
قال الإمام عليّ بن الحسين : يا يزيد ، ائذَن لي حتّى أصعد هذه الأعواد... فأبى يزيد ، فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، ائذن له ليصعد فلعلّنا نسمع منه شيئاً ، فقال لهم : إن صعد المنبر هذا لم ينزل إلاّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان ، فقالوا : وما قَدرُ ما يُحسِن هذا ؟! فلم يزالوا به فإذن له بالصعود ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال :
أيّها الناس ، أُعطينا سِتّاً وفُضّلنا بسبع ، أُعطينا العلم والحلم... وفُضّلنا بأنّ منّا النبي المختار محمّد ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيّار ، ومنا أسد الله وأسد الرسول ، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنّا سبطا هذه الأمّة وسيّدا شباب أهل الجنة ، فمَن عَرَفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني أنبأتُه بحسبي ونسبي : انا ابن مكّة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ...
أنا ابن من حمِلَ على البراق في الهوا ، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فسبحان من أسرى ، أنا ابن من بَلَغ به جبرئيل إلى سِدرة المنتهى ، أنا ابن مَن دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمّد المصطفى...(1)
قال : ولم يزل يقول : أنا أنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد أن تكون فتنة ، فأمر المؤذن أن يؤذّن فقطع عليه الكلام وسكت.
فلمّا قال المؤذّن : « الله أكبر » قال علي بن الحسين : كبّرتَ كبيراً لا يقاس ،ولا يُدرَك بالحواس ، ولا شيء أكبر من الله.
فلما قال : « أشهد أن لا إله إلا الله » قال علي بن الحسين : شهد بها شعري وبَشري ولحمي ودمي ومخّي وعظمي.
فلما قال : « أشهد أن محمداً رسول الله » التفت علي بن الحسين من أعلى المنبر إلى يزيد وقال : يا يزيد! محمدٌ هذا جدّي أم جدّك ؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت ، وإن قلت أنّه جدّي فلم قتلتَ عِترته(2) ؟
وها هنا ثلاث ركائز مهمة في هذه الخطبة :
أولّها : إن يزيد خاف أن يذكر الإمامُ السجّادُ فضائحَ يزيد ومعاوية وآل أبي سفيان ، مع أنّ الإمام في خطبته هذه لم يذكر صريحاً شرك أبي سفيان ولا معاوية ولا كونهما ملعونين ، كما لم يذكر هنداً وما كان منها في الجاهلية من سوء السيرة ، ولا ما كان من بقرها بطن حمزة ولا ولا... فكانت الفضيحة لهم ببيان الحقائق النيّرة ، وما حرّفه المحرّفون ، وبيان مقامات النبيّ وعترته.
وثانيها : إنّ قسطاً مهمّاً من الخطبة انصبَّ على حقيقة الإسراء والمعراج ؛ إذ فيها العناية المتزايدة ببعض تفاصيلهما ، والتأكيد على أنّهما حقيقة عيانيّة بدنيّة كانت للنبيّ صلى الله عليه وآله ، لا أنّها رؤيا وحُلُم كما يدّعيه الأمويّون ، فكان الإسراء والمعراج فيهما رفع ذكر النبيّ وتشريع الأذان والصلاة ، وفيهما رفع ذكر آل النبيّ صلى الله عليه وآله تبعاً له.
كما أنّ في الخطبة حقيقة أنّ عليّاً هو الصدّيق لا غيره ، وأنّ فاطمة سيّدة نساء العالمين ، لا كما حرّفوا من أنّ الصدّيق هو أبو بكر ، وأنّ اسمه على قائمة العرش ، مع أنّ الحقيقة هي أنّ عليّاً هو الصديق وأن اسمه مكتوب على العرش ـ كما سيأتيك بيانه لاحقاً ـ وأن الصدّيقة فاطمة الزهراء قد كذَّبت أبا بكر الصديق!!! وقالت له : لقد جئت شيئاً فَريا (3)
وكذا الإمام عليّ فانه كذب من ادعى الصدّيقية في أبي بكر بقوله : أنا عبدَالله وأخو رسوله ، وأنا الصدّيق الاكبر ، لا يقولها بعدي إلاّ كذاب مفتري ، لقد صليت قبل الناس بسبع سنين(4).
وقال في آخر : أنا الصدّيق الأكبر ، والفاروق الأول ، أسلمت قبل إسلام أبي بكر ، وصليت قبل صلاته(5).
وعن معاذة قالت : سمعت عليّاً وهو يخطب على منبر البصرة يقول : أنا الصدّيق الأكبر ، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن يسلم [ أبو بكر ](6)
فلا يعرفُ بعد هذا من هو الصادق ومن هو الكاذب ومن هو الصدّيق ومن هي الصدّيقة في قاموس القوم ؟ وقد مرّ عليك أنّ معاوية حرّف كلّ فضيلة لعليّ وجعلها في غيره.
وثالثها : أنّ يزيد لمّا أمر المؤذّن بالأذان ليقطع كلام الإمام ، كان الإمام السجّاد يوضّح كلّ فقرة من فقرات الأذان ، مُعرِّضاً بمن يتلفّظون بألفاظه دون وعي لمفاهيمه ، وهو ما سنقوله لاحقاً من أنّه يحتوي على مفاهيم الإسلام ، وأنّه وجه الدين ، وأنّه ثبت بالوحي ، لا كما أرادوا تصويره بأنّه مجرّد إعلام قابل للزيادة والنقصان ، وُضع بأحلام واقتراحات من الصحابة!!
وفي قول السجّاد عليه السلام « يا يزيد! محمّد هذا جدّي أم جدّك » بيان لارتفاع ذكر النبيّ وآله ، وأنّ الأمويّين لم يفلحوا في حذف اسمه من الأذان وإخماد ذكره ، ومحاولة إدراج اسم « أمير المؤمنين »!!! (7)
معاوية في آخر الأذان ، وإن نجحوا ظاهريّاً في إخماد ثورة الحسين وقتله وقتل عترة النبيّ صلى الله عليه وآله .
فالأذان المشرع من الوحي كان مفخرة آل النبيّ ، وبياناً لارتفاع ذكره وذكر آله ، لا كما قيل فيه من أنواع المختلقات.
ويؤكد ذلك أنّه لمّا قدم عليّ بن الحسين بعد قتل أبيه الحسين عليه السلام إلى المدينة استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيدالله وقال :
يا عليّ بن الحسين ، مَن غَلَب ؟ وذلك على سبيل الشماتة فقال له عليّ بن الحسين : إذا أردتَ أن تعلم من غَلَب ودخل وقت الصلاة فأذِّن ثمّ أقِم(8).
وذلك أنّ ذكر الرسول المصطفى خُلّد في الأذان والإقامة رغم نصب الناصبين وعداء المعادين ، وبه خلود ذكر آل النبيّ صلى الله عليه وآله ، فيكونون هم الغالبين لا بنو أميّة ولا من غصبوا الحقوق وحرَّفوا المعالم عن سُنَنها ومجاريها.
وفي العصر العباسي ، دخل الإمام عليّ الهادي عليه السلام يوماً على المتوكّل فقال له المتوكل : يا أبا الحسن مَن أشعر الناس ؟ ـ وكان قد سأل قبله عليّ بن الجهم ، فذكر شعراء الجاهلية وشعراء الإسلام ـ فلما سأل الإمامَ قال : عليّ الحماني حيث يقول :
لقد فاخَرَتْنا من قريشٍ عصابةٌ / بمـط خدود وامتـدادِ أصـابعِ
فلـمّا تَنازَعنا المقالَ قضى لنا / عليهم بمـا نهوى نداءُ الصَّوامعِ
قال المتوكّل : وما نداء الصوامع يا أبا الحسن ؟ قال : « أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله » جدّي أم جدك ؟ فضحك المتوكل ثم قال : هو جدك لا ندفعك عنه(9).
ترانا سُكوتاً والشـهيدُ بفضلِنا / تراه جهير الصوتِ في كلِّ جامعِ
بانّ رسـولَ اللهِ أحمـدَ جدُّنا / ونحـن بنوه كالنجومِ الطَّوالعِ(10)
فكان الأذان وفيه اسم محمّد ، المرفوع ذكره ، المستتبع لرفع ذكر الأئمّة من أولاده ، كان ذلك أكبر مفخرة للمسلم الحقيقي ، كما كان يؤذي أعداء الإسلام الذين ارتدوا بسبب المعراج .
ويؤذي من أرادوا جعل الأذان وفصوله أحلاماً واقتراحات ، ويؤذي معاوية الذي أرّقه ذكر اسم « محمّد » واقترانه باسم ربّ العالمين ، ويؤذي أولاد طلحة وقتلة الحسين عليه السلام .
كما كان يؤرق المتوكّل العباسي ، وكلّ رموز التحريف وأرباب الطموحات السلطويين ، وكلّهم من السلك القرشي المعادي لله وللرسول ولعترة الرسول صلوات الله عليهم أجمعين.
المصادر :
1- كفاية الأثر 198.
2- مقتل الحسين للخوارزمي 69 ـ 71 ، والفتوح لابن أعثم 3 : 155.
3- تثبيت الإمامة 30 ، بلاغات النساء 14 ، شرح نهج البلاغة 16 : 212 ،251 ، جواهر المطالب 1 : 161.
4- مستدرك الحاكم 3 : 112 وقال : صحيح على شرط الشيخين وتلخيصه للذهبي ، وشرح نهج البلاغة 13 : 228 ، 1 : 30 ، سنن ابن ماجه 1 : 44 ح 120 قال في الزوائد : هذا اسناد صحيح ورجاله ثقات ، تاريخ الطبري 2 : 310 ، والآحاد والمثاني 1 : 148وغيرها.
5- شرح نهج البلاغة 4 : 122 ،13 : 200 ، والمعارف لابن قتيبة 97. وفيه قال عليّ عليه السلام : أنا الصدّيق الأكبر آمنتُ قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن يسلم أبو بكر.
6- شرح نهج البلاغة 13 : 228 ، وأنساب الاشراف بتحقيق المحمودي 146 ، الآحاد والمثاني 1 : 151 ، والمعارف لابن قتيبة 99.
7- السيوطي في كتاب الوسائل إلى معرفة الأوائل 26 : ان أوّل من أمر المؤذن أن يشعره ويناديه فيقول : السلام على أمير المؤمنين الصلاة يرحمك الله ، معاوية بن أبي سفيان.
8- أمالي الطوسي 687 ـ 688 ، مجلس يوم الجمعة السابع من شعبان 457هـ .
9- أمالي الطوسي 293.
10- ديوان عليّ الحمّاني 81 ، ومناقب ابن شهرآشوب 4 : 406 وفيه : « عليهم »بدل : « تراه ».