الإنسان نفس ، وبدن ، وروح ، قد ذكر القرآن الكريم النفس وجعلها محتملة الأمرين ، مثل قوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (1).
وقد ذكر البدن بطور حيادي كأنّه لا شأن له ، مثل قوله سبحانه : (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (2).
وذكر الروح بالإعظام والإكبار كالآية السابقة وغيرها ، فكأنّ البدن السفل ، والروح العلو ، والنفس بينهما إن مالت إلى الأعلى كانت من العلييّن ، وإن مالت إلى الأسفل كانت في سجّين.
والنفس يحيط بها البدن ، والبدن في الاجتماع ، وتحيط به المدنية أو نحوها ، وحولها المحيط الطبيعي ، والنفس قادرة على إصلاح نفسها ، ثمّ بدنها ، ثمّ الاجتماع ثمّ المحيط الاصطناعي ، ثمّ المحيط الطبيعي ، وكما أنّ النفس قادرة على التحريك باتجاه البناء هي قادرة على تخريب الكلّ.
والمجتمع إنّما يتولّد من نقطة البدء ، فاللازم في علم الاجتماع أن نبدأ من هنا ، ونبني الهيكل الاجتماعي الصحيح من النفس النقيّة النظيفة (3).
والإنسان خُلق اجتماعياً بالطبع ، لا لحاجاته الجسدية فقط ، بل لحاجاته النفسية كذلك ، حيث الإنسان يستأنس بالإنسان ، ويستوحش لفقده ، كان الإنسان يؤثر بالإنسان الآخر ؛ سواء كانا فردين أو مجتمعين (4).
والإسلام يؤمن أنّ بناء المجتمع على أساس القيم الصحيحة والعمل الصالح يُعطيه ديناميكية وحركة في الاتجاه الصحيح ، وعكس ذلك صحيح أيضاً ، وهذا المفهوم هو عبارة عن واحدة من السنن الطبيعية التي تنطبق على المجتمع البشري عامّة ، فالمجتمع مثل النهر يمتلك طاقات هائلة ، إذا ما وجِّهت في الاتجاه السليم ، وحُفِرت لها قنوات ملائمة ، تحرّكت هذه الطاقات عبر القنوات كلّ بقدرها ، وغذّت المجتمع ، وأعطى بالتالي ثماراً طيّبة ، ولكن إذا كانت هذه القنوات غير سليمة ومتناقضة الاتجاهات ، فإنّ المجتمع سرعان ما يتحطّم ويموت.
وبكلمة أُخرى : نجد أنّ المجتمع البشري هو عبارة عن جسم حيّ مدرك ، له حياته الخاصّة ، ولحياته نظامها الخاصّ ، وهو يتّصف بالتوازن مثلما يتّصف بالانحراف في سلوكه ، كما يتّصف الفرد الواحد من الناس. والنظام الاجتماعي العادل : هو الذي يكفل للمجتمع ولأفراده على السواء جميع الحقوق والواجبات ، من غير تعدّ ولا تقصير.
فإذا سار المجتمع على ذلك النظام العادل ، وطبَّقه على سلوكه وسلوك أفراده ، سمُِّي ذلك التوازن منه عدلاً اجتماعياً.
والعدل الاجتماعي : هو أن تسير الأُمّة إلى المثل الأعلى في الحياة وفي الأخلاق ، وأن تسعى ما أمكنها السعي إلى السعادة العامّة والكمالات المطلوبة ، وأن تعدَّ للأفراد طرق الوصول إلى الخير فتنشئ المؤسسات الكافلة لخير البلاد والحافظة لخيراتها ، وتؤسس المعاهد الصالحة لإعداد الرجال ، وتثقيفهم بالثقافة الصحيحة ، وأن تتمسّك بالأنظمة الشرعية الموجبة لحفظ الحقوق وسلامة النفوس.
على أن تسير في جميع ذلك وفق النظام الصحيح ، والحكمة الرشيدة التي يأمر بها العقل ، ويقرّها الشرع.
إنّ تعاون أفراد الأُمّة وتضامنهم أعظم موجب لتحقيق هذا العدل ، وأبلغ مؤثّر فيه.
يقول المتأخرون من الخلقيين : إنّ المسؤول عن تحقيق هذه الغاية هي الحكومة التي تسيطر على الأُمّة وتتحكّم في مقدّراتها.
أمّا أفراد الأُمّة فيقعون في الدرجة الثانية من هذه المسؤولية ، ووظيفة الفرد هي مساعدة الحكومة في تحقيق الغاية بما يمكنه من الوسائل.
وهذا الرأي قد يكون بيِّن النقص ؛ لأنَّ العدل الاجتماعي هو التوازن التامّ في سلوك المجتمع وسلوك أفراده ، وتعاون الجميع على العمل في سبيل الخيرواكتساب الصّفات الخلقية المُثلى ، ونيل السعادة العامّة ، وهذا كلّه من مختصّات المجتمع نفسه ومختصّات أفراده.
أمّا ما تقوم به الحكومة من إنشاء المؤسسات والمعاهد الصالحة ، فهو إحدى مقدّمات العدل الاجتماعي (5).
البعد الاجتماعي في حياة الإمام الحسين عليهالسلام
وبما أنّنا في رحاب الإمام الحسين عليهالسلام الواسعة الرائعة ، فإنّنا سوف نلحظ كلا الجانبين في المسألة الاجتماعية ، وهما :
1 ـ على مستوى الأفراد ، وتربيتهم وأخلاقهم.
2 ـ وعلى مستوى الحكومة والأُمّة. وهذا أحد أهم أسباب النهضة الحسينيّة المباركة.
وعلى كلّ حال ، فإنّ الإسلام الحنيف قد اهتمَّ اهتماماً مميّزاً بالأشخاص كأفراد مستقلين ؛ لأنّ الجنّة مشروع فردي خاص ، كما يُقال ، وكلّ إنسان ينبغي أن يسلك الطريق الصحيح الذي رسمه له الشرع الحنيف ؛ للوصول إلى الله ورضاه ودار السّلام في جواره الأقدس والجنّة. وللحقيقة نقول : إن يحمل الإنسان أهدافاً كبيرة ، أو يمتلك مستوى علمياً متقدّماً ، فذلك لا يؤثّر شيئاً في حركة الواقع والحياة ما لم يصاحبه حضور اجتماعي يشقّ الطريق أمام تلك الأهداف الكبرى ، ويترجم العلم إلى فعل ملموس على أرض الواقع.
لذلك كان الأنبياء والأئمّة عليهمالسلام يعيشون في وسط الناس ، ويتفاعلون معهم ، ولم يكونوا منعزلين على قمم الجبال ، أو في الكهوف والمغارات ، ولا كانوا يتعالون ويترفّعون عن الناس في أبراج عاجية.
ومهما كان مستوى المجتمع من حيث التخلّف والجهل ، أو من حيث طغيان أجواء الفساد والانحراف ، فإنّ ذلك لا يبرّر الهروب والعزوف عن الناس لدى المصلحين الإلهيين.
ويبقى صحيحاً أنّ مخالطة الناس وهم يعيشون حالة الجهل والتخلّف ، أو يخضعون لأجواء الفساد والانحراف ، قد تسبّب الكثير من الأذى والمعاناة للرجال الإلهيين ، لكنّ ذلك هو طريق التغيير والإصلاح ، كما أنّه وسيلة لنيل ثواب الله ورضوانه.
والإمام الحسين عليهالسلام نشأ من بداية حياته الشريفة في عمق الشأن الاجتماعي وفي صميم الأحداث ؛ وذلك لأنّ جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآله كان قطب رحى المجتمع وقائده الأعلى ، وكان أبوه أمير المؤمنين علي عليهالسلام وزير النبي ووصيه وساعده الأيمن ، بل كان نفسه بنصِّ آية المباهلة (6).
وأمّا أُمّه فاطمة الزهراء عليهاالسلام سيدة نساء العالمين ، ذات الشأن العالي والمكان المرموق في الدين والدنيا ، لا سيما مكانها في قلب أبيها رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فهي بضعته وقلبه وأُمّ أبيها.
وممّا يؤكّد حضوره الاجتماعي في المجتمع الإسلامي النامي في ذلك العصر ، أنّه كانت له حلقة خاصّة غاصّة بالفضلاء وطلاب العلم والباحثين عن الحقيقة في مسجد جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وقد سأل رجل من قريش معاوية بن أبي سفيان (العدو اللدود للإمام عليهالسلام) أين يجد الحسين عليهالسلام؟
فقاله له معاوية : إذا دخلت مسجد رسول الله فرأيت حلقة فيها قوم كأنّ على رؤوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد الله عليهالسلام (7).
كان مجلسه عليهالسلام مجلس علم ووقار ، قد ازدان بأهل العلم من الصحابة ، وهم يأخذون عنه ما يلقيه عليهم من الأدب والحكمة ، ويسجّلون ما يروون عنه من أحاديث جدّه صلىاللهعليهوآله. ويقول المؤرّخون : إنّ الناس كانوا يجتمعون إليه ويحفّون به وكأنّ على رؤوسهم الطير ، يسمعون منه العلم الواسع والحديث الصادق (8).
وبالفعل كان مجلسه مهوى الأفئدة ، ومتراوح الأملاك ، يشعر الجالس بين يديه أنّه ليس في حضرة إنسان من عمل الدنيا وصنيعة الدنيا ، تمتد أسبابها برهبته وجلاله وروعته ، بل في حضرة طفاح بالسكينة كأنّ الملائكة تروح فيها وتغدو (9).
لقد جذبت شخصية الإمام الحسين عليهالسلام ، وسموّ مكانته الروحيّة قلوبَ المسلمين ومشاعرهم ، فراحوا يتهافتون على مجلسه (تهافت الفراش على منابع النور) ، ويستمعون لأحاديثه وهم في منتهى الإجلال والخضوع (10).
وبعد هذه المقدّمة التوضيحية نعود إلى التقسيم الذي قدّمناه أوّلاً :
العمل على مستوى الفرد :
الإسلام يعمل على تربية الإنسان المؤمن المسؤول في المجتمع ، والمؤمن عزيز بعزّة الله ورسوله ، وذلك من قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (11). فالعزّة إنّما تكون بالإسلام والالتزام برسول الله صلىاللهعليهوآله وعترته الأطهار عليهمالسلام ، والعزّة للعبد المؤمن بعد ذلك.
الحسين عليهالسلام وعزّة الإنسان المسلم
وتروي كتب التاريخ هذه الحادثة والرواية عن الإمام الحسين عليهالسلام :
إذ دخل عليه رجل من العرب متلثّماً ، أسمر شديد السّمرة ، فسلَّم وردَّ عليه الإمام عليهالسلام فقال : يابن رسول الله ، مسالة.
قال عليهالسلام : «هات».
فقال : كم بين الإيمان واليقين؟
قال عليهالسلام : «أربَعُ أصابِع».
فقال : كيف؟
قال عليهالسلام : «الإيمانُ ما سَمِعناهُ ، واليقينُ ما رأيناهُ ، وبين السمعِ والبصرِ أربعُ أصابع».
فقال : فكم بين السماء والأرض؟
قال عليهالسلام : «دعوةٌ مستجابةٌ».
فقال : فكم بين المشرق والمغرب؟
قال عليهالسلام : «مسيرةُ يومٍ للشمس».
فقال : فما عزُّ المرء؟
قال عليهالسلام : «استغناؤه عن الناس».
فقال : فما أقبح شيء؟
قال عليهالسلام : «الفسقُ في الشيخِ قبيحٌ ، والحدةُ في السلطانِ قبيحةٌ ، والكذبُ في ذي الحسبِ قبيحٌ ، والبُخلُ في ذي الغناء ، والحرص في العالم».
فقال : صدق يابن رسول الله ، فأخبرني عن عدد الأئمّة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله. قال عليهالسلام : «اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل». فقال : فسمهم لي.
قال : فأطرق الإمام الحسين عليهالسلام ملياً ، ثمّ رفع رأسه فقال :
«نعم ، أُخبرك يا أخا العرب ، إنّ الإمام والخليفة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام والحسن وأنا وتسعة من ولدي ، منهم علي ابني ، وبعده محمد ابنه ، وبعده جعفر ابنه ، وبعده موسى ابنه ، وبعده علي ابنه ، وبعده محمد ابنه ، وبعده علي ابنه ، وبعده الحسن ابنه ، وبعده الخلف المهدي ، هو التاسع من ولدي ، يقوم بالدين في آخر الزمان».
قال الراوي : فقام الأعرابي وهو يقول :
مسحَ النبي جبينه / فله بريقٌ في الخدودِ
أبواهُ من أعلى قريش / جدّهُ خيرُ الجدود (12)
فالعزّ للعبد أن يكون مستغنياً عن الناس ، وربما الناس بحاجة إليه ، ولقد جاء بكلمة رائعة لأمير المؤمنين علي عليهالسلام يقول فيها : «احتج إلى مَنْ شئت تكن أسيره ، واستغن عمَنْ شئت تكن نظيره ، وأحسن (امنن) إلى مَنْ شئت تكن أميره» (13).
فإذا احتجت تكون أسيراً ، وأمّا إذا أحسنت وأعطيت كنت أميراً ، وكم هو الفرق ما بين الأمير والأسير ، وأرجو لك عزيزي القارئ الإمارة دائماً وأبداً ، وهذا لا يتحقّق إلاّ بانقطاعك إلى الله الغني الحميد ، واتّباعك للمولى أبي عبد الله الحسين عليهالسلام في منهجه.
الحسين عليهالسلام والتوكّل على الله
وبكلمة نورانية حسينيّة يقول فيها : «إنّ العزّ والغنى خرجا يجولان ، فلقيا التوكّل فاستوطنا» (14).
ومعنى ذلك : إنّ عزّة النفس مقارنة وملازمة للغنى والاستغناء عن الناس ، وهذان لا يستوطنان إلاّ عند مَنْ يتوكّل على الله في كلّ أموره ، وجميع شؤونه وشجونه. ورحم الله أبا فراس الحمداني الشاعر الذي يقول :
إنّ الغني هو الغني بنفسه / ولو انّه عارِ المناكبِ حافي
والتوكّل على الله ، هو تفويضك أمر التدبير والتقدير إلى العزيز القدير.
وقيل ذات يوم للإمام الحسين عليهالسلام : إنّ أبا ذر يقول : الفقر أحبّ إليَّ من الغنى ، والسَّقم أحبّ إليَّ من الصحّة. فقال عليهالسلام : «رَحِمَ اللهُ تعالى أبا ذرّ. أمّا أنا فأقول : مَنْ اتّكل على حسن اختيار الله تعالى له لم يتمنّ غير ما اختاره الله عزّ وجلّ له» (15).
فلا تشرط على الله إذا كنت متوكّلاً عليه ولا حتّى تتمنّى ، وكلّ منَّا يتمنّى حوائجه ، ولكن إذا كنت في المقام الذي يتحدّث عنه الإمام الحسين عليهالسلام ، فإنّك عند ذلك تدع أمرك إلى الله الحكيم العليم ، وهذا يكون نابعاً من أعماق إيمانك بأنّ الله حكيم ، والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها. وأنت أخي المؤمن ، إذا أيقنت بهذه الحكمة الإلهية ، فإنّك تدع التدبير له ، وتترك نفسك في الدنيا ، وتشتغل بالطاعة والعبادة ، ولا تشغل نفسك بأمور الدنيا وتدبيرها ما دام مولاك (عزَّ وجلّ) الحكيم قد تكفَّل بها.
ولهذا وذاك يقول الإمام الحسين عليهالسلام : «مَنْ عبد الله حقّ عبادته آتاه الله فوق أمانيه وكفايته» (16). فعليك الطاعة والانقياد لله ، وعليه العطاء والرزق ، وهو أكرم الأكرمين ، فكن على يقين أنّه سيعطيك حتّى يغنيك ، وفوق كلّ أمانيك.
أنواع العبادة عند الحسين بن علي عليهماالسلام
ولكن ما هي العبادة التي ترغب فيها؟وربما تسأل مقابل هذا السؤال وتقول : هل هناك أنواع للعبادة؟!
الإمام الحسين عليهالسلام يجيبك بقوله الرائع : «إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار ، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد ، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة» (17).
فالعبادة ثلاثة ، والعبَّاد ثلاث :
1 ـ عبادة الرغبة والطمع : وهي عبادة التجارة ، يريد أن يجمع الأموال الطائلة ويطمع بالزيادة دائماً وأبداً.
والعابد يطمع بالجنّة ويحقّ له الطمع فيها ، وبما فيها من حور وقصور ، وأنواع الخيرات الحسان ، والتي جاء بها أنّها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
2 ـ عبادة الرهبة والخوف : وهي عبادة العبيد الذين يخافون من السيد ويحذرون مخالفته ؛ لأنّهم يتعرّضون لغضبه وعقابه الشديد.
والعُبّاد يخافون المخالفة ويخشون النار ، ويحقّ لهم كلّ ذلك ؛ فالخوف من النار وأنواع العذاب فيها يدعو العاقل إلى التوخّي والاحتراز عنها ، فالإنسان ضعيف ولن يحتمل غضب الجبّار.
3 ـ عبادة الحبّ : وهي عبادة الأحرار الذين علموا عن الله بعض الحقائق التي أفاضها عليهم ، فتعلّقت قلوبهم بربّهم ؛ لأنّه يستجمع صفات الكمال والجلال ، ويستحق العبادة ؛ لأنّه المنعم الذي هو أهلٌ للشكر على أفعاله.
وهذه العبادة هي أرفع العبادات وأجلُّها وأجملها ؛ لأنّها نابعة من معرفة حقيقية بالمعبود والعابد ، وهذه بالحقيقة عبادة الخُلَّص من عباد الله ، كالإمام الحسين عليهالسلام والمعصومين من آله الكرام عليهمالسلام.
الإيمان والمؤمن عند الإمام الحسين عليهالسلام
الإيمان : هو ذلك النور الذي يقذفه الله في قلوب أوليائه وأصفيائه من الناس. وفي الرواية : أنّه إقرار باللسان وعمل بالأركان ، وأنّه أخصُّ من الإسلام الذي يعني التسليم والنطق بالشهادتين ، وبه تُحقن الدماء وتجري المناكح والمواريث.والإيمان أرفع درجة ، وأعلى مقاماً من الإسلام. وهو إمّا أن يكون ثابتاً ، أو مشككاً متذبذباً ، وإمّا أن يكون أصلياً ذاتياً ، أو يكون مستعاراً ومستودعاً ، والذي يميّز ذلك كلّه هو الامتحان والاختبار الإلهي للعبد.
في رواية عن الحسين بن علي عليهماالسلام أنّه قال : «سُئل أمير المؤمنين (صلواتُ الله عليه) ما ثبات الإيمانِ؟ فقال : الورع. فقيل له : ما زواله؟ قال : الطمع» (18).
فثبات الإيمان في القلب يتمّ عن طريق الورع عن محارم الله ، وتكون هذه الصّفة النورانيّة ملكة شخصيّة للعبد ، وهي في الحقيقة التقوى الرادعة من انتهاك المحارم أو فعل المآثم.
وعكس الورع يكون الطمع ، فالطمع في أي شيء من متاع الدنيا ولذّائذها وشهواتها ، وإن كانت حلالاً ، يخرجها إلى حدِّ الإفراط فيها فينقلب إلى الحرام ، ويسبّب فعلها اللوم والعقاب ؛ ولهذا فإنّ العبد المؤمن دأبه مراقبة نفسه واتّهامها على الدوام.
يقول الإمام الحسين عليهالسلام : «إنّ المؤمن اتّخذ الله عصمتهُ ، وقولهُ مرآته ، فمرةٌ ينظرُ في نعتِ المؤمنين ، وتارةً ينظر في وصف المتُجبّرين ، فهو منه في لطائف ، ومن نفسه في تعارفٍ ، ومن فطنته في يقين ، ومن قدسه على تمكين» (19).
فالعبد المؤمن يعتصم بالله لا بسواه ، ويجعل مرآته في كلّ حركاته وسكناته ، كتاب الله وآياته في القرآن الكريم.
فمرّة ينظر في آيات القرآن باحثاً عن الآيات التي تصف المؤمنين ، فيجمعها ويلتزم بها قدر الإمكان ، لا سيما آيات سورة المؤمنون ، وأواخر سورة الفرقان وغيرها من آيات الذكر الحكيم التي تصف المؤمنين ، ويبحث عن نداءات أهل الإيمان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) ، وقد بلغت 89 مورداً في القرآن ، ويتدبّر فيها ؛ ليعلم ماذا يريد ربّنا سبحانه منّا ، فيفعله إذا كان أمراً ، أو يرتدع عنه إذا كان نهياً وزجراً.
ومرّة أُخرى يبحث في الكتاب العزيز عن وصف المتجبّرين ، كالفراعنة والقوارين ـ جمع قارون ـ وجنودهم وأذنابهم ، ويدرس صفاتهم ويحاول قدر المستطاع أن يطهِّر نفسه من تلك الرذائل اللعينة ، والفيروسات الروحيّة القاتلة.
ويبحث في القرآن الكريم عن لطائف الحكمة ، وروائع الآيات الروحانيّة ، متنسّماً لتلك النسائم العبقة التي تهبّ على روحه ونفسه من خلال تنقّله في رياض الآيات القرآنيّة الكريمة ، ويتعرّض إلى نفحات ربّ العالمين الرحمانيّة.
وأمّا نفسه فإنّه دائماً وأبداً يتّهمها ؛ فهي أمارة بالسوء ، وهو يعرفها حقّ المعرفة ، وربّنا سبحانه يقول : (بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (20). فلا أحد أعلم بك منك إلاّ الذي خلقك ورزقك وسوّاك وعدلك ؛
ولهذا يكون الإنسان على يقين من أعماله التي عملها ، وهو على إصلاح نفسه وتقديسها وتزكيتها قادر قوي متمكّن ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى ألطف وأرحم بنا من أنفسنا ، ولن يحاسبنا على شيء لا نقدر عليه.
وبهذا المعنى يقول الإمام الحسين عليهالسلام : «ما أخذ الله طاقةَ أحدٍ إلاّ وضع عنه طاعتهُ ، ولا أخذ قُدرتهُ إلاّ وضع عنه كُلفته» (21).
وهذا يكون أجمل تفسير لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا) (22) ، وقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ مَا آتَاهَا) (23). والقاعدة التي تقول : إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب. فالتكليف يكون بالقدرة والقدر والسعة وليس زائداً ؛ لأنّه يكون ظلماً وجوراً وتكليف بما لا يُطاق ، وحاشا لله أن يفعل بعباده مثل هذا.
المصادر :
1- سورة الشمس : الآية 7 ـ 10.
2- سورة الحجر : الآية 29.
3- موسوعة الفقه (الاجتماع) ـ للإمام الشيرازي 109 ص 7.
4- المصدر نفسه 109 ص 39.
5- الأخلاق عند الإمام الصادق عليهالسلام ص 67.
6- أحاديث في الدين والثقافة والاجتماع 1 ص 91.
7- تاريخ ابن عساكر 4 ص 222.
8- الحقائق في الجوارح والفوارق ص 105 ، حياة الإمام الحسين 1 ص 137.
9- أشعة من حياة الحسين عليهالسلام ص 93.
10- حياة الإمام الحسين 1 ص 137.
11- سورة المنافقون : الآية 8.
12- كفاية الأثر ص 232 ، موسوعة البحار 36 ص 384.
13- موسوعة البحار 77 ص 402 باب (15) مواعظه وحكمه.
14- مستدرك الوسائل 11 ص 218 ح12793.
15- إحقاق الحقّ 11 ص 591.
16- تفسير الإمام العسكري عليهالسلام ص 327 ، موسوعة البحار 71 ص 184.
17- تحف العقول ص 177 ، موسوعة البحار 78 ص 117 ، أعيان الشيعة 1 ص 620.
18- موسوعة البحار 70 ص 305.
19- تحف العقول : الآية 178 ، موسوعة البحار 78 ص 119 حديث 15.
20- سورة القيامة : الآية 14.
21- تحف العقول ص 176.
22- سورة البقرة : الآية 286.
23- سورة الطلاق : الآية 7.