قصّة الإمام الحسين عليهالسلام مع حميدة طفلة مسلم بن عقيل حين جاء خبر شهادته للإمام عليهالسلام كيف تصرّف معها؟ هل كان تصرّفه كقائد سياسي أو عسكري؟ أم أنّه تصرّف كإنسان ، بل كأب عطوف رؤوف قلَّ نظيره في التاريخ الإسلامي؟!
إنّه كان لمسلم بن عقيل طفلة وحيدة يُقال لها : حميدة. كانت مع عيالات العلويّين في ركب الإمام الحسين عليهالسلام ، وعندما جاء خبر الفاجعة بمسلم ذهب الإمام عليهالسلام إلى خيمة النساء ونادى بأخواته : «أن أعطوني حميدة».
فلمّا جاءت أخذها واحتضنها ، ووضعها في حجره ، وراح يمسح على رأسها ، وعيناه الشريفتان المباركتان تدمعان ، فأحسّت الطفلة بالخطر ، وحلول نازلة وشر ، فقالت : يا عمّ ، لماذا تمسح على رأسي كاليتامى؟! هل حدث لوالدي شيء؟
فقال عليهالسلام : «يا ابنتي ، أنا أبوكِ ، وبناتي (فاطمة وسكينة) أخواتك» (1).
وهكذا ضجّت النساء بالبكاء والعويل على مسلم بن عقيل. فهل لك أن تتصوّر هذه الرقّة الأبويّة ، والعطف السّامي ، والمحبّة الرفيعة للإمام الحسين عليهالسلام مع هذه الطفلة المفجوعة بأبيها؟!
فيا قادة العالم السياسي ، هكذا يكون القائد السياسي الحقيقي للأُمّة ، وهو والد شفوق ، وأخ رؤوف لشعبه ، ومَنْ هم تحت حكمه وسلطته ، وليس سيّداً وهم عبيد أرقّاء ، أو أنّه من جنس سامٍ وهم من جنس آخر دانٍ ، أو أنّه سبعٌ ضارٍ وهم شياه وأحمال وديعة يفعل فيها ما يشاء كيف يشاء متى يشاء؟!
ويا أيّها القادة العسكريون ، تعلّموا من الحسين بن علي عليهماالسلام كيف يكون القائد الناجح في معارك الشرف والكرامة ، وتعاملوا مع مرؤوسيكم وجنودكم بأخلاق الحسين عليهالسلام ، وبما تعامل به مع جنده والذين كانوا تحت قيادته المظفّرة ؛ حتّى يفدوكم ويدافعوا عنكم كما دافعوا عن الحسين عليهالسلام ، وفدوه وأهله من كلّ سوء حتّى استشهدوا جميعاً قبل أن تصل إلى قائدهم الحسين جراحة واحدة.
هكذا يعلمنا أبو عبد الله عليهالسلام ، فانظروا إلى مَنْ وعى رسالة الحسين عليهالسلام في أمسنا المعاصر ، كيف نجح وحرّر شعبه وبلاده ، ذاك زعيم الهند غاندي الذي قال : (تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر).
موقف الأصحاب من قائدهم ليلة عاشوراء
وهذه واقعة أُخرى عجيبة ، وموقف لم يسجّل التاريخ مثله من نُبل وأخلاق الإمام الحسين عليهالسلام وشجاعته ، ووفاء الأهل والأصحاب الكرام ، وأتحدّى مَنْ يستنطق التاريخ كلّه أن يأتي بمثل هذا الموقف في ليلة عاشوراء.
يروى أنّه نهض عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى الحسين عليهالسلام عشية الخميس لتسع مضين من المحرَّم ، ثمّ نادى : يا خيل الله اركبي ، وبالجنّة أبشري!
تصوّر يا عزيزي هذا الشيطان الرجيم الذي ينادي بالخيول أن تركب لقتال ابن رسول الله صلىاللهعليهوآله وسيّد شباب أهل الجنّة ، ويلقّبها (بخيل الله) ، وهي (خيول يزيد) ، ويبشّرها بالجنّة ، ولكن ليس جنّة الله ، وإنّما جنّة بني أُميّة ؛ لأنّ الذين يقاتلونه هو الإمام الحسين عليهالسلام ، وهو سيّد شباب أهل جنّة الله.
وزحف جيش ابن سعد نحو معسكر الإمام بعد العصر ، والحسين عليهالسلام جالس أمام خيمته محتبٍ بسيفه ، إذ خفق برأسه على ركبتيه ، فسمعت أخته الضجّة فدنت من أخيها ، وقالت : (يا أخي ، أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟)
فرفع الحسين عليهالسلام رأسه فقال : «إنّي رأيتُ رسول الله صلىاللهعليهوآله الساعةَ في المنامِ وهو يقولُ لي : أنّك تروح إلينا».
فلطمت أخته وجهها ، ونادت بالويل. فقال لها الحسين عليهالسلام : «ليس لكِ الويل يا أخيّة ، اسكتي رحمكِ الله».
ثمّ قال له العباس بن علي : (يا أخي ، أتاك القوم).
فنهض ثمّ قال : «يا عباس ، اركب بنفسي أنتَ يا أخي حتّى تلقاهم ، وتقول لهم : ما لكم ، وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم».
فأتاهم العباس في نحو من عشرين فارساً ، فيهم زهير بن القين وحبيبب بن مظاهر ، فقال لهم العباس : (ما بدا لكم ، وما تريدون؟).
قالوا : قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمة أو نناجزكم.
فقال : (فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم).
فوقفوا وقالوا : القه فأعلمه ، ثمّ القنا بما يقول لك.
فانصرف العباس راجعاً يركض إلى الحسين عليهالسلام يخبره الخبر ، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم ويكفّونهم عن قتال الحسين عليهالسلام.
فجاء العباس إلى الحسين عليهالسلام فأخبره بما قال القوم.
فقال عليهالسلام : «ارجع إليهم ، فإن استطعت أن تُؤخّرهم إلى غدوة ، وتدفعهم عنّا العشيّة ؛ لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أنّي قد كنت أحبُّ الصلاة له ، وتلاوة كتابه ، وكثرة الدعاء والاستغفار».
فمضى العباس إلى القوم ، ورجع من عندهم ومعه رسول من قبل عمر بن سعد يقول : إنّا قد أجّلناكم إلى غدٍ ، فإن استسلمتم سرحّناكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد ، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم ، وانصرف. فجمع الحسين عليهالسلام أصحابه عند قرب المساء.
قال علي بن الحسين زين العابدين عليهالسلام : «فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم ، وأنا إذ ذاك مريض ، فسمعتُ أبي يقول لأصحابه :
«أُثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السّرّاء والضّرّاء. اللّهمّ إنّي أحمدك على أن كرّمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن ، وفقّهتنا في الدّين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً فاجعلنا من الشاكرين.
أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيراً ، ألا وإنّي لا أظنّ يوماً لنا من هؤلاء ، ألا وإنّي قد أذنت لكم ، فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم منّي ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً».
فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر : لِمَ نفعل ذلك لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً! بدأهم بهذا القول العباس بن علي عليهالسلام وتبعه الجماعة عليه فتكلّموا بمثله ونحوه.
فقال الحسين عليهالسلام : «يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم فاذهبوا أنتم فقد أذنتُ لكم».
قالوا : سبحان الله! فما يقول الناس؟ يقولون إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرمِ معهم بسهمٍ ، ولم نطعن معهم برمحٍ ، ولم نضرب معهم بسيفٍ ، ولا ندري ما صنعوا! لا والله ، ما نفعل (ذلك) ، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ، ونقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك.
وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال : أنحن نُخلّي عنك! وبِمَ نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟ أمّا والله ، حتّى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة. والله ، لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك.
أمّا والله ، لو قد علمتُ أنّي أُقتل ثمّ أُحيى ، ثمّ أُحرق ثمّ أُحيى ثم أُذرى ، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك. فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟
وقام زهير بن القين رحمهالله فقال : والله ، لوددتُ أنّي قُتلت ثم نُشرت ثمّ قُتلت ، حتّى أُقتل هكذا ألف مرّة ، وأنّ الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.
وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد ، فجزاهم الحسين عليهالسلام خيراً».
وقيل لمحمد بن بشير الحضرمي في تلك الحال : قد أُسر ابنك بثغر الرّي.
فقال : عند الله أحتسبه ونفسي ، ما كنت أحبّ أن يؤسر وأنا أبقى بعده.
فسمع الحسين عليهالسلام قوله ، فقال : «رحمكَ الله ، أنتَ في حلٍّ من بيعتي ، فاعمل في فكاكِ ابنك».
فقال : أكلتني السبِّاع حيّاً إن فارفتك.
قال : «فأعطِ ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها فداء أخيه». فأعطاه خمسة أثوابٍ قيمتها ألف دينار.
قال الراوي : وبات الحسين عليهالسلام وأصحابه تلك الليلة ولهم دويّ كدويّ النحل ، ما بين راكع وساجد ، وقائم وقاعد ، فعبر إليهم ـ أي التحق بهم ـ في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً (2).
هذا هو المؤتمر الموسَّع الذي ضمَّ جميع أفراد جيش الحقّ والخير ، جيش الإيمان والتقوى ، الجيش الذي يقوده ويرأسه الإمام الحسين السبط عليهالسلام ، وفي آخر ليلة له في هذه الدنيا الدنيّة.
هل سمعت بمثله أيّها القارئ المنصف؟ وهل قرأ أحرار العالم شبيه ذلك؟!
نعم ، هذا هو الحسين بن علي عليهماالسلام ، وعظمة شخصه ، وسموّ أخلاقه وإنسانيّته التي لا تُحد ، وعطفه الذي لا يوصف؟
الإمام الحسين عليهالسلام يعلم علم اليقين أنّه مقتول بسيوف بني أُميّة وزبانيتهم ، وكلّ مَنْ سيبقى معه مصيره الشهادة وقطع الرؤوس والدوران بها في البلاد ، والتمثيل بجثثهم على رؤوس الأشهاد ؛ ولذا فإنّه (صلوات الله عليه) ولعظيم تديّنه وأخلاقيّة نهضته ، أراد أن يحلّ الجميع من البقاء معه ؛ لأنّه ربّما كان بينهم مَنْ يرى أنّ حياته في الأُمّة الإسلاميّة وبين ظهرانيّها أنفع له ولأهله كما يظنّ البعض ، فتمنعه البيعة والالتزام بها ، والشرف والكرامة والأنفة ، والشجاعة والشهامة ، وغير ذلك من الصّفات الإنسانيّة الحميدة من التخلّف عن القتال مع الإمام ، فأراد عليهالسلام أن يكون واضحاً وصريحاً معهم منذ البداية وحتى هذه الليلة. وهذا الموقف الذي أكّد لهم فيه أنّه مقتول ، وأنّ حكّام بني أُميّة لا يطلبون إلاّ نفسه الزكيّة وشخصه الكريم ، وإذا ما وصلوا إليه ذُهلوا عن البقيّة الباقية ، وتركوهم ولم يبحثوا عنهم ، فيتفرّقون في الأمصار والبلدان إلى أن يأتيهم الأجل المحتوم.
إنّها العظمة ، الإيمان ، التقوى ، القيم الإنسانيّة العظيمة ، يريد عليهالسلام أن لا يكون مسؤولاً عن شهادة أحد من أصحابه دون رويّة ووضوح رؤية وبصيرة ، يريدهم جميعاً أن يكونوا مخلصين لله ، وليس لشخص الإمام الحسين عليهالسلام ، رغم أنّه يستحق أن يُفدى بأغلى وأثمن ما في الوجود ، أرادهم لله خالصين مخلصين.
قد يُقال : عند هجوم القوم عصر التاسع من شهر محرّم يَطلب الإمام منهم رخصة لليلة فقط ، لماذا؟ هل هي مهلة للتفكير أو التدبير ، أو تقدير المصير؟ أم أنّها مهلة للاستسلام للحاكم الظالم كما ظنَّ الكثير من جهّال العراق آنذاك؟ أم هي فرصة للهروب والفرار في ذلك الليل البهيم خوفاً من التحدّي والمواجهة؟
لماذا هذه المهلة إذن؟!
كلّ تلك الحسابات لم تكن في فكر ، ولا دارت في خلد الإمام الحسين عليهالسلام ، ولا حتّى أحد من أصحابه البررة ، بل المهلة للصلاة والعبادة ، والدعاء وقراءة آيات من القرآن الكريم والاستغفار ، وليس لأيّ شيء آخر. هكذا يكون الرّسالي الربّاني ، القائد الإلهي ، يطلب مهلة عن الموت ؛ لكي يتهيّأ أصحابه وأهل بيته للقاء الربّ الجليل ، فهل هو بحاجة لذلك كلّه؟!
لا ، الإمام الحسين عليهالسلام ليس بحاجة لهذه الصلاة أو الدعاء أو الاستغفار ، بل لأنّ الله يعلم أنّ الإمام الحسين عليهالسلام «يحبّ الصلاة له ، وتلاوة كتابه ، وكثرة الدعاء والاستغفار». إذن الصلاة بالحبّ ، وحبّ الصلة بالله العزيز الحميد ، وتلاوة الكتاب فيه لذّة ما بعدها لذّة ؛ لأنّه كلام ربّ العالمين ، وتلاوته تعني مخاطبة الله لتاليه.
والدعاء : هو خطاب من العبد إلى المعبود مباشرة.
فكم أنت عظيم يا سيدي ويا مولاي يا أبا عبد الله ، كم أنت محبٌّ لله عابد له؟!
الإمام عليهالسلام والصلاة تحت الأسنّة
إنّ الصلاة ـ الصلة الحقيقية بين العبد وربّه ـ لها وقعٌ خاصّ ، وشأنٌ رفيع ، ومكانة سامية في قاموس الأولياء والعظماء ، لا سيما وأنّ الحبيب المصطفى صلىاللهعليهوآله كان يقول : «حُبّبَ إليّ من دُنياكم ثلاث ... وجعلت قرّة عيني في الصلاة» (3).
ولذا فإنّ قصص الأئمّة من أهل البيت الأطهار عليهمالسلام مع الصلاة عجيبة وغريبة ، لا سيما وأنّ أمير المؤمنين علي عليهالسلام كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة ، وحفيده الإمام زين العابدين علي بن الحسين لقّب بالسجاد عليهالسلام لكثرة صلاته وسجوده.
وأمّا المولى أبو عبد الله الحسين عليهالسلام فإنّه كان يحبّ الصلاة ، ومَنْ أحبَّ شيئاً بادر إليه ، ووالده العظيم حينما وقف في ليلة الهرير المشهورة في حرب صفين وراح يصلّي ، استنكر عليه أحد القوم فقال له : صلاة في مثل هذا اليوم (الوقت) يا مولاي؟!
فقال عليهالسلام : «على ماذا إذنْ نُقاتلُ القَوم؟!». أليس على الصلاة ، فإذا تركنا الصلاة فلا داعي للحرب والقتال ؛ لأنّنا سنكون مثلهم تماماً في ترك الصلاة أو تأخيرها.
وهكذا عندما حلّ وقت الزوال في يوم عاشوراء وهم في حلبة المعركة ، جاء أبو ثمامة الصيداوي إلى الحسين عليهالسلام وقال : يا أبا عبد الله ، نفسي لنفسك الفداء ، هؤلاء اقتربوا منك ، لا والله لا تُقتل حتّى أُقتل دونك ، وأحبّ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة.
فرفع الحسين عليهالسلام رأسه إلى السماء ، وقال : «ذكرتَ الصلاة ، جعلك الله من المصلِّين الذّاكرين. نعم ، هذا أوّل وقتها». ثمّ قال : «سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نُصلّي».
فقال الحصين بن نُمير : إنّها لا تُقبل. (تصوّر أنّ صلاة الإمام الحسين عليهالسلام لا تقبل عند هذا)!
فقال حبيب بن مظاهر الأسدي : لا تُقبل الصلاة كما زعمت من ابن بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله وتقبل منك يا ختَّار (يا حمار)!
فحمل عليه حصين بن نُمير ، وحمل عليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فشبَّ (وثب) به الفرس ووقع عنه الحصين ، واستنقذه أصحابه.
فقال الحسين عليهالسلام لزهير بن القين ، وسعيد بن عبد الله : «تقدّما أمامي حتّى أصلّي الظهر». فتقدّما أمامه في نصف أصحابه حتّى صلّى بهم صلاة الخوف (4).
ووقف البطل سعيد بن عبد الله الحنفي أمام الإمام الحسين عليهالسلام درعاً ووقاية له أثناء الصلاة ، ولمّا أُثخن بالجراح سقط على الأرض ، وهو يقول : اللّهمَّ العنهم لعن عاد وثمود ، وأبلغ نبيّك منّي السّلام ، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح ؛ فإنّي أردت بذلك ثوابك في نصرة ذريّة نبيّك صلىاللهعليهوآله. والتفت إلى الحسين عليهالسلام قائلاً : أوفيتُ يابن رسول الله؟
قال عليهالسلام : «نعم ، أنتَ أمامي في الجنّة».
وقضى نحبه ، وارتفعت روحه إلى ربِّه ، فوجدوا فيه ثلاثة عشر سهماً غير الضرب بالسيف والطعن بالرمح. حقاً هكذا تصنع العقيدة أبطالاً يفخر بهم التاريخ ، وتخلّدهم الأُمم.
ولما فرغ الإمام الحسين عليهالسلام من الصلاة قال لأصحابه :
«يا كرام ، إنّ هذه الجنّة قد فُتحت أبوابُها ، واتّصلت أنهارها ، وأينعت ثمارُها ، وهذا رسول الله والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله يتوقّعون قدومكم ويتباشرون بكم ، فحاموا عن دين الله ودين نبيّه ، وذبّوا عن حرم الرسول صلىاللهعليهوآله».
فقالوا : نفوسنا لنفسك الفداء ، ودماؤنا لدمك الوقاء ، فو الله لا يصل إليك وإلى حرمك سوء وفينا عرق يضرب (5).
هكذا تكون العبادة والصلاة ، وهكذا يكون الأصحاب الأوفياء ؛ ولذا استحقوا جميعاً ، وبكلّ فخر وجدارة شهادة الإمام الحسين عليهالسلام لهم ، وتقليدهم بذلك الوسام الرفيع العالي الذي يحقّ لهم أن يعلّقوه على صدر السماء التي كتبت أسماءهم من نور ، حيث قال لهم مولاهم وقائدهم : «فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي».
فمَنْ كمسلم بن عوسجة الأسدي الذي قال في المؤتمر : والله ، لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسوله صلىاللهعليهوآله فيك. أما والله ، لو قد علمتُ أنّي أُقتل ثمّ أُحيى ، ثمّ أُحرق ثمّ أُحيى ثمّ أُذرى ، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك.
ومَنْ كزهير بن القين الذي قال : والله ، لوددتُ أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ، ثمّ قُتلت ، حتّى أُقتل هكذا ألف مرّة.
وأمّا ذاك البطل الذي أُسر ولده عند العدوّ يقول : أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك.
ألا يستحق مثل هؤلاء الأبطال مثل ذاك الوسام الرفيع؟! بلى والله ، إنّه لهم وليس لأحد غيرهم ، فكم هو الفرق بين هؤلاء الأصحاب الكرام ، وغيرهم من رجال الإسلام الذين صحبوا رسول الله صلىاللهعليهوآله وبعد أيام قتلوا ابنته الوحيدة ، بعد أن عصروها بالباب ، وكسروا ضلعها ، وأسقطوا جنينها ، وضربوا عضدها ، ولطموا خدّها ، وفعلوا ما فعلوا!
فهكذا تكون الصحبة ، وهكذا يكون الأصحاب ، وهؤلاء الكرام ليسوا من الشيعة فقط ، كما يظنّ الكثير من الناس الجهلاء بثورة الإمام الحسين عليهالسلام ونهضته العملاقة ؛ فإنّ فيهم السيّد الجليل ، والهاشميّ الأصيل ، والسنيّ النبيل ، وحتى المسيحي النصراني ، والحروري الخارجي ، إلى الكثير من العبيد والأرقّاء ، والأطفال والنساء.
فنهضة الإمام الحسين عليهالسلام كانت أمميَّة شاملة وليست فئوية ضيّقة ، كما يظنّها البعض من قصيري النظر ، وقليلي العلم والثقافة بالنهضة الحسينيّة المباركة ، وسنتحدّث عن هذا في بحث السّلام فيما بعد بإذن الله.
المصادر :
1- مثير الأحزان ص 45.
2- إرشاد المفيد ص 230 ـ 232 ، اللهوف ص 40 ـ 41.
3- شرح نهج البلاغة 19 ص 341 ، بحار الأنوار 73 ص 141.
4- موسوعة البحار 45 ص 21 ، الكلمة ص 284.
5- مقتل الحسين ـ للمقرّم ص 246