حينما توفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خلّف اُمّةً ومجتمعاً ودولة:
أقصد بالاُمّة: المجموعة من المسلمين الذين كانوا يؤمنون برسالته، ويعتقدون بنبوّته.
وأقصد بالمجتمع: تلك المجموعة من الناس التي كانت تمارس حياتها على أساس تلك الرسالة، وتنشئ علاقاتها على أساس التنظيم المقرّر لتلك الرسالة.
وأقصد بالدولة: القيادة التي كانت تتولّى زعامة ذلك المجتمع، والاشتغال على تطبيق الإسلام، وحمايته ممّا يهدّده من أخطار.
1- انحراف الدولة وانهيارها:
الانحراف الذي حصل يوم السقيفة كان انحرافاً -أوّل ما كان- في الدولة، في كيان الدولة؛ لأنّ القيادة اتّخذت طريقاً غير طريقها الطبيعي.وقلنا بأنّ هذا الانحراف في زعامة التجربة -أي في الدولة- كان من الطبيعي -في منطق الأحداث- أن ينمو وأن يثبت وأن يتّسع حتّى يحيق بالتجربة نفسها، فتنهار الزعامة الحامية للإسلام، الزعامة التي تشرف على تطبيق الإسلام، هذه الزعامة -باعتبار انحرافها وعدم كونها قادرةً على تحمّل المسؤوليّة- تنهار في أمدٍ قصيرٍ أمام أيّ خطرٍ أو غزوٍ حقيقيٍّ تواجهه في حياتها العسكريّة والسياسيّة.
2- انهيار المجتمع الإسلامي:
وحينما تنهار الدولة، زعامة التجربة، ينهار -تبعاً لذلك- المجتمع الإسلامي؛ لأنّ المجتمع يتقوّم بالعلاقات التي تنشأ على أساس الإسلام، فإذا لم تبقَ زعامةٌ ترعى هذه العلاقات وتحميها وتقنّن القوانين لها، فلا محالة ستتفتّت هذه العلاقات وتتبدّل بعلاقاتٍ اُخرى قائمةٍ على أساس آخر غير الإسلام، وهذا معناه زوال المجتمع الإسلامي.3- انهيار الاُمّة:
وتبقى بعد ذلك الاُمّة، وهي أبطأ العناصر الثلاثة تصدّعاً وزوالاً، أي: إنّ مجموعةً من البشر يبقَون يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر.بعد أن زالت الدولة الشرعيّة الصحيحة وزال المجتمع الإسلامي الصحيح تبقى الاُمّة، إلّا أنّها أيضاً -وفي منطق الانحراف- من المحتوم عليها أن تتفتّت، وأن تنهار، وأن تنصهر ببوتقة الغزو الكافر الذي أطاح بدولتها ومجتمعها؛ لأنّ الاُمّة التي عاشت الإسلام زمناً قصيراً لم تستطع أن تستوعب من الإسلام ما يحصّنها، وما يحدّد أبعادها ويعطيها أصالتها وشخصيّتها وروحها العامّة، ويمنحها القدرة للاجتماع على مقاومة التميّع والتسيّب والانهيار في البوتقات الاُخرى.
هذه الاُمّة، بحكم أنّ الانحراف قصّر عمر التجربة، وبحكم أنّ الانحراف قد زوّر معالم الإسلام، بحكم هذين السببين: الكمّي والكيفي -السبب الكمّي هو: أنّ عُمْرَ التجربة الإسلاميّة يصبح قصيراً بفضل الانحراف؛ لأنّه يسرّع بإفناء التجربة الإسلاميّة. والعامل الكيفي هو: أنّ الانحراف يشوّه معالم الإسلام، ولا يعطي الإسلام بشكلٍ صحيح- فهذا العامل الكيفي وذاك العامل الكمّي يجعلان الاُمّة غير مستوعبةٍ للإسلام؛ لأنّها لم تَعِش الإسلام إلّا زمناً قصيراً بحكم العامل الكمّي، ولم تعشه إلّا بصورة مشوّهةٍ بحكم العامل الكيفي.
إذاً، فلا تتحصّن بالطاقة التي تُمنِعُها وتحفظها من الانهيارأمام الكافرين وثقافاتهم. ومن هنا، تنهار الاُمّة وتتنازل بالتدريج عن عقيدتها وآدابها وأحكامها، ويخرج الناس من دين الله أفواجاً.
وهذا هو واقع الفكرة التي عرضتها روايةٌ عن أحد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) -ولا أذكر من هو- تقول: إنّ أوّل ما يتعطّل من الإسلام هو الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى، وآخر ما يتعطّل من الإسلام الصلاة(1).
هذا هو تعبيرٌ بسيط، شرحُه هو ما قلناه من أنّ أوّل ما يتعطّل هو الحكم بما أنزل الله، أي: إنّ الزعامة والقيادة والدولة تنحرف، وعندما تنحرف سوف يتعطّل الحكم بما أنزل الله، وهذا الخطّ ينتهي حتماً إلى أن تُعطَّل الصلاة، أي إلى أن تتميّع الاُمّة.
تعطُّلُ الصلاة هو مرحلةُ أنّ الاُمّة تتعطّل، أنّ الاُمّة تتنازل عن عقيدتها، أنّ الاُمّة تضيِّع رسالتها وآدابها وتعاليمها. الحكم بغير ما أنزل الله معناه: أنّ التجربة سوف تنحرف، أنّ المجتمع يتميّع.
فهذا خطٌّ متسلسل نستنبطه من الرواية، تقول هذه الرواية: أوّل ما يتعطّل هو الحكم بما أنزل الله، وآخر ما يتعطّل هو الصلاة، آخر ما يتركه المسلمون هو الصلاة، وبمعنى آخر: يتركون الإسلام.
موقف الأئمّة (عليهم السلام) من انحراف الزعامة وانهيار التجربة والاُمّة:
في مقابل هذا المنطق وقف الأئمة (عليهم السلام) على خطّين :
1- الخطُّ الأوّل: محاولة تسلّم زمام التجربة:
الخطُّ الأوّل هو محاولة تسلّم زمام التجربة، زمام الدولة، محو آثار الانحراف، إرجاع القيادة إلى موضعها الطبيعي لأجل أن تكتمل العناصر الثلاثة: الاُمّة، والمجتمع، والدولة.
2- الخطُّ الثاني: تحصين الاُمّة ضدّ الانهيار بعد سقوط التجربة:
والخطُّ الثاني هو تحصين الاُمّة ضدّ الانهيار بعد سقوط التجربة، وإعطاؤها من المقوّمات القدر الكافي لكي تبقى وتقف على قدميها، وتعيش المحنة بعد سقوط التجربة بقدمٍ راسخة، وبروحٍ مجاهدة، وبإيمانٍ ثابت.
هذا هو الخطُّ الثاني الذي عمل عليه الأئمّة (عليهم السلام).
والآن نريد أن نتبيّن وجود هذين الخطّين في حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع استلال العبر في المشي على هذين الخطّين:
الخطّ الأوّل: محاولة أمير المؤمنين (عليه السلام) تصحيح الانحراف:
على الخطّ الأوّل -خطّ محاولة تصحيح الانحراف، وإرجاع وضع المجتمع والدولة في الاُمّة الإسلاميّة إلى خطّه الطبيعي- عمل الإمام عليٌّ (عليه السلام) في هذا الخطّ حتّى قيل عنه: إنّه أشدّ الناس رغبةً في الحكم والولاية(2).
اتّهمه معاوية بن أبي سفيان بأنّه طالب جاهٍ وسلطانٍ وزعامة، اتّهمه بالحقد على أبي بكر وعمر، اتّهمه بكلّ ما يمكن أن يُتّهم به الشخص المطالب بالجاه وبالسلطان وبالزعامة(3).
الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عمل على خطّ تسلّم زمام الحكم وتفتيت هذا الانحراف، وكسب زعامة التجربة الإسلاميّة إلى شخصه الكريم. بدأ هذا العمل عقيب وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) مباشرةً كما قلناه بالأمس؛ حيث حاول إيجاد تعبئةٍ وتوعيةٍ فكريّةٍ عامّةٍ في صفوف المؤمنين، وإشعارهم بأنّ الوضع منحرف.
إلّا أنّ هذه التعبئة لم تنجح؛ لأسباب ترتبط بشخص علي (عليه السلام)- استعرضنا بعضها بالأمس ولأسباب اُخرى ترتبط بانخفاض وعي المسلمين أنفسهم؛ لأنّ المسلمين وقتئذٍ لم يدركوا أنّ يوم السقيفة كان هو اليوم الذي سوف ينفتح منه كلُّ ما انفتح من بلاءٍ على الخطّ الطويل لرسالة الإسلام، لم يدركوا هذا، ورَأَوا أنّ وجوهاً ظاهرةَ الصلاح قد تصدّت لزعامة المسلمين ولقيادتهم في هذا المجال، ومن الممكن [من] خلال هذه القيادة أن ينمو الإسلام وأن تنمو الاُمّة، ولم يكن يُفهم عن عليّ (عليه السلام) إلّا أنّ له حقّاً شخصيّاً يطالِب به، وهو مقصِّرٌ في مطالبته، والمسألة تقف عند هذا الحدّ وليس أكثر، ولذا ضاقت القصّة على أمير المؤمنين من هذه الناحية.
وإنّنا نجد في مراحل متأخّرة من حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) المظاهر الاُخرى لعمله على هذا الخطّ لمحاولة تسلّمه -أو سعيه في سبيل تسلّم زعامة التجربة الإسلاميّة، وتفادي الانحراف الذي وقع.
الإمام علي (عليه السلام) بين ترسيخ الوجه الواقعي وتفادي استغلال الوجه الظاهري:
إلّا أنّ الشيء الذي يجب أن يكون واضحاً - والذي هو في غاية الوضوح في حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)- أيضاً هو أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) -خلال عمله في سبيل تزعّم التجربة، وفي سبيل محاربة الانحراف القائم، ومواجهته بالقول الحقّ وبالعمل الحقّ، وشرعيّة حقّه في هذا المجال- كان يواجه مشكلةً كبيرةً جدّاً، وقد استطاع أن ينتصر عليها انتصاراً كبيراً جدّاً أيضاً، وهي مشكلة الوجه الظاهري لهذا العمل والوجه الواقعي له، وعمليّة التوفيق بينهما:
الوجه الظاهري للعمل: حيث إنّه يتبادر إلى ذهن الإنسان الاعتيادي لأوّل مرّةٍ أنّ العمل في سبيل معارضة زعامة العصر، والعمل في سبيل كسب هذه الزعامة، أنّه عملٌ في إطارٍ فكريٍّ يعبّر عن شعور هذا العامل بوجوده ومصالحه ومكاسبه وأبعاد شخصيّته.
هذا هو التفسير التلقائي الذي يتبادر إلى الأذهان من عملٍ يتمثّل فيه الإصرارُ على معارضة زعامة العصر، وعلى كسب هذه الزعامة(4).
وقد حاول معاوية أن يستغلّ هذه البداهة التقليديّة في مثل هذا الموقف [الصادر] من أمير المؤمنين (عليه السلام) في معركته مع الإمام.
هذا التفسير هو تفسيرٌ للوجه الظاهري للعمل.
الوجه الواقعي للعمل: إلّا أنّ الوجه الواقعي لهذا العمل من قِبَل الإمام لم يكن هكذا. الوجه الواقعي هو أنَّ عليّاً (عليه السلام) كان يمثّل الرسالة، وكان يمثّل الأهداف الحقيقيّة لها، وكان الأمينَ الأوّل من قِبَل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على التجربة، على استقامتها، على صلابتها، على عدم تميّعها على الخطّ الطويل الذي سوف يعيشه الإسلام والمسلمون بعد النبي (صلّى الله عليه وآله).
فالعمل كان بروح الرسالة ولم يكن بروحه هو، كان عملاً بروح تلك الأهداف الكبيرة ولم يكن عملاً بروح مصالحه الشخصيّة، لم يكن يريد أن يبني زعامةً لنفسه، وإنّما كان يريد أن يبني زعامة الإسلام، وقيادة الإسلام في المجتمع الإسلامي، وبالتالي في مجموع البشريّة على وجه الأرض(5).
تعارض الوجهين: الواقعي والظاهري:
هذان وجهان مختلفان، وهما قد يتعارضان في نفس العامل نفسِه، وقد يتعارضان في نفس الأشخاص الآخرين الذين يريدون أن يفسّروا عمل هذا العامل.أ- أمّا في نفس العامل، فقد يتراءى له في لحظةٍ أنّه يريد أن يبني زعامة الإسلام لا زعامة نفسه، إلّا أنّه خلال العمل إذا لم يكن مُزوّداً بوعيٍ كامل، إذا لم يكن مزوّداً بإرادةٍ قويّة، إذا لم يكن قد استحضر في كلّ لحظاته وآنات حياته أنّه يعيش هذه الرسالة ولا يعيش نفسه، إذا لم يكن هكذا فسوف يحصل في نفسه -ولو لاشعوريّاً- انفصامٌ بين الوجه الظاهري للعمل والوجه الواقعي له، سوف تُخلَق في نفسه التناقضات، وسوف تضيع عليه خلال العمل وخضمِّ المشاكل كلُّ الأهداف، أو جزءٌ كبيرٌ منها، وسوف تتغلّب زعامته الشخصيّة على حساب تلك الأهداف، سوف ينسى أنّه لا يعمل لنفسه بل يعمل لتلك الرسالة، سوف ينسى أنّه ملكٌ لغيره وليس ملكاً لنفسه.
هذا خطرٌ كبيرٌ جدّاً يواجه كلَّ شخصٍ يحمل هذه الأهداف الكبيرة؛ حيث يواجه خطر الضياع في نفسه، وخطر أن تنتصر أنانيّته على هذه الأهداف الكبيرة، فيسقط في أثناء الخطّ، ويسقط وسط الطريق، وهذا شيءٌ طبيعي، وهو ما كان عليٌّ (عليه السلام) معه على طرف نقيض.
عليّ (عليه السلام) الذي يصرُّ دائماً أن يكون زعيماً، ويصرُّ أنّه هو الأحقُّ بالزعامة، عليٌّ الذي يتألّم، الذي يتحسّر لأنّه لم يصبح زعيماً للتجربة بعد محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله)، الذي يقول: «لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أنّ محلّي منها محلُّ القطب من الرَّحى»؛ فإنّه في غمرة هذا التأسّف، في غمرة هذا الألم، في غمرة هذه الحساسيّة يجب أن لا ينسى أنّ هذا الألم ليس لنفسه، وأنّ هذه الحساسيّة ليست لنفسه، أنّ كلَّ هذا العمل وكلَّ هذا الجهد ليس لأجل نفسه(6).
وعدم الاهتمامهذا في غمرة هذه المشاكل هو الذي يولّد المشكلة الكبيرة، هذه المشكلة تحتاج إلى ترويضٍ كبيرٍ من قبل العامل؛ فإنّ العامل دائماً يثير نفسه، ودائماً يسأل نفسه بأنّه ليس ملكاً لنفسه، وإنّما هو ملكٌ لتلك الأهداف، ومن ثمّ يحدّث أصحابه، ويُبقي أصحابه الذين يشاركون معه في العمل بأنّهم ليسوا أصحابه، وإنّما هم أصحاب تلك الأهداف الكبيرة، يربّيهم دائماً على أنّهم هم أصحاب الرسالة لا أصحابه هو؛ وذلك حتّى يصبح هؤلاء ملك تلك الأهداف لا ملك نفسه.
أيُّ زعيمٍ يمكن أن ينحرف خلال خطّ عمله:
إذا افترضنا أنّ هذا الزعيم قد ربّى أصحابه على أنّهم أصحابه هو، فإنّهم قد لا يستطيعون تقويمه بعد هذا.
وأمّا إذا ربّى أصحابه على أنّهم أصحاب أهدافه لا أصحاب نفسه، فإنّهم سوف ينظرون إلى هذا الشخص المربّي من خلال تلك الأهداف، ويحكمون عليه من خلالها، ويقيّمونه على أساسها.
نجاح الإمام عليّ (عليه السلام) في التوفيق بين الوجهين:
وقد انتصر عليٌّ (عليه السلام) انتصاراً عظيماً في تلكما الناحيتين، انتصر عليٌّ (عليه السلام) على نفسه، وانتصر في إعطاء عمله إطارَه الرسالي وطابعه العقائدي انتصاراً كبيراً:أ- عليٌّ (عليه السلام) ربّى أصحابه على أنّهم أصحاب الأهداف لا أصحاب نفسه، كان يدعو دائماً إلى أنّ الإنسان يجب أن يكون صاحب الحقّ قبل أن يكون صاحب شخصٍ بعينه، عليٌّ (عليه السلام) هو الذي قال: «اعرف الحقّ تعرف أهله»(7).
هو الذي كان يقول للمقداد وأبي ذر وسلمان وعمّار وغيرهم: اعرفوا الحقّ ثمّ احكموا على عليٍّ هل هو مع الحقّ أو لا! لا تأخذوا عليّاً أو عمرَ أو أبا بكر أو سعداً أو أيَّ شخصٍ وتجعلوه مقياساً للحقّ، بل خذوا الحقَّ ثمّ احكموا على عليٍّ وغيره في إطار ذلك الحقّ.
وهذا غاية ما يمكن أن يقدّمه الزعيم من إخلاص في سبيل أهدافه: أن يؤكّد دائماً لأصحابه، لأنصاره -وهذا ما يجب على كلّ المخلصين أن يؤكّدوا عليه في أنفسهم، ويؤكّدوا عليه بين أتباعهم- أنّ المقياس هو الحقّ وليس هو الشخص، أنّ المقياس هو الأهداف وليس هو الفرد، مهما كان هذا الفرد عظيماً.
هل يوجد شخص أعظم من عليّ بن أبي طالب؟ لا يوجد هناك شخصٌ أعظم منه إلّا اُستاذه (صلّى الله عليه وآله)، لكن مع هذا، جعل المقياس هو الحقّ لا المقياس هو نفسه.
بـ- لمّا جاء ذلك الشخص وسأله عن الحقّ في حرب الجمل: هل هو مع هذا الجيش؟ كان هذا الرجل يعيش في حالة تردّدٍ بين عائشة وعلي، يريد أن يوازن بين عائشة وعلي، أيّهما أفضل؟ حتّى يحكم بأنّ عائشة مع الحقّ أو علي مع الحقّ، أَجُهود عائشة أفضل للإسلام أم جهود علي؟ قال له الإمام: «اعرف الحقّ تعرف أهله».
علي (عليه السلام) كان يصرّ دائماً على أن يعطي العمل الشخصي طابعه الرسالي، لا طابع المكاسب الشخصيّة بالنسبة إليه.
جـ- وهذا هو الذي يفسّر لنا أنّ عليّاً (عليه السلام) -بعد أن فشل في تعبئته الفكريّة عقيب وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)- لم يعارض أبا بكر وعمر معارضةً واضحةً سافرةً طيلة حياتهما؛ ذلك أنّ أوّل موقفٍ اعتزم فيه على المعارضة والمواجهة بعد تلك التعبئة الفكريّة وإعطائها الشكل الواضح والصريح كان عقيب وفاة عمر، وذلك يوم الشورى، حينما حطّم صنميّة أبي بكر وعمر عندما عرض عليه عبد الرحمن بن عوف أن يبايعه على كتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الشيخين؛ فإنّه أبى أن يبايع على ذلك، وقال: «بل على كتاب الله وسنّة نبيّه واجتهاد رأيي»(8). هنا أعلن عليّ (عليه السلام) عن معارضة عمر.
في حياة أبي بكر وعمر -بعد تلك التعبئة- لم يبدُ من الإمام موقفٌ إيجابيٌّ واضحٌ في معارضة أبي بكر وعمر، والوجه في هذا هو: أنّ عليّاً كان يريد أن تكون المعارضة دائماً في إطارها الرسالي، وأن ينعكس هذا الإطار الرسالي على المسلمين؛ حتّى يفهموا أنّ معارضته ليست لنفسه وإنّما هي للرسالة.
[ومع أنّ] أبا بكر وعمر كانا قد بدءا الانحراف، ولكنّ هذا الانحراف لم يكن قد تعمّق بعد، والمسلمون قصيرو النظر الذين قدّموا أبا بكر ثمّ عمر على علي (عليه السلام) لم يكن باستطاعتهم أن يعمّقوا النظر إلى هذه الجذور من الانحراف التي نشأت في أيّام أبي بكر وعمر، فكان معنى مواصلة العمليّة ومواصلة المعارضة بشكلٍ شديدٍ أيّام أبي بكر وعمر، معنى أن يبدأ عمَلَه -الذي بدأه أيّام عثمان- أيّامَ أبي بكر وعمر، معناه أن يفسَّر من أكثر المسلمين على أنّه عملٌ شخصي ومنافسةٌ شخصيّةٌ مع أبي بكر وعمر.
أبو بكر وعمر وإن بدأت بذور الانحراف في عهدهما، إلّا أنّه حتّى هذه البذور كانت في الأغلب مصبوغةً بالصبغة الحراريّة الإيمانيّة، مربوطة بالحرارة الإيمانيّة الموجودة لدى الاُمّة. وحيث إنّها حرارة إيمانيّة بدون وعيٍ رساليٍّ، لم تكن الاُمّة تميّز أنّ هذا هو عبارة عن الانحراف.
عمر حينما ميّز بين المسلمين وأنشأ نظام الطبقات، حينما أثرى قبيلةً أو جماعةً دون غيرها وعلى حساب غيرها، حينما أثرى قبيلة النبي (صلّى الله عليه وآله) -حيث أغنى زوجاته، أغنى عمَّه، أغنى أهل بيته، حينما كان يعطي لزوجات النبي لكلٍّ عشرةَ آلاف، ويعطي عمَّ النبي (صلّى الله عليه وآله) العبّاس اثني عشر ألفاً(9)
حينما قسّم الأموال الضخمة على هذه الاُسرة، لم يكن هذا الانحراف مختلفاً عن انحراف عثمان في جوهره عندما ميّز عثمان أهل بيته وعشيرته، إلّا أنّ عمرَ ربط هذا الانحراف بالحرارة الإيمانيّة عند الاُمّة. هذه الحرارة غير الواعية عند الاُمّة كانت تقبل مثل هذا الانحراف؛ لأنّ هؤلاء أهل النبي وزوجاته، العبّاس مثلاً يمكنه أن يَثرى على حساب النبي، وكذا عائشة وحفصة و... ولا تحسّ الاُمّة بأساً بذلك.
عثمان حينما جاء لم يزد على هذا الانحراف في جوهره شيئاً، بدّل عشيرة النبي (صلّى الله عليه وآله) بعشيرته هو فقط(10).
انحراف عثمان استمرارٌ لانحراف عمر، إلّا أنّه انحراف مكشوف، بينما ذلك الانحراف مقنّع، ذاك الانحراف مرتبط بالحرارة الإيمانيّة عند الاُمّة، وهذا الانحراف يتحدّى مصالح الاُمّة، ويتحدّى المصالح الحسّية للاُمّة، ولهذا استطاعت الاُمّة أن تلتفت إلى انحراف عثمان، بينما لم تلتفت بوضوحٍ إلى انحراف أبي بكر وعمر.
ولذا لم يستطع عليّ (عليه السلام) أن يعلن ذلك إلّا بعد أن مات أبو بكر وعمر، في الوقت الذي لا يفسّر فيه عملُه على أنّه منازعةٌ للسلطان والزعامة مع أبي بكر وعمر.
لكن بعد أن تمّ الأمر لعثمان وبويع في يوم الشورى، عليٌّ (عليه السلام) قوّض خلافته بأنْ قال: إنّي سوف أسكت ما سلمت اُمور المسلمين ومصالحهم. ما دام الغبن عليَّ وحدي، ما دمت أنا المظلومَ وحدي، وما دام حقّي وحده هو الضائع، إنّي سوف أسكت واُبايع واُطيع عثمان. لكن إذا تهدّمت مصالح المسلمين وقضاياهم وكرامتهم وإسلامهم، إذا واجهوا مصائبهم نتيجةً لهذه الزعامة المنحرفة، فلن أستطيع الصبر والسكوت.
هذا هو الشعار الذي أعطاه بصراحة مع أبي بكر وعمر وعثمان، وبهذا الشعار أصبح في عمله رساليّاً، وانعكست هذه الرسالة على عهد أمير المؤمنين (عليه السلام).
وبقي (عليه السلام) ملتزماً بما تعهّد به من السكوت إلى أن بدأ الانحراف في حياة عثمان بشكل مفضوح، فلم يصبر في حياة عثمان؛ لأنّ الانحراف تكشّف، وارتفعت تلك الأقنعة، وفقد الارتباط بالحرارة الإيمانيّة التي ارتبط بها الانحراف في أيّام الخليفة الأوّل والثاني. ولهذا أسفر عليٌّ (عليه السلام) عن المعارضة، وواجه عثمان بما سنتحدّث عنه بعد ذلك.
فعليٌّ (عليه السلام) في محاولته تسلّم زمام التجربة وزعامة القضيّة الإسلاميّة كان يريد أن يوفِّق بين هذا الوجه الظاهري للعمل وبين الوجه الواقعي للعمل.
ولقد استطاع ذلك، واستطاع أن يوفّق بينهما توفيقاً كاملاً، واستطاع هذا في توقيته للعمل، وفي تربيته لأصحابه؛ حيث ربّاهم على أنّهم أصحاب الأهداف لا أصحاب الأشخاص، واستطاع هذا في كلّ الشعارات التي طرحها، واستطاع أن يثبت أنّه بالرغم من أنّ رغبته في أن يصبح الحاكم كانت في القمّة، لكن مع ذلك لم يكن مستعدّاً أبداً لأنْ يصبح حاكماً مع وجود الشروط التي وضعت.
أَلم تعرض عليه الحاكميّة بعد موت عمر؟! ولكن عندما وجد شرطاً من الشروط قد اختلّ في هذه الرسالة رفض هذه الحاكميّة(11).
د- عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) بالرغم من أنّه كان في أشدّ ما يكون سعياً وراء الحكم، جاءه المسلمون بعد أن قتل عثمان وعرضوا عليه أن يكون حاكماً، قال لهم: «بايعوا غيري وأنا أكون كأحدكم، بل أكون أطوعَكم لهذا الحاكم الذي تبايعونه ما سلمت اُمور المسلمين في عدله وعمله»(12).
يقول ذلك لأنّ الخطر الذي تواجهه الاُمّة الإسلاميّة كبيرٌ جدّاً، [ولأنّ] بذرةَ الانحرافِ التي عاشها المسلمون بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى أن قتل عثمان تمادت وتعمّقت وتجبّرت وطغت. هذا الانحراف الذي استكبر، الذي خلّف التناقضات في الاُمّة الإسلاميّة، هذا عبءٌ كبيرٌ جدّاً.
ماذا يريد أن يقول؟
يريد أن يقول بأنّي لا أقبل شيئاً إلّا أن تصفّوا هذا الانحراف، أنا أقبل الحكم الذي يصفّي هذا الانحراف ويقتلع جذوره، لا الحكم الذي يصانعه.
هذه الإحجامات عن قبول الحكم في مثل هذه اللحظات كانت تؤكّد الطابع الرسالي لحرقته، للوعته، لأساه، لألمه، لرغبته في أن يكون حاكماً.
استطاع أن ينتصر على نفسه ويعيش دائماً لرسالته وأهدافه، واستطاع أن يربّي أصحابه أيضاً على هذا المنوال.
هذا هو الخطّ الأوّل، وهو خطُّ محاولته تسلّمَ زمام التجربة الإسلاميّة.
المصادر :
1- المسائل والرسائل المرويّة 42 :2. المصنّف (عبد الرزّاق) 363 :3؛ كتاب الفتن (ابن حمّاد) 2:603؛ الكتاب المصنّف في الأحاديث والآثار (ابن أبي شيبة) 256 :7.
2- الإمامة والسياسة 43 :1.
3- وقعة صفّين: 87، 90.
4- نهج البلاغة: 246، الخطبة 172؛ الإمامة والسياسة1:176.
5- نهج البلاغة: 102، الخطبة 74.
6- المدرسة القرآنيّة: 198؛ ومضات: 38.
7- «فاعرف الحق تعرف أهله» الأمالي (المفيد): 5، الحديث 3؛ الأمالي (الطوسي): 626، الحديث 5.
8- شرح نهج البلاغة 188 :1، وفيه: «سنّة رسوله». وانظر قريباً منه في: تاريخ اليعقوبي 162 :2.
9- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 614 :3، وراجع أرقاماً اُخرى في: الطبقات الكبرى 229 :3؛ فتوح البلدان: 436.
10- نهج البلاغة: 49، الخطبة 3. وراجع: الإمامة والسياسة 50 :1؛ المعارف:195؛ أنساب الأشراف 515 :5، 580؛ البدء والتاريخ 5:200.
11- الطبقات الكبرى 259 :3؛ الإمامة والسياسة 43 :1؛ أنساب الأشراف 501 :5؛ تاريخ اليعقوبي 2:158؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 192 :4؛ الفتوح 325 :2؛ البدء والتاريخ 190 :5.
12- نهج البلاغة: 136، الخطبة 92.