
الإنسان هو القيمة العظمى في دين الإسلام ، والمحور الذي تدور على مصلحته الشريعة الإسلاميّة وجوداً وعدماً ، فعلينا أن نفسِّر كلّ نصّ من نصوصها على هذا الأساس ، وننفي كلّ حكم مدوّن في كتب الفقه الإسلامي ينحرف عن هذا الخطّ.
يقول أحد المحامين : الشرع الإسلامي أوّل الشرائع المدنيّة التي دوّنت الأخلاق ، وأعطت مفاهيمها قوّة القانون ، وجعلت الصدق والأمانة ، والوفاء والشرف والمروءة ، قوى موجّهة للحقّ ، بحيث إذا تجرّد منها انهدم ولم يُعد ملزماً بشيء.
إنّ أفق الشريعة الإسلاميّة أوسع آفاق الشرائع ؛ لأنّها تصدر عن العقل والأخلاق ، فكلّ ما يقرّره العقل السليم ، وتسمح به الأخلاق الفاضلة فهو من الشرع.
وإذا كان دين الإسلام هو دين الإنسانيّة جمعاء حقّاً وواقعاً ، فيجب أن يُشبع حاجات الإنسان بالكامل ، ولن يكون كذلك إلاّ أن تحرص شريعته على كلّ ما من شأنه أن يخدم الإنسان ويسير به إلى حياة أفضل ، علماً كان أو فنّاً ، أو فلسفة أو أخلاقاً (1).
وعليه فإنّك تجد أنّ الشريعة الإسلاميّة هي أكمل الشرائع وأسهل القوانين لتنظيم وتقويم الحياة البشريّة من البدايّة وحتى النهايّة ، من قبل انعقاد النطفة وحتى تسوية تراب القبر ، كلّ ذلك بمناقبيّات رائعة ، وأدبيّات ذائعة ، يعرفها الجميع من أفراد الأُمّة بالإجمال ، وتغيب عن أكثرهم بالتفصيل ، ولكن لا أحد يقول أنّها ليست موجودة.
فالقيم الإسلاميّة ، والقواعد الأخلاقيّة تنطلق من عالم حكيم حيّ قيوم قدير ، ذاك هو الله العليّ العظيم سبحانه وتعالى ، وليست من أيّ شيء أو فكر آخر ؛ لأنّ أيّ آخر هو ناقص وقاصر لأنّه مخلوق ، أمّا شرعنا المقدّس فإنّه من الكامل المطلق ، من الخالق العظيم.
ومشرِّع قوانين الإسلام هو الله سبحانه الذي يعلم حقيقة الإنسان وما يصلحه في الدنيا والآخرة ، وهو أعلم به من نفسه مهما كان ذكيّاً ، أو ادّعى العبقريّة في مجال من المجالات العامّة.
وربما تكون قيمة العلم والمعرفة أرقى القيم الإنسانيّة في الدين الإسلامي الحنيف ؛ ولذا يقول بعض الفلاسفة عن تعريف الإنسان : بأنّه حيوان متعلّم ، أو مثقّف ، نجد أنّ أوّل سورة نزلت من كتابنا المقدّس هي سورة العلق ، وأوّل آياتها بعد البسملة :
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (2).
فالقراءة والعلم والكتابة والقلم ، تلك هي أوائل المفردات والمفاهيم التي جاء بها القرآن الكريم لبني البشر ، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً.
وبما أنّ الإمام الحسين عليهالسلام قد تجسّدت في شخصيته جميع القيم الإنسانيّة والمثل العليا ، حيث التقت فيه عناصر النبوّة والإمامة البرزخيّة الفاطميّة ، فكان جمّاعاً للفضائل ، ومثلاً من الأمثلة العليا في الدنيا والدين ، فذّاً من الأفذاذ في التكامل البشري ، ومثالاً جميلاً رائعاً من أمثلة الرسالة الإسلاميّة ؛
فكان بحقّ أطروحة من أطروحات الإسلام الخالدة ، بجميع طاقاته ومقوّماته الذاتيّة والرساليّة ، ليهدي الأُمّة وتهتدي به الأجيال في كلّ زمان ومكان.
علم الإمام عليهالسلام
وبما أنّ العلم هو ذروة القيم الإسلاميّة ، فإنّنا نقف على أعتاب الإمام الحسين عليهالسلام ؛ لنطلّ من خلاله وبعض كلماته النورانيّة على بحره الذي لا ينزفه المنح ، ويلا ينقصه الكيل مهما كان عظيماً ، لأنّه بحر عظيم وشاسع ، ونبع نوراني فيّاض بالنور والهدايّة ، فهو كالشمس في كبد السّماء.وعلم الإمام ليس كالعلوم الكسبيّة التي نعرفها ، بل هو نور من الله يؤيّد به الإمام المفترض الطاعة ، فيعلم كلّ الذي يحتاجه عندما يحتاجه ؛ إمّا بالإلهام ، أو النقر في الأسماع ، أو الرؤيا الصادقة ، أو الوحي المباشر أو غير المباشر.
وتروي كتب السيرة أنّ رجلاً لقي الإمام الحسين عليهالسلام في الثعلبيّة في طريقه إلى كربلاء ، فدخل عليه وسلّم ، وسأله عن قوله تعالى :
(يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) (3).
فقال عليهالسلام : «إمامٌ دعا إلى هُدى فأجابوا إليه ، وإمامٌ دعا إلى ضلالةٍ فأجابوا إليها ، هؤلاء في الجنّة وهؤلاء في النّار ، وهو قوله تعالى :
(فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (4).
فسأله الإمام الحسين عليهالسلام : «مِن أيّ البلدان أنت؟».
فقال الرجل : من أهل الكوفة.
قال عليهالسلام : «يا أخا أهل الكوفة ، أما والله لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرائيل في دارنا ، ونزوله بالوحي على جدّي. يا أخا أهل الكوفة ، مستقى العلم من عندنا ، أفعلموا وجهلنا؟! هذا ما لا يكون» (5).
لا والله لا يكون ، ولن يكون أحد من هذه الأُمّة أعلم من أهل البيت عليهمالسلام الذين نزل القرآن عليهم وفي أبياتهم التي أمر الله أن تُرفع وتقدّس ؛ ليذكر فيها أسمه صباحاً ومساءً في كلّ حين بإذن الله العليّ القدير ؛ ولهذا قال الإمام لجعيد الهمداني مرَّة حين سأله : جعلتُ فداك! بأيّ شيءٍ تحكمون؟
فقال : «يا جعيد ، نحكم بحكم آل داوود ، فإذا عيينا عن شيءٍ تلقّانا به روح القدس» (6).
الحسين عليهالسلام وأجر الرسالة
فهم القرابة ، ومودّتهم هي أجر الرسالة الخاتمة ، كما في سورة الشورى المباركة :(قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (7) ، والإمام الحسين عليهالسلام يقول في تفسيرها : «وإنّ القرابة التي أمر الله بصلتها ، وعظّم من حقّها ، وجعل الخير فيها قرابتنا أهل البيت الذين أوجب الله حقّنا على كلّ مسلم» (8).
نعم ، أجر الرسالة مودّة أهل البيت عليهمالسلام ، هُم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً كما في آية التطهير ، والإمام الحسين عليهالسلام هو خامس خمسة لم يكن لهم شبيه في الكون من البشر ، منذ آدم وحتى آخر مخلوق في الدنيا.
وله ميزة خاصّة بسبب شهادته وفدائه الخالص للإسلام الحنيف ، فأعطاه الله ميزة الذريّة الطاهرة ، فالأئمّة من صلبه خاصّة ، ففي حديث يرويه المولى أبو عبد الله عليهالسلام عن جدّه الرسول صلىاللهعليهوآله وقوله : «دخلتُ أنا وأخي على جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله فأجلسني على فخذه ، وأجلس أخي الحسن على فخذه الأُخرى ، ثمّ قبّلنا وقال : بأبي أنتما من إمامين صالحين (سبطين) اختاركما الله منّي ومن أبيكما وأُمّكما ، واختار من صلبك يا حسين تسعة أئمّة ، تاسعهم قائمهم ، وكلّكم في الفضل والمنزلة عند الله تعالى سواء» (9).
وكم كان يوصي بهم الله ورسوله الكريم صلىاللهعليهوآله ، ويأمر الأُمّة بتقديسهم وتبجيلهم واحترامهم وتقديرهم بما يستحقّون ، وهم أهلٌ لذلك كلّه ، وكذلك يأمرنا بإدخال السرور عليهم عليهمالسلام كيفما استطعنا.
وهذا الإمام الحسين عليهالسلام يحدّث عن جدّه الرسول صلىاللهعليهوآله بذلك ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «مَنْ أراد التوسّل إليّ ، وأن يكون له عندي يدٌ أشفع له بها يوم القيامة فليصل أهل بيتي ، ويدخل السرور عليهم» (10).
فهل فعلت الأُمّة ما أمرها به رسولها الكريم محمد صلىاللهعليهوآله بأهل بيته الأطهار؟!
أم أنّهم فعلوا عكس كلّ الوصايا بهم ، فقتلوهم وشرّدوهم تحت كلّ شجر ومدر ، وكأنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله أوصاهم بقتلهم وتشريدهم؟!
فأئمّتنا الكرام عليهمالسلام خاصّة ، وأهلهم عامّة قُتلوا ولوحقوا وما زالوا إلى اليوم ، وصدق الإمام المعصوم الذي قال : «ما منّا إلاّ مسمومٌ أو مقتول» (11).
وبطلة كربلاء عقيلة الهاشميين سيّدتنا زينب الكبرى عليهاالسلام تقول : «الموتُ لنا عادة ، وكرامتنا من الله الشهادة» (12).
وفي كلّ بقعة من العالم ترى لهم أثراً بسبب التهجير والتشريد والقمع والاضطهاد والظلم ، وما جرى عليهم من مصائب ومحن من هذه الأُمّة.
المصادر :
1- قيم أخلاقيّة في فقه الإمام الصادق عليهالسلام
2- سورة العلق : الآية 1 ـ 5.
3- سورة الإسراء : الآية 71.
4- سورة الشورى : الآية 7.
5- مقتل الحسين ـ للمقرم ص 179.
6- بصائر الدرجات 9 : الآية 452 ب 15 ح7.
7- سورة الشورى : الآية 23.
8- الكلمة ص 48 ، تأويل الآيات الظاهرة ص 222.
9- كمال الدين 1 ص 296 ، ب24 ح12.
10- أمالي الشيخ الطوسي 1 ص 259.
11- بحار الأنوار 27 ص 216 ، الصراط المستقيم 2 ص 128.
12- بحار الأنوار 45 ص 118.