
قد تقع بغرام امرأة لسبب لا تدريه، تهيم بها وأنت ذاهل، بينما ترى كثيرات فتعافهن، وبكين تدخل القلب كما لو كانت امرأة جميلة من دون استئذان، فتحبها، وكم ندمت لأني لم أجعل زيارتي تمتد ثلاثة أسابيع أخرى على الأقل، رغم أنني أعتقد أن شهرًا فيها أقل من القليل، فما السبب؟
أجمل ما في بكين أطفالها ونساؤها؛ فالأطفال يرفلون بالشوارع والأزقة بملابس زاهية، نظيفة، تبرق بشكل أخاذ. يتبتخترون كدمى فائقة الجمال تتهادى على الأرض، تلمع عيونهم صحة وعافية، وتتورد خدودهم البيضاء الناصعة مشكلة مع سواد شعورهم لوحات فنية يعجز عباقرة الفنانين على إنجازها، يجذبون أنظارك فلا تستطيع عنهم فكاكًا.
يقول الرحالة ابن بطوطة قبل سبعة قرون عن الصين: «وبلاد الصين أأمن البلاد وأحسنها حالا للمسافر، فإن الإنسان يسافر منفردا مسيرة تسعة أشهر وتكون معه الأموال الطائلة فلا يخاف عليها، إلخ». إذن، فالمحافظة على الأمن والأمان قديمًا في الصين، توارثها الصينيون جيلاً بعد جيل، حتى أصبحت المحافظة على الأمن مسؤولية الجميع، وميزة وطنية، وخصلة يرثها الإنسان، وشعورًا يجري مع الدماء في الشرايين، وسمة تمتاز بها هذه البلاد الشاسعة.
من نافلة القول، أن نذكر أن كلمة الصين تأتي بالعربية مرادفة للصناعة، والعلم، ساد ذلك في لغتنا منذ القدم، وينسب إلى الرسول محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، قوله: «اطلبوا العلم ولو في الصين».، وكتب الجاحظ (775 – 868): «ميزة سكان الصين، الصناعة، فهم أصحاب السبك، والصياغة، والأفراغ، والإذابة، والأصباغ العجيبة، وهم أصحاب الخرط، والنحت، والتصاوير، والنسج»، وقال ابن بطوطة (1304 – 1368): أهل الصين أعظم الأمم إحكامًا للصناعات، وأشدهم إتقانًا فيها.
أن العراق في العهد العباسي كان يستورد من الصين اثنتين وأربعين مادة، منها الحرير، والحبر والورق، والأقمشة المطرزة، والأقفال الحديد والفرند، والكيمخت (أي الحرير المشجر) والمسك، والعود، والسروج، والغضار، والفلفل، والدار فلفل، والنارجيل، والهرنوة، والقاقلة، والدار صيني، والخولجان، والبسباسة، والإهليلجيات، والأبنوس، والذبل، والكافور، والجوزبوا، والقرنفل، والكبابة المتخذة من الحشيش، والثياب العظيمة المخملة، وأنياب الفيلة، والرصاص القلعي، والقنا، والخيزران الخ، ويبدو أننا ما زلنا نستورد بعضها إلى حد الآن، وحسبما يذكر هادي العلوي أننا في العراق أخذنا اسم الرز، من الصين «التمن»،. وأي سوق كبيرة أو صغيرة تدخلها في الولايات المتحدة، أوروبا، في أي مكان في العالم تجد عددًا لا يحصى من المنتجات الصينية.
الصلات التجارية بين العرب والصين
بدأت الصلات التجارية بين العرب والصين منذ عهود قديمة، فيذكر المؤرخ المسعودي غير مرة: «كان البحر حينئذ في الموضع المعروف اليوم بالنجف وكانت تقوم (ترسو) هناك سفن الصين والهند» التي تنقل البضائع.أما الصلات الرسمية بين العرب والصين فبدأت 1400 سنة، وكانت بداية الحوار الحضاري بين الأمتين؛ إذ أرسل الخليفة عثمان بن عفان مبعوثين إلى الصين لمقابلة إمبراطور أسرة تانغ: «قاو تسونغ في تشانغآن» (شيآن حاليا) في أغسطس (آب) عام 651 ميلادية، وسجلت هذه المقابلة رسميا في المجلد الرابع من «كتاب أسرة تانغ القديم».
لا أحد يستطيع أن يحدد متى بدأت التجارة بين الصين والعرب، لكنها ازدادت بعد الإسلام، وبخاصة من عمان والبصرة؛ إذ يرد اسم التجار «أبو عبيدة» و«عبهرة الربان» وغيرهما، وذكر الطبري، والقاضي الرشيد بن زبير أن ملك الصين أرسل رسالة إلى معاوية بن أبي سفيان، مع هدية «كتاب في العلوم»، والرسالة من أطرف الرسائل في التاريخ: «من ملك الملوك الذي تخدمه بنات ألف ملك، والذي بنيت داره بلبن الذهب، والذي في مربطه ألف فيل، والذي له نهران يسقيان العود والكافور، الذي يوجد ريحه من عشرين ميلاً. إلى ملك العرب الذي يتعبد الله ولا يشرك به شيئا». ويقال: إن كتاب العلوم ورثه حفيد معاوية خالد بن يزيد، ليكون أول خطوة في بدء، تاريخ العلوم عند العرب.
ولكثرة زيارة المثقفين العرب للهند والصين، فقد كتبوا عنهما الكثير، وقارنوا أوضاع البلدين، مركزين على الثقافة؛ كونها الأسلوب العام لحياة الجماعة، وتشمل كل ما يرتبط بالحياة الاجتماعية أو الفردية بالبيئة الاجتماعية، كالعادات والمعتقدات والطقوس والآداب، ونظام الحكم، وعادات الكلام والطعام والنظافة والعقائد والطب، والفلسفة، وعلم النجوم، وبناء المدن وتحصينها، والأخلاق، ولعل أطرف ما ورد في هذا المجال، ما ذكره السيرافي: «وبلاد الصين أصح وأقل أمراضا وأطيب هواءً، لا يكاد يُرى بها أعمى ولا أعور ولا ذي عاهة، وهذا كثير في بلاد الهند» .
غرام بكين
المدينة أنثى، ربما تقع بغرام امرأة لسبب لا تدريه، تهيم بها وأنت ذاهل، بينما ترى كثيرات فتعافهن، وبكين تدخل القلب كما لو كانت امرأة جميلة من دون استئذان، فتحبها، وكم ندمت لأني لم أجعل زيارتي تمتد ثلاثة أسابيع أخرى على الأقل، رغم أنني أعتقد أن شهرًا فيها أقل من القليل، فما السبب؟لقد اقام الکاتب المشهور هادي العلوي في الصين اربع سنوات ،وهو الذي يعتبر أهم من عرّف القارئ العربي على الصين والحضارة الصينية، وأهميتهما، وعمقها الفكري، ومنجزاتها الجبارة، بكتابات كثيرة، أهمها «المستطرف الصيني»، الذي اتخذ له اسما صينيا هو «لاو هاي»، كما ذكر الأستاذ المبرز «البروفسور» د.شوي تشينغ قوه، عميد كلية الدراسات العربية في جامعة الدراسات الأجنبية، في بكين، في مقالة رائعة، في جريدة الشعب الصينية، وكان يسمي نفسه «سليل الحضارتين العربية الصينية»، وسبقه آلاف الجنود العرب، أرسلهم الخليفة المنصور لنجدة الإمبراطور الصيني، ولا بد ومن عشاق الجمال، ولا بد أن جمال نساء الصين، وحسن المعاملة شدهم، ففضلوا الإقامة، وتزوجوا من الصينيات. ويقال: إنهم الآن يشكلون قومية (الهوي).
وكتب «شو– جو – كوا» وهو موظف في جمارك ميناء كانتون، مصنفًا في القرن الثالث عشر الميلادي، عن القادمين إلى الميناء، وحياتهم، ويبدو أنه يعرف العربية، واستطاع جمع أخبارهم، من خلال المعلومات التي كانوا يدلون بها. ومن أخباره أن تاجرًا عربيًا، أحب الصين، وقدم إلى كانتون، واستقر بها، وكان ذا طلعة بهية، مهيبة، فاحتفى به الإمبراطور وأكرمه، ومنحه رداء حرير وحزامًا فضة، وأنه عاش حتى بلغ المائة والثلاثين.
بكين بالغة العمر، عتيقة، لكنها نشيطة كأي شابة، تستيقظ في السابعة صباحًا، وفي الثامنة تكون في أوج نشاطها، بينما عواصم عدة في العالم كنيودلهي والقاهرة لا تزالان تغطان في نومهما، ولعل هذا أحد أسباب تمكن الصين من تجاوز التخلف، والسير في طريق التفوق الذي يشهد عليه العالم كله.
في بكين نحو ستة ملايين عجلة، بين سيارة فاخرة كالسيارات الألمانية، وسيارات عادية كالسيارات الكورية، إضافة إلى سيارات العجلات الثلاث بأنواع يعجز المرء على إحصائها، متراوحة بين بدائية خشب، وفائقة التطور، مع دراجات نارية متنوعة وأخرى هوائية، لكن انسياب المرور مع هذا العدد الهائل من العجلات يبقى جاريًا، مع اختناقات قليلة لا تزيد على اختناقات شوارع شيكاغو على سبيل المثال، وربما وجود جسور للمشاة، تقطع شوارع بكين بين مسافة وأخرى، يخفف الكثير من المعاناة للمشاة، وهذا ما ينعدم في مدن كشيكاغو ونيويورك وواشنطون ونيودلهي، والكثير من مدن العالم، إضافة إلى أنك لا ترى ما يعرقل السير كعربات تدفع باليد، أو تجرها الحيوانات كما في نيودلهي والقاهرة على سبيل المثال، ولعل مما يسهل التنقل وجود عدد هائل من سيارات الأجرة، زهيدة التكاليف، رغم أن الصين دولة مستوردة للنفط، مقارنة بمثيلاتها في بغداد ودول الخليج المنتجة للنفط، وهذه النقطة تحسب لصالح بكين من وجهة النظر الإنسانية.
وإن كنت تسير في شوارع بكين فلا شك أنك ستدهش للنظافة الفائقة التي تتمتع بها هذه المدينة العملاقة، وفي هذا الحقل تفوق جميع المدن التي رأيتها إلا بعض أحياء بون.
جمال الأنهار
في بكين ترى الأنهار شعبية، بإمكان أي إنسان يتمشى على رجليه التمتع بجمالها ورونقها، عكس أنهار أميركا المحجوبة بالبنيات، لا يراها إلى رواد الفنادق الفخمة، وسكان العمارات الفاخرة، أنهار بكين لجميع الناس، مصانة، غير ملوثة، كأنهار ماليزيا والعراق ومصر، فعلى الشاطئ جدار يمنع سقوط الأوساخ في الماء حين تهب الرياح؛ لذا يبقى النهر صافيًا، نظيفًا يعكس أشعة الشمس بصفاء.يعجبني في أي مدينة أصل إليها، التمشي في الدروب الخلفية والشوارع الضيقة التي تتيح لي رؤية الناس على حقيقتهم، ولعل هذا أحد أسباب إعجابي ببكين. بعد السابعة من مساء كل يوم، تسكعت في شوارع كثيرة شبه خالية، لا تكاد تمر فيها سيارة، يبدو أن أصحابها رجعوا إلى بيوتهم للراحة، وركنوا سياراتهم أمام أبوابهم، لكنهم لم يمكثوا في البيوت، خرجوا جميعًا إلى الدرب الضيق، في بداية كل طريق هناك غير محل للشواء، والصينيون يحبون الشواء في مطاعم الطرق الصغيرة، تراها تنبت في أي مكان، وكأن مطعم الدرب جزء من هذه البيوت، أو ملحق بها، يجلسون فيها أزوجًا ومجموعات، نساءً ورجالاً، يلعبون الورق، ونوعا من «الداما» انقرض في بلداننا، يشارك غير واحد في اللعبة أو يتفرج عليها، وهم يدردشون، يضحكون، يأكلون، يحتسون المشروبات. هذا المنظر جعلني أحس أن الناس في بكين أشبه بعائلة واحدة، يمارسون طقوسًا جليلة وبحميمية بالغة تظللها سعادة فائقة.
أما أعظم ما في الصين إلى جانب شعبها، فهو السور العظيم، كنت أحلم بزيارته طيلة حياتي، ولن أنسى مطلقًا ما صرح به أحد رائدَي الفضاء اللذين نزلا على القمر، للمرة الأولى، يوم 21 يوليو (تموز) 1969، أن الشيء الوحيد الذي أقامه الإنسان، ويمكن أن تراه العين المجردة من القمر هو سور الصين العظيم. منذ ذلك الوقت أخذت أحلم برؤيته، وعندما شاهدته رأيت إنجازًا يفوق الخيال. ترى كم مليون إنسان ساهم في بنائه؟ وأي جهد بذلوا؟ وأي تضحية قاموا بها؟ إنه عمل يظهر عظمة ومهارة وفن هذا الشعب العريق، لكنه يكشف وطنيته قبل كل شيء؛ فمثل هذا البناء الضخم الجبار، لا يمكن أن يتم بناءً على أوامر سلطة حسب، بل على حب كل من ساهم به لوطنه، ورغبة في صيانته ليعيش حرًا وينعم بالسلام، وإن كان هذا لا يعني وجود سخرة أو ما يشبهها؛ كونها سائدة في العالم كله آنذاك.
في الصين وحدها ترى الناس يشوون الخضراوات، ويسلقونها، ويقلونها حسب ما يبغي الزبون، حتى الكراث، يعلقونه على الشيش، ويشونه قليلاً ثم يأكلونه، رأيتهم يسلقون ويشوون الفول السوداني، قبل استخراجه من قشره، وكذلك يفعلون مع اللحوم والمحار والروبيان والأسماك، ولعل المائدة الصينية أغنى مائدة طعام في العالم بما تحتويه من أنواع اللحوم والطيور وما يعيش في البحر، من سمك، وقواقع، وسرطانات، وأخطبوطات متنوعة إلخ، وهذا يدل على عراقة بالتحضر والمدنية، وتطور عالٍ بذائقة فائقة. لا يدل التنوع على سعة المطبخ الصيني حسب، بل على فوائده الصحية كذلك؛ فمعظم الأكلات تقدم خالية أو شبه خالية من الملح.
أجمل ما في بكين أطفالها ونساؤها؛ فالأطفال يرفلون بالشوارع والأزقة بملابس زاهية، نظيفة، تبرق بشكل أخاذ. يتبتخترون كدمى فائقة الجمال تتهادى على الأرض، تلمع عيونهم صحة وعافية، وتتورد خدودهم البيضاء الناصعة مشكلة مع سواد شعورهم لوحات فنية يعجز عباقرة الفنانين على إنجازها، يجذبون أنظارك فلا تستطيع عنهم فكاكًا.
بشرة الصينيين، وبخاصة النساء إما بيضاء ناصعة مشربة بحمرة قانية، يكاد الدم ينبثق منها، أو سمراء كضوء الفجر معجون بعصير الرمان، بتقاطيع متناسقة تجعل من ابتسامتهن فجرًا مشرقًا، مع أجساد رشيقة معتدلة متناسقة، أما سيقانهن فمصبوبة بقوالب فريدة تنساب بتناسق متميز يشع جاذبية وإثارة، وأي مقارنة بين النساء والأطفال في أميركا والصين، في الجمال والأناقة ترجح كفة الصينيين؛ إذ إن لهن مقدرة فائقة لا تطاول، على تنسيق الألوان في الملابس والتلاؤم بينها، ومما يزيد جمال المرأة الصينية أن الطبيعة حبتها شعرا ينساب كخيوط الحرير ليصل إلى خاصرتها، يتماوج تحت أشعة الشمس في كل حركة تتحرك بها، ويبدو أن الطبيعة وضعت عبقريتها كلها في إبداع جمال المرأة الصينية؛ إذ توقفت بعدئذ، ولم تستطع خلق أجمل منها إطلاقًا، ولعلي لست الوحيد الذي يطري ما في الصين، فقد شاركني القزويني في ذلك «كثيرة المياه، كثيرة الأشجار، كثيرة الخيرات وافرة الثمرات، من أحسن بلاد الله وأنزهها، وأهلها أحسن الناس صورة، وأحذقهم بالصناعات الدقيقة، لكنهم قصار القدود عظام الرؤوس، لبأسهم الحرير، إلخ».
القاعدة الفكرية
ويبدو أن إتقان الصينيين لهذه الأبجدية كانت القاعدة الفكرية الرئيسة لقادة الصين، فقد تمكنوا من تقليص الهوة الثقافية والعلمية والصناعية الجبارة التي كانت تفصلهم عن أوروبا والولايات المتحدة، والتي ستمكنهم من تجاوزها كلية بعد فترة قصيرة، ليقودوا العالم برمته. كلمة بيجين «بكين» تعني العاصمة الشمالية؛ لأن هناك أكثر من عاصمة قديمة في الصين، وكلمة الصين تعني المركز، أي مركز العالم، ومرت الصين كأي دولة بفترات رخاء وأخرى عجاف، ويجمع الصينيون على أن أتعس أزمنتها هي سنوات «الثورة الثقافية»، كانت انتكاسة حضارية لا مثيل لها، لكنها لحسن الحظ انتهت بتسلم دينج شياو ينج القيادة خلفًا لماو تسي تونغ. استطاع دينج ومن جاء بعده، من دفع الصين إلى الأمام، ووضعها في الطريق الصحيح، في وقت قياسي، 38 سنة مقابل 247 سنة قضتها أوروبا. لتنطلق البلاد نحو المستقبل، من دون توقف، ولا شك أننا سنرى الصين غدًا، في موقع الصدارة من دول العالم أجمع، لتصبح مركز العالم، كما يعنيه اسمها «المركز»، وليس الغد لناظره بعيد.راسخون 2017