ينقسم السَّلام إلى ثلاث مستويات متتاليات ، هي :
1 ـ السَّلام الذاتي : الذي يعيشه كلّ واحد منّا ويتمنّاه في حياته كلّها.
2 ـ السَّلام المجتمعي : الذي يشمل المجتمع كلّه من الأسرة وحتى الأُمّة.
3 ـ السَّلام العالمي : وهو الذي لا يتحقّق إلاّ في آخر الزمان ، ولكن لا بدَّ من السعي وراءه في كلّ زمان ، وخصوصاً في هذا الزمن الأغبر الذي تتكالب فيه الأقوياء لأكل وهضم الضعفاء.
فلكي يكون الإنسان في سلام مع نفسه ، يجب عليه أن يؤدّي حقّ ربّه وحقّ نفسه ، ولكي يكون في سلام مع أسرته يجب أن يعطي لكلٍّ حقّه ؛ أبويه وإخوته ، وأقربائه وزوجته وأبنائه.
أمّا الذي يتطلّع إلى سلام الأُمّة فعليه تأدية الحقوق المرتبطة بها ، من الجار المؤمن إلى المسلم إلى أهل الكتاب وأهل الذمّة ، إلى المعلّم والقاضي ، إلى أن يصل إلى الحاكم الشرعي ، فلكلٍّ حقّه ، وعليه أن يراعيه ما أمكنه ذلك ، ويؤدّيه عن طيب خاطر وهدوء نفس.
أمّا الذي يدنو ويتفاءل في سلام العالم (السَّلام الكوني) ، فعليه أن يؤدّي حقوق العالم عليه ، فللأرض حقّ وللسماء حقّ ، وللبحار والأنهار والمياه حقّ ، وللبهائم والحيوانات البريّة والبحريّة والطيور حقوق ، وهي شريكة لنا في هذا الكون الفسيح ، ولا ننسى حقوق الأجيال المقبلة من هذه الثروات ، كما إنّ الهواء وطبقات الجو والأوزون ، وبقيّة الكواكب والنجوم والأكوان كلّها لها مواقعها وحقوقها ، وعلى الإنسان أن يعي ويؤدّي بعض هذه الحقوق.
لأنّ الله سبحانه يقول وقوله حقّ وصدق :
(كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (1)
و (كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (2)
و (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (3).
فالكون مركّب من حقوق وواجبات ، فصاحب الحقّ سلطان ، ومَنْ عليه الواجب فهو مطالب به أيّ لتأديته ، وهذا أمر بديهي وفطري وعقلاني ، ولا يستطيع أحد أن ينكر ضرورة تأدية الواجب.
ومن حقوق الأجيال القادمة أن تعيش وتتنعّم بهذه النعم حسب حاجتها وطاقتها ، وواجبنا الحفاظ على هذه الثروات وألاّ نستهلك منها ما يزيد عن حاجتنا ، وذلك بهدر هذا المخزون الكوني فيما يدمّر الكون ولا يعمّره ، وفيما يبيد البشر ولا يسعدهم.
ومن يعِ كلّ هذا أو بعضه يمكن أن يعيش في سلام ذاتي يشعر فيه بالسعادة والأمن والاطمئنان ، وبقدر الوعي والعمل تكون النتائج إيجاباً أو سلباً.
فالسَّلام : ضرورة حضاريّة حقّاً ، طرحه الإسلام منذ أربعة عشر قرناً من الزمن ، وهو ضرورة لكلّ مناحي الحياة البشريّة اعتباراً من الفرد مروراً بالمجتمع وانتهاءً بالعالم أجمع.
والسَّلام : هو الذي يبني ويعلّي ويعلّم ويطوّر المجتمع.
والحرب أو العنف : هو الذي يدمِّر ويهدم ويقتل ويشرّد ، ولا يقي ولا يذر ، بل يدفع بالبشر إلى التخلّف والجهل والرذيلة.
ولأنّ سيّد الشهداء كان يعيش السَّلام في داخله ، فقد حمل مسؤوليّة تحقيق المشروع على عاتقه ، غير أنّ الطرف الآخر كان يريد من الحسين الاستسلام دون السَّلام ، ولا معنى لتحقيق السّلام مع الآخرين من دون أن تحقّقه مع نفسك ، فلا أحد أولى به منك.
ويفقد السَّلام قدسيته عندما تحمل اليد الملوثة رايته ، ذلك أنّ اللوث نجاسة مسرية وستسري إلى الراية من اليد. وقد كان يزيد بن معاوية يريد سلام السيف ، وقد رفع له راية بيد عمر بن سعد كُتب عليها (عجّلوا في قتل الحسين حتّى نصلّي جماعة)!
وإذا كان السَّلام ممنوعاً عنك فلا تتردّد في قبول خيار الدفاع عنه ؛ حتّى تصبح معركتك مقدّسة ، وهكذا كان الحسين يدافع عن الطهارة والسَّلام ، وهو الذي أنشد يقول :
الموتُ أولى من ركوبِ العارِ ** والعارُ أولى من دخولِ النارِ
والله ما هذا وهذا جاري
بين الدم والسيف صراع علني أحياناً وخفي حيناً آخر ، فإذا كان في العلن انتصر الدم على السيف ، وإذا كان في الخفاء انتصر السيف على الدم. ومن هنا فإنّ كلّ أعداء السَّلام في التاريخ يريقون الدماء في الظلام ، ويغسلون عنها أيديهم في العلن ، وماذا سيبقى من الضمير العالمي إذا كان السَّلام يُذبح كلّ يومٍ بمنظرٍ وبمسمعٍ من كلّ الناس في كلّ مكان.
إنّ الحسين عليهالسلام وقّع على وثيقة استشهاده ؛ لينقذ السَّلام المذبوح ، وشتان بين مَنْ يقبل التوقيع على وثيقة إعدامه لينقذ الأُمّة المُحبطة ، وبين مَنْ يوقّع على وثيقة إعدام أُمّته وسلامها لينقذ نفسه أو حزبه. فالأوّل موقف الشهداء والحسين سيّدهم ، والثاني موقف قاتلي الشهداء ويزيد رئيسهم.
وعندما بحث الحسين عليهالسلام عن السَّلام كان يريده للجميع ، فهو ليس من الذين يتحدّثون عن خلاص الأُمّة وهم يتاجرون بآلامها.
وإذا أقمنا الحزن على سيّد الشهداء كلّ سنة فهو تقصير ، أمّا إذا أقمنا عليه الحزن كلّ ساعة فهذا توقير ، كلّ ذلك لأنّ السَّلام يُذبح كلّ ساعة ، فالحزن على فقد قلب الحسين الذي بحث عن السَّلام ، فهل نبحث عن السَّلام في قلب الحسين من جديد؟
ويبقى الحسين هو الشهيد الشاهد على اغتيال السَّلام بسيوف البغي (4).
إستراتيجيّة السَّلام
الإسلام دين الحكمة والقرآن الحكيم هو دستوره ، وهو منزل من حكيم عليم. ورسول الله صلىاللهعليهوآله وهو أحكم العلماء على مدى العصور والدهور ، باعتراف العدوّ والصديق ، والقاصي والداني ، وكلّ مَنْ اطّلع على حياته الشريفة وأخلاقه العظيمة لا بدّ أن يأخذه العجب العجاب من حكمته وخلقه العظيم ، وحنكته السياسيّة الفريدة.
الحكمة : هي وضع الشيء في موضعه المناسب له كما قالوا في تعريفها ، فهل من الحكمة أن نجبر الخلق على الإسلام أو الإيمان؟
وهل من الحكمة أن يُقاتَل كلّ مَنْ يخالفنا الرأي؟!
وهل من الحكمة أن نُبيد أهل الأديان السابقة ؛ لأنّها قد نُسخت بالإسلام؟!
وهل من الأخلاق أن نقتل مَنْ نشاء ، كيف نشاء ، ومتى نشاء ، دون أيّة ضوابط شرعيّة ، أو أيّة قيود عقليّة ، أو شروط منطقيّة لذلك؟!
لا هذا ولا كلّ ما يمتّ إليه بصلة من الإسلام في شيء ، بل الإسلام أمر بعكسه تماماً ، والإسلام هو دين المحبّة والأخوّة والسَّلام ، وأخلاقيّاته معروفة للجميع ومشهود لها بالطهارة.
(إنّما الأصل الذي يدعو إليه الإسلام هو السَّلام ، وليست الحروب والمقاطعة ، وما أساليب العنف ، إلاّ وسائل اضطرارية وشاذّة ، وهي على خلاف الاُصول الأوّليّة الإسلاميّة ، حالها حال الاضطرار لأكل الميتة وما أشبه ، والحروب تقدّر بقدرها في الإسلام) (5).
فالإسلام يقول مقابل ذلك :
(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (6)
ويقول : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (7)
ويقول : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(8)
ويقول : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (9)
ويقول : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا) (10)
ويقول : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (11)
ويقول : (لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ) (12)
ويقول : (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (13).
فالإسلام واحة غنّاء من الحبّ والسَّلام والتعاون ، وهو يرفض رفضاً قاطعاً جميع أشكال وأنواع العنف النفسي والجسدي ، والاجتماعي والسياسي ، والاقتصادي والثقافي ، حتّى أنّه يرفض العنف ولو بالكلمة ؛ شعراً أو نثراً ، سبّاً أو لعناً ، قذفاً أو غيبةً ، فالأخلاقيّات الإسلاميّة ترفض جميع هذه الأنواع من السلوكيّات المنحرفة.
والتقديم والتقويم عنده هو قوله تعالى الموجّه إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله وإلينا جميعاً :
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (14).
فالحكمة بالمواقف والمواجهات والموعظة الحسنة للأهل والأقارب والمحيط الاجتماعي ، والجدل بالتي هي أحسن لأهل الإنكار والجحود وللمخالفين في الآراء.
فأين دعاة التكفير للأُمّة الإسلاميّة كلّها من أخلاقيّات الإمام الحسين عليهالسلام؟! وأين أصحاب منهج السبّ والتشهير بالأُمّة من أخلاق الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله؟!
وأين رعاة المفسّدين في الدنيا ولا سيما في الأُمّة الإسلاميّة من أخلاق القرآن الكريم؟!
المصادر :
1- سورة القمر : الآية 49.
2- سورة الرعد : الآية 8.
3- سورة الحجر : الآية 19.
4- مجلة النبأ ص 85 عدد 66 (بتصرّف).
5- السبيل إلى إنهاض المسلمين ص 143.
6- سورة القصص : الآية 56.
7- سورة يونس : الآية 59.
8- سورة الكافرون : الآية 66.
9- سورة سبأ : الآية 24.
10- سورة آل عمران : الآية 64.
11- سورة النساء : الآية 17.
12- سورة الإسراء : الآية 33.
13- سورة البقرة : الآية 208.
14- سورة النحل : الآية 125.
1 ـ السَّلام الذاتي : الذي يعيشه كلّ واحد منّا ويتمنّاه في حياته كلّها.
2 ـ السَّلام المجتمعي : الذي يشمل المجتمع كلّه من الأسرة وحتى الأُمّة.
3 ـ السَّلام العالمي : وهو الذي لا يتحقّق إلاّ في آخر الزمان ، ولكن لا بدَّ من السعي وراءه في كلّ زمان ، وخصوصاً في هذا الزمن الأغبر الذي تتكالب فيه الأقوياء لأكل وهضم الضعفاء.
فلكي يكون الإنسان في سلام مع نفسه ، يجب عليه أن يؤدّي حقّ ربّه وحقّ نفسه ، ولكي يكون في سلام مع أسرته يجب أن يعطي لكلٍّ حقّه ؛ أبويه وإخوته ، وأقربائه وزوجته وأبنائه.
أمّا الذي يتطلّع إلى سلام الأُمّة فعليه تأدية الحقوق المرتبطة بها ، من الجار المؤمن إلى المسلم إلى أهل الكتاب وأهل الذمّة ، إلى المعلّم والقاضي ، إلى أن يصل إلى الحاكم الشرعي ، فلكلٍّ حقّه ، وعليه أن يراعيه ما أمكنه ذلك ، ويؤدّيه عن طيب خاطر وهدوء نفس.
أمّا الذي يدنو ويتفاءل في سلام العالم (السَّلام الكوني) ، فعليه أن يؤدّي حقوق العالم عليه ، فللأرض حقّ وللسماء حقّ ، وللبحار والأنهار والمياه حقّ ، وللبهائم والحيوانات البريّة والبحريّة والطيور حقوق ، وهي شريكة لنا في هذا الكون الفسيح ، ولا ننسى حقوق الأجيال المقبلة من هذه الثروات ، كما إنّ الهواء وطبقات الجو والأوزون ، وبقيّة الكواكب والنجوم والأكوان كلّها لها مواقعها وحقوقها ، وعلى الإنسان أن يعي ويؤدّي بعض هذه الحقوق.
لأنّ الله سبحانه يقول وقوله حقّ وصدق :
(كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (1)
و (كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (2)
و (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (3).
فالكون مركّب من حقوق وواجبات ، فصاحب الحقّ سلطان ، ومَنْ عليه الواجب فهو مطالب به أيّ لتأديته ، وهذا أمر بديهي وفطري وعقلاني ، ولا يستطيع أحد أن ينكر ضرورة تأدية الواجب.
ومن حقوق الأجيال القادمة أن تعيش وتتنعّم بهذه النعم حسب حاجتها وطاقتها ، وواجبنا الحفاظ على هذه الثروات وألاّ نستهلك منها ما يزيد عن حاجتنا ، وذلك بهدر هذا المخزون الكوني فيما يدمّر الكون ولا يعمّره ، وفيما يبيد البشر ولا يسعدهم.
ومن يعِ كلّ هذا أو بعضه يمكن أن يعيش في سلام ذاتي يشعر فيه بالسعادة والأمن والاطمئنان ، وبقدر الوعي والعمل تكون النتائج إيجاباً أو سلباً.
فالسَّلام : ضرورة حضاريّة حقّاً ، طرحه الإسلام منذ أربعة عشر قرناً من الزمن ، وهو ضرورة لكلّ مناحي الحياة البشريّة اعتباراً من الفرد مروراً بالمجتمع وانتهاءً بالعالم أجمع.
والسَّلام : هو الذي يبني ويعلّي ويعلّم ويطوّر المجتمع.
والحرب أو العنف : هو الذي يدمِّر ويهدم ويقتل ويشرّد ، ولا يقي ولا يذر ، بل يدفع بالبشر إلى التخلّف والجهل والرذيلة.
ولأنّ سيّد الشهداء كان يعيش السَّلام في داخله ، فقد حمل مسؤوليّة تحقيق المشروع على عاتقه ، غير أنّ الطرف الآخر كان يريد من الحسين الاستسلام دون السَّلام ، ولا معنى لتحقيق السّلام مع الآخرين من دون أن تحقّقه مع نفسك ، فلا أحد أولى به منك.
ويفقد السَّلام قدسيته عندما تحمل اليد الملوثة رايته ، ذلك أنّ اللوث نجاسة مسرية وستسري إلى الراية من اليد. وقد كان يزيد بن معاوية يريد سلام السيف ، وقد رفع له راية بيد عمر بن سعد كُتب عليها (عجّلوا في قتل الحسين حتّى نصلّي جماعة)!
وإذا كان السَّلام ممنوعاً عنك فلا تتردّد في قبول خيار الدفاع عنه ؛ حتّى تصبح معركتك مقدّسة ، وهكذا كان الحسين يدافع عن الطهارة والسَّلام ، وهو الذي أنشد يقول :
الموتُ أولى من ركوبِ العارِ ** والعارُ أولى من دخولِ النارِ
والله ما هذا وهذا جاري
بين الدم والسيف صراع علني أحياناً وخفي حيناً آخر ، فإذا كان في العلن انتصر الدم على السيف ، وإذا كان في الخفاء انتصر السيف على الدم. ومن هنا فإنّ كلّ أعداء السَّلام في التاريخ يريقون الدماء في الظلام ، ويغسلون عنها أيديهم في العلن ، وماذا سيبقى من الضمير العالمي إذا كان السَّلام يُذبح كلّ يومٍ بمنظرٍ وبمسمعٍ من كلّ الناس في كلّ مكان.
إنّ الحسين عليهالسلام وقّع على وثيقة استشهاده ؛ لينقذ السَّلام المذبوح ، وشتان بين مَنْ يقبل التوقيع على وثيقة إعدامه لينقذ الأُمّة المُحبطة ، وبين مَنْ يوقّع على وثيقة إعدام أُمّته وسلامها لينقذ نفسه أو حزبه. فالأوّل موقف الشهداء والحسين سيّدهم ، والثاني موقف قاتلي الشهداء ويزيد رئيسهم.
وعندما بحث الحسين عليهالسلام عن السَّلام كان يريده للجميع ، فهو ليس من الذين يتحدّثون عن خلاص الأُمّة وهم يتاجرون بآلامها.
وإذا أقمنا الحزن على سيّد الشهداء كلّ سنة فهو تقصير ، أمّا إذا أقمنا عليه الحزن كلّ ساعة فهذا توقير ، كلّ ذلك لأنّ السَّلام يُذبح كلّ ساعة ، فالحزن على فقد قلب الحسين الذي بحث عن السَّلام ، فهل نبحث عن السَّلام في قلب الحسين من جديد؟
ويبقى الحسين هو الشهيد الشاهد على اغتيال السَّلام بسيوف البغي (4).
إستراتيجيّة السَّلام
الإسلام دين الحكمة والقرآن الحكيم هو دستوره ، وهو منزل من حكيم عليم. ورسول الله صلىاللهعليهوآله وهو أحكم العلماء على مدى العصور والدهور ، باعتراف العدوّ والصديق ، والقاصي والداني ، وكلّ مَنْ اطّلع على حياته الشريفة وأخلاقه العظيمة لا بدّ أن يأخذه العجب العجاب من حكمته وخلقه العظيم ، وحنكته السياسيّة الفريدة.
الحكمة : هي وضع الشيء في موضعه المناسب له كما قالوا في تعريفها ، فهل من الحكمة أن نجبر الخلق على الإسلام أو الإيمان؟
وهل من الحكمة أن يُقاتَل كلّ مَنْ يخالفنا الرأي؟!
وهل من الحكمة أن نُبيد أهل الأديان السابقة ؛ لأنّها قد نُسخت بالإسلام؟!
وهل من الأخلاق أن نقتل مَنْ نشاء ، كيف نشاء ، ومتى نشاء ، دون أيّة ضوابط شرعيّة ، أو أيّة قيود عقليّة ، أو شروط منطقيّة لذلك؟!
لا هذا ولا كلّ ما يمتّ إليه بصلة من الإسلام في شيء ، بل الإسلام أمر بعكسه تماماً ، والإسلام هو دين المحبّة والأخوّة والسَّلام ، وأخلاقيّاته معروفة للجميع ومشهود لها بالطهارة.
(إنّما الأصل الذي يدعو إليه الإسلام هو السَّلام ، وليست الحروب والمقاطعة ، وما أساليب العنف ، إلاّ وسائل اضطرارية وشاذّة ، وهي على خلاف الاُصول الأوّليّة الإسلاميّة ، حالها حال الاضطرار لأكل الميتة وما أشبه ، والحروب تقدّر بقدرها في الإسلام) (5).
فالإسلام يقول مقابل ذلك :
(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (6)
ويقول : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (7)
ويقول : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(8)
ويقول : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (9)
ويقول : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا) (10)
ويقول : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (11)
ويقول : (لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ) (12)
ويقول : (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (13).
فالإسلام واحة غنّاء من الحبّ والسَّلام والتعاون ، وهو يرفض رفضاً قاطعاً جميع أشكال وأنواع العنف النفسي والجسدي ، والاجتماعي والسياسي ، والاقتصادي والثقافي ، حتّى أنّه يرفض العنف ولو بالكلمة ؛ شعراً أو نثراً ، سبّاً أو لعناً ، قذفاً أو غيبةً ، فالأخلاقيّات الإسلاميّة ترفض جميع هذه الأنواع من السلوكيّات المنحرفة.
والتقديم والتقويم عنده هو قوله تعالى الموجّه إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله وإلينا جميعاً :
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (14).
فالحكمة بالمواقف والمواجهات والموعظة الحسنة للأهل والأقارب والمحيط الاجتماعي ، والجدل بالتي هي أحسن لأهل الإنكار والجحود وللمخالفين في الآراء.
فأين دعاة التكفير للأُمّة الإسلاميّة كلّها من أخلاقيّات الإمام الحسين عليهالسلام؟! وأين أصحاب منهج السبّ والتشهير بالأُمّة من أخلاق الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله؟!
وأين رعاة المفسّدين في الدنيا ولا سيما في الأُمّة الإسلاميّة من أخلاق القرآن الكريم؟!
المصادر :
1- سورة القمر : الآية 49.
2- سورة الرعد : الآية 8.
3- سورة الحجر : الآية 19.
4- مجلة النبأ ص 85 عدد 66 (بتصرّف).
5- السبيل إلى إنهاض المسلمين ص 143.
6- سورة القصص : الآية 56.
7- سورة يونس : الآية 59.
8- سورة الكافرون : الآية 66.
9- سورة سبأ : الآية 24.
10- سورة آل عمران : الآية 64.
11- سورة النساء : الآية 17.
12- سورة الإسراء : الآية 33.
13- سورة البقرة : الآية 208.
14- سورة النحل : الآية 125.