الديانة المسيحية من هيئتنا الاجتماعية الحاضرة، فإنها لم تتأيد دعوتها إلا بما اتبعته من طُرُق التعليم السري، فقد كانت في بادئ نشأتها أشبه بإحدى الجمعيات السرية التي سبقتها، ولم تكن تسلِّم أسرارها إلا لمَن يطلبها، ويبرهن على شدة رغبته في الحصول عليها، وعلى صدق نيته بها وطاهر إخلاصه في اكتسابها، بعد أن يتعهد بالقسم أن لا يكاشف بأسرارها غير المستحِقِّين.
وكانت تلك الأسرار مراتب متفاوتة يتدرج فيها الطالب مرتبةً بعد أخرى، بموجب قانونها وعلى حسب استحقاقه، بعد تجارب شديدة على مثال ما تقدَّمَ في جماعات الأعصر الخالية. ولم يكن لأصحاب المراتب الأولى أن يطَّلِعوا على شيء من أسرار المراتب الأخيرة ولا يعكس، ولم يكن بين جميع المسيحيين مَن يعرف جميع تعاليم الديانة المسيحية إلا الذين جازوا المراتب كلها، فكانوا يجيزون لمَن أرادوا الحضور في مجامعهم العمومية لاستماع شيء من مواعظهم، وكانوا يلقِّبونهم بالموعوظين، فهؤلاء متى تُلِي عليهم بعض الصلوات والأعمال مما لا شيء من الأسرار فيه، كتلاوة فصل من الكتاب أو ما شاكل، يناديهم الكاهن أن يخرجوا، ويبقى المسيحيون يتمون الصلاة «ما يسمونه أحيانًا بالكلام الجوهري»، وهذا معنى قول الكاهن في معظم كنائس المسيحيين بعد تلاوة فصل من الكتاب المقدس: «اخرجوا أيها الموعوظون، اخرجوا ليس أحد الموعوظين، بل كافة الموعوظين، والبثوا أيها المؤمنون … إلخ».
ولا يزال أولئك الموعوظون يترددون إلى الكنائس على ما تقدَّمَ إلى أن يرتدَّ أحدهم فيطلب الاعتماد، فيجربونه التجارب اللازمة، حتى إذا رأوا منه رغبة وإخلاصًا عمَّدوه ودعوه «مؤمنًا».
«وللمؤمنين» الحق بالاشتراك في الصلاة الربانية، ولهم وحدهم أن يقولوا «أبانا الذي في السموات» إلخ.
ثم يرتقي المؤمن بالاستحقاق إلى درجة «المستنيرين»، ولهؤلاء الحق في استطلاع أسرار الديانة المسيحية التي عليها مدار تعاليمها، وكانت لها امتيازات أخرى.
ومن هذه المرتبة يرتقي المسيحي إلى مرتبة «الكاملين»، وهم الذين يحق لهم الاشتراك بالعشاء الرباني.
وكان للمسيحيين غير ذلك من الشئون، مما يُستدَل منه على أن الديانة المسيحية كانت تنشر تعاليمها في بادئ أمرها على مثال الجمعيات السرية، منها:
أن تعاليمها كانت تُبلَّغ سرًّا بعد إخراج الموعوظين على ما تقدَّمَ.
أنها كانت تستعمل في احتفالاتها ملابسَ بيضاء، ولا سيما عند العمادة.
كانت لها علامات سرية مخصوصة، منها الاسم الجديد الذي يعطونه للمعتمد حديثًا منقوشًا مع علامة أخرى رمزية على حجر أبيض، كما كان يفعل الأسينيون على ما تقدَّمَ. وأشهر علامة استعملها المسيحيون إشارة الصليب، وقد أكثروا من استعمالها حتى أدخلوها في كل أحوالهم، فهم يرسمونها عند التحية، وعند النوم، وعند النهوض من النوم، وعند الدخول إلى الكنيسة وفي الخروج منها، وفي غير ذلك، ومن هذا القبيل قول بعضهم «المسيح قام»، وكانت عبارة التحية بين المسيحيين في الأزمنة السالفة.
أنه كان بين المسيحيين روابط شديدة تربطهم بعضهم ببعض، وقوانين تقضي بوجوب مساعدة أحدهم الآخر بكل ممكن. وقد كان ذلك مشهورًا بينهم إلى حد يفوق التصديق، فإذا سافر أحدهم إلى حيث لم يكن يعرف أحدًا، لا يلبث أن يصل حتى يرى إخوانًا ينتظرون أمره في كل ما يشاء، ولمثل ذلك فُتِحت الأديرة في البلدان، وطُلِب من المسيحي أن يتوجه إلى الدير، وفيه من الأقوات والنزل ما يضمن راحته، فضلًا عما يلاقي من الاستئناس بمَن هو مرتبط بهم بعهود مقدَّسة.
أن غايتها رفع منار الفضيلة، وترقية شأن الهيئة الاجتماعية. وبالحق إنها قد بلغت مما أرادت شأوًا عظيمًا.
فالديانة المسيحية كانت في بادئ أمرها متخذة سُبُلَ الجمعيات السرية في نشر تعاليمها.
النتيجة
فقد تبيَّنَ أن الطريقة المثلى لنشر العلم والفضيلة إنما هي الجمعيات السرية المنظَّمة على مثل ما تقدَّمَ، فضلًا عن أن وجود مثل هذه الجمعيات في الأعصر الخالية في سائر العالم المتمدن دليل على أن ذلك أمر طبيعي في جسم العمران. وقد تقدَّمَ عليه من الأمثلة ما يكفي، فلا تُعاب الماسونية في اتِّبَاعها مثل تلك الخطة.
وإذا تأملت بما مَرَّ ذكره من الجمعيات وكيفية نشوئها، وتشابه تعاليمها ومبادئها، وأساليب التعليم فيها، مع علمك بإغفالنا كثيرًا من أمثالها؛ يترجح لديك القول بوحدة أصلها أو بتفرُّعها بعضها من بعض.
فالماسونية إذا لم تكن أحد تلك الفروع، فهي لا شك في أول نشأتها منسوجة على منوالها؛ لأن الذين سعوا إلى تأسيسها واهتموا في نشر تعاليمها لا يخلو أن يكونوا على بيِّنة من تلك التعاليم أو خلوًّا منها، ولا يتأتى لمَن كانوا على الفرض الثاني أن يُقدِموا على مثل هذا العمل. فالمؤسسون إذن من فئة العلماء، وهم لا يُقدِمون على ما تقدَّمَ إلا وهُمْ على شيء من أمر الجمعيات السرية وقوانينها وأساليب تعليمها، لكي يتهيَّأ لهم تنظيم مثل هذه الجمعية، فلا يخلو أن يكون هؤلاء أعضاء جمعية أو جمعيات سرية وُجِدت في العصر الذي أُسِّست فيه تلك الجمعية أو قبله.
فالماسونية إذن قد نُسِجت على منوال الجمعيات السرية القديمة، هذا إذا لم نَقُلْ إنها فرع من فروعها، أو استمرار إحداها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
أقسام تاريخ الماسونية العام
يُقسَّم تاريخ الماسونية العامة إلى قسمين: قديم وحديث، أو ماسنوية عملية «أو حقيقية» وماسونية رمزية.
وتاريخ الماسونية القديمة أو الماسونية العملية على طورين:
• الطور الأول: الماسونية العملية المحضة من سنة ٧١٥ قبل الميلاد إلى سنة ١٠٠٠ بعده.
• الطور الثاني: الماسونية المشتركة من سنة ١٠٠٠ إلى سنة ١٧١٧ بعد الميلاد.
وتاريخ الماسونية الحديث أو الماسونية الرمزية على طورين:
• الطور الأول: من سنة ١٧١٧–١٧٨٣.
• الطور الثاني: من سنة ١٧٨٣ ولا يزال.
تاريخ الماسونية القديم
الطور الأول: الماسونية١ العملية المحضة
من سنة ٧١٥ق.م–١٠٠٠ب.م
كانت الماسونية في هذا الطور مقصورة على بناء الأبنية وما شاكلها، ولم يكن يُقبَل فيها إلا الذين يمارسون صناعة البناء بأنفسهم، ولا بأس إذا كانوا فوق ذلك على شيء من العلوم والآداب والفضيلة. على أنهم كثيرًا ما كانوا يمارسون هذه الفضائل رسميًّا في اجتماعاتهم كما سترى.
مهد الماسونية ومؤسِّسها
إن مهد هذه الجمعية رومية، وأول اجتماع التئم تحت اسم البناية كان في سنة ٧١٥ق.م بأمر نوما بومبيليوس وتحت عنايته. وتفصيل ذلك أن رومية بعد موت بانيها «روملُّس» أصبحت في احتياج لمَن يحكم فيها وينظم أحوالها، لا سيما وقد كان فيها من الأحزاب المتناظرة في طلب التبوُّء ما كان يُخشَى معه أن تنحط سطوتها، فتذهب فريسة المطامع والانقسام.وبعد التداول في الأمر أقَرَّ السراة ورجال الدولة على أن يختاروا لهم ملكًا من غير أبناء ملتهم، وأن يكون صابنيًّا.
وكان في ذلك العهد في صابنيا «من إيطاليا» رجل من الأشراف يُدعَى نوما بومبيليوس من الفضل والتقوى على جانب عظيم، وكان محبًّا للعُزْلة، كارهًا لما يسعى إليه الناس حبًّا بالسلطة والأثرة، عاملًا على كبح شهواته، وكانت له زوجة تحب ما يحب وتكره ما يكره، فعاشا ثلاثة عشر عامًا في «كورس»، ثم قضت نحبها فأسف نوما عليها كثيرًا، فزاد كرهًا في الدنيا ورغبة في العُزْلة، فغادر المدينة وأَلِف القفار وأَوَى إلى الكهوف، جاعلًا نصب عينيه ألَّا ينفك عن التعبُّد والتقوى وتعديد صفات الآلهة، والتردد على الينابيع المقدسة.
فأقر الرومانيون على انتخابه ليحكم فيهم، فأنفذوا إليه اثنين من سراتهم ليبلغوه ما كان من إجماع الشعب على انتخابه، فقال لهم: «إني ممَّن يؤثرون هذا القفر على قصور رومية، فضلًا عن أن السلطة — ولا سيما على الشعب الروماني — لَمِن الأمور الصعاب، فقد كان لي أن أعتبر بما صار إليه روملُّس وأنتم تعتقدون أنه سلالة الآلهة، فكيف بي وأنا رجل لم أعتَدْ سياسة الملك، وربما إذا داهمكم سوء من عدو لا أقوى على دفعه، إنما أنتم في احتياج إلى رجل باسل اعتاد الغارات ودَفْع النازلات.» فأخذ الرسولان يستنهضان شعائره إلى إنقاذ رومية من نزاع الأمة، وأنه إذا فعل ذلك إنما يفعله إرضاءً للآلهة التي اختارته، وما زالا على مثل ذلك حتى أجاب الطلب. فنهض للحال وذبح للآلهة ثم سار إلى المدينة، وذهب توًّا إلى رابية طاربيس ليستخير الآلهة، فجلس على حجر موليًا وجهه الجنوب، وجعل على رأسه غطاءً، ورئيس العيافة وراءه جاعلًا يده اليمنى فوق رأسه مصليًّا، فنظر نوما إلى السماء متيمنًا، فإذا ببعض الطيور مارة، فتفاءل الجميع واعتبروا ذلك دليلًا على استحسان الآلهة ذلك الانتخاب، ثم سار نوما إلى البناء المعَدِّ له وأخذ في سياسة الملك وتوطيد الأمن، فوسع المدينة ومدَّ أسوارها.
وكان هذا الملك يعتقد بإله واحد واجب الوجود غير متغير وغير منظور، ولا ريب أنه كان عضوًا لإحدى الجمعيات السرية المقدسة في ذلك العهد، لأن مثل هذا الاعتقاد كان معدودًا من التعاليم السرية لا يباح به إلا لمن يستحقه على ما مَرَّ بك. ويظهر من شدة التقوى والزهد اللذين كان عليهما نوما، أنه كان من المتعمِّقين في تلك الأسرار، ولعله كان من الكهنة العظام، ومما يؤيد ذلك أنه منع الرومانيين من تمثيل آلهتهم بصورة رجل أو بهيمة، وجعل قرابينهم محصورة في الخبز والعسل والخمر واللبن، ثم شاد المعابد ونظم الكهنة وأكثر من الاحتفالات الدينية، وبنى هيكلًا للإله جانس رب الفطنة والتدبير، وأمر أن يُغلَق هذا الهيكل في أيام السِّلْم ويُفتَح في زمن الحرب. وحرم الآباء حق التسلُّط المطلَق على أولادهم بعد الإرشاد، واعتنى بأمر الحراثة اعتناءً خصوصيًّا، فأقام لها دواوين خاصة بها، وفرض على الأهالي الاعتناء بها، وكان يعاقب الذين يهملونها.
ومما يهمنا ذكره هنا أنه جعل للصناعة في رومية شأنًا مهمًّا، فقسَّمها إلى حِرَف وطوائف، وجعل لكل حرفة تمثالًا، وأعطى الجميع امتيازات، وسمح لكل طائفة أن تملك عقارًا وأن تذخر مداخيلها في صناديقها تنفقها في سبيل احتفالات مقدسة تقيمها في أوقاتها. وكان في جملة تلك الطوائف طائفة البنَّائين، جعلها جماعات على نظام جماعات الديونيسيين الذين كانوا منتشرين قبل ذلك العهد بأجيال في سوريا ومصر وفارس والهند، وبنى لها مدارس مختصة بها دعاها «مدارس البنَّائين»، وعهد إليها وحدها بناء الهياكل الدينية، وما تحتاج إليه الدولة من القلاع والأسوار والمحلات العمومية. وجعل لهذه المدارس قوانين خصوصية وامتيازات لم تُعْطَ لغيرها، وجعل لها أن تضع شرائع لنفسها، وأن تُقِيم المعاهدات فيما بينها، وهي معافة من سائر أنواع الضرائب. وجعل على كل فئة من أولئك البنَّائين رئيسًا دعاه «الأستاذ»، وتحته معاونون «منبهون» وكَتَبَة وأمناء الخزنة وأصحاب الختم وغير ذلك. وكان لهم أطباء مخصوصون وخَدَمَة من بينهم، وكانوا يفرِّقون الأعطيات شهريًّا، وكان عدد أعضاء كل مدرسة أو جمعية محدودًا بحسب القانون ومعظمهم من اليونانيين. وكانوا يحافظون على أسرار صناعتهم وأشغالهم محافظةً تامة، ويستعملون الرموز والإشارات، وكانوا يدعون بعضهم بعضًا إخوة.
فكانت الدولة إذا أرادت بناء الهياكل أو القلاع أو الأسوار عهدت ذلك إلى جماعة من تلك الجماعات، فترسل من أعضائها فئة فيها من كافة عَمَلَة البناء، يقيمونه على أحسن أسلوب من الهندسة والمتانة والجمال. فكانوا إذا انتُدِبوا إلى بناء الهيكل مثلًا، تذهب الفئة المنتدَبة لذلك من البنَّائين، ويبنون لأنفسهم بيوتًا من الخشب قريبة من محل البناء يأوون إليها في ساعات الاستراحة، وهناك يلتئمون بصفة رسمية، يتداولون فيما كان من شغل نهارهم ويوزعون شغل الغد فيما بينهم، ويكرسون مَن قد سبق الإقرار على قَبولهم، وكل ذلك يقرر بأغلبية الآراء.
وكانوا منقسمين إلى ثلاث فِرَق:
التلامذة.
الرِّفَاق.
الأساتذة.
وهي درجات يرتقي فيها العضو بالاستحقاق، وكانوا يقيمون فيما بينهم العهود الوثيقة المؤيدة بالأَيْمَان أن يساعدوا بعضهم بعضًا. أما رؤساء اجتماعاتهم «المحافل»، فكانوا يُنتَخبون كل خمس سنوات ويُلقَّبون بالأساتذة.
وكان الإخوة البنَّاءون لا يبتدئون في أشغالهم إلا بعد تقديم بعض الفروض الدينية، ونظرًا لاختلاف نزعاتهم ومعتقداتهم كثرت أسماء آلهتهم؛ فاتفقوا إذا صلوا أن تكون صلواتهم باسم «مهندس الكون العظيم» إشارةً إلى أن هذا الكون بناءٌ عظيم، فخالقه مهندس عظيم.
وكان تكريس الطالبين المختارين في هذه الجماعات مقصورًا على تلاوة بعض الفروض الدينية، ثم يبلغونهم واجباتهم ويفسرون لهم بعض الرموز، ويعلمونهم إشارات التعارف بعد القَسَم على كتمانها. ومثل ذلك في ترقية التلامذة إلى رتبة الرفاق، إلا أن هؤلاء يتعلمون فوق ذلك كيف يستخدمون المربع والفادن.
أما في ترقية الرفاق إلى درجة الأساتذة، فإنهم كانوا يقيمون الاحتفالات المقدسة والامتحانات المرهبة بما يشبه طريقة المصريين القدماء.
وجماعة البنَّائين على انحصار مهنتهم في البناء، كانوا لا يتركون عِلْمًا من علوم العصر إلا أتقنوه وبرعوا فيه وعلَّموه في محافلهم، بحيث إنهم فاقوا سائر الجماعات الأخرى في العلم والفضل، فانتشروا في أنحاء كثيرة من العالم، وكانت لهم كلمات وإشارات يتعارفون بها. وكان انتشار هذه الجماعات تابعًا على الغالب لانتشار سطوة الدولة الرومانية، ولا سيما الفئات التي كانت منوطة ببناء الحصون والاستحكامات والمستشفيات والجسور والترع وما شاكل، وكانت تُدعَى «أخويات» إحداها «أخوية»، وكانت تستخدم في مثل هذه الأبنية العساكر وفَعَلَة آخرين من غير جمعياتهم، فبلغت هذه الجمعية درجة عظيمة من العلم والأدب وصناعة البناء، وصار لها شأن عظيم عند الدولة الرومانية، وكانت ترافقها حيث حلَّتْ منتصرة، فأصبحت دعامة هيئتها الاجتماعية علمًا وعملًا. وما زالت هذه حالتها حتى سقوط الدولة الرومانية وتسلُّط البرابرة، فانحطت وضعفت سطوتها، وما زالت تحاول النهوض حتى انتشرت الديانة المسيحية في أوروبا، فعادت هذه الجمعية أو الجمعيات إلى رونقها واتَّسَع نطاقها.
المصدر : من کتاب / تاريخ الماسونية العام / جُرجي زيدان