إن أهمية الإحسان تكمن في أمرين رئيسين هما زيادة الأجر ونهضة الأمة.
أما بالنسبة للأمر الأول (زيادة الأجر)، فهو مطلب كل عاقل يعيش في هذه الدنيا، فزيادة الأجر تعني الارتفاع في درجات الجنة، وكلنا يعلم بأن كل درجة في الجنة لها ميزة خاصة وهي تتميز عن التي قبلها وتزداد فيها النعيم، وبالتالي فإن المسلم العاقل يسعى بكل ما أوتي من طاقة أن يكون في أعلى الدرجات. والنبي صلى الله عليه وسلم حثّنا على سؤال الله تعالى الفردوس الأعلى من الجنة حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس ، فإنها وسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقها عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ". (رواه البخاري).
إذا فالإحسان سبب قوي لنيل أعلى الدرجات وزيادة الحسنات، وسيلاحظ القارئ حينما نتكلم عن مجالات الإحسان، بأن الإسلام يضع الدرجات العلا لمن أحسن وأتقن في عمله، فالمعادلة هي كالتالي: كلما أحسنت في عملك، كلما زاد أجرك.
ومن هنا كانت قضية الإحسان من القضايا الهامة التي يجب الاهتمام بها منذ الصغر، وعلى المربين تربية أبنائهم على هذه المسألة حتى ينشأ جيل محسن ومتقن في جميع أموره. والمسألة الأخرى المتعلقة كذلك بهذه المسألة هو زرع الإخلاص في نفوس الأفراد، فما فائدة الإحسان إذا كان صاحبه غير مخلص في هذا العمل؟ بل وقد يعود هذا الإحسان عليه ويكون سببا في حصوله على السيئات بدل الحسنات والعياذ بالله تعالى.
إن المحسن يبتغي بإحسانه وجه الله تعالى، ولا يحسن لمجرد أن يقول الناس عنه أنه محسن أو متقن، فإنّ ذلك لن يفيد الشخص أبدا، وإن جاءه الثناء من غير أن يطلبه، فذلك عاجل بشرى المؤمن. وكذلك فإن الإخلاص في الإحسان سبب أساسي للنقطة الثانية وهي نهضة الأمة الإسلامية، فإنه بالإخلاص أولا والعمل الجاد ثانيا تتحقق النهضة، بمعنى أنه عندما يرى الله تعالى من المؤمنين صدقا في أعمالهم وأنهم يبتغون بهذا الإحسان وجهه تعالى، فإنه سبحانه يحقق لهم ما أرادوه من نهضة وزعامة وريادة، والشواهد على ذلك من التاريخ كثيرة.
أما المسألة الثانية، فالإحسان سبب أساسي من أسباب نهضة الأمة الإسلامية وعودتها لصدارة الأمم وقيادتها. فلسنا نتوقع من أمة لا يوجد فيها إتقان ولا جودة أن تقود الأمم، وقد أجمع المفكرون والعلماء المهتمون بالنهضة على أهمية هذه القضية – وإن اختلفت أطروحاتهم ومصطلحاتهم –فإنهم أجمعوا على أهمية قضية الإحسان في جميع المجالات، وأنَّه لا نهضة بغير إحسان وإتقان وجودة.
إن المتأمل في المجتمعات المتقدمة يجد أمر الإحسان واضحا ومنتشرا بين أفراده، فانظر مثلا إلى اليابان أو الصين أو أمريكا أو بعض الدول الأوروبية، تجد بأنهم يحرصون على الإتقان والجودة في كثير من أمورهم ولذلك فقد تقدموا على أمة الإسلام في كثير من المجالات، ولست هنا أبث رسائل سلبية بأنهم أحسن منّا، ولكننا إذا أردنا أن ننهض فعلينا أن نعرف وندرس ونحلل واقعنا، ونعرف أخطاءنا ونعالجها، ولا مانع أبدا أن نستفيد من إيجابيات الآخرين وتجاربهم التي استطاعوا بها أن ينهضوا بأممهم فالحكمة ضالة المؤمن، أنّى وجدها فهو أحق الناس بها.
وقد بدأت الأمة الإسلامية بفضل الله تعالى خطوات واسعة في طريق النهضة واستعادة زعامتها بين الأمم، ولا شك أن ذلك قد تم بعد توفيق الله تعالى عن طريق أناس مخلصين رسموا للأمة طرقا تقود للنهضة والتميز. ومن يرى بعض المجالات التي استطاع فيها المسلمون أن يحققوا فيها إنجازات رائعة، يرى بوضوح أن الإحسان والإتقان جزء رئيسي من هذه المجالات.
ومما يدل على أهمية الإحسان كذلك، ما جاء في القرآن الكريم من نماذج تحث على الإحسان، ومن هؤلاء الأشخاص،الذين نصحوا قارون عندما رأوا ماله الكثير، فقد نصحوه بالإحسان في جملة ما نصحوه لأنهم علموا بأن الإحسان من أسباب الفلاح في الدنيا والآخرة،. قال الله تعالى: " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " (1).
وسواء كان الإحسان المقصود هو الإحسان بمعناه العام أو الإحسان بالصدقة، فإنه أمر هام جدا وسبب من أسباب الفلاح.
كذلك عندما خاطب الله تعالى أمهات المؤمنين، فإنه سبحانه خاطبهن بلفظ المحسنات، قال تعالى: " وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّـهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا " (2).
وهذا دليل على علو مرتبة الإحسان وأهميته.
وكما يقول بعض العلماء، بأن بيان أهمية الشيء طريق إلى الإقناع، وبالتالي فعندما يدرك المسلم أهمية الإحسان وأنه لا بد أن يكون جزءا أساسيا من حياته، فإنه يطبقه في أموره كلها، وهذا ما نريده من طرحنا لهذا الكتاب.
تطبيق الإحسان
كما بيّنت في المقدمة بأن حديثي موجه إلى الدعاة إلى الله تعالى بشكل خاص، وذلك لأن الأنظار مسلّط لديهم دائما وبالتالي عليهم أن يكونوا على أكبر قدر من الإحسان في أعمالهم.في الغالب يكون الناس وخاصة الدعاة على قدر كبير من الاهتمام بالإتقان والإحسان في شعائرهم التعبدية وهذا أمر مطلوب، ولكن السؤال الهام هنا، ما هو أثر هذا الإتقان على أمور الحياة الأخرى؟ بمعنى هل يدفع الاهتمام بالإحسان في الوضوء والصلاة والصيام وغيرها من الشعائرإلى الإحسان حين التعامل مع الناس؟ أو الإحسان في العمل؟ أو الإحسان في أداء الأعمال الحياتية؟
إذا كانت الإجابة بنعم، فليحمد الشخص ربه على هذا الأمر وليستمر على ذلك، أما إذا كانت الإجابة بلا، فهناك مشكلة خطيرة ينبغي التنبه لها والعمل على علاجها بالسرعة الممكنة. ينبغي العلم أنه لا ينبغي الفصل أبدا بين العبادات والأعمال الحياتية، بل إن الأعمال الحياتية إذا ارتبطت معها النية الصالحة أصبحت عبادة، فالعبادة ذات مفهوم واسع أكبر من كونها مجرد شعائر تعبدية. وكما ذكرنا من قبل في تعريف العبادة التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله تعالى بأنهااسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوالوالأعمال الظاهرة والباطنة.
إذا ينبغي تحويل ما يتعلمه المسلم عند أدائهلشعيرة معينة إلى تطبيق عملي في حياته كلها. تأمل مثلا في قول الله تعالى: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ " (3).
نجد بأن من مقاصد الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، وبالتالي من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فليراجع نفسه، فإن لديه خللا في ما عند أدائه للصلاة، ولسنا نريد هنا صحة الصلاة من عدمه، ولكننا نريد المعنى من ذلك وهو أثر هذه الشعيرة على الشخص في حياته.
خذ مثالا آخر وهو الصوم، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ".(رواه البخاري)، يعني ذلك بأن الصيام يجب أن يدفع المسلم إلى عدم قول الزور، وبالتالي فإن الشخص الذي يقول الزور وهو صائم أو بعد صيامه، فعليه أن يراجع نفسه ومدى تأثير الصيام عليه من عدمه.
إننا نقول هذا الكلام لأننا سنأتي على آيات وأحاديث تحث على الإحسان في شعائر معينة، وإننا نريد من المسلم وخاصة الداعية أن يتحول هذا الإحسان الذي يهتم به في هذه الشعائر إلى إحسان في جميع حياته. فكما يحسن في الوضوء والصلاة والصيام وقراءة القرآن، يجب عليه الإحسان في بيته وفي عمله وفي كل مكان وعند أداء أية مهمة.
ولعل من أكبر الأسباب التي تدفع المسلم إلى تطبيق الإحسان في حياته بعد سؤال الله تعالى التوفيق، أن يستشعر معنى الإحسان في الشعيرة التي يؤديها، بمعنى أن يعيش مع هذا المعنى عندما يطبق أو يكون مع الشعيرة. مثلا، حين يتوضأ الشخص، يستشعر كل حركة يؤديها ويعيش مع فضل الوضوء وأهميته، فإذا استشعر ذلك وكرّر ذلك لمرات عديدة، فإن هذا الإحسان سينتقل تلقائيا إلى أمور حياته الأخرى، لأنه درّب نفسه على الإحسان وبالتالي أصبح الإحسان جزءا من حياته يطبقها في جميع أموره.
وقد يقول قائل بأنني قلت في بداية الحديث في هذا الجزء بأن بعض الدعاة يحرص على الإحسان في الشعائر ولكن لا ينتقل هذا الأثر إلى بقية الأعمال، فهل يعني ذلك بأنهم لم يستشعروا هذا الأمر؟
الجواب على ذلك - في وجهة نظري - بأن هؤلاء لم ينظروا إلى الجانب الواسع لقضية الإحسان وأهميته في الحياة، وأقصد بذلك بأنهم لم ينظروا إلى الإحسان بأنه سبب من أسباب نهضة الأمة كما بيّنا سابقا، وإنما يفكر هؤلاء بأنفسهم فقط ونادرا ما يفكرون بأمر أمتهم. ولا يفهم من كلامي التعميم أبدا، وإنما أقصد فئة معينة فقط من الدعاة، وإلا فحديثي عن الإحسان موجه إلى كل المسلمين.
وهنا أوجه ندائي إلى العلماء الفضلاء وأصحاب مشاريع النهضة، بأن يشرحوا للعامة مقاصد العبادات وأثرها على حياتهم، فأداء العبادة لها أهمية كبيرة، وكذلك أثر العبادة لها أهمية كبيرة كذلك.
وأؤكد بأن هؤلاء العلماء يجب أن يكونوا أول الناس تطبيقا لمعنى الإحسان في حياتهم لأنهم القدوات، فإذا وجد الناس هذه القدوات تطبق معنى الإحسان، وجاء حث كذلك من هؤلاء العلماء على تطبيق الإحسان، فإن الأمة الإسلامية تكون قد قطعت خطوات واسعة في طريق النهضة، وستقفز بإذن الله تعالى قفزات هائلة في جميع المجالات وستعود إلى صدارة الأمم.
تأمل مخلوقات الله تعالى
أمر آخر يدفع إلى الإحسان وهو تأمل مخلوقات الله تعالى في السموات والأرض، فالله تعالى يأمرنا أن نتأمل في مخلوقاته من خلال النظر في السموات والأرض " قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " (4).الله تعالى حين أمرنا بالنظر في مخلوقاته، يدعونا سبحانه إلى الاستفادة من الصفات الموجودة في هذه المخلوقات. ولنتأمل مثلا في عالم الحيوان، فسنرى إحسانا عجيبا في هذه المخلوقات.
تأمل كيف ينقض كل من الصقر والنسر على فريستهما، ألا تشاهد الإحسان في ذلك؟ تأمل كيف تبني الطيور أعشاشها، ألا تشاهد الإحسان في ذلك؟ تأمل في عالم الأسماك، كيف تتحرك في مجموعات منتظمة؟ ألا تشاهد الإحسان في ذلك؟ تأمل في التمساح، هذا الحيوان المخيف، كيف يقتنص الفرص للانقضاض على فريسته؟ ألا تشاهد الإحسان في ذلك؟ ثم تأمل في عالم الأسود وكيف تخطط للقبض على فريسة معينة؟ ألا تشاهد الإحسان في ذلك؟.
والمثال الأوضح من ذلك كله نشاهده في عالمي النمل والنحل، والمتأمل في هذين العالمين بالذات يرى إحسانا لا مثيل له، ألا يدعونا التأمل في هذا العالم نحن البشر إلى الإحسان في أعمالنا؟والله تعالى أكرمنا نحن البشر على سائر المخلوقات"وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا "(5).
ألا يدعونا هذا التكريم إلى التفوق على النمل والنحل في إحساننا في أعمالنا؟ ألا يدعونا هذا التكريم على التفوق على الصقر والنسر والأسماك والتمساح والأسود وغيرها من المخلوقات؟ أتوقع من كل عاقل أن يجيب بأننا أفضل من هذه المخلوقات جميعا، ولكن نحتاج إلى تحويل هذا الكلام إلى واقع ملموس وخطوات عملية في الإحسان.
الله سبحانه وتعالى يقول عن نفسه "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ " (6)
ويقول كذلك سبحانه: "فَتَبَارَكَ اللَّـهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ " (المؤمنون14)، فالله تعالى خلق كل شيء بإحسان لا مثيل له، فالمتأمل في السموات والأرض، والشمس والقمر والنجوم والأشجار والجبال والأزهار وغيرها من المخلوقات يلاحظ ذلك بشكل واضح. ولعل الله تعالى أرادنا أن نستفيد من هذه المخلوقات في غرس صفات وقيم في أنفسنا، ولعل من أبرز هذه الصفات صفة الإحسان.
ومثال واضح آخر هو خلق الإنسان نفسه، حيث يقول الله تعالى: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ " (7).
والله تعالى يدعونا إلى التأمل في أنفسنا "وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ "(8).
فكل عضو في جسم في مكانه المناسب، وكل عضو يؤدي وظيفته بالصورة المناسبة، وجسم الإنسان بشكل عام عبارة عن مصنع مصغّر وهناك ملايين بل مليارات الموظفين يعملون ليل نهار لخدمة هذا الإنسان. هذا الإحسان في خلق الإنسان يجب أن يدفعنا كذلك إلى الإحسان في أعمالنا. فكم هو جميل أن يتوافق الإحسان الداخلي مع الخارجي.
تأمل في قول الله تعالى واحمده جل وعلا على أن خلقنا فأحسن صورنا، "اللَّـهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ " (9)
ويقول تعالى كذلك: "خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ " (10).
إذا كل ما في الكون يساعدنا على الإحسان، فما هو عذرنا في عدم الإحسان؟ هذا مع حث من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على الإحسان في العبادات كما سنبين ذلك لاحقا إن شاء الله تعالى.
المصادر :
1- القصص77
2- الأحزاب 29
3- العنكبوت45
4- يونس101
5- الإسراء70
6- السجدة7
7- التين4
8- الذاريات21
9- غافر64
10- التغابن3