ثوابت اسلامية

الدين الاسلامي عالمي لا تحده حدود ودول وفواصل مصطنعة وهناک ثوابت هي الاُسس الإسلاميّة التي یجب التقيد بها او اخذها بنظر الاعتبار علی الاقل وهي عبارة عن 33 أساساً حرّرها الشهيد السيد محمد باقرالصدر قدس سره حُفظ منها ثلاثة عشر
Wednesday, January 25, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
ثوابت اسلامية
 ثوابت اسلامية

 





 

الدين الاسلامي عالمي لا تحده حدود ودول وفواصل مصطنعة وهناک ثوابت هي الاُسس الإسلاميّة التي یجب التقيد بها او اخذها بنظر الاعتبار علی الاقل وهي عبارة عن 33 أساساً حرّرها الشهيد السيد محمد باقرالصدر قدس سره حُفظ منها ثلاثة عشر أساساً (1)

الأساس الاول الإسلام

الإسلام في اللغة هو الاستسلام والانصياع ، وبهذا المعنى كان صفةً للدين الإلهي بشكل عام في قوله تعالى «إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ »(2)وآيات اُخرى .
أمّا المعنى الاصطلاحي للإسلام فهو ( العقيدة والشريعة اللتان جاء بهما من عند اللَّه تعالى الرسولُ الأعظمُ محمّد بن عبد اللَّه صلى الله عليه و آله ) ، وهذا المعنى هو المقصود من الإسلام في قوله تعالى «الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِيناً »(3).
ونقصد بالعقيدة ( مجموعة المفاهيم التي جاء بها الرسول صلى الله عليه و آله التي تعرّفنا خالق العالم وخلقه وماضي الحياة ومستقبلها ودور الإنسان فيها ومسؤوليّته أمام اللَّه ) ، وقد سمّيت هذه المفاهيم عقيدة لأنّها معلومات جازمة يعقد عليها القلب .
ونقصد بالشريعة ( مجموعة القوانين والأنظمة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه و آله التي تعالج الحياة البشريّة كافّة ، الفكريّة منها والروحيّة والاجتماعيّة بمختلف ألوانها من اقتصاديّة وسياسيّة وغيرها ) .
فالإسلام إذاً مبدأٌ كاملٌ لأنّه يتكوّن من عقيدة كاملة في الكون ينبثق عنها نظامٌ اجتماعيٌّ شاملٌ لأوجه الحياة ويفي بأمسّ وأهمّ حاجتين للبشريّة ، وهما القاعدة الفكريّة والنظام الاجتماعي .

الأساس الثاني المسلم

المسلم على قسمين :
مسلمٌ واقعيّ : وهو من استسلم عن إيمان ويقين باللَّه واليوم الآخر ورسالة النبي صلى الله عليه و آله ويعبّر عنه في القرآن الكريم كثيراً بـ ( المؤمن ) وعن مقابله بـ ( الكافر ) .
ومسلمٌ ظاهريّ : وهو كلُّ من شهد الشهادتين ولم يظهر منه إنكارٌ لضروريٍّ من ضروريّات الدين . ويعتبر كلُّ من أعلن الشهادتين في عرف الدولة مسلماً مساوياً في الحقوق والواجبات لسائر المسلمين .
والدليل الشرعي على ذلك :
أوّلاً : سيرة النبي صلى الله عليه و آله والمسلمين مع من كان يسلم تحت ضغط التهديد بالقتل ، فإنّه كان يُقبل إسلامه بمجرّد إعلانه الشهادتين .
ثانياً : سيرة النبي صلى الله عليه و آله مع أشخاص علم نفاقهم بشهادة القرآن الكريم .
ثالثاً : نصوص السنّة المصرّحة بأنَّ أحكام الإسلام تدور مدار إعلان الشهادتين .
وعلى ذلك فالدولة الإسلاميّة تساوي في الحقوق والواجبات بين جميع المشتركين في إعلان الشهادتين في أحكام الإسلام العامّة : الطهارة ، جواز التزويج ، دخول المساجد ونحو ذلك ، وإن كان لا يجوز لها أن تسند إلى من تخشى نفاقه ورياءه شيئاً من الوظائف والمهام التي يشكّل إسنادها خطراً على الإسلام ، كما يجوز لها أن تضعه في رقابة وتحدّد تصرّفاته طبقاً لمقتضيات المصلحة الإسلاميّة العليا .
كما ينبغي أن يُعلم أنّ المرتدَّ عن الإسلام سواء كان مليّاً أو فطريّاً إذا تاب وأناب فإنّ الدولة تقبل إسلامه واقعاً وظاهراً ، وتعامله كبقيّة المسلمين وذلك استناداً إلى رأي فقهيٍّ تتبنّاه الدعوة .

الأساس الثالث الوطن الإسلامي

الوطن الإسلامي هو ( ما يسكنه المسلمون من أقطار العالم ) .
يجب أن نميّز بين استحقاق الدولة الإسلاميّة للأرض وبين صفة الوطن الإسلامي التي صحّ أن نصف بها الأرض .
إنّ استحقاق الدولة الإسلاميّة للأراضي نوعان :
النوع الأوّل‏ : الاستحقاق السياسي . وهو ما تستحقّه الدولة الإسلاميّة من الأرض باعتبارها الإدارة السياسيّة العليا للإسلام ، أي باعتبارها المسؤولة عن الكيان السياسي للمبدأ الإسلامي والموظّفة الشرعيّة على تطبيقه ونشره وحمايته .
ودائرة هذا الاستحقاق ليست محدودة بحدود ، لأنّ الكيان السياسي للدولة الإسلاميّة قائمٌ على مبدأ فكري عامّ لا تختلف في حسابه الأراضي والبلاد . ولذلك كان الإسلام المتمثّل في الدولة الإسلاميّة صاحب الحق الشرعي في الأرض كلّها «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ »(4)
فيحقُّ للدولة الإسلاميّة إخضاع جميع أراضي العالم لها سياسيّاً . غير أنّ طريقة استعمال هذا الحقّ وشكل تنفيذه يختلف باختلاف طبيعة الأشخاص المستوطنين للأرض من حيث كونهم مسلمين أو ذمّيّين أو كفّاراً غير ذمّيّين إلخ ... وتشرح ذلك الأحكامُ الشرعيّةُ المتعلّقة بسياسة الدولة الخارجيّة .
النوع الثاني‏ : استحقاق مالكي . وهو ما تستحقّه الحكومة الإسلاميّة من الأرض باعتبارها الممثّل الأعلى للاُمّة الإسلاميّة والوكيل الشرعي عنها في حقوقها وأملاكها . ودائرة هذا الاستحقاق هي الأرض الخراجيّة ، فإنّها أملاك عامّة للاُمّة المسلمة وتقوم بولايتها أو وكالتها عنها بتولّي شؤونها طبقاً لمصالح الاُمّة . وتشرح ذلك الأحكامُ الشرعيّةُ المتعلّقةُ بأملاك الاُمّة العامّة .
ومن الواضح أنّ صفة الوطن الإسلامي تختلف في طبيعتها عن صفة الاستحقاق السياسي والمالكي ، فإنّ استحقاق الدولة السياسي للأرض هو بسبب تحمّل الحكومة حماية المبدأ ، ممّا جعل لها الحقَّ في تنفيذ إرادة الإسلام في الأرض طبقاً لتشريعاته . والاستحقاق المالكي سببه أملاك الاُمّة ممّا جعل لها الحقَّ في تنفيذ إرادة الاُمّة طبقاً لمصالحها ، وهذا الاستحقاق بنوعيه حكمٌ شرعيٌّ لا بدّ في استنباطه وتحديد دائرته من الأدلّة الشرعيّة .
أمّا تحديد الأرض التي يصحُّ وصفها بالوطن الإسلامي فهو ليس حكماً شرعيّاً ، فيكون المرجع فيه العرف السليم الذي يقضي في تعريف الوطن الإسلامي بأ نّه ( كلُّ ما يسكنه المسلمون من أقطار الأرض ) .

الأساس الرابع الدولة الإسلاميّة

الدولة ككلّ على ثلاثة أنواع :
النوع الأوّل‏ : الدولة القائمة على قاعدة فكريّة مضادّة للإسلام ، كالدولة الشيوعيّة والدولة الديمقراطيّة الرأسماليّة ، فإنّ القاعدة الفكريّة الرئيسيّة للدولة الشيوعيّة تناقض الإسلام تماماً ، وكذلك القاعدة الفكريّة الرئيسيّة للدولة الديموقراطيّة الرأسماليّة ، فإنّها وإن لم تمسّ الحياة والكون بصورة محدّدة إلّاأ نّها تناقض نظرة الإسلام إلى المجتمع وتنظيم الحياة ، فهي أيضاً قائمة على قاعدة فكريّة مضادّة للإسلام . وهذه الدولة دولة كافرة لأنّها لا تقوم على القاعدة الفكريّة للإسلام ، وهي بسبب تبنّيها لقاعدة فكريّة مناقضة للإسلام تعدُّ كلّ إمكاناتها للتبشير بتلك القاعدة ومحاربة كلّ ما يناقضها بما في ذلك الإسلام بعقيدته وأفكاره وتشريعه .
وحكم الإسلام في حقِّ هذه الدولة أ نّه يجب على المسلمين أن يقضوا عليها وأن ينقذوا الإسلام من خطرها إذا تمكّنوا من ذلك بمختلف الطرق والأساليب التبشيريّة والجهاديّة ، لأنّ الإسلام في هذه الدولة - حتّى بصفته عقيدة - موضعٌ للهجوم وموضعٌ للخطر ، فتكون الحالة معها حالة جهاد لحماية بيضة الإسلام ، غير أنّ وجوب جهاد هذا العدو لا يعني بطبيعة الحال القيام بأعمال تعرّض العاملين للخطر دون نتيجة ايجابيّة .
النوع الثاني‏ : الدولة التي لا تملك لنفسها قاعدة فكريّة معيّنة ، كما هو شأن الحكومات القائمة على أساس إرادة حاكم وهواه أو المسخّرة لإرادة اُمّة اُخرى ومصالحها . وهذه الدولة دولة كافرة وليست دولة إسلاميّة وإن كان الحاكم فيها والمحكومون مسلمين جميعاً ، لأنّ الصفة الإسلاميّة للدولة لا تنبع من اعتناق الأشخاص الحاكمين للإسلام وإنّما تنشأ من اعتناق نفس الدولة كجهاز حكم للإسلام ، ومعنى اعتناق الدولة للإسلام ارتكازها على القاعدة الإسلاميّة واستمدادها من الإسلام تشريعاتها ونظريّتها للحياة والمجتمع ، فكلُّ دولة لا تكون كذلك فهي ليست إسلاميّة .
ولمّا كان الكفر هو النقيض الوحيد للإسلام صحّ أن نعتبر كلَّ دولة غير إسلاميّة دولة كافرة وكلَّ حكم غير إسلامي حكماً كافراً ، لأنّ الحكم حكمان : حكم الإسلام ، وحكم الكفر والجاهليّة ، فما لم يكن الحكم إسلاميّاً مرتكزاً على القاعدة الإسلاميّة فهو حكم الكفر والجاهليّة وإن كان الحاكم مسلماً متعبّداً بعبادات الإسلام ، ففي الحديث الشريف أنّ ( الحكم حكمان حكم اللَّه وحكم الجاهليّة ، فمن أخطأ حكم اللَّه فقد حكم بحكم الجاهليّة )(5) .
والإسلام في هذه الدولة وإن كان لا يجابه منها حرباً مركّزة على عقيدته وأفكاره ، إلّاأ نّه حيث اُقصي عن قاعدته الرئيسيّة أصبح يفقد ضمان الدولة بكلّ وجه من الوجوه ، وأصبح وجوده في خطر .
والحكمُ الشرعي في حقِّ هذه الدولة أ نّها ليست دولة شرعيّة ويجب على المسلمين هدمها وإبدالها بدولة إسلاميّة ، وكذلك فإنّ وجوب إبدالها لا يعني القيام بأعمال تعرّض العاملين للخطر دون احتمال نتيجة إيجابيّة ، كما أنّ الطرق التي تستعمل في سبيل هدمها وإبدالها تقدّر من حيث درجة العنف والقوّة طبقاً لمدى الخطر الذي يتهدّد الإسلام منها وطبقاً لإمكانات العاملين واحتمال عود جهادهم بنتيجة على الإسلام .
النوع الثالث‏ : الدولة الإسلاميّة . وهي الدولة التي تقوم على أساس الإسلام وتستمدُّ منه تشريعاتها ، بمعنى أ نّها تعتمد الإسلام مصدرها التشريعي وتعتمد المفاهيم الإسلاميّة منظارها الذي تنظر به إلى الكون والحياة والمجتمع .
والدولة الإسلامية هذه على ثلاثة أنحاء :
النحو الأوّل‏ : أن تكون جميع التشريعات التي تقوم بها الدولة مستمدّة من القاعدة الفكريّة بحيث إنّ سير الدولة التشريعي والتنفيذي يكون منسجماً ومتّفقاً مع متطلّبات الإسلام وأحكامه وبصورة مضمونة دون أيّ قصور أو تقصير . وهذا إنّما يتأتّى فيما إذا كانت السلطة الحاكمة معصومة من الخطأ والهوى كالسلطة الحاكمة أيّام النبي صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام .
وحكم الإسلام بحقّ الدولة من هذا النوع أ نّه يجب إطاعتها ولا يجوز التخلّف عن أوامرها وقراراتها التي تصدرها بصفتها سلطة حاكمة بحال من الأحوال .
النحو الثاني‏ : أن تكون بعض التشريعات والتنفيذات متعارضة مع الإسلام تعارضاً ناشئاً من عدم اطّلاع السلطة الحاكمة على حقيقة الحكم الشرعي أو طبيعة الموقف . وحكم الإسلام بحقّ الدولة من هذا النوع :
1 - أ نّه يجب على العارف من المسلمين أن يشرح للدولة ما تجهله من أحكام الإسلام أداءً لوجوب تعليم أحكام الإسلام لمن يجهلها خاصّة السلطة الحاكمة .
2 - كما يجب على المسلمين إطاعة هذه السلطة في كلّ الحقوق والمجالات التي تشملها صلاحيّاتها الشرعيّة .
3 - وإذا أصرّت السلطة الحاكمة على وجهة نظرها الخاطئة عن حسن نيّة ولم يمكن لمن يختلف معها في وجهة نظرها أن يثبت لها رأيه ، فإن كانت القضيّة ـ من القضايا التي يجب فيها توحيد الرأي كالجهاد والضرائب وأمثالها وجب على المخالف إطاعة أمر الدولة وإن كان معتقداً خطأها . وإن لم تكن القضيّة ممّا يجب فيه توحيد الرأي كان للمخالف أن يطبّق في مجاله الخاص اجتهاده المخالف لاجتهاد الدولة .
النحو الثالث‏ : أن تشذَّ الحكومة في تصرّفاتها التشريعيّة أو التنفيذيّة ، فتخالف القاعدة الإسلاميّة الأساسيّة عن عمد مستندةً في ذلك إلى هوى خاص أو رأي مرتجل . وحكم الإسلام في هذه الدولة :
1 - أ نّه يجب على المسلمين عزل السلطة الحاكمة واستبدالها بغيرها لأنّ العدالة من شروط الحكم في الإسلام ، وهي تزول بانحراف الحاكم المقصود عن الإسلام فتصبح سلطته غير شرعيّة . ويشترط في ذلك أن يتوصّل المسلمون إلى عزل السلطة الحاكمة بغير الحرب الداخليّة .
2 - وإذا لم يتمكّن المسلمون من عزل الجهاز الحاكم وجب عليهم ردعه عن المعصية طبقاً لأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشريعة المقدّسة .
3 - وإذا استمرّت السلطة المنحرفة في الحكم فإنّ سلطتها تكون غير شرعيّة ولا يجب على المسلمين إطاعة أوامرها وقراراتها فيما يجب فيه إطاعة وليّ‏ الأمر ، إلّافي الحدود التي تتوقّف عليها مصلحة الإسلام العليا ، كما إذا داهم الدولة خطرٌ مهدّدٌ وغزوٌ كافرٌ ، فيجب في هذه الحالة أن يقف المسلمون إلى صفّها - بالرغم من انحرافها - وتنفيذ أوامرها المتعلّقة بتخليص الإسلام والاُمّة من الغزو والخطر .
والدولة في كلّ هذه الأنحاء الثلاثة هي دولة إسلاميّة لقيامها فكريّاً على أساس الإسلام وارتكاز كيانها على القاعدة الإسلاميّة ، ومجرّد حدوث تناقض بين القاعدة التي تقوم عليها وبعض معالم الحكم ومظاهره لا يخرجها عن كونها دولة إسلاميّة ، كما هو الشأن في كلّ دولة تقوم على قاعدة فكريّة فإنّها تحمل صفة تلك القاعدة وإن حصلت بعض التناقضات في جهاز الحكم .
ويترتّب على الدولة الإسلاميّة في كلّ هذه الحالات بعض الأحكام الفقهيّة كسقوط الزكاة عن ذمّة من تجب عليهم إذا أخذته الدولة منهم كما نصّت على ذلك أحكام الشريعة المقدّسة .

الأساس الخامس الدولة الإسلاميّة دولة فكريّة

لمّا كانت الدولة هي المظهر الأعلى للوحدة السياسيّة التي توجد بين جماعة من الناس ، فلا بدّ أن تكون وحدتها انعكاساً لوحدة عامّة قائمة بين الجماعة .
وهذه الوحدة العامّة بين الناس التي تنعكس في الوحدة السياسيّة تارةً تكون وحدة عاطفيّة واُخرى وحدة فكريّة .
فالوحدة العاطفيّة هي العاطفة الواحدة التي يحسّها ويشترك فيها جماعة من الناس بسبب من الأسباب كاشتراكهم في إقليم متميّز بحدوده الجغرافيّة أو اشتراكهم في قوميّة متميّزة بلغة أو دم أو تاريخ معيّن .
وأمّا الوحدة الفكريّة فهي عبارة عن إيمان جماعة من الناس بفكرة واحدة تجاه الحياة يقيمون على أساسها وحدتهم السياسيّة ، وهذه الوحدة هي الوحدة الطبيعيّة والجديرة بأن ينشأ على أساسها كيانٌ سياسيٌّ موحّد متمثّل في دولة بعكس الوحدة العاطفيّة ، لأنّ العاطفة لمّا كانت لا تعني بطبيعتها الموقف السياسي للاُمّة ولا نظرتها العمليّة نحو الحياة ، فبالتالي لا يمكن أن توجد للاُمّة حكماً ونظاماً ، لأنّ الحكم والنظام إنّما يوجده الفكر . ولذا كان الفكر هو القاعدة الطبيعيّة للحكم وكانت الوحدة الفكريّة هي الوحدة الصالحة لتعليل الوحدة السياسيّة المتمثّلة في الدولة تعليلاً علميّاً .
على ضوء ذلك نستطيع أن نقسّم الدولة ولو بصورة غالبة إلى ثلاثة أقسام :
1 - الدولة الإقليميّة : وهي التي تعكس في وحدتها السياسيّة الوحدة الإقليميّة .
2 - الدولة القوميّة : وهي التي تستمدُّ وحدتها السياسيّة من القوميّة الموحّدة .
3 - الدولة الفكريّة : وهي التي ترتكز في وحدتها السياسيّة على وحدة فكريّة معيّنة .
والدولة الإسلاميّة من القسم الثالث . ومن طبيعة الدولة الفكريّة أ نّها تحمل رسالة فكريّة ولا تعترف لنفسها بحدود إلّاحدود ذلك الفكر ، وبذلك تصبح قابلة لتحقيق رسالتها في أوسع مدى إنساني ممكن ، وكذلك الدولة الإسلاميّة فإنّها دولة ذات رسالة فكريّة التي هي الإسلام ، والإسلام دعوة إنسانيّة عامّة بعث بها النبيُّ محمّد صلى الله عليه و آله إلى الإنسانيّة كافّة في مختلف العصور والبقاع بقطع النظر عن الخصائص القوميّة والإقليميّة وغيرها كما يدلُّ على ذلك قوله تعالى «وَمَا أرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ »(6)
وقوله تعالى «قُلْ أيُّ شَيْ‏ٍ أكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لاُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ »(7)
مع آيات ونصوص اُخرى كثيرة لا تدع مجالاً للشكّ بأنّ الإسلام رسالة عالميّة لا إقليميّة ولا قوميّة .

الأساس السادس شكل الحكم في الإسلام‏

تعريف الحكم في الإسلام
الحكم في الدولة الإسلاميّة هو ( رعاية شؤون الاُمّة طبقاً للشريعة الإسلاميّة ) ، ولذلك يطلق على الحاكم كثيراً اسم الراعي وعلى المحكومين اسم الرعيّة كما في الحديث الشريف « كلّكم راع وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته »(8) .
ولا بدّ لكي تكتسب الرعاية صفة الشرعيّة أن يتوفّر فيها أمران :
الأوّل‏ : تنفيذ رعاية شؤون الأُمة بالفعل وتطبيق أحكام الرعاية في الإسلام عليها .
الثاني‏ : أن تكون الرعاية نفسها متّفقة مع نظام الحكم وشكل الرعاية في الإسلام ، فلا يكفي لأن تكتسب الرعاية الصفة الشرعيّة أن تقوم فعلاً بتطبيق الدستور والقوانين الإسلاميّة في إدارة شؤون الاُمّة من جهاد واقتصاد وعلاقات سياسيّة ، بل لا بدّ أن يراعى تطبيق الدستور والقوانين الإسلاميّة في الرعاية نفسها لأنّ رعاية شؤون الاُمّة من شؤون الاُمّة أيضاً ، فيجب أن تكون بالشكل الذي حدّده لها الإسلام .
تتطلّب الدولة الإسلاميّة عدّة مهام هي :
أوّلاً : بيان الأحكام ، وهي القوانين التي جاءت بها الشريعة الإسلاميّة المقدّسة بصيغها المحدّدة الثابتة .
ثانياً : وضع التعاليم ، وهي التفصيلات القانونيّة التي تطبّق فيها أحكام الشريعة على ضوء الظروف ، ويتكوَّن من مجموع هذه التعاليم النظام السائد لفترة معيّنة تطول وتقصر تبعاً للظروف والملابسات .
ثالثاً : تطبيق أحكام الشريعة ( الدستور ) والتعاليم المستنبطة منها ( القوانين ) على الاُمّة .
رابعاً : القضاء في الخصومات الواقعة بين أفراد الرعيّة أو بين الراعي والرعيّة على ضوء الأحكام والتعاليم .
للحكم في الإسلام شكلان :
الأوّل : الشكل الإلهي
وهو يعني حكم الفرد المعصوم الذي يستمدُّ صلاحيّاته من اللَّه مباشرة ويمارس الحكم بتعيينٍ إلهيٍّ خاصٍّ دون دخل لاختيار الناس وآرائهم .
وهذا الشكل من الحكم ثابتٌ في الإسلام دون شكٍّ وبإجماع المسلمين . فمن المتّفق عليه لدى المسلمين كافّة أنّ حاكميّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كانت من هذا الشكل كما يدلُّ عليه قوله تعالى «النَّبِيُّ أوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ »(9)وقوله تعالى «أطِيعُوا اللَّهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أعْمَالَكُمْ »(10)
وقوله تعالى‏ « وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أمْراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً »(11)
وغير ذلك من النصوص . ولم تكن البيعة التي يأخذها الرسول صلى الله عليه و آله من المسلمين تعني أنّ الرسول يستمدُّ صلاحيّاته للحكم منها ، ولا المشورة المأمور بها في قوله تعالى « وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ »(12)
تعني أنّ حاكميّته مقيّدة برأي الاُمّة ومستمدّة منها ، لأنّ اللَّه تعالى لم يوجب عليه الأخذ بما يُشار عليه وإنّما علّق الأمر على عزمه خاصّة .
وعلى هذا فوجود الشكل الإلهي للحكم في الإسلام لا شكّ فيه ولا نزاع بين المسلمين ، وإنّما النزاع في تحديد الأشخاص الذين ثبت لهم الحقُّ في ممارسة الحكم بهذا الشكل وهل ثبت بعده صلى الله عليه و آله لأحد أم لا ؟ فيذهب السنّة إلى انحصار هذا الشكل من الحكم برسول اللَّه صلى الله عليه و آله ، ويذهب الشيعة إلى أنّ هذا الشكل من الحكم ثبت بعد الرسول صلى الله عليه و آله للأئمّة الاثني عشر المنصوص عليهم بصورة خاصّة .
والضمان الأساسي في الشكل الإلهي من الحكم هو العصمة من الهوى والخطأ التي تشكّل الضمان الحتمي لاستقامة الحكم ونزاهته .
وبملاحظة المهام الأربع التي يتطلّبها الحكم في الإسلام ، يتّضح أنّ صلاحيّات الحاكم المعصوم تشمل المهمّة الاُولى بوصفه مبلّغاً للشريعة إلى الاُمّة ، كما تشمل المهمّة الثانية والثالثة بوصفه حاكماً ، كما تشمل المهمّة الرابعة للقضاء بوصفه قاضياً أعلى . فهو يمارس صلاحيّات القيام بالمهام الأربع بوصفه مبلّغاً وحاكماً ورئيساً أعلى للقضاء بينما يختلف الأمر في الحاكم غير المعصوم كما سنرى .
الثاني : الحكم الشوري أو حكم الاُمّة
يشار إلى أنّ ما يذكره الشهيد السيد محمد باقرالصدر قدس سره هنا وفي الأساس التالي مبنيٌّ على ما ذهب إليه في أوائل حياته السياسيّة من قيام نظام الحكم في الإسلام على أساس الشورى ، وقد عدل قدس سره عن هذه النظريّة فيما بعد مدخلاً عنصر ولاية الفقيه في شكل الحكم الإسلامي في عصر الغيبة
والمصدر التشريعي لهذا الشكل من الحكم قوله تعالى «وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ »(13)
فإنّ هذه الآية الكريمة الواردة في سياق صفات المؤمنين التي تستحقُّ المدح والثناء تدلُّ على ارتضاء طريقة الشورى وكونها طريقة صحيحة حينما لا يوجد نصٌّ من قبل اللَّه ورسوله . وأمّا حيث يوجد النصُّ فلا مجال لاعتبار الأمر شورى لأنّه سبحانه يقول «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أمْراً أنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ »(14).
فالأمر إنّما يجوز أن يكون شورى بينهم فيما إذا لم يقض النصُّ الشرعي بقضاء معيّن ، ومن الواضح أنّ مسألة شكل الحكم في الوقت الحاضر لم تعالج في نصٍّ خاصٍّ على مذهَبَي الشيعة والسنّة معاً .
وبكلمة اُخرى : إنّ الشورى في عصر الغيبة شكلٌ جائزٌ من الحكم فيصحُّ للاُمّة إقامة حكومة تمارس صلاحيّاتها في تطبيق الأحكام الشرعيّة ووضع وتنفيذ التعاليم المستمدّة منها ، وتختار لتلك الحكومة الشكل والحدود التي تكون‏ أكثر اتّفاقاً مع مصلحة الإسلام ومصلحة الاُمّة ، وعلى هذا الأساس فإنّ أيّ شكل شوري من الحكم يعتبر شكلاً صحيحاً ما دام ضمن الحدود الشرعيّة ، وإنّما قيّدنا الكيفيّة التي تمارس بها الاُمّة حقّ الحكم بأن تكون ضمن الحدود الشرعيّة لأنّها لا يجوز أن تختار الكيفيّة التي تتعارض مع شي‏ءٍ من الأحكام الشرعيّة كأن تسلّم زمام الأمر إلى فاسق أو فسّاق ، لأنّ الإسلام نهى عن الركون إلى فاسق بالأخذ بقوله في مجال الشهادة فضلاً عن مجال الحكم ورعاية شؤون الاُمّة .
فلا بدّ للاُمّة حين تختار كيفيّة الحكم والجهاز الذي يباشر الحكم أن تراعي الحدود الشرعيّة .

الأساس السابع تطبيق الشكل الشوري للحكم في ظروف الاُمّة الحاضرة

عرفنا أنّ الشكل الشوري للحكم شكلٌ صحيحٌ في أساسه في ظرف عدم وجود الشكل الإلهي المتقدّم وعدم وجود النصّ الشرعي على كيفيّة معيّنة لممارسة الحكم .
ولا بدّ أن نعرف الشروط لممارسة الاُمّة اختيار شكل الحكم والجهاز الحاكم ، وهي الشروط الثلاثة التالية :
1 - أن يكون اختيار شكل الحكم واختيار الجهاز الحاكم ضمن الحدود الشرعيّة الإسلاميّة وغير متعارض مع شي‏ء من أحكام الإسلام الثابتة .
2 - أن يكون اختيار شكل الحكم والجهاز الحاكم أكثر اتّفاقاً مع مصلحة الإسلام التي تعني الوضع الأفضل للإسلام باعتباره دعوة عالميّة وقاعدة للدولة .
3 - أن يكون اختيار شكل الحكم والجهاز الحاكم أكثر اتّفاقاً مع مصلحة المسلمين بوصفهم اُمّة لها جانبها الرسالي والمادّي .
ومن الواضح أنّ ممارسة اختيار شكل الحكم والجهاز الحاكم بهذه الشروط تتوقّف على وعي الاُمّة للإسلام من جهة ، ووعيها للظروف الحياتيّة والدوليّة من جهة اُخرى ، فإذا تمّ لاُمّة بشكل عام مثل هذا الوعي فإنّ باستطاعتها أن تختار شكل الحكم وأن تنتخب الجهاز الكفوء لرعاية شؤونها ، ويتساوى حينئذٍ في ممارسة هذا الحق كلُّ المكلّفين بأحكام الإسلام من الاُمّة من بلغ السن الشرعيّة من المسلمين والمسلمات .
أمّا إذا لم تكن هذه الشروط متوفّرة في الاُمّة لعدم وجود الوعي العام ـ للإسلام ، وبالتالي عدم معرفة الحدود الشرعيّة التي يجب أن تراعى في اختيار شكل الحكم والجهاز الحاكم بما يتّفق مع مصلحة الإسلام والاُمّة ، فإنّه لا بدّ للدعوة بوصفها طليعة الاُمّة الواعية لحدود الإسلام ومصلحته والواعية لظروف الاُمّة ومصالحها أن تقيم في الاُمّة شكلاً للحكم الإسلامي وتختار جهازاً حاكماً ، حتّى يجي‏ء الظرف المناسب لاستفتاء الاُمّة لاختيار شكل الحكم .

الأساس الثامن الفرق بين أحكام الشريعة والتعاليم

أحكام الشريعة الإسلاميّة المقدّسة هي الأحكام الثابتة التي بيّنت في الشريعة بدليل من الأدلّة الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل . فلا يجوز في هذه الأحكام أيُّ تبديل أو تغيير لأنّها ذات صيغة محدّدة وشاملة لجميع الظروف والأحوال ، فلا بدّ من تطبيقها دون تصرّف .
ولنضرب لذلك مثلاً بإلزام الاُمّة الإسلاميّة بإعداد ما تستطيع من القوّة في مواجهة أعداء الإسلام . فهو حكمٌ شرعيٌّ نصّت عليه الشريعة في بعض أدلّتها كما في قوله تعالى «وَأعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ »(15)
ولذلك فهو حكمٌ ثابتٌ شاملٌ لجميع الظروف والأحوال .
أمّا التعاليم أو القوانين ، فهي أنظمة الدولة التفصيليّة والتي تقتضيها طبيعة الأحكام الشرعيّة الدستوريّة لظرف من الظروف ولذا فهي قوانين متطوّرة تختلف باختلاف ظروف الدولة ، ومنشأ التطوّر فيها أ نّها لم ترد في الشريعة مباشرة وبنصوص محدّدة وإنّما تستنبط من أحكام الشريعة على ضوء الظروف والأحوال التي هي عرضة للتغيّر والتبدّل .
ويدخل في الأحكام الشرعيّة كلُّ حكم دلَّ عليه الدليل الشرعي بصفته المعيّنة كحكم وجوب الصلاة والزكاة والخمس والحجّ والأمر بالمعروف والنهي‏عن المنكر وكافّة التفاصيل المحدّدة التي جاءت بها الشريعة المقدّسة .
ومثال التعليم إلزام المسلمين القادرين بالتدريب على القتال ، فإنّ هذا الحكم ليس حكماً شرعيّاً ثابتاً في كلّ الأحوال ولم يدلّ عليه دليلٌ من الأدلّة الأربعة بهذه الصفة المعيّنة ، ولذا لم يوجد إلزامٌ بالتدريب أيّام الرسول صلى الله عليه و آله إلّاقليلاً حيث كانت وسائل الحرب بسيطة ومتداولة والحاجة إليها والتدرّب عليها يكاد يكون عامّاً ، وأمّا في الظروف الحاضرة فقد أصبح التدريب من أسباب القوى التي يجب رصدها وإعدادها ، فهو لذلك تعليمٌ تقتضيه طبيعة الحكم الدستوري الذي هو وجوب إعداد القوّة القتاليّة .
وهكذا يدخل في التعاليم كلُّ أحكام القوانين التي تقتضيها طبيعة الأحكام الشرعيّة ، كقانون الشرطة وقانون الاستيراد والتصدير وقوانين التعليم والتخصّص وقانون العمل وأمثالها ممّا تقضي به طبيعة الأحكام الشرعيّة في ظرف من الظروف .
وعلى ضوء ما سبق نعرف أنّ اصطلاح ( الدستور الإسلامي ) حينما يطلق على الشريعة المقدّسة هو أوسع من المصطلح المتعارف للدستور ، لأنّه يشمل كافّة أحكام الشريعة الخالدة ، حيث تعتبر بمجموعها أحكاماً دستوريّة ، كما أنّ وصف التعاليم والقوانين بـ ( الأحكام الشرعيّة ) هو وصفٌ صحيحٌ وإن كانت أحكاماً ظرفيّة ، لأنّها تكتسب الصفة الشرعيّة ووجوب التنفيذ شرعاً من الأحكام الشرعيّة التي اقتضتها ، ولأنّ الجهاز الحاكم العادل قد تبنّاها من أجل رعاية شؤون الاُمّة والحفاظ على مصلحتها ومصلحة الإسلام العليا .
كما نعرف أنّ المرونة التشريعيّة التي تجعل أحكام الإسلام صالحة لجميع الأزمان ليس معناها أنّ الإسلام قد سكت عن الجوانب المتطوّرة من حياة الإنسان وفسح المجال للتطوّر أن يشرّع لها من عنده ، وإنّما معناها أنّ الإسلام أعطى في تلك الجوانب الخطوط العريضة الثابتة بحيث إنّ التطوّرات المدنيّة للإنسان لا توجب تغيّر هذه الخطوط وتبدّلها ، وإنّما تؤثّر في القوانين والتعاليم التي تباشر تنظيم الحياة في ظروف تقصر أو تطول .

الأساس التاسع مهمّة بيان أحكام الشريعة وتعيين القضاة ليستا من مهام الحكم

عرفنا أنّ قيام الدولة الإسلاميّة يتطلّب مهاماً أربعاً وهي :
1 - بيان أحكام الشريعة ( الدستور ) .
2 - وضع التعاليم ( القوانين التي تقتضيها طبيعة أحكام الشريعة في ضوء الظروف الراهنة ) .
3 - تنفيذ أحكام الشريعة والقوانين .
4 - القضاء في الخصومات .
وهذه المهام وإن كانت لازمة للدولة غير أ نّها ليست جميعاً من شؤون رعاية الاُمّة حتّى تدخل في صلاحيّات الحكومة بوصفها حكومة .
فقد عرفنا أنّ بيان المعصوم عليه السلام لأحكام الشريعة لم يكن منه بوصفه حاكماً بل بوصفه مبلّغاً مأموراً بالتبليغ ، وكذلك قضاؤه بين الناس وتنظيمه لجهاز القضاء وعزل من لا يرى صلاحيّته من القضاة كان بوصفه قاضياً أعلى . وفي الشكل الشوري للحكم ، الشكل الذي تقيمه الاُمّة في غياب المعصوم عليه السلام لا تملك الحكومة الحقَّ في حصر ممارسة بيان أحكام الشريعة وتبليغها ، كما لا تملك الحقَّ في حصر ممارسة القضاء في الخصومات ، كما لا يملك أحدٌ من الحكومة أو غيرها حقَّ القاضي الأعلى الذي يستطيع عزل القضاة وتعيينهم .
والشكل الذي تؤدّى به هاتان المهمّتان كما يلي :
1 - مهمّة بيان الأحكام الشرعيّة :
هي من حقّ وواجب كلّ من يتوفّر من الناحية العلميّة على درجة الاجتهاد ومن ناحية السلوك والصفات على درجة العدالة ، فالمجتهد العادل فقط من حقّه أن يبيّن الأحكام الشرعيّة في ضوء الأدلّة الأربعة ويسمّى بيانه للحكم الشرعي على هذا الأساس ( إفتاء ) .
فإن كان لا يوجد في الاُمّة إلّامجتهدٌ عادلٌ واحدٌ وكان هو الذي وقع عليه اختيار الاُمّة وأسندت إليه مهمّة الحكم ، فقد اجتمعت عليه مهمّة الحكم ومهمّة الإفتاء معاً .
وإن تعدّد المجتهدون العدول : فإن لم يختلفوا في نتائج استنباطهم فلا مشكلة . وإن كان بينهم اختلافٌ في بيان الأحكام الشرعيّة ، وجب أن ينظر إلى طبيعة الحكم المختلف فيه ، فإن كان حكماً يلزم على الدولة أن تتبنّى فيه اجتهاداً معيّناً وتجعله الاجتهاد السائد في المجتمع الإسلامي كالأحكام التي تتّصل بمجالات السياسة والاقتصاد والجهاد ، فإنّ على الحاكم إمّا أن يكون مجتهداً أو يختار اجتهاداً من تلك الاجتهادات ويتبنّاه ؛ لأنّ هذا الانتخاب والتبنّي لاجتهاد معيّن داخلٌ في رعاية شؤون الاُمّة ومن الواجبات الشرعيّة على الحاكم ، غير أنّ تبنّي الدولة لاجتهاد معيّن لا يعني منع المجتهدين المخالفين لذلك الاجتهاد من استنباطهم أو إبداء آرائهم وإنّما يعني اختصاص ذلك الاجتهاد المختار بالعمل والتنفيذ .
أمّا إذا كان الحكم الذي اختلفت فيه وجهات نظر المجتهدين من الأحكام التي لا يجب على الدولة توحيد الاجتهاد فيها عمليّاً ولا يضرُّ بكيان الاُمّة والمجتمع اختلاف الأفراد في سلوكهم طبقاً لاختلاف المجتهدين في آرائهم ، فلا يجوز للدولة والحالة هذه أن تتبنّى اجتهاداً معيّناً بل توكل كلّ مسلم إلى رأي مقلّده الخاص أو رأيه إن كان مجتهداً .
2 - القضاء وتعيين القضاة :
القضاء في نظر الإسلام لونٌ خاصٌّ من الحكم لأنّه رعاية لشؤون الاُمّة لدى وقوع المخاصمة ، ولكنّ السائد في لسان الشريعة هو التعبير عنه بالقضاء وعمّن يباشره بالقاضي لا بالحكم والحاكم .
غير أنّ حقّ القضاء لا يثبت للحاكم بمجرّد كونه حاكماً بل يثبت لمن نصّت عليه الشريعة نصّاً خاصّاً كالقضاة الذين كان يعيّنهم المعصوم عليه السلام في زمانه ، أو نصّاً عامّاً كما هو الحال في المجتهد العادل بصورة عامّة ، فكلُّ مجتهد عادل يتمتّع بحقّ ممارسة القضاء . ويستمدُّ القاضي في المجتمع الإسلامي هذا الحقّ من نصوص الشريعة التي دلّت على جعل هذا الحقّ لكلّ مجتهد عادل وليس من جهاز الحكم .
ومما يتّصل بذلك :
أ - لا يجوز للدولة أن تمنح حقّ القضاء لغير المجتهد العادل الذي ثبت له هذا الحقُّ في الإسلام ، كما لا يجوز لها أن تمنع مجتهداً من ممارسة هذا الحقّ ، بل يجب عليها إمضاء قضائه وتنفيذه .
ب - يجب على الدولة توفير المجتهدين العدول لممارسة القضاء بالدرجة التي تسدُّ احتياج الاُمّة في قضاياها وخصوماتها ؛ لأنّ ذلك يندرج ضمن الرعاية الواجبة لشؤون الاُمّة .
ج - إذا تعدّد المجتهدون العدول ووقع الاختلاف في أقضيتهم فلذلك صورتان :
إحداهما : أن يكون مردُّ الاختلاف بينهم إلى الاختلاف في استنباط الأحكام الشرعيّة .
والصورة الثانية : أنّ الاختلاف بسبب التطبيق .
فإن كان اختلاف الأقضية بسبب اختلاف الاجتهاد وكانت مصلحة الاُمّة تتطلّب إقامة القضاء على حكمٍ شرعيٍّ معيّن ، كان على الحاكم أن يتبنّى اجتهاداً معيّناً ويفرض على جميع المجتهدين العدول أن يقضوا على أساس ذلك الاجتهاد . فمن كان منهم مصوّباً لذلك الاجتهاد قضى طبقاً لرأيه ، ومن كان منهم مخالفاً قضى بالوكالة عن المجتهد الذي يرتئي نفس الاجتهاد المتبنّى للدولة . وهذا التبنّي يكون واجباً على الحاكم ؛ لأنّه من شؤون الرعاية الواجبة للاُمّة . أمّا إذا كان اختلاف الأقضية لا يضرُّ بنظام المجتمع واستقراره فيجب أن يعطي لكل مجتهد حرّيّة القضاء طبقاً لاجتهاده .
وإن كان اختلاف الأقضية بسبب اختلاف المجتهدين في تطبيق الحكم الشرعي مع وحدة الرأي فيه أساساً ، كما إذا كان هذا القاضي يرى شهادة زيد وعمرو بيّنة شرعيّة ولا يراها القاضي الآخر بيّنة لاعتقاده بفسقهما ، فإنّ هذا الاختلاف لا يولّد مشكلة تستوجب تدخّل الحكومة ، فيجب أن يسمح لكلٍّ منهما بممارسة حقّه في القضاء وأن يباشر القضاء حسب رأيه . وإذا قضيا في مسألة واحدة بقضائين تنفّذ الحكومة القضاء الأسبق زماناً منهما .
وتفصيل الكلام في بحوث القضاء في الفقه .

الأساس العاشر المقياس في السياسة الخارجيّة للدولة

الأحكام الدستوريّة مقياس ثابت في سياسة الدولة ، الداخليّة منها والخارجيّة ، ويضاف إلى الأحكام الدستوريّة المصلحة الإسلاميّة التي تعني مصلحة الإسلام والمسلمين . وتقوم الدولة على ضوء هذين المقياسين بوضع اللوائح التنظيميّة في المجال الداخلي والخارجي :
أمّا في المجال الداخلي ؛ فتبيّن ذلك في تفصيلات لسنا بصددها .
وأمّا في السياسة الخارجيّة ؛ فإنّ الدولة تراعي في جميع العلاقات والمعاهدات والاتّفاقات مع الدول الاُخرى - بالإضافة إلى انسجامها مع أحكام الدستور - أن تكون متّفقة مع هذه المصلحة .
والمصلحة الإسلاميّة عبارة عن الوضع الأفضل للإسلام باعتباره دعوة ومبدأ وقاعدة للدولة ، والوضع الأفضل للمسلمين بوصفهم اُمّة لها جانبها الرسالي وجانبها المادّي . فكلّ ما كان يساعد على إيجاد الوضع الأفضل للإسلام والمسلمين على هذا النحو فهو مصلحة إسلاميّة .
والمصلحة الإسلاميّة تارةً تكون منصوصةً من الشرع المقدّس ؛ كمصلحة عدم اتّخاذ الكافرين أولياء من دون المسلمين ، كما في قوله تعالى : «يا أ يّها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردّوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين * بل اللَّه مولاكم وهو خير الناصرين»(16) ، وقوله تعالى : «يا أ يّها الذين آمنوا لا تتّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا للَّه ‏عليكم سلطاناً مبيناً »(17)
وآيات ونصوص شرعيّة اُخرى . فتكون هذه المصلحة المنصوصة من أحكام الدستور ، فلا يجوز الاجتهاد فيها ، بل يلزم تطبيقها كما جاءت في النصّ .
واُخرى لا تكون المصلحة الإسلاميّة منصوصة ، فيوكل أمر الاجتهاد فيها إلى المجلس القانوني في الدولة أو إلى الجهاز الحاكم ، على شرط أن لا تتنافى نتيجة الاجتهاد مع النصوص العامّة للشرع ( الدستور ) .
أمّا موقف الدولة من المعاهدات والاتّفاقيّات المعقودة بين حكومات بلاد المسلمين والحكومات الاُخرى ، فهو أ نّه يجب أن تخضع من جديد للمقياس العامّ المتكوّن من الأحكام الدستوريّة والمصلحة الإسلاميّة ، وتقوم الدولة الإسلاميّة بإلغاء ما يتنافى منها مع ذلك بقدر الإمكان ، باعتبار أنّ الحكومات التي أبرمت تلك المعاهدات والاتّفاقيّات حكومات غير شرعيّة ، فتكون الاتّفاقيّات غير مشروعة إلّابإقرار الحكومة الإسلاميّة في ضوء المقياس الإسلامي .
أمّا حكم المعاهدات والاتّفاقيّات التي تبرمها الدولة الإسلاميّة أو تقرّها باختيارها ، فهو أ نّها معاهدات نافذة يجب الوفاء بها ، ولا يجوز للدولة إلغاؤها قبل مدّتها المقرّرة ، وإن أصبحت تتنافى مع المصلحة الإسلاميّة شيئاً ما ، ولذلك وفى النبيّ صلى الله عليه و آله بتعهّده لقريش بعدم الغزو بعد صلح الحديبيّة مع أنّ الإسلام أصبح بعد الصلح بقليل قادراً على احتلال مكّة ، بل استمرّ وفاؤه صلى الله عليه و آله مع إخلال قريش بالمعاهدة عدّة مرّات ، حتّى تكرّر منها النكث واتّضح .
وما ينبغي الالتفات إليه أنّ المصلحة الإسلاميّة التي تعني الوضع الأفضل للإسلام والمسلمين قد تختلف من بلد إلى بلد وظرف إلى ظرف ، فقد تكون مثلاً سرّيّة الدعوة الإسلاميّة في بعض البلاد الكافرة هي الوضع الأفضل للإسلام بوصفه دعوة تتبنّاها الدولة الإسلاميّة وتحملها إلى أرجاء الأرض ، فتقرّر الدولة سرّيّة الدعوة في ذلك البلد وفقاً للمصلحة الإسلاميّة ، وتدخلها في حساب علاقتها واتّفاقيّاتها معه . وقد يكون تأجيل تطبيق الإسلام وتسلّمه للسيادة في بلد إسلامي هو الوضع الأفضل للإسلام بوصفه مبدأ ، كما إذا منحت فرصة لتسلّم الإسلام السيادة ولكن في ظرف معقّد من الناحية السياسيّة العامّة ، ينذر بسرعة تقويض الكيان الإسلامي إذا اُقيم في ذلك الظرف وانتكاس الحركة الإسلاميّة ، ففي مثل هذه الحالة يكون تأجيل تسلّم السيادة في ذلك البلد إلى الظرف المناسب هو الوجه الأفضل للإسلام بوصفه مبدأ .
وقد يكون عدم توقيع معاهدة بين الدولة الإسلاميّة ودولة اُخرى هو الوضع الأفضل للإسلام بوصفه قاعدة للدولة ، لما يخشى أن تؤدّي إليه المعاهدة في نفوذ الدولة الاُخرى في جهاز الدولة الإسلاميّة ، الأمر الذي يشكّل خطراً على قاعدتها الإسلاميّة .
وقد يكون عقد اتّفاق اقتصادي معيّن مع دولة معيّنة أو دول هو الأفضل للمسلمين من الناحية الاقتصاديّة ، فيصبح مصلحة إسلاميّة .
وبشكل عامّ ؛ فإنّ الدولة تقوم بدراسة المصلحة الإسلاميّة وتراعيها في علاقتها الخارجيّة ؛ لأنّها المسؤولة عن رعاية الإسلام والمسلمين .

الأساس الحادي عشر موقف الدعوة والدولة من النفوذ الكافر

نعتبر الدولة الغازية لوطن المسلمين بجميع صورها وطرق استعمارها ونفوذها دولة محاربة للإسلام ، ويجاهد أنصار الإسلام قبل إقامة الدولة الإسلاميّة إلى جنب الحكومات القائمة في بلاد المسلمين لتقويض دعائم الكافر المستعمر ونفوذه ، كما يجاهدون لعين الهدف في بلاد المسلمين ، وإن كانت تتبنّى أحكام الكفر أيضاً وتتعارض بذلك مع الهدف الأوّل للدعاة ، وهو إزاحة أحكام الكفر وتطبيق أحكام الإسلام ، إلّاأ نّها من الممكن أن تلتقي مع الدعاة في الهدف الثاني ، وهو إزاحة سيطرة الكافر . وفي ظروف الالتقاء هذه يجاهد الدعاة إلى جنبها ، مراعين في مدى تعاونهم مع تلك الحكومات في هذا السبيل طابعهم الإسلامي الخاصّ ومصلحتهم بوصفهم منضمّين لدعوة إسلاميّة مخلصة .
أمّا عند قيام الدولة الإسلاميّة وبعده ، فإنّ المقياس العامّ في سياسة الدولة الخارجيّة يقضي بمقاطعة الدولة الكافرة الغازية لبلاد المسلمين ، ويراعى في هذه المقاطعات إمكانيّة الدولة الإسلاميّة وظروفها ، ويمكن أن يتمّ ذلك [ عن ] طريق خطّة تدريجيّة تضعها الدولة لتحقيق ذلك . كما أنّ مسؤوليّة الدولة في الجهاد لرفع النفوذ الكافر لا تقف عند الوطن الإسلامي الذي يسكنه المسلمون فعلاً ، بل يشمل الأرض التي فتحها المسلمون وكانت عامرة عند الفتح ، ثمّ انتزعها الكافر مرّة اُخرى من يدهم ، فإنّها تعتبر أرضاً مغصوبة ووطناً إسلاميّاً سليباً ، ولو لم يبقَ على ظهرها مسلم واحد ، ومن حقّ الاُمّة المالكة استرجاعها ، وإن لم يجرِ عليها فعلاً أحكام دار الإسلام المقرّرة في الفقه ، كما هو الحال في الأندلس وفلسطين وأجزاء اُخرى من أراضي المسلمين .

الأساس الثاني عشر دعوتنا إلى الإسلام دعوة تغييريّة

الدعوة الإصلاحيّة هي الدعوة التي تستهدف إصلاح جانب معيّن من جوانب الواقع القائم ، متغاضيةً في حقل نشاطها العملي عن سائر جوانبه الاُخرى ، وعن الركائز الأساسيّة التي يبنى عليها الواقع بصورة عامّة ، أي أ نّها تسعى إلى إنشاء البنيات الفوقيّة التي تأتلف منها شخصيّة الاُمّة ، دون أن تنفذ إلى البنيات والجذور الرئيسيّة في شخصيّتها .
والدعوة التغييريّة هي الدعوة التي لا تدين بالواقع الذي تعيش فيه الاُمّة من أساسه ، لأنّه يناقض مبدأها جملةً وتفصيلاً ، فتبني عملها على تغييره تغييراً جذريّاً ، وذلك بحمل رسالة فكريّة تبشّر بها لإنشاء شخصيّة الاُمّة إنشاءً جديداً بكلّ بنياتها الأساسيّة والفوقيّة ، وإنشاء الحياة على قواعد تلك الرسالة وركائزها المحدّدة ، سواء في النظرة الفلسفيّة نحو الكون والحياة ، أو المقياس العملي العامّ للحياة ، أو في طريقة التفكير التي يتكوّن بها الكيان الاجتماعي للاُمّة .
ولدى السؤال : ماذا يجب أن تكون دعوتنا إلى الإسلام ، إصلاحيّة أم‏ تغييريّة ؟ علينا أن ننظر إلى الظروف التي يعيشها الإسلام وصدى وجوده في واقع الاُمّة ، فإنّ هذه الظروف هي التي تحدّد نوع الدعوة إلى الإسلام .
فإذا كان الإسلام هو القاعدة الرئيسيّة التي يبتني عليها نظام الحياة وكيان الاُمّة ، وكانت العقيدة الإسلاميّة هي القاعدة الفكريّة والدستوريّة للدولة ، والمنهج العامّ لمختلف ألوان النشاط الفردي والاجتماعي والسياسي ، كان للدعوة أن تتّخذ طريق الإصلاح للحفاظ على القاعدة الإسلاميّة للدولة ، وإصلاح الجوانب التي لا تنسجم مع هذه القاعدة .
أمّا إذا فقد الإسلام مركزه من القاعدة الأساسيّة واستبدل بغيره من القواعد الفكريّة ، أو استبدل باللاقاعدة ، فإنّ الدعوة إلى الإسلام يجب أن تكون دعوة لإعادة الإسلام إلى مركزه من الدولة ومن الاُمّة ، في عمليّة تغيير شاملة لكلّ الواقع اللاإسلامي .
ومن الواضح أنّ الظروف التي يعيشها الإسلام منذ نهاية الحرب الاُولى هي الظروف الثانية ؛ إذ قوّض المستعمرون الدولة الإسلاميّة ودخلوا بلاد المسلمين وتقاسموها ، وقاموا بعمليّة انقلاب شامل في حياة الاُمّة ، وأقصوا العقيدة الإسلاميّة عن وضعها الرئيسي في كيان الاُمّة السياسي والاجتماعي ، ووضعوا الاُمّة في اُطر فكريّة وسياسيّة غريبة عن عقيدتها ، من الديمقراطيّة الرأسماليّة والاشتراكيّة وما إليها من الاُطر اللاإسلاميّة .
لذلك فإنّ واجب الدعوة في ظروف الإسلام الحاضرة أن تكون دعوة تغييريّة انقلابيّة تهدف استبدال القواعد اللاإسلاميّة التي اُقيم عليها الحكم والحياة الاجتماعيّة للاُمّة بالقاعدة الفكريّة للإسلام ونظامه الاجتماعي للحياة .
وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ ظروف الإسلام حيث توجب علينا انتهاج الطريق التغييري الجذري في العمل ، فإنّ ذلك لا يعني أ نّنا نقف من الدعوات والمشاريع الإصلاحيّة موقف الرفض والعداء ، وذلك لأنّ الإسلام يوجب علينا تطبيق ما أمكن من أحكامه في أيّ جانب من حياة الاُمّة ، وإن لم يمكن تطبيق أحكامه من الجوانب الاُخرى . وما دام العمل الإصلاحي تطبيقاً للإسلام في أيّ مساحة من حياة المجتمع ، فهو عمل إسلامي صحيح . كما لا يعني ذلك أ نّنا لا نقوم بالأعمال الإصلاحيّة ، وذلك لأنّ التغيير الكلّي يتوقّف على تغييرات جزئيّة متعدّدة .
منهجنا في الدعوة إذن هو تأييد وتوجيه المشاريع والدعوات الإصلاحيّة ، والقيام بالعديد من الخطوات والمشاريع الإصلاحيّة التي تقع في طريق التغيير أو تؤثّر فيه من قريب أو بعيد .
نعم ؛ لا بدّ لدعوتنا التي تهدف التغيير الكلّي في المجتمع أن تقارن بين مجالات العمل وتجنّد الطاقات لما هو أكثر فائدة للإسلام وتأثيراً في عمليّة التغيير الشاملة .

الأساس الثالث عشر من أين يبدأ التيّار التغييري في الاُمّة ؟ !

من أين تبدأ الدعوة الإسلاميّة بإحداث مدّها للتغيير الجذري الشامل في حياة الاُمّة ؟ وما هي العمليّة الأساسيّة في هذا المدّ ؟ !
يجيب السطحيّون في تفكيرهم على هذا السؤال بأنّ العامل الرئيسي في الانقلاب الإسلامي هو عمليّة الاستيلاء على الحكم ، ويتراءى لهم أنّ تسلّم السلطة هو العمليّة الانقلابيّة الكبرى التي يتمّ بها كلّ شي‏ء . وقد غفل هؤلاء عن أنّ لكلّ مجتمع قاعدة ، وأنّ القاعدة هي الاُمّة ، فإذا كانت الاُمّة هي الاُمّة لم تتغيّر في محتواها الداخلي ، فإنّ تغيير الحكم لا يعني حدوث الانقلاب الأساسي الشامل في المحتوى الفطري والروحي للاُمّة ، وإنّما يعني - إذا أمكن الاحتفاظ به - فقط حصول الأداة القويّة التي يجب أن يبدأ الانقلاب والتطوير من عندها وبها .
ويجيب الماديّون على هذا السؤال بأنّ العامل الرئيسي في الانقلاب الشامل في الاُمّة هو الظروف الماديّة الخارجيّة ؛ حيث يزعمون أنّ تحوّل وسيلة الإنتاج من شكل إلى شكل هو الحدث الانقلابي الكبير الذي يخلق المجتمع من جديد . وقد غفل هؤلاء عن أنّ الإنسان هو الذي يصنع الظروف الماديّة ، وليست الظروف هي التي تخلق الإنسان وتكيّفه كما تشاء .
أمّا الإسلام ، فيجيب على هذا السؤال جواباً واضحاً محدّداً مرتكزاً على نظرته العامّة عن التاريخ الإنساني والمجتمع ، التي أوضحها اللَّه تعالى في قوله : « إنّ اللَّه لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم »(18)، فإنّ هذه الآية الكريمة تشير إلى أنّ التغيير الاجتماعي للبشريّة إنّما يتحقّق عن طريق تغيير ما بالنفوس البشريّة ، أي بتغيير المحتوى الداخلي للإنسان من أفكار ومشاعر .
فالكيان الفكري والروحي للإنسانيّة هو العامل الرئيسي في البناء والتجديد في تاريخ المجتمعات .. وهذا بالضبط سرّ الانقلاب الكبير الذي أحدثه الإسلام في الاُمّة ، التي لم يكن لها نصيب من السياسة ولا وجود في المجال الدولي ، ولم تكن تعرف للحياة معنى غير التفاخر والتغالب ، حتّى أ نّها كانت لتضيق بفكرة الوحدة القوميّة لشدّة تحكّم الروح القبليّة في نفوسها . وإذا بهذه الاُمّة بالذات تصبح سيّدة اُمم الأرض ، ومالكة الزمام في الموقف الدولي ، والمبشّرة المثاليّة برسالة عالميّة لا تعترف بالحدود القوميّة ، فضلاً عن الحدود القبليّة . وقد تمّ كلّ هذا الانقلاب في فترة قصيرة لم يتغيّر فيها شي‏ء من الظروف الماديّة ، ولم يكن سببه إلّاإحداث التغيير في المحتوى الداخلي الفكري والشعوري للاُمّة . وهذا التغيير هو الذي يعبّر عنه اللَّه تعالى بالتزكية والتعليم في قوله : «لقد مَنَّ اللَّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين »(19).
المصادر :
1- اُنظر ثقافة الدعوة الإسلاميّة 1 : 130 - 152 ؛ 4 : 44 – 51
2- آل عمران : 19
3- المائدة : 3
4- الأنبياء : 105
5- الكافي 7 : 407 ، الحديث 1
6- سبأ : 28
7- الأنعام : 19
8- بحار الأنوار 75 : 38 ؛ إرشاد القلوب 1 : 184
9- الأحزاب : 6
10- محمّد : 33
11- الأحزاب : 36
12- آل عمران : 159
13- الشورى : 38
14- الأحزاب : 36
15- الأنفال : 60
16- آل عمران : 149 - 150
17- النساء : 144
18- الرعد : 11
19- آل عمران : 164

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.