إنّ لكلّ معركة استثناءات تخرج بها الخطط العسكريّة عمّا رُسم لها ، وذلك بما تفرضه أرض المعركة وتطوّراتها المتلاحقة ، وسير الأعمال القتاليّة وتنفيذ المعركة ، إلاّ إنّ معركة يوم عاشوراء على تراب كربلاء كانت كلّها استثناءات منقطعة النظير في التاريخ كلّه.
ولهذا لو استعرضنا جميع الصور لكان يجب علينا أن نكتب المقتل من جديد ، أو أن ننقل تفاصيل المقاتل المختلفة ، وهذا ما لا نريده هنا ، والذي نريده أن نلتفت إلى الأخلاقيّات الحسينيّة كشخص وكقائد عسكري كما تصرَّف في أرض المعركة ؛ لنعلم مدى الإيمان والقيم التي تحلّى بها المولى أبو عبد الله الحسين عليهالسلام في أشدّ الظروف وأدقّ الأوقات.
*المرأة في كربلاء
إنّ المرأة هذا المخلوق الرائع ، الريحانة التي تحيطنا من كلّ نواحينا ، ويلفنا من كلّ جوانب حياتنا فهي : الأُمّ والزوجة ، والبنت والأخت ، والخالة والعمّة والجدّة.المرأة التي خلقها الله منّا ، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) (1) ، وجعلها الله لنا سكناً وسكينة ، وملجأ ورهينة في ذات الوقت ، ورغم ذلك ظلمها الرجل منذ البداية ؛ لأنّه لم يستطع أن يفهمها أو يقدّرها حقّ قدرها فيتعامل معها بمنطقها اللطيف ، حتى إنّ العرب في الجاهليّة كانوا يدفنونها حيَّة (بالوأد) بحجّة الفقر والخوف منه تارة ، أو بذريعة العار والخوف من الفضيحة تارة أُخرى ، فكان (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (2).
إلاّ إنّ الإسلام الحنيف والرسول العظيم أعطى للمرأة حقّها اللازم ، ووضعها في مكانها اللائق على لائحة الإنسانيّة المكرّمة منذ البداية ؛ لأنّ أوّل الناس إسلاماً كانت أُمّنا خديجة بن خويلد (رضي الله عنها وأرضاها) التي منحت رسول الله صلىاللهعليهوآله كلّ شيء حتّى قال بحقّها : «لولا سيف علي ومال خديجة لما قام للإسلام عود».
هذه العظيمة كانت زوجة وأُمّاً ، فكانت نِعْمَ الزوجة والأُمّ ، وعندما جاء دور البنت فإنّ ابنتها سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليهاالسلام تقف شامخة تتحدّى الرجال جميعاً بالكفاءة الإيمانيّة : «فلولا علي عليهالسلام لما كان لفاطمة الزهراء كفؤ آدم فما دون» (3) ، كما يقول النبي صلىاللهعليهوآله ، وكفى بهذه العظيمة التي كانت حجّة على الأولياء العظام أن تكون قدوة وأسوة حسنة.
فالإسلام دين الله الخاتم الذي نظّم الحياة كلّها بحكمة بالغة ؛ لأنّه من حكيم خبير بصير ، ولذا تراه وضع المرأة في مكانتها الصحيحة في الحياة الاجتماعيّة الإسلاميّة ، وما دعاة التحرّر أو المنادون بحريّة المرأة في هذا العصر الأغبر إلاّ ثلّة من الأفّاكين والمحتالين الذين يطالبون بتجريد المرأة من كلّ كرامة وقداسة ؛ لتكون لعبة جميلة بين أيديهم وأرجلهم ، ولا همَّ لهم إلاّ جسدها وجمالها ، فتراهم يستخدمونها لشهواتهم الخسيسة الدنيئة ، ثمّ يلقونها كأتفه سلعة بالية يستخدمونها.
فلكلّ مَنْ ينادي بحقوق المرأة في العالم نقول : ادرس الإسلام وقوانين وتشريعات الإسلام في هذا الباب ؛ فإنّك ستجد أنّه أعطاها كامل حقوقها ، ونظَّم لها حياتها ، وحفظها من كلّ أذى حتّى العيون الطامحة أو النفوس الطامعة ، ووضعها في مكانها الذي خلقها الله له ، كأساس ومدير لأعظم لبنة في المجتمع ، ألا وهي الأسرة.
*الحسين عليهالسلام وبطلة كربلاء زينب عليهاالسلام
وإذا يمّمنا بنظرنا إلى ما نحن بصدده ، واتّجهنا بأرواحنا وعيوننا إلى أرض الطفوف ومَنْ عليها ، فإنّنا سنجد أنّ النساء كنَّ مرافقات للرجال ومساويات لهم ؛ لأنّ فيهنّ السيّدة العظيمة الجليلة زينب الكبرى (سلام الله عليها) شقيقة القائد الأعلى الإمام الحسين عليهالسلام ، وفيهنّ زوجته الرباب ، وابنته سكينة ، وكذلك زوجات الأبطال والمقاتلين وحتى العبيد والإماء.فللمرأة حضور عظيم جدّاً في كربلاء ، حتّى إنّ معظم الخطباء والعلماء الأجلاّء يذهبون إلى أنّ وجود المرأة في كربلاء كان ضرورة لبقاء المسيرة واستمرار المنهج ؛ لأنهنَّ كنَّ كالإعلام الذي نقل الأحداث بتفاصيلها المؤلمة ، مع ما يرافقها من بكاء ونواح وحتى العويل على الشهداء. وهذا ما جعل أخبار الفاجعة تنتشر في المجتمع الذي ينزلنَ فيه كالنار في الهشيم ، حتّى إنّ يزيد الطاغية اعترف بذلك. ويُقال : إنّ أوّل مجلس عزاء على سيّد الشهداء ِأقامته هند زوجة يزيد في الشام.
وأمّا موقف السيّدة العظيمة زينب الكبرى ، عقيلة بني هاشم ، في كربلاء ، ثمّ في الكوفة ، وحتى في الشام ، وخطبها الرنّانة التي فضحت فيها الحكومة الأمويّة بكلّ قوّة واقتدار ، حتّى إنّها خاطبت الحاكم الأموي الأعلى يزيد بن معاوية قائلة : (فو الله ، ما فريتَ إلاّ جلدكَ ، ولا حززت إلاّ لحمك ، ولَتردنّ على رسول الله صلىاللهعليهوآله بما تحمّلت من سفكِ دماء ذُرِّيته ، وانتهكتْ من حرمتهِ في عترتهِ).
وقالت : (ألا فالعجب كلّ العجبِ لقتلِ حزبِ الله النُجباء ، بحزبِ الشّيطان الطُّلقاء!).
ثمّ قالت : (ولئن جرّت عليّ الدّواهي مخاطبتك ، إنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، لكنّ العيون عبرى ، والصدور حرّى.
فكد كيدك ، واسعَ سعيك ، وناصب جهدك ، فو الله لا تمحو ذكرنا ، ولا تُميت وحينا ، ولا يرحض عنك عارها. وهل رأيك إلاّ فند ، وأيّامك إلاّ عدد ، وجمعك إلاّ بدد. يوم ينادي المنادي : ألاّ لعنة الله على الظالمين) (4).
مَنْ يستطيع أن يخاطب الحاكم في أيّ دولة من دول العالم بهذا الخطاب ، وبهذا الأسلوب والتحدّي ، وبهذه اللهجة القوية المليئة بالبلاغة والتقريع؟
لكنّها زينب بنت أبيها أمير المؤمنين علي عليهالسلام ، وأُمّها الزهراء عليهاالسلام التي وقفت بشموخ وجرأة أمام الخليفة الأوّل تطالب بفدك ، وخطبتها الصريحة الأُخرى في نساء الأنصار بعد ذلك.
نعم ، إنّها زينب السيّدة العظيمة التي كان يحترمها الحسين عليهالسلام أي احترام ، ويجلّها عظيم الإجلال ، ويقدّرها كبير التقدير ؛ فإنّه كان إذا دخلت عليه منزله ، أو خيمته في كربلاء وهو يقرأ القرآن فإنّك تراه يضع القرآن ، ويقف لها إجلالاً وإكباراً ، وكان لا يخاطبها إلاّ بكلّ احترام ، لما يعلمه من عظمتها ، ورفيع مكانتها عند الله.
فكانت لزينب عليهاالسلام مع إخوتها وقفات ووقفات ، لا سيما مع الإمام القائد ، ونائبه السيّد الجليل أبو الفضل العباس عليهالسلام. وهكذا ترى احترام الأئمّة عليهمالسلام للسيدة زينب عليهاالسلام ، وهذا هو الإمام زين العابدين عليهالسلام يقول لها : «عمَّة ، أنتِ بحمدِ الله عالمةٌ غير معلّمة ، وفهمةٌ غير مفهمّة» (5).
وأمّا سبي الحوراء فإنّها لمصيبة المصائب أن تُسبى وتُؤسر مثل السيّدة زينب عقيلة بني هاشم عليهاالسلام وسائر الهاشميّات والعلويّات ، وعلى العالم المتحضّر أن يُراجع أخلاقيّات الإمام الحسين عليهالسلام وأئمّة المسلمين ؛ ليتعلّم كيف يتعامل مع المرأة ، وكيف يعلّمها لتكون كزينب والرباب وسكينة ورملة وليلى (عليهنّ السّلام).
إذاً ، فالإمام القائد عليهالسلام لم يصرخ أو يأمر أو ينهر تلك النساء من حوله ، بل كان لهنّ البلسم الشافي ، والأدب الراقي ، والنور الساطع ، وكلّ ذلك بأخلاقه الفاضلة.
*الحسين عليهالسلام وزوجة النصراني
ولدينا صور أُخرى عن مناقبيّات سبط الرسول الحسين عليهالسلام مع النساء في يوم عاشوراء ، كأُمّ وهب التي رافقته مع زوجها النصراني المؤمن الذي قُتل مع زوجته ، وكانت من قبل تنهاه عن الالتحاق بالإمام الحسين عليهالسلام ؛ لأنّه عريس جديد وشاب نضر.فإنّك تجد الإمام القائد عليهالسلام يخاطبهنّ بهذا الخطاب : «يا أمة الله ، عودي إلى الخيام رحمك الله ؛ فإنّه ليس على النساء جهاد. أما ترضينَ أن تكوني مع زينب والرّباب»(6).
وهكذا فإنّ الأخلاق الإسلاميّة التي جسّدها الحسين عليهالسلام كانت حاضرة بكلّ دقّة ورقّة في جنبات كربلاء ، لا سيما في أيّام عاشوراء. فأبو الفضل العباس عليهالسلام كانت أمنيته أن يوصل الماء إلى النساء والأطفال في ذلك اليوم ، والإمام عليهالسلام ترك الماء عندما قال له ذاك الجلف : تتلذّذ بالماء البارد وقد هجموا على خيامك وهتكوا حريمك؟
فالغيرة والحميّة والعفة ، وجميع المفردات الأخلاقيّة كانت حاضرة عند الإمام ولم يفته منها شيء ، ولو تتبّعناها لطال بنا الحديث ، ولكنّ نباهة القارئ تكفي المؤونة.
*رجال في كربلاء ، العبيد نموذج
إنّ عادة الرقّ وحياة العبيد كانت سائدة وبكثرة في تلك الأيّام ، وعندما جاء الإسلام العظيم فإنّه أولى هذه المسألة اهتماماً كبيراً لتحرير اُولئك العبيد الأرقاء. فهناك الكثير من الكفّارات وغيرها تحضّ على تحرير الرقاب من رقّ العبوديّة ، ورفع تلك القيود عن كواهلهم.وفي كربلاء كان للعبيد حضور خاصّ ؛ لأنّهم شاركوا وسطّروا ملاحم بطولية كالسادة تماماً ، وهنا نأخذ صورة العبد (جون) الذي كان يخدم الصحابي الجليل أبا ذرّ الغفاري (رضوان الله عليه) ، ثمّ انتقل إلى خدمة الإمام الحسين عليهالسلام ، ورافقه إلى كربلاء ، وتحمّل معه عناء الطريق كلّه ، ولا أحد يعلم ما يفكّر به هذا الرجل العبد.
وعندما سقط أصحاب الحسين عليهالسلام شهداء ، تقدّم هذا العبد إلى أبي الأحرار الحسين عليهالسلام بكلّ تواضع وخشوع يستأذنه للنزول إلى ميدان القتال ، إلاّ إنّ الإمام أراد أن يردّه ردّاً أخلاقيّاً لطيفاً ؛ لكي لا يجرح شعوره ، فقال له بكلّ حبّ وحنان وتقدير : «يا جون ، إنّما تبعتنا طلباً للعافية ، فأنت في إذن منّي» ، أو «فلا تبتلِ بطريقنا» (7).
فأنت أتيت معنا على الصحة والحياة والعيش الكريم ، وأمّا الآن فإنّه الموت الزؤام الذي لا بدَّ منه ، فأين ترمي بنفسك؟ ولعلك خجلت أو استحييت من موقفك ، فأنّا أعذرك وأقدّر لك هذا الموقف ، ولكن أنت في حلّ من ذلك كلّه ، فاذهب وعش حياتك كما تريد.
فوقع جون على قَدَمي الإمام القائد يقبّلهما وهو يقول : يابن رسول الله ، أنا في الرخاء ألحسُ قصاعكم ، وفي الشدّة أخذلكم! والله ، إنّ ريحي لَنَتنٌ ، وحَسَبي لَلئيم ، ولوني لأسود ، فتنفّس عليَّ بالجنّة ؛ ليطيب ريحي ، ويشرف حسبي ، ويبيضَّ لوني ، لا والله ، لا أُفارقكم حتّى يختلط هذا الدمّ الأسود مع دمائكم (8).
ألم أقل لك إنّ كربلاء وعاشوراء استثناء منقطع النظير في التاريخ كلّه ، فمَنْ يقف مثل هذا الموقف العظيم؟! ما هو السبب الذي يجعل هذا العبد رهن إشارة المولى؟! إنّه يعرف نفسه جيداً ، وإنّ طموحه كبير ، وأمله عظيم ؛ لأنّه محدِّقٌ بنظر من حديد إلى مكانة سامية في جنان الخلد ، ورضى الربّ وجنّة القرب ؛ لذا تراه يرفض العيش ، بل ويطلب الموت العاجل. وعندما سمع سيّد الشهداء الحسين عليهالسلام كلامه ، أذن له بالنزول إلى المعركة ، فسطّر ملحمته بحروف من نور ، وكتب وثيقة وفائه وصدقه وإخلاصه بدمه الطاهر الزكي.
وحينما استشهد وسقط على الأرض ذهب إليه المولى أبو عبد الله الحسين عليهالسلام ، ودعا له بهذه الكلمات التي تفيض عذوبة ولطافة : «اللّهمّ بيّض وجهه ، وطيّب ريحه ، واحشره مع محمد صلىاللهعليهوآله ، وعرّف بينه وبين آل محمد صلىاللهعليهوآله».
فكان كلّ مَنْ يمرّ بالمعركة يشمّ منه رائحة طيّبة أزكى من المسك (9).
إنّ مناقبيّات سيّد الشُّهداء الحسين بن علي عليهماالسلام كانت عظيمة جدّاً مع هؤلاء الكوكبة من العبيد الذين فاقوا على الكثيرين من اُولئك الذين فاتتهم المسيرة الحسينيّة ، وهم في أعلى مراتب الإسلام كعبد الله بن العباس وغيره من أعلام الإسلام.
وكُتب السيرة والمقاتل تروي أنّ الإمام عليهالسلام كان كلّما سقط واحد من هؤلاء العبيد يذهب إليه ويرفع رأسه ويحتضنه رقةً وحُبّاً به ، فكان يودّع الدنيا وهو في حجر الحسين عليهالسلام.
فلمّا صُرع واضح التركي مولى الحرث المذحجي استغاث بالحسين عليهالسلام فأتاه أبو عبد الله واعتنقه ، فقال : مَن مثلي وابن رسول الله صلىاللهعليهوآله واضع خدّه على خدّي؟! ثمّ فاضت نفسه الطاهرة .
وكذلك كان حال أسلم مولى الحسين عليهالسلام حيث مشى إليه واعتنقه وكان به رمق ، فتبسّم وافتخر بذلك ومات (10).
تلك هي الأخلاق الإسلاميّة العظيمة التي لا تفرّق بين عبد رقيق وسيّد جليل ، ولا بين أبيض وأسود ، بل إنّ التفاضل بالأعمال والتقوى وليس بالأحساب والأنساب.
فأين اُولئك الذين يدَّعون الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان؟!
هلاّ قرؤوا الإسلام الحنيف وأخلاقيّات أهل البيت الأطهار عليهمالسلام ، لا سيما أخلاقيّات عاشوراء وكربلاء التي سطّرها سيد الشهداء الحسين بن علي عليهماالسلام على أرض الواقع ، فرسخت في القلوب المؤمنة وعافتها النفوس الخبيثة؟!
*أصحاب الحسين عليهالسلام وصور من الوفاء
تبقى المسيرة متعثّرة ما لم تسعفها أخلاق القيادة الرساليّة والوفاء من الجند والأصحاب ، وهذا ما يجب أن يتبادله القائد ومَنْ هم تحت قيادته وإمرته ؛ لأنّ حبّ القائد يعني حبّ القضية والوفاء لها وإيثارها على النفس والغير.وعاشوراء سجّلت على أرض كربلاء ملاحم بطوليّة بدماء الشهداء الزكيّة ، وأبرزت كلّ معاني الوفاء ، وأعظم صور الأخلاق ، وأرفع أوسمة القيم المثاليّة في الحياة الإنسانيّة ، وذلك مع جميع الشهداء من الأهل والأقرباء وحتى الأصحاب والعبيد والإماء.
هذا البطل زهير بن القين ، يقف أمام الحسين عليهالسلام ويضع يده على كتفه ، ويقول :
أقدم هديت هادياً مهديّا / فاليوم ألقى جدّك النبيّا
وحسناً والمرتضى عليّا / وذا الجناحين الفتى الكميّا
وأسد الله الشهيد الحيّا
فيقول له الإمام : «وأنا ألقاهم على أثَرِكَ».
هذه من صور الوفاء الخالدة ، ولكن أين الوسام الأخلاقي المقابل؟
إنّه من الحسين بن علي عليهالسلام القائد الذي وقف على جسد زهير بعد شهادته ، يقول له :
«لا يُبعدنّك الله يا زُهير ، ولعن الله قاتليك ؛ لَعْنَ الذين مُسخوا قردةً وخنازير» (11).
إليك هذا القائد التاريخي لجناح الحسين عليهالسلام الذي كبر سنّه في طاعة الله ، وقضى نحبه بين يدي ابن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فكان ممّن يستحق الخلود كشامة على خدود الدهر.
إنّه حبيب بن مظاهر الأسدي الذي كان من أصحاب أمير المؤمنين عليهالسلام ومن شرطة الخميس ، وكان نافذ البصيرة ، صلب الإيمان ، ويصفه المؤرّخون بالوفاء ؛ إذ أنّه كان يوم الطفّ من أشدّ أصحاب الإمام سروراً وغبطة بما يصير إليه من الشهادة بين يدي ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقد برز وهو يقول :
أنا حبيب وأبي مظهّر / فارس هيجاء وحرب تسعر
وأنتم منّا لعمري أكثر / ونحن أوفى منكم وأصبر
ونحن أعلى حجّة وأظهر / حقّاً وأبقى منكم وأعذر
إذن هو وفيٌّ لمبدئه ، ودينه وعقيدته ، وبالتالي لقائده وإمامه وسيّده ؛ ولذا كان صاحب الوسام الرفيع ، لأنّ هذا البطل قد هدَّ مقتله الحسين عليهالسلام كما يقول المؤرّخون ؛ ولذا وقف القائد العظيم على الجسد المقطّع فاسترجع كثيراً ، وقال : «عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي» (12).
فالوفاء من الجندي يقابله أخلاق عالية ، وأوسمة رفيعة من القائد.
وقصّة الحرّ الرياحيّ التائب ، ووداع الإمام له وشهادته له بأنّه حرٌّ في الدنيا والآخرة تكفيه ، وإنّه نِعْمَ الرجل كان.
وكذلك برير بن خضير ، ذاك العابد الزاهد ، المعلّم للقرآن في مسجد الكوفة الذي دعا صاحبه إلى المباهلة في قلب المعركة لولاية أمير المؤمنين عليهالسلام ، ورغم كبر سنّه ، وجلالة قدره فإنّه تعارك مع خصمه رضي بن منقذ العبدي فصرعه وجلس على صدره ، فاستغاث هذا برجل من أصحابه ، فقال له عفيف بن زهير : هذا برير بن خضير القارئ الذي كان يقرئنا القرآن في جامع الكوفة.
فلم يلتفت إليه فقتل بريراً بالرمح ، وعاد إليه بالسيف فقتله ، وذهبت روحه إلى بارئها طاهرة زكيّة.
وعاد عدوّه إلى بيته فاستقبلته زوجته النوار قائلة : أعنت على ابن فاطمة ، وقتلت سيّد القرّاء ، لقد أتيت عظيماً من الأمر! والله لا أكلّمك من رأسي كلمة أبداً (13).
حبّ الحسين عليهالسلام أجنّني
وقبل أن أدعك وأودّعك من هذا الفصل ، لا بأس بأن نذكر عملاقاً من عمالقة كربلاء ؛ لنستأنس ونتبارك بسيرته العطرة.
كان عابس بن شبيب رئيساً من رؤساء همدان الخير ، وخطيباً من خطباء العرب ، وناسكاً في العبادة ، ومجتهداً في الدين ، إنّه من رجال الشيعة المعروفين ، ولا غرو فهذا ديدن بني شاكر ، فكلّهم كانوا مخلصين بولايتهم لأمير المؤمنين علي عليهالسلام ، ولقد قال فيهم الإمام علي عليهالسلام في صفين : «لو تمّتْ عدّتهم ألفاً لعُبد الله حقَّ عبادته».
وكانوا من شجعان العرب المشهورين ، وحماتهم المعروفين ؛ ولذا لقبوا بـ (فتيان الصباح) ، وعابس هذا كان من أكابرهم ورجالاتهم الرفيعة الشأن ، وما أن قدم مسلم بن عقيل عليهالسلام الكوفة حتّى بايعه وراح يساعده في جميع شؤونه.
وفي يوم الطفّ وقف أمام سيّد الشهداء ليودعه بهذه الكلمات التي تشعّ محبّة وفخاراً ، وتنضج بالولاء والوفاء : ما أمسى على ظهر الأرض ، قريب ولا بعيد ، أعزّ عليَّ منك ، ولو قدرت أن أدفع الضيَّم عنك بشيء أعزّ عليّ من نفسي لفعلت. السّلام عليك ، اشهد لي أنّي على هداك وهدى أبيك. ومشى بالسيف نحو القوم.
قال ربيع بن تميم : فلمّا رأيته مقبلاً عرفته ، وقد كنت شاهدته في المغازي فكان أشجع الناس ، فقلت للقوم : أيّها الناس هذا أسد الأسود ، هذا ابن شبيب لا يخرجنّ إليه أحد منكم.
فأخذ ينادي : ألا رجل ، ألا رجل لرجل؟! فتحاماه الناس لشجاعته المعروفة ، فقال لهم عمر بن سعد وكان قريباً منهم : ويلكم! ارضخوه بالحجارة (اضربوه بها بشدّة وقسوة).
فرموه بالحجارة من كلّ جانب ، فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره وشدَّ على القوم ، فصاح به أحد أصحابه : ما لك يا عابس هل جُننتْ؟!
فقال البطل المغوار : نعم ، حبُّ الحسين أجنّني (14).
وهنا شاهدي : لماذا تعلّق هذا الرجل الشجاع بالإمام الحسين عليهالسلام إلى هذه الدرجة؟! لماذا أحبّه حتّى الجنون؟!
هل يمكن لأحدٍ أن يشتري الحبّ؟! وهل يمكن أن يرغم قلبه على حبّ مَنْ لا يحبّ؟ وقد تسألني : وهل القلب باليد أم أنّ أمره بيد الربّ تعالى؟
نعم ، الحبّ في القلب ، والقلب يتقلّب بيد الربّ سبحانه ، ولا أحد يستطيع أن يحبّ أو يكره بإرادته ومتى شاء وأراد ، فهذا أمر متعذّر ؛ ولذا قال أمير المؤمنين علي عليهالسلام : «لو ضربت خيشومَ المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ، ولو صببتُ الدنيا بجمّاتها على المنافق على أن يُحبّني ما أحبّني» (15).
والإنسان يمتلك القلوب بالإحسان والأخلاق الفاضلة والقيم السامية ، والمولى أبو عبد الله الحسين عليهالسلام الذي مثَّل خُلق القرآن والإسلام والرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله في كلّ أيّام حياته ، أسر القلوب ، وسكن أفئدة المؤمنين ، لا سيما أصحابه الذين كانوا معه في كربلاء ، ولا عجب أن يصرّح عابس بن شبيب بهذه الحقيقة العاشورائيّة.
المصادر :
1- سورة الروم : الآية 21.
2- سورة النحل : الآية 58 ـ 59.
3- التهذيب 7 ص 1470 ، بحار الأنوار 43 ص 107.
4- موسوعة بحار الأنوار 45 ص 134.
5- موسوعة بحار الأنوار 45 ص 164 ، الاحتجاج 2 ص 305.
6- الاحتجاج 2 ص 305..
7- اللهوف ص 47 ، مثير الأحزان ص 63 ، العوالم 17 ص 265.
8- اللهوف ص 47
9- مقتل الحسين ـ للمقرّم ص 252 ، العوالم ص 88.
10- مقتل الحسين ـ للمقرّم ص 249 ، مقتل الخوارزمي 2 ص 24.
11- تاريخ الطبري 6 ص 253.
12- حياة الإمام الحسين بن علي 3 ص 221 ، تاريخ الكامل ـ لابن الأثير 3 ص 292 ، تاريخ الطبري 6 ص 251.
13- مقتل الحسين ـ للمقرّم ص 250.
14- المصدر السابق.
15- نهج البلاغة ـ قصار الحكم ، رقم 45.