الحزن ، الأسى والرثاء

لم يبق أحدٌ لم يدخل عليه الحزنُ والألمُ بقتل الحسين (عليه السّلام) ، فالإمام لم يكن شخصاً ، بل كان شاخِصاً إليه تشخص أعين الأُمّة كي يُنجدها من المأزق الذي حاصرها وحاصر دينها ودنياها.
Sunday, April 9, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الحزن ، الأسى والرثاء
الحزن ، الأسى والرثاء





 
 
لم يبق أحدٌ لم يدخل عليه الحزنُ والألمُ بقتل الحسين (عليه السّلام) ، فالإمام لم يكن شخصاً ، بل كان شاخِصاً إليه تشخص أعين الأُمّة كي يُنجدها من المأزق الذي حاصرها وحاصر دينها ودنياها.
ولئن تقاعس الناسُ عن إدراك ما يجب عليهم أن يفعلوه في تلك الظروف العصيبة ، ولم يتمكّنوا من الإقدام على الفداء والتضحية ، إلاّ أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) بتضحيته وإقدامه فجّر في نفوسهم كوامنها ، فلم يحبسوا عن الإمام (عليه السّلام) نصرهم بالعواطف بعد أن فاتهم نصره بالنفوس وإن كان بعد أن خسروا وجوده الشريف ، وما يحمله من معارف ومعاني ومكارم!
فكانت المراثي التي تعتبر في مثل ذلك الظرف الرهيب استمراراً لثورة الحسين ، واحداً من نتائجها لمّا انطلقت الألسنُ عن صمتها.
وأوّل من أعلن الرثاء اُمّ سلمة زوجة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، التي ساهمتْ في نشر أخبار سيرة الحسين (عليه السّلام) بكثرة ، فقد كانتْ تستطلعُ أخبار الحسين ، فقالتْ لجارية لها :
اخرجي فخبّريني فرجعت الجارية ، فقالت : قُتل الحسين!
فشهقتْ شهقةً غشي عليها ، ثمّ أفاقت فاسترجعتْ ، قالت : قتلوه! قتلهم الله ، قتلوه! أذلّهم الله ، قتلوه! أخزاهم الله.
قالت : قد فعلوها!
ملأ الله بيوتهم ـ أو قبورهم ـ ناراً.
ووقعت مغشيّاً عليها!
وكان ابن عبّاس يتوقّع خبر الحسين بن عليّ (عليه السّلام) إلى أن أتاه آت ، فسارّه بشيء ، فأظهر الاسترجاع ، قال الراوي :
فقلنا : ما حدث يا أبا العبّاس؟
قال : مصيبةٌ عظيمةٌ عند الله نحتسبها (1).
وحتّى الجنّ قد أسهموا في هذا الحُزن العظيم مع المؤمنين ، ومع الطبيعة ، فقد جاءت الأخبار بما يلي :
قالت اُمّ سلمة : سمعت الجنّ تنوح على الحسين يوم قتل ، وهنّ يقلن :
أيّها القاتلون ظلماً *** حسيناً أبشروا بالعذاب والتنكيلِ
كلُّ أهل السماء يدعو عليكم *** من نبيٍّ ومرسَلٍ وقتيلِ
قد لُعنتم على لسان ابن داود *** وموسى وصاحب الإنجيلِ
وجنيّة تنوح :
ألا يا عين فاحتفلي بجهدِ ***ومن يبكي على الشهداء بعدي
على رهط تقودهم المنايا***إلى متجبّرٍ في ملك عبدِ (2)
قال أبو جناب الكلبيّ : أتيتُ كربلاء ، فقلت لرجل من أشراف العرب بها : بلغني أنّكم تسمعون نوح الجنّ؟
قال : ما تلقى حرّاً ولا عبداً إلاّ أخبرك أنّه سمع ذاك.
قلت : أخبرني ما سمعتَ أنتَ؟
قال : سمعتهم يقولون :
مسحَ الرسول جبينه ***فله بريقٌ في الخدودِ
أبواه من عَلْيا قري *** شٍ جدّه خير الجدودِ (2)
كان الجصّاصون إذا خرجوا في السحر سمعوا نوح الجنّ على الحسين (عليه السّلام) ينشدون ذلك الشعر.
ولمّا قُتل الحسين بن عليّ (عليه السّلام) سُمع مناد ينادي ليلاً ، يُسمع صوتُه ولم يُر شخصُه :
عقرتْ ثمودٌ ناقةً فاستؤصلوا ***وجرت سوانِحُهم بغير الأسعدِ
فبنو رسول الله أعظم حرمةً ***وأجلّ من أُمّ الفصيل المقصدِ
عجباً لهم ولما أتوا لم يُمسخوا ***والله يملي للطغاة الجُحَّدِ (3)
وأمّا الإنس : فقد فجّرت واقعة كربلاء قرائح الشعراء ، أصحاب الولاء لأهل البيت ، وقد ملأت مراثيهم دواوين الأشعار وكتب الأخبار ، وعرف كثير من شعراء العربية برثائهم للحسين (عليه السّلام) فقط.
وفي طليعة أهل الرثاء : خالد بن عَفران : من أفاضل التابعين كان بدمشق ، وحدّثوا أنّ رأس الحسين بن عليّ (عليه السّلام) لمّا صلب بالشام ، أخفى خالد بن عَفران شخصه عن أصحابه ، وطلبوه شهراً حتّى وجدوه ، فسألوه عن عزلته؟
فقال : أما ترون ما نزل بنا؟!
ثمّ أنشد يقول :
جاؤوا برأسك يابن بنت محمّدٍ ***متزمّلاً بدمائه تزميلا
وكأنّما بك يابن بنت محمّدٍ ***قتلوا جهاراً عامدين رسولا
قتلوك عطشاناً ولم يترقّبوا ***في قتلك التنزيل والتأويلا
ويكبّرون بأن قُتلتَ وإنّما ***قتلوا بك التكبير والتهليلا (4)
ومنهم ـ وقيل : إنّه أوّل من رثى الإمام (عليه السّلام) ـ سليمان بن قَتّة ، قال :
وإنّ قتيل الطفّ من آل هاشمٍ ***أذلّ رقاباً من قريش فذلَّتِ
فإنْ تبتغوه عائذ البيت تفضحوا ***كعاد تعمّتْ عن هداها فضلّتِ
مررتُ على أبيات آل محمّد ***فلم أرها أمثالها حيث حلّتِ
وكانوا لنا غُنماً فعادوا رزيّةً ***-لقد عظمت تلك الرزايا وجلّتِ
فلا يُبعد الله الديارَ وأهلَها ***لقد عظمتْ منهم برغمي تخلّتِ
إذا افتقرتْ قيسٌ جبرنا فقيرَها ***وتقتُلنا قيسٌ إذا النعلُ زلّتِ
وعند غنيٍّ قطرةٌ من دمائنا ***سنجزيهمُ يوماً بها حيث حلّتِ
ألم تر أنّ الأرض أضحتْ مريضةً ***لفقد حسين والبلاد اقشعرّتِ (5)
وأنشدوا لبعض الشعراء في مرثية الحسين بن عليّ (عليه السّلام) :
لقد هدَّ جسمي رزءُ آل محمدٍ ***وتلك الرزايا والخطوب عظامُ
وأبكتْ جفوني بالفرات مصارعٌ ***لآل النبيِّ المصطفى وعظامُ
عظامٌ بأكناف الفرات زكيةٌ ***لهنَّ علينا حرمةٌ وذمامُ
فكم حُرّةٌ مسبيّةٌ فاطميَّةٌ ***وكم من كريمٍ قد علاه حسامُ
لآلِ رسول الله صلّتْ عليهمُ ***ملائكةٌ بيضُ الوجوه كرامُ
أفاطمُ أشجاني بَنُوكِ ذَوُو العُلا ***وشِبتُ وإنّي صادقٌ لَغُلامُ
وأصبحتُ لا ألتذُّ طيبَ معيشةٍ ***كأَنَّ عَلَيَّ الطّيباتِ حرامُ
ولا الباردُ العذبُ الفراتُ أُسيغهُ ***ولا ظلَّ يهنيني الغَداةَ طعامُ
يقولون لي صبراً جميلاً وسلوةً ***ومالي إلى الصبر الجميل مرامُ
فكيف اصطباري بعد آل محمّدٍ ***وفي القلب منهم لوعةٌ وسقامُ

الانتقام للدماء

ولئن كانت فتنةُ الله لعباده الصالحين ـ من الأنبياء والأئمّة والأولياء ـ شديدة الوطأة عليهم ، ولكنّها كانتْ وَعْداً وعهداً ربّانياً اتّخذوه وصَدَقُوهُ ، فصبروا على الأذى في جنب الله ، وصابروا ورابطوا على مواقع الحقّ ، ولم يتراجعوا ، ولم يهنوا ، ولم يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا ، وجاهَدُوا بكلّ قُوّة وصلابة وإصرار حتّى فازوا برضا الله عنهم كما رضوا عنه ، وحازوا خلود الذكر في الدنيا ، وجنّات عدن في الآخرة.
وصَدَقهم الله وعدَهُ بالانتقام من المُجْرِمين ، وليعلموا أنّ وعد الله حقّ ، وأنّ الله منجز وَعْدِهِ رُسُلَهُ إلى أن يرثَ ويرثوا الأرض ، ويستخلفهم عليها ، وعْداً عليه حقّاً في كلّ الكتب السماوية : التوراة والإنجيل والزبور والقرآن.
وقبل هذا الأمر المعلن في النصوص المقدّسة ، والذي لا يستيقنه الّذين لا يؤمنون ، فهم لا يؤمنون بالغيب ، وإن كان أمر الانتقام من قتلة الصالحين والمصلحين هو مكشوف للعيان واضح لكلّ ذي عينين إذا أتعب جفنيه ففتحهما على ما حوله :
ألَيْس خلوّ المجتمع من الصلحاء المخلصين للأُمّة والوطن يعني فراغ الساحة للعابثين والانتهازيّين والنفعيّين؟!
أليس قتل الجماعة المؤمنة ذات المستويات الرفيعة في الشرف والكرامة بين الأُمّة ، يؤدّي إلى تجرّؤ القتلة والظلمة على ارتكاب الجرائم الأكثر ، لأنّه يهوّن عليهم قتل الآخرين بعد قتل الأشراف؟!
أليس سكوت الأُمّة على فظائع مروّعة ، ومجازر رهيبة مثل مذبحة كربلاء ، بجرائمها وبشاعتها ، يكشف عن عجز الأُمّة عن التصّدي للظالم وخضوعها بما يؤدّي إلى إقدامه على الإجرام الأوسع كما فعل بنو أُميّة في وقعة الحرّة.
بل على الهتك الأعظم لحرمات الله كما فعلوه في إحراق الكعبة وهدمها؟!
إنّ هذه النتائج الواقعة كانت هي النتائج المنظورة والمرئيّة لكلّ أحد ممّن يحمل قبساً من نور الوعيْ والعقل والفكر ، أو يجد عليها هدىً ، ولم يكن بحاجة إلاّ إلى التفاتة صغيرة!
وقد أخبر الإمامُ الحسين (عليه السّلام) عن بعض هذه النتائج قبل أن يرد كربلاء ، وبعد أن وردها :
قال : «والله ، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي! فإذا فعلوا سلّط الله عليهم من يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأَمَة»!
وقال : «لا أراهم إلاّ قاتليّ ، فإذا فعلوا ذلك لم يَدَعُوْا لله حرمة إلاّ انتهكوها ، فيسلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأَمَة»!
ولقد كان القتلُ للأنبياء والأئمّة (عليهم السّلام) عادةً ، وكرامتهم من الله الشهادة ، وإنّما بَرز الّذين كُتب عليهم القتلُ إلى مضاجعهم ، ليثبتوا أنّهم أوفياء لوعد ربّهم ، ولدينهم وأهدافهم. فكذلك كان الانتقام للدماء الزاكية سُنّةً إلهيةً جاريةً.
وقد ذكّر الله تعالى نبيَّه بذلك كما في الحديث:
أوحى الله تعالى إلى محمّد (صلّى الله عليه وآله) (أنّي قد قتلت بيحيى بن زكريّا سبعين ألفاً ، وأنا قاتل بابن ابنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفاً) (6).
وأمّا آحاد الحُثالات التي تكدّست في كربلاء ، وارتكبتْ جريمة عاشوراء ، فهم أحقر من أن يُذكروا ويُذكر ما جرى عليهم ، فكفاهم ذلاً وخزياً ، وعاراً وشناراً ما أقدموا عليه من قتل ابن بنت رسول الله والكوكبة الأخيار من آله ، والهالة المشعّة من الصالحين حوله.
مع أنّ التاريخ لم يغفل ما جرى على كلّ واحد منهم من الانتقام الإلهيّ في هذه الدنيا على يَدِ الأخيار من أنصار الحقّ الّذين «اختارهم» الله لهذه المهمة العظيمة لتكون عبرة لمن اعتبر ، ولمن يعتبر على طول التاريخ من الظَلمة ، ليعلموا أنّ الله لهم بالمرصاد ، وليأتينّهم موعدهم ولو بعد حين.
هذا هو الإمام الحسين أبو عبد الله (عليه السّلام) :
في سماته.
وفي سيرته قبل كربلاء.
وعلى أرضها يوم عاشوراء.
وأمّا بعد كربلاء فهو الزمن القصير الطويل على طول أربعة عشر قرناً ، فالإمام الحسين (عليه السّلام) بقي يُذكر وتدوّي صرخاتهُ ولم تنقطع نداءاته ولا أحزانه. ولا ظروف حركته.
وهو التأريخ يجدّد وجوده ، ويُعيد نفسه ، ويكرّر أنفاسه! وتصدُق مقولة «كلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء».
ولئن خَلَت العصور من عَيْن الحسين (عليه السّلام) فإنّ روحه وأهدافه تتبلور في أبنائه وشيعته ، والسائرين على دربه وسيرته وطريقته ، يملؤون الأرض بنماذج من شعاره ، ويحملون لواءَ الحقّ يذبّون عنه ، وينشرونه على خطوط الطول والعرض ، لتفيئ الكرة الأرضيّة إلى حكم الله ، وينعم البشر بآلاء الله ، ويتحقق وعدُ الله في كتابه الكريم حيث يقول :
(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنَا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَاُولئك هُمُ الْفَاسِقُونَ).
المصادر :
1- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 153.
2- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 154.
3- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 155.
4- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 392
5- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 158.
6- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 149.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.