يذكر الكثير من المؤرخين أن الطب العربي الإسلامي قام في أساسه على مبادئ وتعاليم الطب اليوناني, لذلك نجد مراجعة كتابات وأعمال الأطباء العرب والمسلمين إنهم تبنوا عموما النظريات اليونانية الفلسفية المفسرة لظواهر الكون والإنسان و الصحة والمرض, كما تبنوا النظريات الفلسفية الطبية اليونانية-وإن تناولوها بالنقد لاحقاً- وعلى هذا فيجب أن لا نستغرب التشابه الهام في المبادئ التي استند عليها الطب اليوناني وتلك التي اعتمد عليها الأطباء العرب و المسلمين في كل فروع الصناعة الطبية عموماً والذي نجده واضحاً في الطب المتعلق بالحمل والخصوبة والعقم خصوصاً.
وهنا يجب أن نتذكر أنه في تلك العصور لم تتوافر أدوات التشخيص المتعددة –والتي ننعم بها حالياً- والتي تسهل تشخيص العديد من الحالات المرضية والفيزيولوجية, نخص بالذكر تلك الاختبارات الشعاعية منها والمخبرية التي تساعدنا في تشخيص الآفات المسببة للعقم, لذلك نجد الأطباء العرب ومن قبلهم اليونانيون اعتمدوا على قوة الملاحظة المجردة,
والتي بنوا عليها –باستخدام معايير منطقية وبالاعتماد على النظرية الابقراطية – تفسيرهم للإخصاب والعلوق والحمل وعسر الحمل والعقم, فأصابوا مرات عديدة, وأخطئوا في غيرها.
سنتناول بالدراسة أراء ونظريات عدد من أهم الأطباء العرب ( الرازي, ابن سينا, البغدادي , الطبري, الزهراوي),
وذلك من خلال دراسة مخطوطاتهم الموجودة في مكتبة معهد التراث العلمي العربي في جامعة حلب. سنحاول وضع تصور للطريقة أو المنهج الذي وضعوه أو اعتمدوا عليه في تشخيص العقم وتحديد أسبابه عند النساء المراجعات وذلك إما من العلامات السريرية أو الأعراض الجسدية عند المرأة أو من خلال مفاهيم وأراء نظرية التزموا بها.
وسنقارن بين المنهج الذي سار عليه الأطباء مع المفاهيم المعاصرة والطرق الحديثة في التشخيص السريري للعقم وأسبابه ومعالجته.
يجب أن نذكر أننا لن نتطرق في دراستنا إلى المبادئ الطبية الأساسية التي سيطرت على الطب العربي والإسلامي لان المجال يضيق بشرحها, كما إننا لن نتطرق للأسس النظرية التي اتبعها الأطباء العرب والمسلمون في مجال الطب المتعلق بالعلل المخصوصة بالنساء أو حتى المتعلقة بكيفية الخلق إنما سنركز دراستنا على ندعوه اليوم بالسريريات,
أي النواحي العملية المتعلقة بتشخيص العقم وتحديد أسبابه وعلاجهً عند الأطباء العرب والمسلمين, ومدى صحتها ومقاربتها للواقع.
*أسباب العقم وعسر الحبل وعلاماته:
على الرغم من التنوع في تحديد أسباب مختلفة للعقم أو عسر الحمل إلا أن الأطباء العرب اعتمدوا على بعض الأسباب التي تكررت عند معظم الأطباء ونذكر منها:
1-أسواء المزاج: تحدث الأطباء العرب عن سوء المزاج كمسبب للعقم أو عسر الحبل ولكنهم اختلفوا في تحديد ألية تأثيره وأنواع المزاج المفسدة. فأبن سينا ميز بين سوء المزاج العام وسوء مزاج الرحم بالخاصة.وقال بأن سوء المزاج العام يؤثر في قابلية التولد وفي إنتاج المني من الذكر والأنثى ,أما سوء مزاج الرحم وتأثيره على العقم فحدده اعتماداً على أن للرحم مزاجاً خاصاً به يساعد على التولد وجذب وإمساك المنيين الذكري والأنثوي,
وبفساد هذا المزاج وتغيره يحدث العقم إما بإفساد المنيين أو بإضعافه القوة الماسكة في الرحم بعد الأشتمال وقد تسبب الإسقاط ( وهنا خلط بين أسباب العقم وأسباب الإسقاط ) . أما الرازي والزهراوي والمجوسي فحددوا أسواء المزاج بتلك الخاصة بالرحم وأنها تفسد المني وتمنع من جذبه أو استمساكه ولم يخلطوا بين العقم والإسقاط.
انواع المزاج المفسدة للمني بحسب ابن سينا تكون على الأغلب من انواع الأمزجة الرطبة الباردة وإن تحدث عن يبوسة الرحم وجفافه الزائد كسبب في العقم. أما الرازي والأخرون لم يحددوا نوعاً واحداً للمزاج الفاسد فقالوا بسوء المزاج الحار والبارد والرطب واليابس.وعددوا أسباباً لهذه التغيرات كالبلاد الباردة والماء البارد واحتباس الطمث . وشبها المني في الارحام الباردة أو الحارة اليابسة كالبزر في أرض جافة أو باردة.
نجد أن الرازي وابن سينا قد ذكرا حالة يختلف بها مزاجي المنيين الذكري والأنثوي بالتضاد مما يعدل كلا المزاجين ويحدث منه التولد وقد حض الرازي على المعالجة وفق هذه الفكرة.
كما ذكر ابن سينا حالة من تضادٍ بين مني الرجل والمرأة محدث للعقم والذي لا ينفع فيه الدواء ولا يترافق بفساد مني أيٍ من الطرفين وعلاجه تبديل الزوج ويحدث الحمل بعده, وهو يقابل العقم المناعي بحسب الطب الحديث على الأغلب, وربما قصد به حالات من العقم غير المفسر والتيلا تحتاج الأ الوقت لشفائها.
أما العلامات الدالة على أسواء المزاج: فهي علامات عامة تكشف بفحص الجسم ولم يذكرها أي منهم بل أحالوا القارئ إلى الأبواب التي تختص بذلك, بالإضافة لفحص العين عند ابن سينا والذي ربط العين بالرحم ,
وعلامات موضعية تظهر بفحص عنق الرحم ورطوبته أو جفافه وفحص السائل المنوي والمفرزات الطمثية ودراسة صفاتها وأحوالها من تغير اللون والكمية والقوام والحرارة. ومن هنا نجد ذكر لعدد من الصفات التي استدلوا بها على المني الصحيح المولد وسنذكرها في موضعها.
وقالوا أن أفضل صفات النساء المولدات هي الاعتدال في المزاج والرياضة وعدم السمن وغيرها من الصفات. وأن أفضل وقت للاشتمال يكون بعد الطهر مباشرة حيث مزاج الرحم أوفق للتولد منه.
علاجات العقم الناجم عن علل المزاج: كانت العلاجات المختلفة تهدف إلى تعديل مزاج الرحم بما يضاد التغير الذي يصيبه وأستخدمت لذلك أدوية عديدة سنذكرها في موضعها, منها ما هو من الشرابات والمساحيق والمعاجين ومنها ما هو من الحقن والتحاميل والفرزجات الرحمية التي تهدف لتسخين الرحم.
ولكننا نجد عدد من الوصفات التي توصف ليس لعلاج العقم بل للإسراع في الحمل, ولا يمكن في الحقبقة دراسة هذه المركبات الدوائية المفردة منها والمركبة إلا بوجود دراسة كيميائية لتركيبها ودراسة سريرية علاجية لتحديد الفائدة العلاجية إن وجدت .
2-علل الأعضاء المولدة للمني: وهي مجموعة من الأفات يذكرها ابن سينا لوحده ولم أجد من يذكرها غيره.والتي تعتمد على نظرية أطباء العرب القدامى في تشكل المني من أعضاء الجسم كله وأنه يسير في أوعية خاصة ليصل إلى الخصية, وبالتالي فمرض أي عضو من هذه الأعضاء يفسد المني المتشكل منها , كما أن انقطاع الأوعية الحاملة للنطاف يسبب العقم لنفس السبب وعلاماته الاعراض الناجمة عن مرض هذه الاعضاء وعلاجه بعلاج مرض هذه الاعضاء وتحسين المزاج .
3-علل المبادي: ويقصد بها العلل التي تصيب أعضاء الجسم الهامة كالقلب والهضم والتنفس والتي تسبب العقم لضرورة هذه الأعضاء للجسم وللتولد.
4-أفات المني: ويقصد هنا بها المني الذكري والأنثوي والذي يفسد أم لفساد المزاج العام أو أسواء مزاج الرحم أو يكون فاسداً غير مولد من الذكر أو الأنثى أو لعلة تصيب الخصية,
علامات أفات المني: ويستدل عليه من طفات المني الذكري وأحواله وصفاته ومن فحص دم الطمث عند الأناث وأحواله وصفاته. وذكرت بعض التجارب الدالة على فساد المني وسنذكرها في موضعها.
العلاج: وقد ذكر الزهراوي أن العقم من فساد المني لا يعالج, ولكن نرى غيره من الأطباء يذكرون عدداً من العلاجات المختلفة لتحسين المني وتصحيحه.
كما ذكرت عدة حالات لا يكون فيها المني قابلا للتولد منه كالشيوخ والنساء المسنات والصغار وغير البالغات والسكران والكثير التخم وغيرها.
5- احتباس الطمث: يذكر الأطباء العرب احتباس الطمث كمرض مستقل بحد ذاته - ونحن نعلم اليوم أنه عرض لا غير للكثير من الأمراض- وهو مسبب لسوء مزاج بارد في العضوية ناجم عن بقاء دم الطمث في الجسم وعدم طرحه,ولهذا كانت المرأة منقطعة الطمث في نظرهم عقيمة لاحتباس خلط بارد رديء ,
كما ذكر ابن سينا والرازي ان العقم قد ينجم كذلك من انسداد فوهات العروق الطارحة للطمث بسدة أو بلغم غليظ أو ضيقها الشديد والذي بدوره يسبب العقبم بعدم طرح الغذاء للمني داخل الرحم, وحدوث يبس شديد في الرحم.
وعلامته ظاهرة بأنقطاع الطمث وعلاجه تكون بالأدوية المدرة للطمث والفرزجات المنقية للرحم والمسخنة له , أما الناجم عن سدة في الرحم فلا علاج له .
6-ضعف القوة الماسكة للرحم : يقول الأطباء العرب بوجود قوة ماسكة جاذبة للمني إلى داخل الرحم حيث يحدث الألقاح , وأن هذه القوة قد تضعف بسسب أما غياب الطمث والغذاء أو وجود رطوبات مزلقة أو تغير مزاج الرحم .
وعلامتها الشعور بالرطوبة تسيل من عنق الرحم بعيد الجماع كدليل على عدم استمساك الرحم للمني الذكري والانثوي على السواء .
وعلاجه يكون بأدوية مركبة وفرزجات مفرغة للخلط المزلق من داخل الرحم وعلاج اسواء مزاج الرحم والتلطف في الاحبال بأوامر حددها ابن سينا وسنذكرها في موضعها.
7-أفات الرحم بالخاصة: انفتال الرحم وانقلابه وآفات الرحم من أورام وقروح وآفات عنق الرحم وانسداده فهي تمنع الحمل -برأيهم -بمنعها للاشتمال ومنعها المني الذكري من الوصول لجوف الرحم أو ما تسببه من إغلاق لفوهات العروق التي في الرحم مسببة انقطاع الطمث أو ضعف القوة الماسكة أو سوء مزاج الرحم.
وعلامتها: يستدل عليها بفحص الرحم وعنق الرحم, وانقطاع الطمث المرافق.
وعلاجها بعلاج الآفة مع المركبات المحسنة لمزاج الرحم و بالفصد.
8-السمنة: وزيادة وزن المرأة وعللوا العقم المرافق للسمنة بسوء المزاج البارد المرافق لها والمتولد في الرحم, كما قال ابن سينا بألية أخرى وهي ضغط الشحم الذي في الثرب على الرحم وسده لفوهات العروق وتسببه بأحتباس المني والطمث. وعلامته ظاهرة, وعلاجه بالتهزيل.
9-أفات الخصية:الرضية والجراحية والولادية والضمور, والناجمة عن العلاج بالشوكران. والتي تتضرر وتسبب فساد المني والعقم.كما ذكر ابن سينا - في ذكره لعلل الأعضاء المولدة- عن حالة عقم تالية لجراحة استئصال حصاة المثانة,
والناجمة عن أذية الأوعية المجاورة لها , فهو ربما يقصد أذية الحبل المنوي دون علمه .
علامته واضحة بفحص الخصية, بالإضافة للفحص العياني للسائل المنوي وأحواله.
وعلاجه: استخدمت أدوية مختلفة تهدف لتسخين الخصية أو لتحسين مزاج النطاف.
10-أفات القضيب:ذكر الزهراوي والآخرون أفات متعددة تصيب القضيب وتسبب العقم لعدم إيصال المني الذكري لمحاذاة فم الرحم والذي اعتبروه ضرورياً للاشتمال, وعلامته واضحة بالفحص المباشر وعلاجه بالجراحة التي فصل فيها الزهراوي أكثر من غيره.
المصدر : راسخون 2016