
إنّ تواتر حديث المنزلة أمر معلوم من طرق الشيعة كما أنه مسلّم من طرق السنة ، لا ينكره إلاّ مكابر أو معاند ، إلاّ أن بعض أعلام أهل السنّة حاولوا أن ينقذوا مذهبهم من هجوم هذا الحديث بحمل خلافة عليّ ووزارته على عدد مخصوصين وهم أهل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وفي مدّة خاصة وهي مدّة المسير
إلى غزوة تبوك ، غافلين عن أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يخرج من عموم المنزلة إلاّ النبوّة ، فأخرجوا أكثر مما استثناه ، بل صرّح النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ كما لاحظته في بعض الصحاح ـ أنه خليفته من بعده على كلّ مؤمن ، مع أنه لو كانت خلافته وولايته على أهل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لكانت على غيرهم بطريق أولى.
ومنهم ابن الصبّاغ المالكي ; فإنّه بعد أن أوضح كيفيّة منزلة هارون من موسى بسرد ما ورد من الايات في ذلك قال : فتلخّص أنّ منزلة هارون من موسى صلوات الله عليهما : أنّه كان أخاه ووزيره وعضده في النبوّة وخليفته على قومه عند سفره ، وقد جعل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّاً منه بهذه المنزلة إلاّ النبوّة ، فانه صلىاللهعليهوآلهوسلم استثناها بقوله : « غير أنّه لا نبيّ بعدي » ، فعليّ أخوه ووزيره وعضده وخليفته على أهله عند سفره إلى تبوك (1).
والظاهر أنّ كثرة الاخبار وتراكمها وتصريح بعضها في غزوة تبوك أذهلت هؤلاء الاعلام عن أن هذه المنزلة كانت بصورة عامّة وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بَيَّنها في عدّة مقامات لا في غزوة تبوك فقط ، فإليك ذكر بعضها :
1 ـ عندما قاله النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لامّ سلمة :
أخرج ابن عساكر والجويني والكنجي والموفق بن أحمد والطبراني وعن العقيلي وعبد الله بن أحمد عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لامّ سلمة : « هذا عليّ بن أبي طالب لحمه من لحمي ودمه من دمي وهو منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ، يا أمّ سلمة هذا علي أمير المؤمنين وسيد المسلمين ووصيي ووعاء علمي وبابي الذي أوتى منه ، أخي في الدنيا والاخرة ومعي في السنام الاعلى ، يقتل القاسطين والناكثين والمارقين » (2).
2 ـ عندما اختصم عليّ وجعفر وزيد في بنت حمزة :
أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن جعفر أنّه لمّا قدمت ابنة حمزة المدينة اختصم فيها عليّ وجعفر وزيد .. فذكر القصّة إلى أن قال : فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « يا عليّ أنت منّي بمنزلة هارون من موسى الاّ النبوة » (3).
3 ـ عندما قال له عند جماعة من أصحابه :
أخرج ابن عساكر وابن النجّار والموفّق بن أحمد عن ابن عباس ، سمعت عمر بن الخطاب وعنده جماعة فتذاكروا السابقين إلى الاسلام ، فقال عمر : أمّا عليّ فسمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول فيه ثلاث خصال ، لوددت أنّ لي واحدة منهنّ فكان أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس ، كنت أنا وأبو عبيدة وأبو بكر وجماعة من الصحابة إذ ضرب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بيده على منكب عليّ فقال له : « يا علي أنت أول المؤمنين إيماناً وأوّل المسلمين إسلاماً وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ».
وفي لفظ نقله الصالحي الشامي عن الحاكم والمتّقي الهندي عن الحسن ابن بدر والحاكم في الكنى والشيرازي في الالقاب وابن النجّار أنَّ عمر قال : كفّوا عن عليّ فإنّي سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : في عليّ ثلاث خصال لئن يكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس ; كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح ونفر من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم متّكئ على عليّ حتى ضرب بيده على منكبيه ، ثم قال : « يا عليّ أنت أوّل المؤمنين إيماناً وأوّلهم إسلاماً ، أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، وكذب ـ يا علي ـ من زعم أنّه يحبني ويبغضك » (4).
4 ـ عند تسمية الاصحاب وضرب الامثال لهم :
أخرج ابن عساكر عن ابن عبّاس قال : رأيت عليّاً أتى النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فاحتضنه من خلفه فقال : بلغني أنك سمّيت أبابكر وعمر وضربت أمثالهما ، ولم تذكرني! فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى » (5).
5 ـ يوم اضطجاع الصحابة في المسجد :
أخرج ابن عساكر والكنجي والموفّق بن أحمد عن جابر بن عبد الله الانصاري قال : جاءنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ونحن مضطجعون في المسجد وفي يده عسيب رطب فضربنا وقال : « أترقدون في المسجد ، إنّه لا يرقد فيه أحد » ، فأجفلنا وأجفل معنا عليّ بن أبي طالب ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « تعال يا عليّ ، إنّه يحلّ لك ما يحلّ لي ، يا علي ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوّة » (6).
6 ـ يومي تسمية الحسنين عليهماالسلام :
أخرج الموفّق بن أحمد والجويني عن أسماء بنت عميس قالت : لمّا ولد الحسن جاءني النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال : « يا أسماء هاتي ابني » ، فدفعته إليه في خرقة صفراء ، فرمى بها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال : يا أسماء ألم أعهد إليكم أن لا تلفّوا المولود في خرقة صفراء؟! قالت : فأخذته منه فلففته في خرقة بيضاء ودفعته إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، فقال لعلي : « أي شيء سميت ابني؟ » قال : ما كنت لاسبقك باسمه يا رسول الله! وقد كنت أحبّ أن أسميه حرباً ، فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ولا أنا أيضاً أسبق باسمه ربّي عزّوجلّ » ، فهبط جبريل فقال : السلام عليك يا محمّد ، العليّ الاعلى يقرئك السلام ويقول : عليّ منك بمنزلة هارون من موسى ولا نبيّ بعدك ، سمّ ابنك هذا باسم ابن هارون ، قال : « وما اسم ابن هارون؟ » قال : شبّر ، قال : « لساني عربي » قال : سمّه الحسن.
قالت أسماء : فسماه الحسن ، فلمّا كان يوم سابعه عقّ عنه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بكبشين أملحين وأعطى القابلة فخذاً ، وحلق رأسه وتصدّق بوزن الشعر وَرِقاً ، وطلا رأسه بالخلوق ثم قال : « يا أسماء الدم فعل الجاهلية ».
قالت أسماء : فلمّا كان بعد حول من مولد الحسن ولد الحسين ، فجاءني النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : « يا أسماء هلمّي بابني » ، فدفعته إليه في خرقة بيضاء ، فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، ووضعه في حجره فبكى!!
قالت أسماء : قلت : فداك أبي وأمي ، ممّ بكاؤك؟ قال : « على ابني هذا » ، قلت : ولد الساعة وتبكيه!؟ قال : « يا أسماء تقتله الفئة الباغية من بعدي لا أنالهم الله شفاعتي » ، ثم قال : « يا أسماء لا تخبري فاطمة بهذا ، فإنها قريبة عهد بولادته » ثم قال لعلي : « أي شيء سمّيت ابني؟ » قال : ما كنت لاسبقك باسمه يا رسول الله! وقد كنت أحبّ أن أسمّيه حرباً ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ولا أنا أسبق باسمه ربّي عزّوجلّ » ، فهبط جبريل فقال : السّلام عليك يا محمّد ، العليّ الاعلى يقرئك السلام ويقول : عليّ منك بمنزلة هارون من موسى ولا نبيّ بعدك ، سمِّ ابنك باسم ابن هارون ، قال : « وما اسم ابن هارون؟ » ، قال : شبير ، قال : « لساني عربيّ يا جبرائيل! » ، قال : سمِّه حسيناً ... (7).
7 ـ عندما آخى بين المسلمين :
أخرج الطبراني وعن عبد الله بن أحمد والخوارزمي عن ابن عبّاس : أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لعليّ : « أغضبتَ عليّ حين آخيتُ بين المهاجرين والانصار ولم أؤاخ بينك وبين أحد منهم ، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة
هارون من موسى إلاّ أنّه ليس بعدي نبيّ ، أَلاَ من أحبّك فقد حُفّ بالامن والايمان ومن أبغضك أماته الله ميتة جاهلية » (8).
أخرج عبد الله بن أحمد والقطيعي وابن عساكر والخوارزمي والجويني والبغوي والطبراني والباوردي وابن عدي وابن أبي عاصم والاجري وغيرهم في حديث طويل حول كيفية المواخاة عن زيد بن أبي أوفى ، قال : دخلت على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مسجده ـ فذكر قصة مواخاة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بين أصحابه ـ فقال علي : يا رسول الله ، لقد ذهبت روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت غيري ، فان كان هذا من سخط عليّ فلك العتبى والكرامة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « والذي بعثني بالحقّ ما أخّرتك إلاّ لنفسي وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبيّ بعدي وأنت أخي ووارثي » ، فقال : وما أرث منك؟ قال : « ما ورث الانبياء من قبلي » ، قال : وما ورث الانبياء من قبلك؟ قال : « كتاب الله وسنّة نبيّهم وأنت معي في قصري في الجنّة مع فاطمة ابنتي وأنت أخي رفيقي » ، ثم تلى : ( إخْوَاناً عَلَى سُرُر مُتَقَابِلِينَ ) المتحابّين في الله ينظر بعضهم إلى بعض ».
وأورد المتّقي الهندي حديث زيد بن أبي أوفى في كنزه مطوّلاً ومختصراً وعزاه إلى جماعة من المحدثين ، منهم أحمد بن حنبل في المناقب.
وذكره ابن عدي في كامله بصورة كاملة ثم قال : وزيد بن أبي أوفى يعرف بهذا الحديث ـ حديث المؤاخاة ـ بهذا الاسناد وكلّ من له صحبة ممن ذكرناه في هذا الكتاب ، فانما تكلّم البخاري في ذلك الاسناد الذي انتهى فيه إلى الصحابي ; إنّ ذلك الاسناد ليس بمحفوظ ، وفيه نظر (9).
فطريق البخاري يغاير طريق ابن عدي ; فإنه روى عن زيد بن أبي أوفى من طريق سعد بن شرحبيل ، وابن عدي روى عنه بسنده إلى عبد الله بن شرحبيل عن زيد.
والعجب من السيوطي كيف اكتفى بكلام البخاري ـ حول طريقه الذي هو : حسّان عن إبراهيم بن بشر عن يحيى بن معين عن إبراهيم عن سعد عن زيد ـ بقوله : لا يتابع ، وغفل عن أسانيد الاخرين؟!
ونقل سبط بن الجوزي عن أحمد بن حنبل عن عبد الله بن أبي أوفى قال : دخلت على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مسجده فقال لي : « أين فلان وأين فلان؟ » فجعل ينظر في وجوه أصحابه ويتفقّدهم ويبعث إليهم حتّى توافوا عنده ، فحمد الله وأثنى عليه وآخى بينهم ، فقال له علي بن أبي طالب : لقد ذهبت روحي يا رسول الله حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت غيري ، فان كان هذا من الله فلك العتبى والكرامة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
« والّذي بعثني بالحقّ ما أخّرتك إلاّ لنفسي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى وأنت أخي ووارثي » ، فقال : يا رسول الله ، وما أرث منك؟ قال : « ما ورث الانبياء قبلي » قال : وما ورثوا؟ قال : « كتاب الله وسنن أنبيائه ، وأنت معي في قصري في الجنة مع ابنتي والحسن والحسين ابنيّ ، وأنت رفيقي » ثم تلى : ( إخْوَاناً عَلَى سُرُر مُتَقَابِلِينَ ).
ثم قال ابن الجوزي : فإن قيل : ففي إسناده عبد المؤمن بن عباد وكان ضعيفاً ، والجواب : الحديث الذي يرويه عبد المؤمن حديث طويل ، أخرجه أبو محمد بن عدي الحافظ من حديث زيد بن أبي أوفى ، وقد أخرجه جدي أبو الفرج في الاحاديث الواهية ، أما هذا الحديث فأخرجه أحمد في الفضائل من غير رواية عبد المؤمن ورجاله ثقات ، وهو من حديث عبد الله بن أبي أوفى ، فهذا حديث وذاك آخر ، والدليل على صحّته أنّه أخرجه الترمذي بمعناه في جامعه (10).
أخرج القطيعي والخطيب وابن عساكر وابن المغازلي والموفّق بن أحمد وعن عبد الله بن أحمد في الزوائد عن محدوج بن زيد : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم آخى بين المسلمين ثم قال : « يا عليّ أنت أخي وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي .. ».
وفي بعض نسخ المناقب للموفّق بن أحمد : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم آخى بين المسلمين يوم بدر ، ثم قال : يا علي ... (11)
المصادر :
1- الفصول المهمة / 44.
2- كنز العمال : 11 / 607 ح : 32936 ، سبل الهدى والرشاد : 11 / 291 ، تاريخ دمشق : 42 / 42 و 169 ، مختصر تارخ دمشق : 17 / 346 ، مجمع الزوائد : 9 / 111 ، جامع المسانيد والسنن : 30 / 220 ح : 424 .
3- تاريخ دمشق : 42 / 170 ، مختصره : 17 / 346.
4- تاريخ دمشق : 42 / 167 ، مختصر تاريخ دمشق : 17 / 345 ـ 346 ، سبل الهدى والرشاد : 11 / 291 ـ 292 ، ينابيع المودة / 202 ، ذخائر العقبى / 111 ، كنز العمال : 13 / 122 ـ 123 و 124 ح : 36392 و 36395 ، المناقب للخوارزمي / 54 ـ 55 ح : 19.
5- تاريخ دمشق : 42 / 169 ، مختصر تاريخ دمشق : 17 / 346.
6- تاريخ دمشق : 42 / 139 و 140 ، المناقب للخوارزمي / 109 ح : 116 ، كفاية الطالب / 250 ـ 251 ، ينابيع المودة / 51 ، 88.
7- مقتل الحسين / 136 ـ 137 ، فرائد السمطين : 2 / 103 ـ 105 ح : 412 ب : 23 ، ينابيع المودة / 220 ـ 221 و 432 عن جواهر العقدين ، درر السمطين / 194 ، الرياض النضرة : 3 / 119.
8- الفصول المهمة / 38 ـ 39 ، كنز العمال : 11 / 607 ح : 32935 ، منتخب الكنز : 5 / 31 ، المعجم الاوسط : 8 / 435 ح : 7890 ، مجمع الزوائد : 9 / 111 ، ينابيع المودة / 56 ـ 57.
9- فضائل الصحابة لاحمد : 1 / 525 ح : 871 و 2 / 638 ـ 639 و 666 ـ 667 ح : 1085 و 1137 .
10- تذكرة الخواص / 31.
11- المناقب للخوارزمي / 140 ح : 159 ، مقتل الحسين له / 82 ح : 36