
طريقة واسلوب رائع استعمله القرآن الکريم لتشويق العباد علی الانفاق والتکافل الاجتماعي هذا النوع من التشويق تصرح به الآية الكريمة ، والأخبار الكثيرة حيث تخبر المنفق بأن الطرف في هذه العملية الإنسانية الطيبة هو الله لا الفقير لتصريحها بأن الله يأخذ الصدقات ، أو هو يتقبلها ، أو أن الصدقة تقع في يده أولاً ، ومن ثم ليد الفقير على اختلاف في العبارات التي وردت في الآية ، أو الأخبار إلا انها على اختلافها ترمز إلى معنى واحد ، وهو أن الفقير واسطة بين الله والمنفق فهذا يعطي وذاك يأخذ.
يقول سبحانه :( ألم يعلموا أنّ الله هو يَقبَل التوبةَ عن عبادِهِ ويَأخُذُ الصّدقاتِ وأنّ اللهَ هو التّوابُ الرحيمُ ) (1).
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة مطالب ثلاثة عطف احدهما على الآخر فكان الحكم في الجميع واحداً.
( أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ) :
وهذا هو المطلب الأول ، ولا مجال للشك في أن قبول التوبة من العبد مختص بالله وحده لتصريح الآية بذلك ، ولأنه هو الذي يغفر الذنوب صغيرها وكبيرها.
( ويأخذ الصدقات ) :
وهذا هو المطلب الثاني وبحكم العطف في الآية لابد أن نقول : إن من يأخذ الصدقة من المنفق هو الله لأنه كما يقبل التوبه من عباده ، وان ذلك مختص به كذلك هو يأخد الصدقات.
( وأن الله هو التواب الرحيم ) :
وهذا هو المطلب الثالث حيث أخبر عن نفسه بأنه التواب ، وهو مبالغة في قبوله للتوبة ، وهو الرحيم بعباده فلا يستوحش العبد إذاً من ذنوبه إذا كان الغافر هو التواب الرحيم.
ولا يأس من الجزاء إذا كان آخذ الصدقة هو الله سبحانه ، وانها تقع بيده أولاً.
فعن جابر عن الإمام الباقر عليهالسلام قال :
« قال أمير المؤمنين عليهالسلام تصدقت يوماً بدينار فقال لي رسول الله صلىاللهعليهوآله أما علمت أن صدقة المؤمن لا تخرج من يده حتى تفك به من الحي سبعين شيطاناً ، وما تقع في يد السائل حتى تقع في يد الرب تعالى ألم يقل هذه الآية : الم تعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ».
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليهالسلام قال :
« كان أبي اذا تصدق بشيء وضعه في يد السائل ثم إرتجعه منه فقبله وشمه ثم رده في يد السائل فأحببت أن أقبلها إذ وليها الله ثم وليتها وان صدقة الليل تطفيء غضب الرب ، وتمحوا الذنب العظيم وتهون الحساب وصدقة النهار تنمي وتزيد في العمر ».
وفي أخبار أخرى جاءت عن الإمام الصادق عليهالسلام أيضاً :
« ما من شيء أو ليس من شيء إلا وكّل به ملك إلا الصدقة فإنها تقع في يد الله سبحانه ».
وفي حديث آخر عن اللإمام الباقر عليهالسلام قال : « قال الله سبحانه تعالى : أنا خالق كل شيء وكلت بالأشياء غيري الا الصدقة فإني أقبضها بيدي حتى أن الرجل والمرأة يتصدق بشق التمرة فأربيها له كما يربي الرجل منكم فصيله وفلوه حتى أتركه يوم القيامة أعظم من أحد ».(2)
ولمذا إذا يتأخر المنفق ، أو يتقاعس عن القيام بمثل هذا التقديم لله والله هو الذي يأخذ منه ويوفي له حسابه.
*الاسراع بالتصدق قبل فوات الأوان
وتنحوا آيات ثلاثة من القرآن نحواً جديداً في الحث والتشويق على الانفاق ذلك إنها أخذت تذكر الناس بأن يسارعوا إلى تقديم هذه المعونات إلى الفقراء ما دامت الفرصة حاصلة لهم وبإمكانهم أن يعملوا أعمالاً صالحة تكون لهم المخزون الاحتياطي ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون وتحذرهم من مغبة اليوم الذي يقف الموت حائلاً بينهم وبين كل حركة لهم.
يقول سبحانه :( يا أيّهَا الّذينَ آمَنُوا أنِفقُوا ممّا رزقناكُم من قبلِ أن يأتيَ يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خُلّةٌ ولا شفاعةٌ والكافرونَ هم الظالمونَ ) (3).
وفي آية أخرى :( قل لعباديَ الذينَ آمنوا يقيموا الصّلاةَ ويُنفقُوا ممّا رزقناهُم سرّاً وعلانيةً من قبلِ أن يأتيَ يومُ لا بيعٌ فيهِ ولا خلالٌ ) (4).
ذلك اليوم الذي تقف فيه الحركة التجارية فلا بيع ولا شراء ، ولا صديق يقف إلى جانب صديقه ، ولا شفيع يشفع لصاحبه.
ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، وقد بلغت القلوب الحناجر.
ذلك اليوم الذي ينادي من فاته الركب : ( رب ارجعوني لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ) ؟
فيأتيه الجواب :
( كلا إنها كلمة هو قائلها ).
أن القرآن يهيب بالإنسان أن يعمل صالحاً بإقامة الصلاة ، وهو الواجب الروحي وبالإنفاق وهو الواجب المعنوي قبل أن يأتي ذلك اليوم فتغلق بوجهه الأبواب ويواجه المصير من غير تدارك لما فات.
وهكذا نرى القرآن لا يكف عن ان يذكر الإنسان قبل فوات الأوان ، وتفويته الفرصة الذهبية فيقول تعالى في آية ثلاثة :
( وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا اخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ) (5).
وهذه الآية لا تختلف عن الآيتين السابقتين من حيث الاطار العام ، وهو أن الاسلوب القرآني يدعو فيها إلى تنبيه الإنسان إلى المبادرة إلى الانفاق من قبل أن تفوت عليه فرصة العمر ، ولكن الذي نلمحه من خلال هذه الآية الكريمة هو الطلب الذي يطلبه من فاتته الفرصة بعد الموت من ربه ليعود إلى الدنيا والغاية التي يريد تحقيقها من هذه العودة وهي قوله عزوجل :
( فأصدق وأكن من الصالحين ) :
ان هذا التركيز من مثل هذا الإنسان على التصديق وبه ليكون من الصالحين يعطينا أهمية ما يكشف له في ذلك العالم ، وهو يرى آثار الصدقة بما فيها الزكاة أو الانفاق المطلق في سبيل الله لذلك يأخذه الندم على عدم القيام بها ، وإنه لم يقل لأعمل العمل الفلاني أو أي عمل من الأعمال ، بل صرح بالتصدق بل وأخذ يعض يديه ندماً على ما فرط في حياته من عدم الالتفات إليه ... ولكن هيهات فقد انتهى كل شيء وعادت النفس إلى ربها :
إما مطمئنة راضية.
وإما نادمة حيث لا ينفعها الندم والأمر يومئذ لله وحده.
وقد جاء عن رسول الله صلىاللهعليهوآله انه سئل عن أي الصدقة أفضل ؟ فقال :« تصدق وأنت صحيح تأمل البقاء وتخاف الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا » (6).
للصدقة مزايا عديدة
ومن ثنايا الأخبار نرى كثيراً منها تشوق المنفقين ، وتذكر للصدقات والاحسان إلى المحتاجين خصائص كثيرة البعض منها تصرح بفوائد تعود على المنفق في الدنيا ، والبعض الآخر تنفع المنفق فيما يخص آخرته :فمن القسم الأول : ما جاء عن النبي صلىاللهعليهوآله قوله :« استنزلوا الرزق بالصدقة » (7).
وفي حديث عن الإمام الباقر عليهالسلام :« أن البر ، والصدقة ينفيان الفقر ، ويزيدان في العمر ويدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة من السوء » (8).
وعنه عليهالسلام في حديث آخر : « وان الله يعطي بالواحدة عشرة إلى مائة الف فما زاد » (9).
ويقول الإمام الصادق عليهالسلام :« إن الصدقة تقضي الدين وتخلّف البركة » (10).
وعنه عليهالسلام ايضاً :« ما أحسن عبد الصدقة في الدنيا الا أحسن الله الخلافة على ولده من بعده » (11).
وعن الإمام الرضا عليهالسلام : « انه كان في بني اسرائيل قحط شديد سنين متواترة ، وكان عند امرأة لقمة خبز فوضعتها في فيها لتأكلها فنادى سائل : يا أمة الله الجوع فقالت المرأة : أتصدق في مثل هذا الزمان فأخرجتها من فيها فدفعتها إلى السائل ، وكان لها ولد صغير يحتطب في الصحراء فجاء الذئب فحمله فوقعت الصيحة فعدت الأم في أثر الذئب فبعث الله تبارك وتعالى جبرائيل فأخرج الغلام من فم الذئب فدفعه إلى أمه ، فقال جبرائيل : يا أمة الله أرضيت ؟ لقمة بلقمة » (12).
ويقول النبي صلىاللهعليهوآله :« داووا مرضاكم بالصدقة » (13).
ومثل هذا جاء في كثير من الإخبار ، وقد عقّدت كتب الحديث أبواباً عديدة لذكر الأحاديث التي صرحت بهذه الفوائد التي يجنيها المنفق من وراء احسانه وتصدقه.
ولماذا نستبعد ونستكثر مثل هذه الفوائد على الصدقة ؟
فالقضية قضية تعويض من الله سبحانه لعبده المنفق يعوضه بهذه المزايا الدنيوية جزاء هذا التفقد الذي يصدر منه ونتيجة هذا التعاطف من بعض الناس مع الآخرين.
وأما القسم الثاني : فقد روي عن النبي صلىاللهعليهوآله قوله :« أرض القيامة نار ما خلا ظل المؤمن فإن صدقته تظلله » (14).
وعن الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام قال :« الصدقة جُنة من النار » (15).
وقد جاء عن الإمام الباقر عليهالسلام قوله :« ولأن أعول أهل البيت من المسلمين وأشبع جوعهم ، وأكسو عورتهم ، وأكف وجوههم عن الناس أحب اليَّ من أن أحج حجة ، وحجة حتى أنتهى إلى عشر مثلها ومثلها حتى انتهى إلى سبعين » (16).
بهذه النفسية العالية يواجهنا الإمام أبو جعفر الباقر عليهالسلام وبهذا القلب الذي تتفجر منه الرحمة من كل جوانبه يتجه
الإمام ليدخل بيتاً من بيوت المسلمين ليعول من به ، وبذلك يخفف عنهم أزمات الفقر.
وطبيعي أن يكون هذا العمل أحب إلى الإمام عليهالسلام من سبعين حجة ، والسبب في ذلك أن الحج ينتفع به الشخص نفسه لما يحصل عليه من ثواب ، وأما إعالة البيوت الفقيرة فإن النفع فيها يعود إلى الشخص نفسه بالثواب ، وإلى الآخرين بانتشالهم من براثن الشبح المرعب وهو الفقر ، وبذلك يأمن المجتمع من شرور هؤلاء المحرومين ، ولذلك كان هذا العمل أحب إلى الإمام عليهالسلام من الحج المتكرر.
على أن الإمام وهو العالم بكل الخصوصيات لو لم يعلم أن في الإعالة المذكروة الثواب الذي يزيد على الثواب الذي يحصل من سبعين حجة لما كان ذاك أحب إليه من هذا.
ومن هذا المنطق نعلم أن الثواب الذي يحصل عليه المنفق لا يحد بحد طالما كان مصدره من وصف نفسه بالرحمن الرحيم.
الفقير هدية الله إلى الغني :
بهذا النص جاء الخبر عن الإمام محمد الباقر عليهالسلام حيث قال : « الفقير هدية الله إلى الغني فإن قضى حاجته فقد قبل هدية الله وان لم يقض حاجته فقد رد هدية الله » (17).الفقير هدية :ولكن ممن ولمن ؟.
ممن : من الله.
ولمن : إلى الغني.
وليحاسب الغني نفسه ، وهو يقف وجهاً لوجه أمام هدية الله ـ وهو هذا الفقير ـ يأتي ليطلب منه ما يسد حاجته فهل يقبل هذه الهدية أم يردها ؟.
ولكن رد مثل هذه الهدية بعيد عن المؤمنين الذين يقدمون كل غال ونفيس في سبيل التقرب إليه جلت عظمته.
المصادر :
1- سورة التوبة / آية : ١٠٤.
2- لاحظ لهذه الأخبار وسائل الشيعة ٦ / ٣٠٣.
3- سورة البقرة / آية : ٢٥٤.
4- سورة ابراهيم / آية : ٣١.
5- سورة المنافقون / آية : ١٠.
6- وسائل الشيعة ٦ / ٢٨٢.
7- البحار ـ ١٩/ ١١٨.
8- الخصال ـ ١ / ٢٥.
9- وسائل الشيعة ٦ / ٢٥٦.
10- وسائل الشيعة ـ ٦ / ٢٥٥.
11- وسائل الشيعة ـ ٦ / ٢٥٥.
12- ثواب الاعمال ـ ١٤٠.
13- قرب الاسناد ـ ٧٤.
14- وسائل الشيعة ـ ٦ / ٢٥٦.
15- وسائل الشيعة ـ ٦ / ٢٥٨.
16- ثواب الاعمال ـ ١٤١.
17- ثواب الأعمال ـ ١٢٧.