نصر : عمر بن سعد ، حدثني مسلم الملائي عن حبة عن علي قال : لما نزل علي الرقة نزل بمكان يقال له بليخ على جانب الفرات ، فنزل راهب هناك من صومعته فقال لعلي : إن عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا ، كتبه أصحاب عيسى بن مريم ، أعرضه عليك. قال علي : نعم فما هو؟ قال الراهب :
بسم الله الرحمن الرحيم
الذي قضى فيما قضى ، وسطر فيما سطر ، أنه باعث في الأميين رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ، ويدلهم على سبيل الله ، لا فظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا يجزى بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل نشز ، وفي كل صعود وهبوط ، تذل ألسنتهم بالتهليل والتكبير والتسبيح ، وينصره الله على كل من ناواه ، فإذا توفاه الله اختلفت أمته ثم اجتمعت ، فلبثت بذلك ما شاء الله ثم اختلفت ، فيمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات ، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ، ويقضي بالحق ، ولا يرتشي في الحكم. الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح ، والموت أهون عليه من شرب الماء على الظماء ، يخاف الله في السر ، وينصح له في العلانية ، ولا يخاف في الله لومة لائم.
من أدرك ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من أهل هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني والجنة ، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره ؛ فإن القتل معه شهادة ». ثم قال له : فأنا مصاحبك غير مفارقك حتى يصيبني ما أصابك. قال : فبكي علي ثم قال : الحمد لله الذي لم يجعلني عنده منسيا ، الحمد لله الذي ذكرني في كتب الأبرار. ومضى الراهب معه ، وكان ـ فيما ذكروا ـ يتغدى مع علي ويتعشى حتى أصيب يوم صفين ، فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم قال علي : اطلبوه. فلما وجدوه صلى عليه ودفنه ، وقال : هذا منا أهل البيت. واستغفر له مرارا.
نصر : عمر عن رجل ـ وهو أبو مخنف ـ عن نمير بن وعلة ، عن أبي الوداك أن عليا بعث من المدائن معقل بن قيس الرياحي في ثلاثة آلاف رجل ، وقال له : « خذ على الموصل ، ثم نصيبين ، ثم القني بالرقة ؛ فإني موافيها ، وسكن الناس وأمنهم ، ولا تقاتل إلا من قاتلك ، وسر البردين ، وغور بالناس ، وأقم الليل ، ورفه في السير ، ولا تسر في الليل فإن الله جعله سكنا ، أرح فيك بدنك وجندك وظهرك. فإذا كان السحر أو حين ينبطح الفجر فسر ». فخرج حتى أتى الحديثة ، وهي إذ ذاك منزل الناس ـ إنما بنى مدينة الموصل بعد ذلك محمد بن مروان ـ فإذا هم بكبشين ينتطحان ، ومع معقل بن قيس رجل من خثعم يقال له شداد بن أبي ربيعة قتل بعد ذلك مع الحرورية ، فأخذ يقول : إيه إيه. فقال معقل : ما تقول : قال : فجاء رجلان نحو الكبشين فأخذ كل واحد منهما كبشا ثم انصرفا ، فقال الخثعمي لمعقل : لا تغلبون ولا تغلبون. قال له : من أين علمت ذلك؟ قال : أما أبصرت الكبشين ، أحدهما مشرق والآخر مغرب ، التقيا فاقتتلا وانتطحا ، فلم يزل كل واحد منهما من صاحبه منتصفا حي أتى كل واحد منهما صاحبه فانطلق به. فقال له معقل : أو يكون خيرا مما تقول يا أخا خثعم؟ ثم مضوا حتى أتوا عليا بالرقة.
نصر : عمر بن سعد ، عن رجل ، عن أبي الوداك ، أن طائفة من أصحاب علي قالوا له : اكتب إلى معاوية وإلى من قبله من قومك بكتاب تدعوهم فيه إليك ، وتأمرهم بترك ما هم فيه من الخطأ ؛ فإن الحجة لن تزداد عليهم بذلك إلا عظما. فكتب إليهم :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية وإلى من قبله من قريش سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإن لله عبادا آمنوا بالتنزيل ، وعرفوا التأويل ، وفقهوا في الدين ، وبين الله فضلهم في القرآن الحكيم ، وأنتم في ذلك الزمان أعداء لرسول الله صلى الله عليه ، تكذبون بالكتاب ، مجمعون على حرب المسلمين ، من ثقفتم منهم حبستموه أو عذبتموه أو قتلتموه ، حتى أراد الله إعزاز دينه وإظهار رسوله ، ودخلت العرب في دينه أفواجا ، وأسلمت له هذه الأمة طوعا وكرها ، وكنتم ممن دخل في هذا الدين إما رغبة وإما رهبة ، على حين فاز أهل السبق بسبقهم وفاز المهاجرون الأولون بفضلهم. فلا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في الدين ولا فضائلهم في الإسلام ، أن ينازعهم الأمر الذي هم أهله وأولى به ، فيحوب بظلم. ولا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره ، ولا أن يعدو طوره ، ولا أن يشقي نفسه بالتماس ما ليس له. ثم إن أولى الناس بأمر هذه الأمة قديما وحديثا ، أقربها من رسول الله صلى الله عليه ، وأعلمها بالكتاب وأفقهها في الدين ، وأولها إسلاما وأفضلها جهادا وأشدها بما تحمله الرعية من أمورها اضطلاعا. فاتقوا الله الذي إليه ترجعون ، ( ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ). واعلموا أن خيار عباد الله الذين يعملون بما يعلمون ، وأن شرارهم الجهال الذين ينازعون بالجهل أهل العلم ؛ فإن للعالم بعلمه فضلا ، وإن الجاهل لن يزداد بمنازعة العالم إلا جهلا. ألا وإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه ، وحقن دماء هذه الأمة. فإن قبلتم أصبتم رشدكم ، وأهتديتم لحظكم. وإن أبيتم إلا الفرقة وشق عصا هذه الأمة فلن تزدادوا من الله إلا بعدا ، ولن يزداد الرب عليكم إلا سخطا. والسلام.
فكتب إليه معاوية :
« أما بعد فإنه : ليس بيني وبين قيس عتاب / غير طعن الكلى وضرب الرقاب »
فقال علي : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ).
نصر : عمر ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن عبد الله بن عمار بن عبد يغوث أن عليا قال لأهل الرقة : اجسروا لي جسرا لكي أعبر من هذا المكان إلى الشام. فأبوا وقد كانوا ضموا السفن عندهم ، فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج ، وخلف عليه الأشتر ، فناداهم فقال : يا أهل هذا الحصن ، إني أقسم بالله لئن مضى أمير المؤمنين ولم تجسروا له عند مدينتكم حتى يعبر منها لأجردن فيكم السيف ، ولأقتلن مقاتلتكم ، ولأخربن أرضكم ، ولآخذن أموالكم. فلقى بعضهم بعضا فقالوا : إن الأشتر يفي بما يقول ، وإن عليا خلفه علينا ليأتينا منه الشر. فبعثوا إليه : إنا ناصبون لكم جسراً فأقبلوا. فأرسل الأشتر إلى علي فجاء ونصبوا له الجسر ، فعبر الأثقال والرجال (1)
ثم أمر الأشتر فوقف في ثلاثة آلاف فارس ، حتى لم يبق أحد من الناس إلا عبر ؛ ثم إنه عبر آخر الناس رجلا.
وذكر الحجاج أن الخيل ازدحمت حين عبرت ، وزحم بعضها بعضا وهي تعبر ، فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين فنزل فأخذها وركب ، وسقطت قلنسوة عبد الله بن الحجاج فنزل فأخذها ثم ركب .
قال عبد الله بن أبي الحصين : ما شيء أوتاه هو أحب إلى مما ذكرت. فقتلا جميعا يوم صفين.
وقال خالد بن قطن : فلما قطع علي الفرات دعا زياد بن النضر ، وشريح بن هانئ ، فسرحهما أمامه نحو معاوية على حالهما الذي كانا عليه حين خرجا من الكوفة ، في اثني عشر ألفا. وقد كانا حين سرحهما من الكوفة مقدمة له أخذا على شاطئ الفرات ، من قبل البر مما يلي الكوفة ، حتى بلغا عانات ، فبلغهما أخذ علي على طريق الجزيرة ، وبلغهما أن معاوية أقبل في جنود الشام من دمشق لاستقبال علي فقالا : لا والله ما هذا لنا برأي : أن نسير وبيننا وبين أمير المؤمنين هذا البحر : ما لنا خير أن نلقى جموع أهل الشام بقلة من عددنا منقطعين من العدد والمدد.
فذهبوا ليعبروا من عانات فمنعهم أهل عانات ، وحبسوا عندهم السفن ، فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت ثم لحقوا عليا بقرية دون قرقيسيا وقد أرادوا أهل عانات فتحصنوا منهم ، فلما لحقت المقدمة عليا قال : مقدمتي تأتى من ورائي؟ فتقدم إليه زياد وشريح فأخبراه بالرأي الذي رأيا ، فقال : قد أصبتما رشدكما. فلما عبر الفرات قدمهما أمامه نحو معاوية ، فلما انتهوا إلى معاوية لقيهم أبو الأعور السلمى في جند أهل الشام ، فدعوهم إلى الدخول في طاعة أمير المؤمنين فأبوا ، فبعثوا إلى علي : إنا قد لقينا أبا الأعور السلمي بسور الروم في جند من أهل الشام فدعوناه وأصحابه إلى الدخول في طاعتك فأبوا علينا ، فمرنا بأمرك. فأرسل علي إلى الأشتر فقال :
« يا مال ، إن زيادا وشريحا أرسلا إلى يعلماني أنهما لقيا أبا الأعور السلمي في جند من أهل الشام بسور الروم فنبأني الرسول أنه تركهم متواقفين. فالنجاء إلى أصحابك النجاء. فإذا أتيتهم فأنت عليهم ، وإياك أن تبدأ القوم بقتال ، إلا أن يبدءوك ، حتى تلقاهم وتسمع منهم ، ولا يجرمنك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة. واجعل على ميمنتك زيادا ، وعلى ميسرتك شريحا ، وقف بين أصحابك وسطا ، ولا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب ، ولا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس ، حتى أقدم عليك ، فإني حثيث السير إليك إن شاء الله ».
وكان الرسول الحارث بن جمهان الجعفي (2).
وكتب إليهما : « أما بعد ، فإني قد أمرت عليكما مالكا ، فاسمعا له وأطيعا أمره ؛ فإنه ممن لا يخاف رهقه ولا سقاطه ، ولا بطؤه عن ما الإسراع إليه أحزم ، ولا الإسراع إلى ما البطء عنه أمثل. وقد أمرته بمثل الذي أمرتكما : ألا يبدأ القوم بقتال حتى يلقاهم فيدعوهم ويعذر إليهم إن شاء الله ». فخرج الأشتر حتى قدم على القوم فاتبع ما أمره به علي ، وكف عن القتال. فلم يزالوا متواقفين حتى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي فثبتوا له واضطربوا ساعة. ثم إن أهل الشام انصرفوا ، ثم خرج هاشم بن عتبة في خيل ورجال حسن عدتها وعددها ، وخرج إلهيم أبو الأعور السلمي ، فاقتتلوا يومهم ذلك ، تحمل الخيل على الخيل ، والرجال على الرجال ، ».(3)
التنوخي ، قتله ظبيان بن عمارة التميمي ، وما هو يومئذ إلا فتى حديث السن. وإن كان الشامي لفارس أهل الشام. وأخذ الأشتر يقول : ويحكم ، أروني أبا الأعور. ثم إن أبا الأعور دعا الناس فرجعوا نحوه ، فوقف على تل من وراء المكان الذي كان فيه أول مرة ، وجاء الأشتر حتى صف أصحابه في المكان الذي كان فيه أبو الأعور أول مرة ، فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي : انطلق إلى أبي الأعور فادعه إلى المبارزة.
فقال : إلى مبارزتي أو مبارزتك؟ فقال : إلى مبارزتي. فقال الأشتر : أو لو أمرتك بمبارزته فعلت؟ قال : نعم ، والذي لا إله إلا هو لو أمرتني أن أعترض صفهم بسيفي فعلته حتى أضربه بالسيف. فقال : يا ابن أخي ، أطال الله بقاءك ، وقد والله ازددت فيك رغبة ، لا ، ما أمرتك بمبارزته ، إنما أمرتك أن تدعوه إلى مبارزتي ، لأنه لا يبارز ـ إن كان ذلك من شأنه ـ إلا ذوي الأسنان والكفاءة والشرف ، وأنت بحمد الله من أهل الكفاءة والشرف ، ولكنك حديث السن ، و ليس يبارز الأحداث ، فاذهب فادعه إلى مبارزتي. فأتاهم فقال : أمنوني فإني رسول. فأمنوه حتى انتهى إلى أبي الأعور.
نصر : عمر بن سعد ، رجل ، عن أبي زهير العبسي ، عن صالح بن سنان بن مالك ، عن أبيه قال : قلت له : إن الأشتر يدعوك إلى مبارزته. فسكت عني طويلا ثم قال : إن خفة الأشتر وسوء رأيه هو الذي دعاه إلى
إجلاء عمال عثمان من العراق ، وافترائه عليه يقبح محاسنه ، ويجهل حقه ، ويظهر عداوته. ومن خفة الأشتر وسوء رأيه أنه سار إلى عثمان في داره وقراره ، فقتله فيمن قتله ، فأصبح مبتغى بدمه. لا حاجة لي في مبارزته. قال : قلت له : قد تكلمت فاستمع مني حتى أخبرك. قال : فقال : لا حاجة لي في جوابك ، ولا الاستماع منك. اذهب عني.
وصاح بي أصحابه فانصرفت عنه. ولو سمع مني لأخبرته بعذر صاحبي وحجته. فرجعت إلى الأشتر فأخبرته أنه قد أبي المبارزة ، فقال : لنفسه نظر. قال : فتواقفنا حتى حجز بيننا وبينهم الليل ، وبتنا متحارسين. فلما أن أصبحنا نظرنا فإذا هم قد انصرفوا. قال : وصبحناعلى غدوة فسار نحو معاوية ، فإذا أبو الأعور السلمى قد سبق إلى سهولة الأرض ، وسعة المنزل ، وشريعة الماء ، مكان أفيح ، وكان على مقدمة معاوية.
نصر : عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن محمد بن علي ، وزيد بن حسن ، ومحمد ـ يعني ابن المطلب ـ قالوا : استعمل علي عليهالسلام ، على مقدمته الأشتر بن الحارث النخعي ، وسار علي في خمسين ومائة ألف من أهل العراق وقد خنست طائفة من أصحاب علي ، وسار معاوية في نحو من ذلك من أهل الشام ، واستعمل معاوية على مقدمته سفيان بن عمرو : أبا الأعور السلمي. فلما بلغ معاوية أن عليا يتجهز أمر أصحابه بالتهيوء.
فلما استتب لعلي أمره سار بأصحابه ، فلما بلغ معاوية مسيره إليه سار بقضه وقضيضه نحو علي عليهالسلام ، واستعمل على مقدمته سفيان بن عمرو ، وعلى ساقته ابن أرطاة العامري ـ يعني بسرا ـ فساروا حتى توافوا جميعا بقناصرين إلى جنب صفين. فأتى الأشتر صاحب مقدمة معاوية وقد سبقه إلى المعسكر على الماء ، وكان الأشتر في أربعة آلاف من متبصري أهل العراق ، فأزالوا أبا الأعور عن معسكره ، وأقبل معاوية في جميع الفيلق بقضه وقضيضه ، فلما رأى ذلك الأشتر انحاز إلى علي عليهالسلام وغلب معاوية على الماء ، وحال بين أهل العراق وبينه ، وأقبل علي عليهالسلام حتى إذا أراد المعسكر إذا القوم قد حالوا بينه وبين الماء.
ثم رجع إلى الحديث بإسناده إلى الأول. ثم إن عليا عليهالسلام طلب موضعا لعسكره ، وأمر الناس أن يضعوا أثقالهم ـ وهم مائة ألف أو يزيدون ـ فلما نزلوا تسرع فوارس من فوارس علي على خيلهم إلى معاوية وكانوا في ثلاثين ومائة ـ ولم ينزل بعد معاوية ، فناوشوهم القتال واقتتلوا هويا.
قال : وأمر علي عليهالسلام الناس ، فوزعوا (کفوا) عن القتال حتى تأخذ أهل المصاف مصافهم ، ثم قال :
أيها الناس ، هذا موقف من نطف فيه نطف يوم القيامة ، ومن فلج فيه فلج يوم القيامة.
فتراجع الناس إلى معسكرهم ، وذهب شباب من الناس وغلمانهم يستقون ، فمنعهم أهل الشام.
نصر ، عن عمر بن سعد ، عن يوسف بن يزيد ، عن عبد الله بن عوف ابن الأحمر قال : لما قدمنا على معاوية وأهل الشام بصفين ، وجدناهم قد نزلوا منزلا اختاروه ، مستويا بساطا واسعا ، وأخذوا الشريعة فهي في أيديهم ، وقد صف أبو الأعور عليها الخيل والرجالة ، وقدم المرامية ومعهم أصحاب الرماح والدرق ، وعلى رؤوسهم البيض ، وقد أجمعوا أن يمنعونا الماء ، ففزعنا إلى أمير المؤمنين فأخبرناه بذلك ، فدعا صعصعة بن صوحان فقال :
ائت معاوية فقل : إنا سرنا مسيرنا هذا ، وأنا أكره قتالكم قبل الإعذار إليكم ، وإنك قد قدمت بخيلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك ، وبدأتنا بالقتال ، ونحن من رأينا الكف حتى ندعوك ونحتج عليك. وهذه أخرى قد فعلتموها ، حتى حلتم بين الناس وبين الماء ، فخل بينهم وبينه حتى ننظر فيما بيننا وبينكم ، وفيما قدمنا له وقدمتم. وإن كان أحب إليك أن ندع ما جئنا له وندع الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا. فقال معاوية لأصحابه : ما ترون؟
قال الوليد بن عقبة : امنعهم الماء كما منعوه ابن عفان : حصروه أربعين يوما يمنعونه برد الماء ولين الطعام ، اقتلهم عطشا قتلهم الله! قال عمرو : خل بين القوم وبين الماء ؛ فإنهم لن يعطشوا وأنت ريان ، ولكن لغير الماء فانظر فيما بينك وبينهم. فأعاد الوليد مقالته ، وقال عبد الله ابن أبي سرح (4) ـ وهو أخو عثمان من الرضاعة ـ : امنعهم الماء إلى الليل ؛ فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا ، وكان رجوعهم هزيمتهم. امنعهم الماء منعهم الله يوم القيامة. فقال صعصعة بن صوحان : إنما يمنعه الله يوم القيامة الكفرة الفجرة شربة الخمر ، ضربك وضرب هذا الفاسق ـ يعني الوليد ابن عقبة ـ فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهددونه. فقال معاوية : كفوا عن الرجل فإنه رسول.
نصر : أن صعصعة رجع إلينا فحدثنا بما قال معاوية وما كان منه وما رد عليه ، فقلنا : وما رد عليك معاوية؟ قال : لما أردت الانصراف من عنده قلت : ما ترد علي؟ قال : سيأتيكم رأيي. قال : فوالله ما راعنا إلا تسوية الرجال والخيل والصفوف ، فأرسل إلى أبي الأعور : امنعهم الماء. فازدلفنا والله إليهم ، فارتمينا واطعنا بالرماح ، واضطربنا بالسيوف فطال ذلك بيننا وبينهم ، فضاربناهم فصار الماء في أيدينا ، فقلنا : والله لا نسقيهم. فأرسل إلينا علي : خذوا من الماء حاجتكم ، وارجعوا إلى عسكركم وخلوا بينهم وبين الماء ؛ فإن الله قد نصركم ببغيهم وظلمهم.
نصر : عمر بن سعد ، عن رجل ، عن أبي حرة أن عليا قال : هذا يوم نصرتم فيه بالحمية.
نصر ، محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني ، قال : فبقي أصحاب علي يوما وليلة ـ يوم الفرات ـ بلا ماء.
قال عمرو : خل بينهم وبين الماء ؛ فإن عليا لم يكن ليظمأ وأنت ريان ، وفي يده أعنة الخيل وهو ينظر إلى الفرات حتى يشرب أو يموت ، وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق ، ومعه أهل العراق وأهل الحجاز ، وقد سمعته أنا وأنت وهو يقول : لو استمكنت من أربعين رجلا. فذكر أمرا. يعنى لو أن معي أربعين رجلا يوم فتش البيت. يعني بيت فاطمة.
وذكروا أنه لما غلب أهل الشام على الفرات فرحوا بالغلبة فقال معاوية : يا أهل الشام ، هذا والله أول الظفر ، سقاني الله ولا سقى أبا سفيان إن شربوا منه أبدا حتى يقتلوا بأجمعهم عليه. وتباشر أهل الشام ، فقام إلى معاوية رجل من أهل الشام همداني ناسك ، يقال له المعري بن الأقبل وكان ناسكا ، وكان له ـ فيما تذكر همدان ـ لسان ، وكان صديقا ومواخيا لعمرو بن العاص ، فقال : يا معاوية ، سبحان الله ، ألان سبقتم القوم إلى الفرات فغلبتموهم عليه تمنعونهم عنه؟
أما والله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه. أليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعونهم الفرات فينزلوا على فرضة أخرى فيجازوكم بما صنعتم؟ أما تعلمون أن فيهم العبد والأمة والأجيروالضعيف ومن لا ذنب له. هذا والله أول الجور. لقد شجعت الجبان ، وبصرت المرتاب ، وحملت من لا يريد قتالك على كتفيك. فأغلظ له معاوية
فلما سمع الأشعث قول الرجل أتى عليا من ليلته ، فقال : يا أمير المؤمنين أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا ، ومعنا السيوف؟ خل عنا وعن القوم ، فوالله لا نرجع حتى نرده أو نموت. ومر الأشتر فليعل بخيله فيقف حيث تأمره. فقال : ذاك إليكم. فرجع الأشعث ، فنادى في الناس : من كان يريد الماء أو الموت فميعاده الصبح ؛ فإني ناهض إلى الماء. فأتاه من ليلته اثنا عشر ألف رجل وشد عليه سلاحه
فلما أصبح دب في الناس وسيوفهم على عواتقهم ، وجعل يلقى رمحه ويقول : بأبي أنتم وأمي ، تقدموا قاب رمحي هذا . فلم يزل ذلك دأبه حتى خالط القوم وحسر عن رأسه ونادى : أنا الأشعث بن قيس ، خلوا عن الماء. فنادى أبو الأعور السلمي : أما والله لا ، حتى تأخذنا وإياكم السيوف. فقال : قد والله أظنها دنت منا. وكان الأشتر قد تعالى بخيله حيث أمره علي ، فبعث إليه الأشعث أن أقحم الخيل. فأقحمها حتى وضع سنابكها في الفرات ، وأخذت القوم السيوف فولوا مدبرين.
نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، عن زيد بن حسين قال : نادى الأشعث عمرو بن العاص ، قال : ويحك يا ابن العاص ، خل بيننا وبين الماء ، فوالله لئن لم تفعل ليأخذنا وإياكم السيوف. فقال عمرو : والله لا نخلي عنه حتى تأخذنا السيوف وإياكم ، فيعلم ربنا أينا اليوم أصبر. فترجل الأشعث والأشتر وذوو البصائر من أصحاب علي ، وترجل معهما اثنا عشر ألفا ، فحملوا على عمرو ومن معه من أهل الشام فأزالوهم عن الماء حتى غمست خيل علي سنابكها في الماء.
نصر : قال عمرو بن شمرو ، عن جابر قال : سمعت تميما الناجي قال سمعت الأشعث بن قيس يقول ـ يوم حال عمرو بن العاص بيننا وبين الفرات ـ : ويحك يا عمرو ، والله إن كنت لأظن لك رأيا فإذا أنت لا عقل لك ، أترانا نخليك والماء ، تربت يداك وفمك ، أما علمت أنا معشر عرب ، ثكلتك أمك وهبلتك ، لقد رمت أمر عظيما. فقال له عمرو : أما والله لتعلمن اليوم أنا سنفي بالعهد ، ونقيم على العقد ، ونلقاك بصبر وجد. فناداه الأشتر : والله لقد نزلنا هذه الفرضة يابن العاص ، والناس تريد القتال ، على البصائر والدين ، وما قتالنا سائر اليوم إلا حمية.
ثم كبر الأشعث وكبر الأشتر ، ثم حملا فما ثار الغبار حتى انهزم أهل الشام.
قالوا : فلقى عمرو بن العاص بعد ذلك الأشعث بن قيس فقال : أي أخا كندة ، أما والله لقد أبصرت صواب قولك يوم الماء ، ولكني كنت مقهورا على ذلك الرأي ، فكايدتك بالتهدد ، والحرب خدعة.
ثم إن عمرا أرسل إلى معاوية : أن خل بين القوم وبين الماء ، أترى القوم يموتون عطشا وهم ينظرون إلى الماء؟ فأرسل معاوية إلى يزيد بن أسد القسري : أن خل بين القوم وبين الماء يا أبا عبد الله. فقال يزيد ـ وكان شديد العثمانية ـ كلا والله ، لنقتلنهم عطشا كما قتلوا أمير المؤمنين.
نصر : فحدثني عمرو بن شمر ، عن إسماعيل السدي ، عن بكر بن تغلب قال : حدثني من سمع الأشعث يوم الفرات وقد كان له غناء عظيم من أهل العراق وقتل رجالا من أهل الشام بيده ، وهو يقول : والله إن كنت لكارها قتال أهل الصلاة ، ولكن معي من هو أقدم مني في الإسلام ، وأعلم بالكتاب
المصادر :
1- في الأصل : « فعبر على الأثقال والرحال » بالحاء وبزيادة « علي » ، وأثبت صوابه من ح ( ١ : ٢٩٠ ). وفي الطبري ( ٥ : ٢٣٧ ) : « فعبر عليه بالأثقال والرحال ».
2- ذكره في لسان الميزان ( ٢ : ١٤٩ ) بدون نسبته ، وقال : « ذكره الطوسي في رجال الشيعة ». وقد ضبط في تاريخ الطبري ( ٥ : ٢٣٨ ) بضم الجيم.
3- في الأصل : « فحمل الخيل على الخيل » وأثبت ما في ح والطبري ( ٥ : ٢٣٩ ).
4- هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح بن الحارث بن حبيب ـ بالتصغير ـ بن حذافة ابن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي. وهو الذي افتتح إفريقية زمن عثمان وولي مصر بعد ذلك. ومات سنة تسع وخمسين في آخر عهد معاوية. الإصابة ٤٧٠٢. ح : « بن سعيد »