عليٌّ (عليه السّلام) أمير المؤمنين ، الوصيُّ الذي تلقّى من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أدوات الخلافة : عينيّها ومعنويّها ، خفيّها وعلنيّها ، علومها الشرعية وأسرارها المودعة الجفريّة ، ما أسرّ كثيراً منها وأعلن عن البعض ، فكان فيما أعلن عنه الإخبار عن مقتل الحسين (عليه السّلام).
قال صاحب مطهرته : لمّا حَاذى (عليه السّلام) نينوى وهو منطلق إلى صفّين نادى : «صبراً أبا عبد الله ، صبراً أبا عبد الله بشطّ الفُرات».
قلتُ : مَنْ ذا أبو عبد الله؟
قال عليّ (عليه السّلام) : «دخلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعيناه تُفيضان ... فقال : قام من عندي جبرئيل قبلُ ، فحدّثني أن الحسين يُقتل بشطّ فرات ...» (1).
أمّا أين هي نينوى؟ وأيّ شاطئ من شواطئ الفرات هو موضع قتل الحسين (عليه السّلام)؟
فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد هدى عليّاً (عليه السّلام) إلى «علامة» ووضع عنده عيّنةً من تربة الموضع.
قال : «هل لك أنْ اُشِمَّك من تُربته؟
فمدّ يده ، فقبض قبضةً من تراب فأعطانيها».
وعلامةٌ اُخرى ، إنّ هذه التربةَ مفيضةُ الدمع ، وقد جرّبها عليّ (عليه السّلام) لأوّل مرّة وقعت بيده ، فقال :
«فلم أملك عينيَّ أن فاضتا».
وبعد هذه الأعوام الطوال ، والحُسين يقرب من الثلاثين من عمره ، يقف عليٌّ (عليه السّلام) على هذه الأرض ، ليقف على تلكما العلامتين ، ويُعلن عن الغيب المستودع مرّتين ، مرّة حين سار إلى صفّين كما قرأنا في الحديث السابق ، ومرّة أُخرى حينما رجع من صفّين ، قال الراوي :
أقبلنا مرجعنا من صفّين فنزلنا كربلاء ، فصلّى بها عليّ صلاة الفجر بين شجرات ودوحات حَرْمَل ، ثم أَخَذَ كفّاً من بَعْر الغِزْلان فشمّه ، ثم قال : «اُوّهْ اُوّهْ! يُقتلُ بهذا الغائط قومٌ يدخلون الجنّةَ بغير حساب» (2).
لقد شمّ عليٌّ تُربة هذه الأرض من يَد النبيّ ، ويشمّها اليوم وهو على أرض كربلاء ، يقدّسها فيصلّي فيها.
ولئن كانت أنباءُ الرسول (صلّى الله عليه وآله) من دلائل النبّوة ، فإنّ حضور عليّ (عليه السّلام) على هذه الأرض ، وإعلانه عن أنباء الغيب التي أوحاها إليه الرسول (صلّى الله عليه وآله) وحمّلها عليّاً ، فهي من دلائل الإمامة.
وزاد عليّ (عليه السّلام) أنْ حضر في كربلاء وقدّس أرضها ، وواسى ابنه الشهيد بنداء له : «صبراً أبا عبد الله» «صبراً أبا عبد الله».
وإذا كانت أنباء كربلاء من الغيب الذي يُوحيه الله إلى الرسول ، فلا بدّ أنّ شيئاً من تلك الأنباء قد جاء في صحف الأنبياء ما دامت الشريعة الإلهية واحدة ، والحقائق الكونيّة بعينها متّحدة ، والوقائع المتجدّدة محفوظة في لوح الغيب ، والأهداف في الإعلان عنها بنفسها مُتكرّرة.
فماذا عن كربلاء في الصحف الأُولى؟
إنّ رجالاً من أهل الأديان قد تناقلوا بعض تلك الأنباء :
فهذا كعب الأحبار كان إذا مرَّ عليٌّ (عليه السّلام) يقول : يخرج من وُلد هذا رجلٌ يُقتل في عصابة لا يجفُّ عرق خيولهم حتّى يردوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله).: وكان رأسُ الجالوت ـ وهو من أولاد الأنبياء السابقين ـ يقول : كُنّا نسمع أنّه يُقتل بكربلاء ابنُ نبيٍّ ، فكنتُ إذا دخلتُها ركضتُ فرسي حتّى أجوزَ عنها ، فلمّا قُتل حُسَينٌ جعلتُ أسير بعد ذلك على هيئَتي (3).
وإذا كانت الأنباء قد ذاعتْ وانتشرتْ ، ورويتْ عن الصحف الأُولى ، وعن النبيّ ، وعن عليّ ، فأجدر بالحسين أبي عبد الله ، صاحب الأنباء ومحورها ، وموضوع حديثها ، أن يكون على علم بها.
ولقد أعلن عنها قبل كربلاء ، وكان يحلف بالله على النتيجة التي يلقاها ، ومن تلك الأنباء :
قال الحسين (عليه السّلام) : «والله ، ليَعْتَدُنَّ عليَّ كما اعتدت بنو إسرائيل في السبت».
وقال (عليه السّلام) : «والله ، لا يَدَعُوني حتّى يستخرجوا هذه العَلَقةَ من جوفي».
وقال من شافَهَ الحسين (عليه السّلام) : رأيت أبْنِيةً مضروبةً بفلاة من الأرض ، فقلتُ : لمن هذه؟
قالوا : هذه لحسين. فأتيتُه ، فإذا شيخ يقرأ القرآن ـ والدموع تسيلُ على خدّيه ولحيته! ـ فقلت : بأبي أنت وأُمّي يابن رسول الله! ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحدٌ؟!
فقال : «هذه كتب أهل الكوفة إليَّ ، ولا أراهم إلاّ قاتلي».
وأوْلى بالحسين (عليه السّلام) أن يعلم ما يجري في الغيب من خلال إخبار جدّه المرسَل ، لأنّه من أعلام الإمامة التي زانها.
حديث كربلاء : أحزانُها وتربتُها :
واسم «كربلاء» نفسه الذي لم يذكر في تراث العرب القديم ، وإنّما جاء على لسان الغيب ، وسمعه العرب لأوّل مرّة في حديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، فيما رواه سعيد بن جهمان قال :
إنّ جبرئيل أتى النبي (صلّى الله عليه وآله) بتراب من تربة القرية التي يُقتل فيها الحسين (عليه السّلام).
وقيل : اسمها «كربلاء».
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «كربٌ وبلاءٌ» (4).
فلا بدّ أن يكون هذا الاسم موضوعاً على تلك القرية ، لكن تداولها بدأ منذ هذا الحديث ، وأمّا استيحاء «الكرب» و «البلاء» منه فلم يؤثر إلاّ من هذا النصّ ، بالرغم من إيحاء حروف الكلمة ودلالتها التصوّرية التي لا يمكن إنكارها.
وعليّ (عليه السّلام) أيضاً سأل عن هذا الاسم واستوحى منه نفس الوحي.
قال الراوي : رجعنا مَعَ عليّ من صِفّين ، فانتهينا إلى موضع ، فقال : «ما يُسَمّى هذا الموضع؟».
قلنا : كربلاء.
قال : «كربٌ وبلاءٌ».
ثم قَعَدَ على رابِية وقال : «يُقتل ها هنا قومٌ أفضل شهداء على ظهر الأرض ، لا يكون شهداء رسول الله (صلّى الله عليه وآله)».
والحسينُ نفسُه حين نزلَ كربلاء تساءَلَ :
«ما اسمُ هذه الأرض؟».
قالوا : كربلاء.
قال (عليه السّلام) : «كربٌ وبلاءٌ».
وبعد حديث الغيب كان إحضار عيّنة من «تُربة كربلاء» التي تكرّر الحديث عنها دعماً من الرسول (صلّى الله عليه وآله) لكلّ ذلك الحديث بمصداق ونموذج من تُربتها ، لتكون دليلاً عينياً من دلائل النبوّة ومعجزاتها.
ففي حديث عليّ (عليه السّلام) أنّ جبرئيل قال للنّبي (صلّى الله عليه وآله) : هل أُشمّك من تُربته؟
«فمدّ يده فقبض قبضةً من تُراب فأعطانيها».
وفي حديث أنس : فجاءه بسهلة أو تُراب أحمر ، فأخذته اُمّ سلمة فجعلتْه في ثوبها.
وفي حديث أبي أُمامة : فخرج على أصحابه وهم جلوس ... قال : «هذه تُربته» فأراهم إيّاها (5).
ولاُمّ المؤمنين اُمّ سلمة شأن أكبر مع هذه التربة ، فقد روت حديثه بشيء من التفصيل :
.. فاستيقظ وفي يده تُربة حمراء وقال : «أخبرني جبرئيل أنّ ابني هذا ـ الحسين ـ يقتل بأرض العراق ... فهذه تُربتها.
... أهل هذه المدرة يقتلونه»!
بل زادها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) شرفاً بأن استودعها تلك التربة ، وكانت تحتفظ بها فيما روته ، قالت :
كان الحسن والحسين يلعبان بين يدي النبي (صلّى الله عليه وآله) في بيتي ، فنزل جبرئيل (عليه السّلام) فقال : يا محمّد ، إنّ أُمّتك تقتل ابنك هذا من بعدك ، وأومأ بيده إلى الحسين (عليه السّلام).
فبكى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وضمّه إلى صدره ثمّ قال :
«وديعةٌ عندكِ هذه التُربة» فشمّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال : «وَيْحَ كربٍ وبلاء!
وقال : يا اُمّ سلمة إذا تحوّلت هذه التُربة دماً فاعلمي أنّ ابني قد قُتل».
فجعلتْها اُمّ سلمة في قارورة ، ثمّ جعلتْ تنظر إليها كلّ يوم وتقول : إنّ يوماً تحوّلين دماً ليوم عظيمٌ (6)!
وهذه التفاصيل اختصّت بها اُمّ سلمة من بين زوجات النبيّ.
أما حديث التُربة فقد رواه غيرها من النساء أيضاً :
فعائشة قالت : فأشار له جبرئيل إلى «الطفّ» بالعراق ، وأخذ تربة حمراء فأراه إيّاها فقال : هذه تربة مصرعه.
وزينب بنت جحش روت: فأراني تربة حمراء.
واُمّ الفضل ـ مرضعة الحسين (عليه السّلام) ـ قالت : وأتاني بتربة من تربته حمراء.
والعجيب في أحاديثهنّ كلّهن ، وأحاديث مِن غيرهنّ أنها تحتوي على جامع مشترك هو «الحُمرة» لون الدم ، إلاّ أنّ حديثها احتوى على تحوّل التربة إلى «دَمٍ» في يوم عاشوراء.
فما هذه الأسرار التي تحتويها هذه الأخبار؟
وما سرّ هذه التُربة التي :
تُفيضُ دمعة الناظر إليها!
وتتحوّلُ إلى دم!
ولها رائحةٌ خاصّة!
وكان طيبها دليلاً عليها لمن يهواها :
فلمّا أُجريَ الماءُ على قبر الحسين (عليه السّلام) في عصر المتوكّل العبّاسي ـ نضب بعد أربعين يوماً ، وامتحى أثر القبر ، فجاء أعرابيٌ من بني أسد ، فجعل يأخذ قبضةً ويشّمها حتّى وقع على قبر الحسين وبكاه ، وقال : بأبي وأُمّي ما كان أطيبَك ، وأطيب تربتك ميتاً! ثمّ بكى وأنشأ يقول :
أرادُوا ليُخفوا قبره عن وليّه *** فطِيبُ ترابِ القبر دلَّ على القبرِ (7)
وتُوحي الكرب ، والدمّ ، والقتل ، والبلاء!
وهل يمكن الاطّلاع على تلك الأسرار إلاّ من خلال أنباء الغيب التي تُوحيها السماءُ على سيّد الانبياء؟
وإنّ من أعظم دلائل النبوّة والإمامة تحقُّقُ تلك التنبُّؤات كلّها.
ولا تزال «تُربةُ كربلاء» ذاتها تتحوّلُ يوم عاشوراء إلى دَم قان.
ولا يزال الموالون للحسين (عليه السّلام) يعرفونها من رائحتها.
ولا زال تراب كربلاء يُقدَّس ، ويُتقربُ إلى الله بالسجود عليه لطهارته وشرفه عند الله ، ويُتبرّك به ، ويُستشفى به ، لأن دم الحسين (عليه السّلام) اُريق عليه في سبيل الله.
ولا زالتْ أرضُ كربلاء توحي المآسيَ والكربَ والبلاء ، وتجري عليها المصائبُ والآلامُ ، وتجري فيها أنهارُ الدماء!
لأنّها كربٌ وبلاءٌ!
المصادر :
1- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 133.
2- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 135.
3- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 135.
4- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 134.
5- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 134.
6- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 134.
7- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 155.
قال صاحب مطهرته : لمّا حَاذى (عليه السّلام) نينوى وهو منطلق إلى صفّين نادى : «صبراً أبا عبد الله ، صبراً أبا عبد الله بشطّ الفُرات».
قلتُ : مَنْ ذا أبو عبد الله؟
قال عليّ (عليه السّلام) : «دخلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعيناه تُفيضان ... فقال : قام من عندي جبرئيل قبلُ ، فحدّثني أن الحسين يُقتل بشطّ فرات ...» (1).
أمّا أين هي نينوى؟ وأيّ شاطئ من شواطئ الفرات هو موضع قتل الحسين (عليه السّلام)؟
فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد هدى عليّاً (عليه السّلام) إلى «علامة» ووضع عنده عيّنةً من تربة الموضع.
قال : «هل لك أنْ اُشِمَّك من تُربته؟
فمدّ يده ، فقبض قبضةً من تراب فأعطانيها».
وعلامةٌ اُخرى ، إنّ هذه التربةَ مفيضةُ الدمع ، وقد جرّبها عليّ (عليه السّلام) لأوّل مرّة وقعت بيده ، فقال :
«فلم أملك عينيَّ أن فاضتا».
وبعد هذه الأعوام الطوال ، والحُسين يقرب من الثلاثين من عمره ، يقف عليٌّ (عليه السّلام) على هذه الأرض ، ليقف على تلكما العلامتين ، ويُعلن عن الغيب المستودع مرّتين ، مرّة حين سار إلى صفّين كما قرأنا في الحديث السابق ، ومرّة أُخرى حينما رجع من صفّين ، قال الراوي :
أقبلنا مرجعنا من صفّين فنزلنا كربلاء ، فصلّى بها عليّ صلاة الفجر بين شجرات ودوحات حَرْمَل ، ثم أَخَذَ كفّاً من بَعْر الغِزْلان فشمّه ، ثم قال : «اُوّهْ اُوّهْ! يُقتلُ بهذا الغائط قومٌ يدخلون الجنّةَ بغير حساب» (2).
لقد شمّ عليٌّ تُربة هذه الأرض من يَد النبيّ ، ويشمّها اليوم وهو على أرض كربلاء ، يقدّسها فيصلّي فيها.
ولئن كانت أنباءُ الرسول (صلّى الله عليه وآله) من دلائل النبّوة ، فإنّ حضور عليّ (عليه السّلام) على هذه الأرض ، وإعلانه عن أنباء الغيب التي أوحاها إليه الرسول (صلّى الله عليه وآله) وحمّلها عليّاً ، فهي من دلائل الإمامة.
وزاد عليّ (عليه السّلام) أنْ حضر في كربلاء وقدّس أرضها ، وواسى ابنه الشهيد بنداء له : «صبراً أبا عبد الله» «صبراً أبا عبد الله».
وإذا كانت أنباء كربلاء من الغيب الذي يُوحيه الله إلى الرسول ، فلا بدّ أنّ شيئاً من تلك الأنباء قد جاء في صحف الأنبياء ما دامت الشريعة الإلهية واحدة ، والحقائق الكونيّة بعينها متّحدة ، والوقائع المتجدّدة محفوظة في لوح الغيب ، والأهداف في الإعلان عنها بنفسها مُتكرّرة.
فماذا عن كربلاء في الصحف الأُولى؟
إنّ رجالاً من أهل الأديان قد تناقلوا بعض تلك الأنباء :
فهذا كعب الأحبار كان إذا مرَّ عليٌّ (عليه السّلام) يقول : يخرج من وُلد هذا رجلٌ يُقتل في عصابة لا يجفُّ عرق خيولهم حتّى يردوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله).: وكان رأسُ الجالوت ـ وهو من أولاد الأنبياء السابقين ـ يقول : كُنّا نسمع أنّه يُقتل بكربلاء ابنُ نبيٍّ ، فكنتُ إذا دخلتُها ركضتُ فرسي حتّى أجوزَ عنها ، فلمّا قُتل حُسَينٌ جعلتُ أسير بعد ذلك على هيئَتي (3).
وإذا كانت الأنباء قد ذاعتْ وانتشرتْ ، ورويتْ عن الصحف الأُولى ، وعن النبيّ ، وعن عليّ ، فأجدر بالحسين أبي عبد الله ، صاحب الأنباء ومحورها ، وموضوع حديثها ، أن يكون على علم بها.
ولقد أعلن عنها قبل كربلاء ، وكان يحلف بالله على النتيجة التي يلقاها ، ومن تلك الأنباء :
قال الحسين (عليه السّلام) : «والله ، ليَعْتَدُنَّ عليَّ كما اعتدت بنو إسرائيل في السبت».
وقال (عليه السّلام) : «والله ، لا يَدَعُوني حتّى يستخرجوا هذه العَلَقةَ من جوفي».
وقال من شافَهَ الحسين (عليه السّلام) : رأيت أبْنِيةً مضروبةً بفلاة من الأرض ، فقلتُ : لمن هذه؟
قالوا : هذه لحسين. فأتيتُه ، فإذا شيخ يقرأ القرآن ـ والدموع تسيلُ على خدّيه ولحيته! ـ فقلت : بأبي أنت وأُمّي يابن رسول الله! ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحدٌ؟!
فقال : «هذه كتب أهل الكوفة إليَّ ، ولا أراهم إلاّ قاتلي».
وأوْلى بالحسين (عليه السّلام) أن يعلم ما يجري في الغيب من خلال إخبار جدّه المرسَل ، لأنّه من أعلام الإمامة التي زانها.
حديث كربلاء : أحزانُها وتربتُها :
واسم «كربلاء» نفسه الذي لم يذكر في تراث العرب القديم ، وإنّما جاء على لسان الغيب ، وسمعه العرب لأوّل مرّة في حديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، فيما رواه سعيد بن جهمان قال :
إنّ جبرئيل أتى النبي (صلّى الله عليه وآله) بتراب من تربة القرية التي يُقتل فيها الحسين (عليه السّلام).
وقيل : اسمها «كربلاء».
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «كربٌ وبلاءٌ» (4).
فلا بدّ أن يكون هذا الاسم موضوعاً على تلك القرية ، لكن تداولها بدأ منذ هذا الحديث ، وأمّا استيحاء «الكرب» و «البلاء» منه فلم يؤثر إلاّ من هذا النصّ ، بالرغم من إيحاء حروف الكلمة ودلالتها التصوّرية التي لا يمكن إنكارها.
وعليّ (عليه السّلام) أيضاً سأل عن هذا الاسم واستوحى منه نفس الوحي.
قال الراوي : رجعنا مَعَ عليّ من صِفّين ، فانتهينا إلى موضع ، فقال : «ما يُسَمّى هذا الموضع؟».
قلنا : كربلاء.
قال : «كربٌ وبلاءٌ».
ثم قَعَدَ على رابِية وقال : «يُقتل ها هنا قومٌ أفضل شهداء على ظهر الأرض ، لا يكون شهداء رسول الله (صلّى الله عليه وآله)».
والحسينُ نفسُه حين نزلَ كربلاء تساءَلَ :
«ما اسمُ هذه الأرض؟».
قالوا : كربلاء.
قال (عليه السّلام) : «كربٌ وبلاءٌ».
وبعد حديث الغيب كان إحضار عيّنة من «تُربة كربلاء» التي تكرّر الحديث عنها دعماً من الرسول (صلّى الله عليه وآله) لكلّ ذلك الحديث بمصداق ونموذج من تُربتها ، لتكون دليلاً عينياً من دلائل النبوّة ومعجزاتها.
ففي حديث عليّ (عليه السّلام) أنّ جبرئيل قال للنّبي (صلّى الله عليه وآله) : هل أُشمّك من تُربته؟
«فمدّ يده فقبض قبضةً من تُراب فأعطانيها».
وفي حديث أنس : فجاءه بسهلة أو تُراب أحمر ، فأخذته اُمّ سلمة فجعلتْه في ثوبها.
وفي حديث أبي أُمامة : فخرج على أصحابه وهم جلوس ... قال : «هذه تُربته» فأراهم إيّاها (5).
ولاُمّ المؤمنين اُمّ سلمة شأن أكبر مع هذه التربة ، فقد روت حديثه بشيء من التفصيل :
.. فاستيقظ وفي يده تُربة حمراء وقال : «أخبرني جبرئيل أنّ ابني هذا ـ الحسين ـ يقتل بأرض العراق ... فهذه تُربتها.
... أهل هذه المدرة يقتلونه»!
بل زادها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) شرفاً بأن استودعها تلك التربة ، وكانت تحتفظ بها فيما روته ، قالت :
كان الحسن والحسين يلعبان بين يدي النبي (صلّى الله عليه وآله) في بيتي ، فنزل جبرئيل (عليه السّلام) فقال : يا محمّد ، إنّ أُمّتك تقتل ابنك هذا من بعدك ، وأومأ بيده إلى الحسين (عليه السّلام).
فبكى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وضمّه إلى صدره ثمّ قال :
«وديعةٌ عندكِ هذه التُربة» فشمّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال : «وَيْحَ كربٍ وبلاء!
وقال : يا اُمّ سلمة إذا تحوّلت هذه التُربة دماً فاعلمي أنّ ابني قد قُتل».
فجعلتْها اُمّ سلمة في قارورة ، ثمّ جعلتْ تنظر إليها كلّ يوم وتقول : إنّ يوماً تحوّلين دماً ليوم عظيمٌ (6)!
وهذه التفاصيل اختصّت بها اُمّ سلمة من بين زوجات النبيّ.
أما حديث التُربة فقد رواه غيرها من النساء أيضاً :
فعائشة قالت : فأشار له جبرئيل إلى «الطفّ» بالعراق ، وأخذ تربة حمراء فأراه إيّاها فقال : هذه تربة مصرعه.
وزينب بنت جحش روت: فأراني تربة حمراء.
واُمّ الفضل ـ مرضعة الحسين (عليه السّلام) ـ قالت : وأتاني بتربة من تربته حمراء.
والعجيب في أحاديثهنّ كلّهن ، وأحاديث مِن غيرهنّ أنها تحتوي على جامع مشترك هو «الحُمرة» لون الدم ، إلاّ أنّ حديثها احتوى على تحوّل التربة إلى «دَمٍ» في يوم عاشوراء.
فما هذه الأسرار التي تحتويها هذه الأخبار؟
وما سرّ هذه التُربة التي :
تُفيضُ دمعة الناظر إليها!
وتتحوّلُ إلى دم!
ولها رائحةٌ خاصّة!
وكان طيبها دليلاً عليها لمن يهواها :
فلمّا أُجريَ الماءُ على قبر الحسين (عليه السّلام) في عصر المتوكّل العبّاسي ـ نضب بعد أربعين يوماً ، وامتحى أثر القبر ، فجاء أعرابيٌ من بني أسد ، فجعل يأخذ قبضةً ويشّمها حتّى وقع على قبر الحسين وبكاه ، وقال : بأبي وأُمّي ما كان أطيبَك ، وأطيب تربتك ميتاً! ثمّ بكى وأنشأ يقول :
أرادُوا ليُخفوا قبره عن وليّه *** فطِيبُ ترابِ القبر دلَّ على القبرِ (7)
وتُوحي الكرب ، والدمّ ، والقتل ، والبلاء!
وهل يمكن الاطّلاع على تلك الأسرار إلاّ من خلال أنباء الغيب التي تُوحيها السماءُ على سيّد الانبياء؟
وإنّ من أعظم دلائل النبوّة والإمامة تحقُّقُ تلك التنبُّؤات كلّها.
ولا تزال «تُربةُ كربلاء» ذاتها تتحوّلُ يوم عاشوراء إلى دَم قان.
ولا يزال الموالون للحسين (عليه السّلام) يعرفونها من رائحتها.
ولا زال تراب كربلاء يُقدَّس ، ويُتقربُ إلى الله بالسجود عليه لطهارته وشرفه عند الله ، ويُتبرّك به ، ويُستشفى به ، لأن دم الحسين (عليه السّلام) اُريق عليه في سبيل الله.
ولا زالتْ أرضُ كربلاء توحي المآسيَ والكربَ والبلاء ، وتجري عليها المصائبُ والآلامُ ، وتجري فيها أنهارُ الدماء!
لأنّها كربٌ وبلاءٌ!
المصادر :
1- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 133.
2- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 135.
3- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 135.
4- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 134.
5- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 134.
6- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 134.
7- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 155.