بالتأكيد أنّ مرحلة الاِمام السجاد عليهالسلام يمكن أن تسجّل منعطفاً مهماً بين مرحلتين فاصلتين في عمل أئمة أهل البيت عليهمالسلام :
الاُولى : مرحلة التصدّي والصراع السياسي والمواجهة العسكرية ضدّ المنحرفين والمحرّفين من الفاسقين والمارقين والناكثين ، وقبلهم الكفرة والمنافقين وأعداء الدين الواضحين ...
الثانية : مرحلة المعارضة السياسية الصامتة ، أو الرفض المسؤول الواضح للانحراف ، أمام الضبابية والزيف الملفّع بالدين ، وبعد ذلك بناء القاعدة الشعبية والجماعة الواعية التي تتحمّل عبء الرسالة لمواجهة الانحراف والتحريف اللذين غرقت أو استُغرقت فيهما الحالة الدينية تحت شعارات الاِسلام نفسها ويافطات الآيات القرآنية والاَحاديث النبوية ..
ومن هنا ، وحين تختلط المفاهيم ، وتهتزّ القيم وترتجّ المقاييس لابدّ من وقفةٍ متأنيةٍ تتيح للاُمّة أن تلتقط أنفاسها ، وتتأمل في ماضيها وتدرس حاضرها لعلّها تضع بعض الخطوات الصحيحة على سُلِّم مستقبلها الآتي ..
تأسيساً على ذلك ، كان أمام الاِمام زين العابدين عليهالسلام أن يُلفت الاَنظار إلى امور كثيرة اختلط حابلها بنابلها ، وكان عليه أن يجذّر أمور اُخرى في عقول وضمائر الجماعة المؤمنة التي يُراد لها أن تحفظ الاِسلام عقيدةً ونظاماً ، شريعةً ومنهاجاً ، وليس شعاراً وسوقاً ، أو تجارة واستهلاكاً ... ومن هذه الاُمور ما يلي :
١ ـ تركيز ثورة الاِمام الحسين عليهالسلام في ضمائر الناس باعتباره خرج لطلب الاِصلاح في أُمّة جدّه فعلاً ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، داعياً لتحكيم دين الله ، ولم يخرج ( أشراً ولا بطراً ) ، بل لم يخرج على إمرة ( أمير المؤمنين يزيد!! ) ولم ينوِ تمزيق الصف المسلم أو تفريق جماعة المسلمين ، وبالتالي فإنّه قُتل بسيف أعداء الدين ، وليس ( بسيف جدّه ) كما كان يروّج الاعلام الرسمي آنذاك ، وبعض المؤرخين المتخلفين اليوم.
أي كان على الاِمام زين العابدين عليهالسلام أن يفضح الشرعية المزيفة التي تقنّع بها الحكم الاَموي ، ويكشف زيف شعاراته الاِسلامية العريضة ومزاعم انتمائه للنبي والوحي والرسالة الاِسلامية ، وبالتالي يوضح معالم الاِسلام المحمدي الاَصيل والفرق بينه وبين الاِسلام المدّعى الملفّع بتلكم الشعارات .. والعناوين واللافتات ..
٢ ـ بناء الجماعة الواعية ، أو كما تُسمى القاعدة الجماهيرية الشعبية ، المؤهّلة لحفظ الرسالة وحدودها بعيداً عن الزيف والتزييف وسياسة تسطيح الوعي التي غطّت مساحات عريضة من الجمهور المسلم بحيث أضحت تلك الجماهير لا تفرّق بين المفاهيم ومصاديقها ، أو بين الشعارات المرفوعة وضرورة تبنيها ، أو بين الاَصيل والطارىء ، الاَمر الذي يُسبّب الفتنة فعلاً أو يُشعلها ، ويحجب الرؤية الواضحة عن النفوس البريئة التي تتأثر بالشعار ولا تغوص في أعماق الاُمور ...
٣ ـ تعميق مفهوم الاِمامة والولاية في الجماعة الخاصة بعد أن اهتزّت حيثُ يقول ابن تيمية بالحرف الواحد : ولم يكن في خروجه مصلحة لا في دين ولا في دنيا ، وكان في خروجه وقتله من الفساد مالم يكن يحصل لو قعد في بلده.
وذهب أبو بكر العربي المالكي في ( العواصم من القواصم ) إلى نحو هذا الرأي.
لدى العامّة تحت ضغط الاِعلام المزيف وأبواقه المأجورة ، ومن ثمّ توضيح الخرق الفاضح الذي تمَّ خلاله فصل المرجعية الفكرية عن المرجعية السياسية أو الاجتماعية ، وبالاَحرى فصل الدين عن السياسة ، وإبقاء مقاليد الاُمور بيد الصبيان والغلمان ، يعبثون بمقدرات البلاد والعباد.
٤ ـ العمل بدقّة في مقطع زمني بالغ الحساسية ، يحسب على الاِمام حركاته وسكناته ، ويعدّ عليه أنفاسه وكلماته من جهة ، وموازنة ذلك مع عمل إعلامي وتبليغي بالغ الصعوبة والتعقيد لكشف المعالم الحقيقية للدين ، بعيداً عن عيون السلطة ورقابتها وأزلامها وجواسيسها المنتشرين في كل زاوية وزقاق ، من جهة اُخرى ...
القتال على جبهات متعددة :
ومن هنا كان على الاِمام أن يقاتل على جبهات متعددة ويستخدم لغات متعددة في آن واحد ، وهذا أشقّ ما يتحمله أي زعيم سياسي أو قائد ديني يريد مواصلة مسيرته وتركيز خطّه في خندقين متقابلين :خندق العمل السري ، وخندق الساحة العلنية المكشوفة التي تتربص به الفرص ، وتحسب عليه الكلمات ، وربما تسعى لاستدراجه والايقاع به وإبعاده عن أصحابه أو إبعادهم عنه ، وخاصة الخلّص المؤثرين فيهم ، لئلاّ يتأثروا به ويحملوا رسالته وإشعاعاته ودفين أسراره وتحركاته وأهدافه ..
أمام هذا المأزق ، وحيث لم يبقَ في مدينة الرسول ومكة « أكثر من عشرين رجلاً يحبوننا أهل البيت » كما قال الاِمام زين العابدين عليهالسلام (1)
ولم يبقَ من خيار أمام الاِمام إلاّ التحرك بحذر وتؤدة ، ربما لا يُفهمان حتى من قبل بعض المخلصين الذين يريدون أو يرغبون موقفاً علنياً صريحاً تجاه تحركاتهم التي تُحسب عليه ولا تحسب عليهم باعتباره الرمز والمحور وهو المتهم بأنه المحرّك لكلِّ تيار معارض أو متململ ضد السلطة والحاكم.
وبذلك فإنّه أوحى للسلطة بأنه ابتعد تماماً عن العمل السياسي وانصرف للتعبّد والدعاء ، وهو من ناحية اُخرى يسعى إلى تركيز المفهوم الاِمامي الذي أُولى أولوياته مواجهة الظالم بعد الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...
وهنا حار المؤرخون فعلاً في تشخيص موقف الاِمام من حركات المعارضة وخاصة تلك التي اشتعلت قريباً منه ، أو تلك التي رفعت شعارات شيعية مثل ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صُرد الخزاعي ، أو ثورة المختار وشعارها المعروف : « يالثارات الحسين »!!
فمن قائلٍ إنّه عليهالسلام تبرّأ من ثورة المختار مثلاً ، إلى قائل إنّه حينما جيء له برأس عبيدالله بن زياد ورأس عمر بن سعد وببعض قتلة الحسين ، خرّ ساجداً لله قائلاً : « الحمدُ لله الذي أدرك ثأري من أعدائي ، وجزى الله المختار خيراً » (2).
ومنهم من قال إنّه لم يُجب على رسالة المختار ورفض دعوته ببيعته له عليهالسلام ، وإن ذلك من حقّه ، لكون المختار لم يَستَشِرْه في تحركه أو حركته وإنّه كان بعيداً عنه ولم يكن الاِمام يعرف مكنون توجهاته ونواياه ، إلى قائل : إنّ المختار لم يتحرك إلاّ تحت إشارته وتلقّي الضوء الاَخضر منه ، وهكذا بين مشرّق ومغرّب ويمين ويسار.
أمام هذه المفارقات أو المفترقات لابدّ من القول أن الطريق الاَفضل لاَن يستكمل الاِمام كافة أهدافه ، كان عليه توزيع الاَدوار وعدم الانجرار إلى لعبة السياسة القذرة ، والاحتفاظ بالقدر المعقول من حلقاتها التي يستفيد منها القائد ، ولكن لا أن يقع في مستنقعها الآسن ، فتحسب عليه بعض شطحاتها والتواءاتها وتجاوزاتها ...
هذه الموازنة الدقيقة أو المعادلة الصعبة ، لم يكن من السهل على الاِمام السجاد عليهالسلام عبورها أو تمريرها ، لاسيّما وانه كان يمارس عمله تحت الاَضواء وفي الهواء الطلق وتحت رقابة العيون والجواسيس من جهة ، وبالتالي فلا ينبغي أن يوحي للسلطة أنّه معارض يبغي الحكم والسلطة ، ولكنه من جهة اُخرى يريد التأكيد على أنّه وصي ووريث ذلك الاِمام العظيم الذي ستبقى حرقة قتله تلتهب في نفس كلِّ شريف عرفه وعايشه وعاشره ، فضلاً عن كونه نجله وولده والمفجوع الاَول بقتله والمسؤول عن الثأر له ومواصلة طريقه ، فضلاً عن أنّه حامل رسالته ومؤدي أماناته وامتداده والاِمام المستخلف من بعده على البلاد والعباد ...
هكذا كان الاِمام السجاد يحيا ، وهكذا كانت تمر أيام حياته وساعاته غصّة بعد غصّة ، وألماً بعد ألم ، والمهمة تكبر وتكبر ، وعليه إتمام المشوار وإكمال الشوط إلى النهاية.
فهو من جهة لا يريد المغامرة بتركةٍ ثقيلة عليه أداؤها في تبليغ الرسالة وحمل الاَمانة وبلورة أحكام الدين التي سفّهها حكام بني أمية وجعلوها مهزلة وحكاية ، ومن جهة اُخرى يريد تحريك أجواء الصراع ضد الظالمين واستثمار فضاءاته الحرّة لتطويق مساعي الحكام الاَمويين في الالتفاف على جريمتهم في تحريف الدين وخبثهم في احتواء غضب الاُمّة المقدس ضد قتلة الاِمام الحسين عليهالسلام وأصحاب الحسين.
ومن جهة ثالثة : لا يريد أن يُتّهم أنه اعتزل التصدي تشبثاً بالحياة وحرصاً على حطامها ، بل انه كان يسعى إلى تسفيه تلك التهمة باعتباره أزهد الناس في حياة نتنة ( اغتالت حسين السبط واختارت يزيداً ) ...
وفوق ذلك كلّه أنّه عليهالسلام لم يرد أن يعطي للمتقاعسين والمتخاذلين عذراً آخر لتبرير قعودهم وغدرهم واحتمائهم بعزلته وانطوائه ، أي اتخاذ ذلك ذريعةً وغطاءً لنكوصهم وجبنهم وتهافتهم على الدنيا وملذّاتها ، وبالتالي مواصلة طريق الانحراف الذي كان عليهالسلام أصدق الناس في محاربته ، وأمضاهم في مناجزته ومناوءته ...
الحصيلة :
كانت حصيلة هذا العمل الدؤوب والمنهج الحكيم ، والموازنة الدقيقة ، وبعد أن كان الناس قد ( ارتدوا إلاّ ثلاثة ) و ( لم يبقَ في المدينة ومكة أكثر من عشرين شخصاً محباً لاَهل البيت ) ـ كما ذكرنا ـ ، وبعد انقطاع مفتعل موهم عن مسرح الاَحداث ، واستثمار موفّق لظروف الزمان والمكان ـ كما سيأتي ذكره ـ كانت الحصيلة أن استطاع الاِمام السجّاد عليهالسلام وعدد قليل من المخلصين الذين تظافرت جهودهم على نصرته أن يحقق نتائج قياسية ويترك آثاراً عظيمة لا يقدر على تحقيقها أي زعيم أو قائد يمرُّ بظروفه وتعقيدات المقطع الزمني الحساس الذي عاشه أو تفاعل معه أو انفعل فيه.وكان من هذه الآثار الاَرقام التالية :
* ( كان القرّاء لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين ، ومعه ألف راكب ).
* ( كان القوم لا يخرجون من مكة حتى يخرج علي بن الحسين سيد العابدين ).
* ( قال الزهري : نعم .. لقيته وما لقيت أحداً أفضل منه ، والله ما علمتُ له صديقاً في السرِّ ، ولا عدّواً في العلانية ، فقيل : وكيف ذلك؟ قال : لاَني لم أرَ أحداً وإن كان يحبه إلاّ وهو لشدّة معرفته بفضله يحسده ، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلاّ وهو لشدّة مداراته له يداريه ... ) (3).
* ( ... حج هشام بن عبدالملك فلم يقدر على استلام الحجر الاَسود ، من شدّة الزحام فنُصب له منبر فجلس ... إذ أقبل علي بن الحسين عليهالسلام وعليه إزار ورداء ، فجعل يطوف ، فإذا بلغ موضع الحجر تنحّى الناس حتى يستلمه هيبة له وإجلالاً .. ) الاَمر الذي أزعج هشام ، فسأل متجاهلاً له : من هذا؟ فكان جواب الفرزدق في قصيدته المعروفة التي دفع ضريبتها بعد فترة وجاء فيها :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحلُّ والحرمُ
هذا ابن خير عباد الله كلُّهم
هذا التقي النقي الطاهر العلمُ
إذا رأته قريش قال قائلها
إلى مناقب هذا ينتهي الكرمُ
وليس قولك من هذا؟ بضائره
العُرب تعرفُ من أنكرت والعجمُ (4)
* ( وقال القرشي لابن المسيّب : ... ثم غاب عني فترة حتى أتيتُ مكة ، فإذا بحلقة مستديرة ، فاطلعتُ لاَنظر فإذا صاحبي فسألت عنه ، فقيل : هو زين العابدين ... ) (5).
* أثناء ثورة المدينة التي تفجّرت ردّاً على مجون الاَمويين وقتلهم لآل بيت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فزع مروان كأشدّ ما يكون الفزع مع عياله إلى بيت الاِمام زين العابدين ؛ لاَنّ الثورة كانت تستهدفه ، فضمّ الاِمام نساء الاَمويين إلى حرمه ، وقيل أنّه كفل أربعمائة امرأة مع أولادهن وضمهنّ إلى عياله حتى قالت واحدة منهنّ : إنّها ما رأت في دار أبيها من الراحة والعيش الكريم مثل ما رأته في دار الاِمام علي بن الحسين عليهماالسلام (6).
* وصفه عمر بن عبدالعزيز قائلاً : ( إنّه سراج الدنيا وجمال الاِسلام ) (7).
* و ( لمّا مات شهد جنازته البرّ والفاجر وأثنى عليه الصالح والطالح ، وانهال الناس يتبعونه حتى وضعت الجنازة ) (8).
المصادر :
1- الاِمام السجاد عليهالسلام / حسين باقر : ٦٣.
2- رجال الكشي : ١٢٧ / ٢٠٣ عن عمر بن علي بن الحسين. ومناقب آل أبي طالب ٤ : ١٥٧.
3- بحار الاَنوار / المجلسي ٤٦ : باب ٥ ـ ٢١ .
4- رجال الكشي : ١٢٩ ـ ١٣٠ / ٢٠٧.
5- بحار الاَنوار ٤٦ : باب ٥ ـ ٧٨.
6- الاِمام زين العابدين / أحمد فهمي : ٦٤.
7- مقدمة الصحيفة السجادية / السيد محمد باقر الصدر : ٦.
8- رجال الكشي : ١١٧ ـ ١١٨ / ١٨٨ عن سعيد بن المسيّب.