَ منهُ مسلم بن عوسجة وأخذ منه البيعة على يده فوراً .ثمّ أخذهُ إلى مسلم بن عقيل ، فأخذَ عليه البيعة والمواثيق المغلّظة ليناصحنّ وليكتمنّ ، فأعطاهُ ( مَعقل ) من ذلك ما رضي به ، ثمّ أمرَ مسلم أبا ثمامة الصائدي (أبو تمّام الصادئدي : هو عمرو بن عبد الله بن كعب الصائدي ، من شهداء الطف ، كان من فرسان العرب ووجوه الشيعة ، وكان بصيراً بالأسلحة ، ولهذا لمّا جاء مسلم بن عقيل إلى الكوفة قامَ معه وصار يقبض الأموال ، ويشتري بها الأسلحة بأمر مسلم بن عقيل .وفي كتاب ( نَفَس المهموم ) أنّ أبا تمّام قال للحسين ( عليه السلام ) : يا أبا عبد الله ، نفسي لك الفدى ، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله لا تُقتل حتّى أُقتل إنشاء الله ، وأحبُ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنى وقتها ، قال : فرفعَ الحسين رأسه ثمّ قال : ( ذكرتَ الصلاة جَعلكَ الله من المصلّين الذاكرين ، نعم ، هذا أوّل وقتها ) (12) .
) بقبض المال منه ، وكان قد عيّنه مسلم لقبض الأموال من الناس وتجهيزهم بما يحتاجونه من السلاح والعتاد ، وظلّ معقل يختلف إلى دار هانئ كلّ صباحٍ ومساء ، فهو أوّل داخل وآخر خارج ، فينطلق بجميع الأخبار والأسرار ، فيقرؤها في أُذن ابن زياد (13) ، ممّا أدى في النتيجة إلى فشل مهمّة هذه الجماعة المُحقّة وتفرّقها عن مسلم بن عقيل.
فهنا قد يرد السؤال عن السبب في انخداع مسلم بن عوسجة ومسلم بن عقيل وأصحابهما ، بهذا الرجل المُعيّن ضدّهم ، ولئن كان مسلم بن عوسجة رجلاً اعتيادياً ، مهما كان عالي الإيمان ، فإنّ مسلم بن عقيل ( سلام الله عليه ) ، قد أثبتنا له أنّه مؤيّد ومُسدّد بالإلهام ، فكيف لم يلتفت إلى ذلك ؟!
وجواب ذلك يكون على عدّة مستويات :
المستوى الأوّل : إنّ هذا موجود في قضاء الله وقدره ، وكلّما كان ذلك ، فلابدّ من حدوثه ، ومطابق للحكمة الإلهيّة ، سواء عَلمنا بسببه أو جهلنا .
المستوى الثاني : مستوى مَن نعلم أو نحتمل عدم تسديده وتأييده بالإلهام المباشر ـ لو صحّ التعبير ـ وهم أصحاب مسلم بن عقيل سواه ، فمن الواضح أنّ العادة في تلك الأجيال ، وهي عادة استمرّت مئات وآلاف السنين ، حتّى لم تكن كتابة وأوراق تدلّ على الشخصيّة ، كما في الدول الحاليّة ، فكان الناس يسألون الفرد عن اسمه وانتسابه ، ويُصدّقون منه ذلك على السجيّة والعادة المتّبعة ، وواضحٌ أنّه لو كذَبَ أيّ شخص في اسمه أو نَسبه ، فسوف يقع في أنواع من المصاعب اجتماعياً واقتصادياً ، أو يُحتمل وقوعه في ذلك على بعض التقادير ، فكان الناس يُصَدَّقون في أقوالهم تلك ، وكانوا يُصدِّقون أقوال الآخرين في ذلك ، وليس أصحاب مسلم بن عقيل سلام الله عليه وعليهم إلاّ جماعة من ذلك المجتمع المعتاد على ذلك .
فإذا انضمّ إلى ذلك حُسن الظاهر والملاينة والمُسايسة ، فقط أصبحَ الفرد ناجحاً في الامتحان أو الاختبار الاجتماعي ، وانتهى الأمر .
المستوى الثالث : مستوى النظر إلى المواثيق المغلّظة التي أخذها مسلم بن عقيل وأصحابه على ( معقل ) ، وقد أعطاهم من نفسه ما يريدون ، ولم يكونوا يتصوّرون أنّ شخصاً ما من المسلمين يمكن أن يحيف بالعهد ، أو يحيف باليمين ، وإنّما قيام العلاقات بين الأفراد والمجتمعات كانت ولا زالت على شرف الالتزام بالعهود ، وإلاّ كان الفرد ساقطاً بالمرّة أمام الله والناس ، ولم يكن يخطر على البال أنّ هذا الإنسان من الساقطين وبهذه الدرجة .
وهنا ينبغي أن نلتفت إلى ما وردَ في تفسير قوله تعالى عن قول إبليس :
( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) (14) ، من أنّ آدم وزوجته لم يتصوّرا شخصاً يُقسم بالله كذباً ، يعني أنهّما حين سمعا إبليس يُقسم بالله سبحانه صدّقاه وأكلا من الشجرة.
أقول : فكذلك الحال في مسلم وأصحابه من حيث إنّ العهد مُلزم في الدنيا ، واليمين مُلزم في الآخرة ، فماذا بقيَ ممّا يكون أن يفعلوه أمامه ؟
المستوى الرابع : إنّ مُسلماً وأضرابه من خاصّة أصحاب المعصومين ( عليهم السلام ) ، وإن قلنا بأنّهم مؤيّدون ومسدّدون بالإلهام ، إلاّ أنّ ذلك ممّا لا ينبغي أن يؤخذ على أوسع نطاق :
أوّلاً : لأنّهم ليسوا معصومين بالعصمة الواجبة ، كما يُعبّر عنها في ( علم الكلام ) ، والمعصوم بالعصمة الواجبة يكون معصوماً من الخطأ والنسيان ، مضافاً إلى عصمته من الذنوب والمحرّمات ، بخلاف المعصوم بالعصمة غير الواجبة ، فإنّه يكون معصوماً من الذنوب لا من الخطأ والنسيان .
ثانياً : إنّ الإلهام والتسديد إلى أمثال هؤلاء يختلف في السعة والضيق أو القلّة والكثرة ، ينالُ منه كلّ منهم بمقدار قابليّته واستحقاقه وعمله وغير ذلك من الأسباب ، وليس بالضرورة أن يناله بشكلٍ مطلق ومستمرّ ، إذاً فمن الجائز أن يُحجب الإلهام والتسديد عن الفرد حيناً أو أحياناً ، بمقدار ما تقتضي الحكمة الإلهيّة ذلك .
وهناك مستويات أخرى للجواب لا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها .
تفرّقُ الناس عنه
ولعلّ السؤال الأخير الذي يمكن عَرضهُ في هذا الصدد : ما قالهُ بعض الأذكياء لبعض العلماء عمّا رويَ في التاريخ ، من أنّ مسلم بن عقيل تفرّق عنه أصحابه كلّهم في يومٍ واحد أو عشيّة واحدة ، حتّى أصبحَ يتلدّد في أزقّة الكوفة في ظلام الليل لا يجد مَن يؤويه (15) ، مع العلم أنّ من الكوفيين مَن هم على درجة عالية من الإخلاص للحقّ المتمثّل في مسلم بن عقيل والحسين ( عليهما السلام ) أمثال : حبيب بن مظاهر ، ومسلم بن عوسجة ، وآخرين ، بدليل أنّ هذين المذكورَين قد استشهدا مع الحسين في كربلاء ، إذاً فإخلاصهم مُحرز فلماذا تفرّقوا عن مسلم في تلك الليلة وتركوه وحيداً حائراً ؟وقد أجاب ذلك العالِم : بأنّهم أعدّوا أنفسهم للشهادة بين يدي الحسين ( عليه السلام ) ، أقول : وهذا وحدهُ لا يكفي للإقناع ؛ لأنّ حادثة الحسين ( عليه السلام ) كانت في ضمير المستقبل بالنسبة إليهم ، ولم يكونوا يعلمون من حصولها شيئاً ، فكيف نتعقّل كونهم استهدفوها بصراحة ؟
ولكنّ تفصيل الجواب أن يقال : إنّ المخلِصين الكاملين كانوا قلّة لا يستطيعون وحدهم الدفاع عن مسلم بن عقيل ، ولا حفظ حياته وحياتهم .
فلمّا رأوا فشل الحركة وتفرّق الجيش عنه ، لم يشعروا بوجوب المحافظة على حياته شرعاً ، لليقين بكونه مقتولاً لا محالة ، حتّى ولو كانوا هم إلى جنبه بل سيقتلون معه أيضاً ، إذاً فمسؤوليّة الدفاع عنه والحفاظ عليه ساقطة عنهم يقيناً ، إذاً فخيرٌ لهم أن يحافظوا على حياتهم ، وهم كوفيون يَعرفون المدينة وطبيعة سكّانها ، وهو غريب جديد العهد بهذا المجتمع .
وأمّا سببُ محافظتهم على أنفسهم ، فلا ينبغي الإشكال فيه في الدنيا والآخرة .
أمّا في الدنيا فواضح ؛ لصعوبة تعريض النفس للقتل ، وخاصّةً إذا كان بلا موجب وبشكل غير مُنتج كما عَرفنا .
وأمّا في الآخرة ( أعني في التكليف الشرعي في الدين ) ؛ فلأنّ بقاءهم خيرٌ من موتهم ، لاحتمال أن يُفيدوا المجتمع بقليلٍ أو بكثير ، وأن لا يُخلو الساحة بالمرّة لعُبيد الله بن زياد وجماعته يفعلون ما يشاءون ، دون وازعٍ من دين ، أو ضمير ، أو رقيب ، أو حسيب .
مضافاً إلى احتمال تأييدهم للحسين ( عليه السلام ) ؛ فإنّهم كانوا عالِمين بأنّه مُقبل عليهم وقريب الوصول إليهم ، بالرغم من طول السفر وبُعد الشقّة ، إذاً فلعلّهم يستطيعون رؤيته ، أو معونته ، أو نصرته ، أو امتثال أوامره ، صحيحٌ أنّهم لم يكونوا يعلمون بحادثة كربلاء كما وقعت ؛ لأنّها لم تكن قد وقعت ، إلاّ أنّ نصرتهم للإمام الحسين ( عليه السلام ) إجمالاً ـ ولقاءه وامتثال أوامره أيّاً كانت ـ هذا ممّا كان هؤلاء الخاصّة يستهدفونهُ بصراحة ووضوح ، فإن بقيَ الحسين وانتصرَ بقوا معه ، وإن قُتل قُتلوا معه ، وعلى أيّ حال فينبغي لهم في التكليف الشرعي الذي يعرفونه ، أن يحافظوا على حياتهم الآن ليطبّقوا مثل هذا التكليف في المستقبل عند لقاء الحسين ( عليه السلام ) .
بقيَ السؤال الذي يخطر في الذهن : وهو أنّ مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) لماذا بقيَ مُتلدِّداً في أزقّة الكوفة ، وقد كان من الأفضل له أن يلتجئ إلى بيت أحد الثقاة من أصحابه ، أو أن يخرج إلى البرّ ويلتحق بالأعراب فلا يعرفهُ أحد .
والجواب عن ذلك يكون على مستويات :
المستوى الأوّل : إنّ مسلم بن عقيل ( سلام الله عليه ) رجلٌ غريب في الكوفة ، لا يعرف بيوتها ولا طُرقاتها ، وقد كان أصحابه يقصدونه من منازلهم وهو لا يعلم أين تقع منازلهم ، ولم يكن خلال هذه المدّة التي عاشَ فيها في الكوفة متيّسراً لهُ المشي في الطُرقات والتعرّف على البيوت ؛ لأنّه كان بمنزلة القائد ، فلابدّ لهُ من البقاء في مركزه ، وإنّما يشتغل له الأتباع فقط.
المستوى الثاني : إنّ مسلم بن عقيل ( سلام الله عليه ) أدركَ لا محالة ما التفتنا إليه قبل قليل ، من تفرّق خاصّته عنه ، وأدركَ سبب ذلك ، وهذا السبب ممّا ينبغي أن يحترمه تجاههم ، مضافاً إلى إدراكه كراهتهم البقاء معه في ذلك الحين ، وكان إذا أراد متابعتهم فسوف يعمل ما يكرهونه ويدخل بيوتهم عنوة عنهم ، ويبقى فيها فيكون حراماً عليه .
المستوى الثالث : إنّه لا يوجد في ذلك الحين من أصحابه مَن يستطيع حمايته على الإطلاق ؛ لأنّ بعضهم كان قد سُجن : كهاني بن عروة ، والمختار بن عبيدة الثقفي ، وآخرون ، إذاً فدُورُهم مُغلقة في وجهه ، وهم منكوبون قبل نكبته ، وبعضهم مراقَب ومطارَد ، وليس أسهل على الحكّام من أن يجدوا مسلماً في بيت أحد أصحابه ، فإنّها أرجح الاحتمالات لوجوده ، بخلاف ما إذا تخفّى في محلّ غير مُلفت للنظر كما فعل .
المستوى الرابع : إنّ خروجه بالبرّ لم يكن مُنجياً له ؛ لأنّه لم يكن يملك فرساً ، أو أيّة دابة في ذلك الحين ، وإنّما كان يمشي راجلاً في الطُرقات ومتعباً بعد يومٍ حافل بالنشاط والحركة .
إذاً ، فحتّى لو خرجَ إلى البرّ فسوف لن يستطيع أن يبتعد كثيراً ، حتّى يطلع الصبح وسوف يَدركه أعداؤه لا محالة ، بل سوف يُقبض عليه عاجلاً ؛ لأنّ ابن زياد جَعلَ في المدينة وأطرافها عيوناً ساهرة تراقب الحال باستمرار ، فما أسهل ما يقع مسلم بن عقيل بيد أحد هؤلاء أو جماعة منهم ، إذاً فما فعلهُ ( سلام الله عليه ) كان أفضل الاحتمالات وهو : الالتجاء إلى محلّ غير مُلفت للنظر على الإطلاق ، عسى الله أن يكتب لهُ فيه الخير .
المستوى الخامس : إنّه قد يقع السؤال عن إمكانه النجاة بالمعجزة ، أو طيّ الأرض ونحو ذلك ، وقد ناقشنا ذلك فيما سبق ، والتفتنا إلى أنّه لم يكن في الحكمة الإلهيّة حصول المعجزات لنصرة أهل الحق ، بل يبقى الأمر مطابقاً للقانون الطبيعي باستمرار ، وإلاّ لم تكن أيّة حاجة إلى أيّ حربٍ خاضها رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، أو أمير المؤمنين ، أو الحسين ( عليهم السلام ) ، أو أيّ شخصٍ آخر .
تألّبُ الناس ضدّه
وكما نفينا فيما سبق إمكان المبالغة في تألّب الناس ضدّ الحسين ( عليه السلام ) ، كذلك ننفي هنا المبالغة في تألّب الناس ضدّ مسلم بن عقيل ( سلام الله عليه ) ؛ وذلك أنّ مقتضى كلام الخطباء الحسينيين عنه : أنّه ( عليه السلام ) جَمع الناس في أحد الأيّام كجيش محارِب وزوّدهم بالأسلحة ، وأمّر عليهم الأمراء والقوّاد ، ونادى بشعار المسلمين يوم بدر : ( يا منصور ، أمِت أمت ) (16) .واجتمعت إليه الكوفة برمّتها ، حتّى إذا كان المساء نفسه تفرّقوا عنه ، حتّى بقيَ وحده يتلدّد في أزقّة الكوفة ، فلمّا كان الصباح نفسه تألّبوا جميعاً ضدّه وقاتلوه ، حتّى النساء والأطفال كانوا يرمونه من السطوح بالحجارة ، ويشعلون النار في أطناب القصب ويرمونها عليه .
وهذه ( خريطة ) ذهنية غير معقولة ، ولئن كان يمكن حصولها في مدّة طويلة ، فلا يمكن حصولها في مدّة قصيرة في عشيّة واحدة ، فلئن كان يمكن تفرّق الناس عنه لمدى الضغط والمكر الذي مارسه ابن زياد وأصحابه ، غير أنّه لا يمكن تألّبهم ضدّه إلى هذه الدرجة ، فإذا عَلمنا أنّه كان يحارب وحده حين هجموا عليه في الدار ، بقصد إلقاء القبض عليه ، إذاً لم يكن الحاكم في حاجة إلى جيش عَرمرم ضدّه مهما كان شجاعاً ومقاتلاً بارعاً ، ويكفي أن يجد ابن زياد من أصحابه عدّة مئات يكفونه المؤونة ، بدون حاجة إلى أن نتصوّر إلى أنّ الكوفة كلّها قد انقلبت ضدّه في عشيّة واحدة .
وقد نظرتُ في المصادر التاريخيّة فوجدتُ أنّ الرمي من سطوح المنازل ضدّ مسلم بن عقيل ، مذكورٌ فعلاً (17) ، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ الشعب كلّه فعل ذلك ؛ وذلك :
أوّلاً : إنّه لا وجود لذكر النساء والأطفال الفاعلين لذلك .
ثانياً : إنّنا لو سلّمنا ذلك ، فإنّما هم شَرذِمة من عوائل أعدائه .
ثالثاً : إنّ أصحاب بعض البيوت من أعدائه من الرجال فعلوا ذلك .
رابعاً : إنّ الجيش المعادي له الذي أرسلهُ ابن زياد للقبض عليه ، وجدَ من الحيَل للسيطرة عليه أن يدخل البيوت عَنوة ويرميه البعض من السطوح بالحجارة والنار ، فإذا كان ذلك محتملاً ، والاحتمال مبطل للاستدلال ، فلماذا نفترض ما هو مُستبعد في نفسه ، وهو انقلاب الشعب كلّه ضدّه في عشيّة وضُحاها .
تأسيسهُ للجيش
سَمعنا قبل قليل ما نقلهُ التاريخ من تأسيسه ( سلام الله عليه ) ـ في أيّامه الأخيرة من حياته ، ومن وجوده في الكوفة ـ جيشاً مهمّاً أمّر عليه القادة ونادى بشعار رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وأصبحَ هو القائد العام له ، ولكنّهم تفرّقوا عنه بسبب مكر أعدائه .والمهمّ الآن أنّه قد يخطر في الذهن سؤالان :
الأوّل : إنّه لماذا أراد تأسيس الجيش مع أنّنا عرفنا فيما سبق أنّه غير مخوّل بذلك ، وإنّ نصّ الرسالة التي أرسلها الإمام الحسين ( عليه السلام ) معه لا تساعد على ذلك ؟
الثاني : إنّه لماذا لم يحتل بهذا الجيش قصر الإمارة في نفس اليوم ويقضي على عبيد الله بن زياد ويستلم الحكم ، ولقد كان ذلك أفضل بكلّ تأكيد له وللحسين ( عليه السلام ) وللدين عموماً ، من هذا التأخير الذي حَصل والذي أدّى إلى فشل تلك المهمّة ؟
أمّا السؤال الأوّل ، فيمكن أن يجاب عنه بعدّة مستويات :
المستوى الأوّل : إنّ تأسيس هذا الجيش لمجرّد الدفاع عن الوضع الذي كان فيه مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) وأصحابه ـ أو قل : إنّه محاولة لإرجاع الوضع المرتبك الذي استطاع ابن زياد زرعهُ ضدّه ، إلى أوّل حالة من حرّية التحرّك والكلام ـ لم يكن فيه بأس على الإطلاق ؛ لأنّه لا يستلزم إهراق أيّ دم .
المستوى الثاني : إنّ تأسيس الجيش والسيطرة على الحكم في الكوفة وإن لم يكن مذكوراً في كتاب الحسين ( عليه السلام ) ، غير أنّ مسلم بن عقيل ضمناً مخوّل لا محالة بأن يفعل في الكوفة كلّ ما يرى فيه المصلحة والإصلاح ، فإن وجدَ في حال الكوفة ومن حال أصحابه إمكان أو وجوب تأسيس مثل هذا الجيش ، لم يكن فيه بأس ، حتّى لو استلزمَ الحرب وإراقة الدماء ، لكنّنا سبقَ أن قلنا : إنّ مسلماً ( سلام الله عليه ) كان يتجنّب ذلك جهد الإمكان ، لكي لا يكون مسؤولاً أمام الله سبحانه في التسبيب لضرب المجتمع بعضه بعضاً وهو جديد عهد بالإسلام ، وقد فعل ذلك إلى آخر لحظات حياته .
مضافاً إلى أنّنا يحسن أن نلتفت إلى أنّه إذا كان قاصداً للسيطرة على الحكم ، فالمظنون جدّاً أنّها سوف تتمّ بدون إراقة دماء على الإطلاق ، أو بدماء قليلة جدّاً ، لإمكان السيطرة على قصر الإمارة بسهولة وسرعة مع نجاح الجيش العقيلي وانضباطه .
المستوى الثالث : إنّ تأسيس هذا الجيش ، ليس لكلّ ما ذكرناه ، بل لاستقبال الحسين ( عليه السلام ) به حين يرِد الكوفة ، فَيرِد على جيش منظّم ومن نقطة قوّة عالية وكافية ، وهذا سبب محترم جدّاً لانتصاره وسيطرته على العراق كلّه لو شاء الله لهُ الاستمرار .
ومسلم ( عليه السلام ) وإن لم يصرِّح بذلك لأحدٍ ، لكنّه من الأرجح جدّاً أن يكون قد احتملَ ذلك ، وإذا تمّ لهُ الجيش لم يكن في الإدارة المعادية له في الكوفة أيّة أهميّة عملية وهي ضعيفة عندئذٍ ، بل يمكن السيطرة عليها لحظة ورود الحسين ( عليه السلام ) ، أو قبل ذلك لو اقتضت المصلحة ذلك .
وأمّا الجواب على السؤال الثاني :
فلعلّ نفس إثارة السؤال يُعتبر هَذراً وسُخفاً ، وإن كان طالما خطرَ في عددٍ من الأذهان ، لوضوح أنّ العمل الجادّ والحقيقي يكاد أن يكون مستحيلاً في اليوم الأوّل ، حين لم يكن الجيش مرتّباً ولا مضبوطاً لحد الآن ، وإنّما يُعتبر اليوم الأوّل جَمعاً للأفراد وتسجيلاً لهم في هذا الجيش .
وينصّ التاريخ أنّ الكوفة بقيت خلال ذلك اليوم في حركة ولغط طيلة ذلك اليوم (18) ، وليس هناك من هدفٍ لهم إلاّ التجمّع وتطبيق الشعار الذي قاله مسلم بن عقيل ( سلام الله عليه ) ، وأمّا مسلم نفسه فمعَ استمرار هذا الارتباك واللغط وكثرة الحركة ، فمن المتعذّر عليه إصدار الأمر باحتلال قصر الإمارة بهذه السرعة والسهولة ، ولعلّ فيه أو في خارجه مَن يحارب إلى جانبه فيصل الأمر إلى ما لا تُحمد عُقباه .
ونحن لو التفتنا إلى تفرّق الناس عن مسلم ( عليه السلام ) لمجرّد التهديد والخديعة ، فكيف لا يكون تفرّقهم عنه إذا دخلوا تحت ضغط الحرب الحقيقية ، وهذا أمرٌ لا يفوت إدراكه لمسلم ( عليه السلام ) وقد عاشرهم هذا الردح من الزمن .
إذاً فتأسيسه للجيش ليس للحرب الفعلية ؛ وإنّما للدفاع الفعلي ، أو قل للاطمئنان الفعلي ودَفع مكر الأعداء عنه أوّلاً ، وانتظار دخول الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى الكوفة ثانياً ، ثمّ يكون هو المتكفّل بما يفعل ويأمر بعد أن ساعدهُ مسلم ( عليه السلام ) بتأليب القلوب والنفوس إلى جانبه ، غير أنّ كلّ ذلك أو غير ذلك ، ممّا لا يَذعن له أعداؤه بطبيعة الحال ، ومن هنا تسبّب ابن زياد إلى إفشال هذه المهمّة على كلّ حال .
المصادر :
1- تاريخ الطبري : ج6 ، ص198 ، مناقب ابن شهرآشوب : ج3 ، ص242 ، مقتل الخوارزمي : ج1 ، ص195 ، الإرشاد للمفيد : ص204 ، ط نجف .
2- أسد الغابة لابن الأثير : ج4 ، ص16 ، مناقب ابن شهرآشوب : ج2 ، ص85 بتصرّف .
3- هذا ما ذكرهُ المسعودي في مُروج الذهب : ج3 ، ص66 ، والكليني في كفاية الطالب : ص282 . أمّا في مقتل الخوارزمي : ج1 ، ص20 ذَكر أنّهم عشرون ألفاً ، أمّا في تاريخ الطبري ، والإرشاد للمفيد ، ونهاية الإرَب للنويري ، والإيقاد للعظيمي أنّهم ثمانية عشر ألفاً ، وقد ذَكر ابن نما الحلّي في مُثير الأحزان أنّهم أربعون ألفاً .
4- الخوارزمي : ج1 ، ص194 ، الطبري : ج65 ، ص197 ، الكامل لابن الأثير : ج3 ، ص266 ، مناقب ابن شهرآشوب : ج3 ، ص241 .
5- تاريخ الطبري : ج6 ، ص198 ، مناقب ابن شهرآشوب : ج3 ، ص242 ، مقتل الخوارزمي : ج1 ، ص195 .
6- إعلام الورى للطبرسي : ص224 ، الفتوح لابن أعثم : ج5 ، ص75 .
7- الكامل لابن الأثير : ج3 ، ص267 ، الإرشاد للمفيد : ص250 ، الأخبار الطوال : ص211 .
8- واقعة الطف لبحر العلوم : ص286
9- الفَتك : ( فَتك فلان بفلان ) أي : قتلهُ على غفلة ، أو انتهزَ منه فرصة فقتلهُ ( أقرب الموارد : ج2 ، ص901 ، مجمع البحرين : ج5 ، ص283 بتصرّف ) .
10- تاريخ الطبري : ج6 ، ص204 ، وكذلك في مقاتل الطالبيين ، والدمعة الساكبة : م1 ، ص309 /ابن الأثير في الكامل في التاريخ : ج3 ، ص270 / الخوارزمي أيضاً في مقتله : ج1 ، ص202 ..
11- ومثله قولهم الفاتك : أي الجريء الشجاع ، وقال ابن دريد : هو الذي إذا همّ بشيء فَعل ( أقرب الموارد : ج21 ،ص901 ) .
12- الكُنى والألقاب : ج1 ، ص33
13- الإرشاد للمفيد : ص20 ، مُثير الأحزان لابن نما : ص21 ، مناقب ابن شهرآشوب : ج3 ، ص242 .
14- سورة الأعراف : آية (20 ـ21 ) .
15- اللهوف لابن طاووس : ص23 ، تاريخ الطبري : ج6 ، ص209 ، مقاتل الطالبيين : ص102 .
16- تاريخ الطبري : ج6 ، ص207 ، الكامل لابن الأثير : ج3 ، ص271 ، ط مصر .
17- مناقب ابن شهرآشوب : ج2 ، ص212 ، مقتل الخوارزمي : ج1 ، ص209 .
18- مقتل الخوارزمي : ج1 ، ص207 ، مُروج الذهب للمسعودي : ج3 ، ص69 .