وضوح الطريق

لمّا خرج الحسين (عليه السّلام) وبلغ يزيد خروجه كتب إلى عبيد الله بن زياد عامله على العراق يأمره بمحاربته وحمله إليه إن ظفر به فوجّه اللعين عبيد الله الجيش إلى الحسين (عليه السّلام) مع عمر بن سعد.
Sunday, April 16, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
وضوح الطريق
 وضوح الطريق





 

لمّا خرج الحسين (عليه السّلام) وبلغ يزيد خروجه كتب إلى عبيد الله بن زياد عامله على العراق يأمره بمحاربته وحمله إليه إن ظفر به فوجّه اللعين عبيد الله الجيش إلى الحسين (عليه السّلام) مع عمر بن سعد.
وعدل الحسين إلى كربلاء ، فلقيه عمر هناك فاقتتلوا ، فقُتل الحسين (رضوان الله عليه ورحمته وبركاته) ، ولعنة الله على قاتليه.
وكان قتله في العاشر من المحرّم سنة إحدى وستّين ، يوم عاشوراء (1).
وهو يومٌ عظيم في تاريخ المسلمين ، وهو على آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) أليم.
أمّا عظمتهُ فهي من أجل اقترانه بالحسين (عليه السّلام) ، ذلك الإمام العظيم الذي مثّل الرسول (صلّى الله عليه وآله) في شخصه ، لكونه سبطه الوحيد ذلك اليوم ، ولكونه كبير أهل بيته ، وخامس أهل الكساء المطهَّرين من عترته ، والذي مثّل الرسالة في علمها وسموّها وخلودها.
فكانتْ معركة عاشوراء معركة الإيمان الذي مثله الحسين (عليه السّلام) ، والكفر الذي حاربه ، ومعركة الحقّ الذي تجسّد في الحسين (عليه السّلام) ، والباطل الذي قاومه ، ويعني ذلك أنّه قد تكرّرت في هذا اليوم معارك الأنبياء (عليهم السّلام) ومشاهد الصالحين عَبْرَ التاريخ ، وبخاصّة مغازي النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) في بدر وأُحُد والأحزاب وغيرها ، ومشاهد عليّ (عليه السّلام) في الجمل وصفّين والنهروان.
فكلّ الأنبياء والأئمّة والأولياء والصالحين ، والشهداء والمجاهدين يشتركون بأهدافهم وآمالهم وبدمائهم ، وتشخَص أعينُهم على نتائج المعركة في عاشوراء.
وكلّ جهود الكفر والنفاق والفجور والفسق والرذيلة والخيانة ، والجهل والغرور والإلحاد تركّزت في جيش بني أُميّة ، تُحاول أن تنتقم لكلّ تاريخها الأسود من هذه الكوكبة التي تدور حول الحسين (عليه السّلام) يريدون ليُطفئوا نور الله بسيوفهم وأسنّة رماحهم!
وأمّا ألَم عاشوراء الذي أقرح جفونَ أهل البيت ، وأسبل دموعَهم ، وأورثهم حُزْناً ، فهو من التوحُّش الذي أبداه الأعداء مع تلك الأبدان الطاهرة! ومن الظلم الذي جرى على ممثّل الرسول والرسالة في وَضَح النهار المضيئ ، وأمام أعين الأُمّة المدّعية للإسلام ، من دون نكير ، بل استهلّوا فرحاً بالتهليل والتكبير!
وما أفظع الظلم والقهر والألم بأنْ يُعتدى على ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وعلى يد أُمّته ، من المسلمين كما يتظاهرون ، ومن العرب كما يزعمون ، وبأمر من الخلفاء والولاة كما يدّعون!
إنّها الردّةُ الحقيقيّةُ لا عن الإسلام فحسب ، بل عن كلّ دين مزعوم ، وعن كلّ معنىً والتزام إنساني ، أو قومي ، أو وطني ، أو انتماء طائفي ، أو تبعية ، أو أي معنىً آخر معقول.
بل ليس ما جرى في يوم عاشوراء قابلاً للتفسير إلاّ على أساس الجاهليّة والعمى ، والغَباء والغرور ، والغطرسة والحماقة ، وحُبّ سفك الدم الطاهر ، وروح الاعتداء والانتقام ، والرذالة والخسّة ، والعناد للحقّ الظاهر ، وركوب الرأس ، والعنجهية ، وخُسران الدنيا والآخرة.
فحقّاً كانت معركةُ عاشوراء معركة الفضيلة كلّها ضدّ الرَذيلة كلّها.
لكن لم ينته الظلم على آل محمّد (عليهم السّلام) بانتهاء عاشوراء ، بل امتدّ مدى التاريخ الظالم ، على يد حكّامه ، وعلى يد كُتّابه ، وعلى يد الأشرار الّذين ناصبوا آل محمّد (عليهم السّلام) العداءَ والبغضَ والكراهيةَ ، وورثوا كلّ ذلك من أسلافهم الّذين صنعوا مأساة عاشوراء.
أليس من الظلم البيّن والخيانة المفضوحة أن يُفْصَل «يوم عاشوراء» ومجرياته التاريخية عن تاريخ الإمام الحسين (عليه السّلام)؟!
هذا الذي وقع فعلاً في كتاب «تاريخ دمشق» لابن عساكر!
ونحنُ نربأ بابن عساكر نفسه ، ذلك المؤرّخ الشهير ، أن يكون قد أغفلَ ذكر أحداث كربلاء ويوم عاشوراء بالذات عن تاريخه الكبير ، إذ لا يخفى عليه أنّ تاريخ الحسين (عليه السّلام) إنّما يتركّز في عاشوراء ، ويعلم أنّ مثل ذلك العمل سيؤدّي إلى أنْ يُنتقد بلا ريب من قبل المؤرّخين ، والفضلاء والنبلاء.
لكنّ يداً آثمة امتدّتْ إلى هذا الكتاب العظيم لتفرغه من ذكر أحداث «يوم عاشوراء» إذْ ليس في ذكر تلك الأحداث إلاّ ما يَكشف عن مدى الألم والظلم والاعتداء الذي جرى على أهل البيت ، ممّا لا يمكن إنكارهُ ولا دفعُه ولا توجيهُه ولا تفسيرهُ إلاّ على أساس ما قُلنا!
وتلك اليد الآثمة الخائنة للعلم والتراث تريد أن تبرّئ ساحة بني أُميّة ـ أسلافها ـ من الجرائم المرتكبة يومذاك ، تلك الجرائم السوداء البشعة التي لم يغسل عارَها مرورُ الأيّام ولا ينمحي بحذف هذه الأحاديث من هذه النسخة أو تلك.
ولئن امتدّت يدُ الخيانة إلى تاريخ ابن عساكر فحذفتْ منه حوادث يوم عاشوراء ، فإنّ مؤرّخي الإسلام ومؤلّفي المسلمين قد أفعموا كتب التاريخ بذكر تلك الحوادث ، وجاء ذكر ذلك في العديد من الكتب التاريخية واُلّف لذلك خاصةً ما يسمّى بكتب «المقاتل».
ولعلّ نسخةً من أصل تاريخ ابن عساكر توجدُ هنا أو هناك فيعرفها مطّلعٌ ، أو يطّلع عليها منصِفٌ فيُخرجها إلى النور ، فيَبْهَتُ الخائنون الّذين ظلموا الإسلام ، وظلموا آل محمّد ، وظلموا التاريخ ، وظلموا التراث ، وظلموا المسلمين بالتعتيم عليهم وكتمان ما جرى على أرض الواقع عنهم.
كما فعلوا مثل هذا الحذف والتحريف في كثير من كتب التراث والحديث والدين ، فأبادوها بالدفن والإماثة بالماء ، والإحراق.
ولكنّ الحقائق وإنْ خالوها تخفى على الناس فإنّها لا بُدّ وأن تُعْلَم مهما طال الزمن.
ونحن ـ لمّا التزمنا في كتابنا هذا بإيراد ما رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام) فقط ـ لا نحاول أنْ نخرجَ عن هذا الالتزام ، فلا نَستعرض حوادث السيرة ، اكتفاء بما جاء في المقاتل القديمة والحديثة من ذكرها ، وأملاً في أنْ نوفّق لعرضها في كتاب مستقلّ بعون الله.
ولكنَّا نورد في ما يلي ما رواه ابن عساكر من خطب الإمام (عليه السّلام) في يوم عاشوراء ، وفيها من العِبَر ما هو كفاية للمعتبرين.
إتمام الحُجّة :
وإذا كان الحسين (عليه السّلام) يمثّل الرُسُل والرسالات الألهية ، فلا بدّ أن ينحو منحاهم في تبليغها ، فلقد كانوا يقضون أكثر أوقاتهم في إبلاغها ، وإتمام الحجّة على أقوامهم قبل أن ينزلوا معهم إلى المعارك الحاسمة.
وهكذا فعل الحسين (عليه السّلام).
فإذا كان في المحلّلين التاريخيِّين مَنْ يزعم «أنّ شعب الكوفة الذي حارب الحسين لم يكن يعرفه ، ولا يعرف عن أهدافه شيئاً»!
مقتله ، وما جرى عليه يوم عاشوراء بتفصيل وافٍ ، ولا بدّ أنّ ابن عساكر قد أورده في تاريخه ، لأنه لا يغفل ما رواه ابن سعد في الطبقات ، فكيف يتجاوز هذا المقتل؟
فإنّ ذلك ليس إلاّ تحريفاً للحقائق من وجه آخر ، فكيف يُدّعى على أُمّة أنّها لم تعرف سبط نبيّها بعد «خمسين سنة» فقط من وفاته؟! فعليها العفاءُ من اُمَّة! وبالخصوص أهل الكوفة الّذين عاش الحسين (عليه السّلام) بينهم طوال خمس سنين ، مدّة وجود أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) في الكوفة (36 ـ 40 هـ) فما أغباهم من أُمّة لو نسوا ابن إمامهم بعد (عشرين) سنة فقط؟!
إنّه عذرٌ أقبح من الجرم بمّرات!
ومع هذا فإنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قطع أوتار هذا العُذْر ، فوقفَ كما وقفَ الأنبياء ، والدعاة إلى الله ، ناصحاً ، ومعرّفاً بنفسه ، ومتمّاً للحّجة عليهم.
قال الرواة : لمّا نزلَ عمر بن سعد بحسين ، وأيقنَ أنّهم قاتلوه ، قامَ الحسين (عليه السّلام) في أصحابه خطيباً ، فحمدَ الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :
«قد نزل بنا ما ترونَ من الأمر ، وإنّ الدنيا قد تغيّرتْ وتنكّرتْ وأدبر معروفها ، واستمْرَتْ حتّى لم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ، إلاّ خسيس عيش كالمرعى الوبيل.
ألا ترونَ الحقَّ لا يُعمل به والباطلَ لا يُتناهى عنه؟!
ليرغبَ المؤمنُ في لقاء الله.
وإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادةً ، والحياة مع الظالمين إلاّ بَرَماً» (2).
ففي أقصر عبارة وأوفاها في الدلالة جمع الإمام (عليه السّلام) بين الإشارة إلى الماضي والتعريف بالحاضر.
وذكر الحق وتركه ، والباطل والالتزام به.
وذكّر بلقاء الله منتهى أمل المؤمنين ورغّبهم فيه.
وذكر السعادة ، وجعل «الحياة مع الظالمين» ضدّها!
وأهمّ ما في الخطبة التذكير بالتغيّر الحاصل في الدنيا ، وإدبار المعروف؟!
ألا يكفي السامع أن يتنبهَ إلى الفرق بين «دُنيا» يوم عاشوراء ، عن الدنيا قبلها ، وما هو «التغيّر» الحاصل فيها كي يعتبر؟!
وأظنّ أنّ كلّ مفردة من المفردات التي أوردها الإمام (عليه السّلام) في خطبته تكفي لأن يعيَ السامعون ويبلغوا الرشد إن لم تكن على القلوب أقفالُها!
وفي غداة يوم عاشوراء خطب الإمامُ (عليه السّلام) أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : «عبادَ الله ، اتّقوا الله وكونوا من الدنيا على حَذَر ، فإنّ الدنيا لو بقيت لأحد أو بقي عليها أحدٌ كانت الأنبياءُ أحقَّ بالبقاء ، وأولى بالرضا ، وأرضى بالقضاء.
غير أنّ الله تعالى خلق الدنيا للبلاء ، وخلق أهلها للفناء ، فجديدها بال ، ونعيمها مضمحلّ وسرورها مكفهرٌّ.
والمنزلُ بُلْغةٌ ، والدار قلعة.
(وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبابِ)».
فذكر الدنيا وحذّر منها ، وذكر الأنبياء (عليهم السّلام) ليدلّ على حضورهم في الأهداف معه.
وذكر البلاء والفناء والبلى واضمحلال نعيمها واكفهرار سرورها لعلّ كلماته تبلغ مسامعَ أهل الكوفة فتندكّ بها ، فيرعوون عمّا هم عليه مقدمون!
ولّما لم يجدْ منهم اُذناً صاغية ، وكان صباح «عاشوراء» توجّه بهذا الدعاء : لمّا صبّحت الخيلُ الحسينَ بن عليّ (عليه السّلام) رفع يديه فقال :
«اللّهُمَّ أنت ثقتي في كلّ كَرْب ، ورجائي في كلّ شدّة ، وأنتَ لي في كلّ أمر نَزَلَ بي ثقةٌ وعُدّةٌ ، فكمْ من هَمّ يضعفُ فيه الفؤادُ ، وتقلّ فيه الحيلةُ ، ويخذل فيه الصديقُ ، ويشمتُ فيه العدوُّ ، فأنزلتُه بك وشكوتُه إليك رغبةً فيه إليك عمّن سواك ، ففرّجْتَهُ وكشَفْتَهُ وكفيتَنيه. فأنت وليُّ كلّ نعمة ، وصاحبُ كلِّ حسنة ، ومنتهى كلِّ غاية» (3).
وفي هذا الدعاء توجيه للسامعين إلى الله ، وإيحاء بالثقة والرجاء والأمل والفرج والكشف والكفاية.
وتحديد للعدوّ والصديق ، وتذكير بالنعمة والحسنة والغاية ، التي هي لقاء الله.
أمّا إذا لم ينفع التذكيرُ ، ولم ينجع النصحُ لقوم غفلوا عن الله ، وهم عُميٌ صُمٌ بُكمٌ ، لا يفقهون حديثاً ، ولا يعون شيئاً.
فإنّ الإمام (عليه السّلام) لمّا وَجَدَ نفسه مُحاطاً بالأعداء ، ووجدهم مصمّمين على تنفيذ الجريمة العُظمى لا يرعوون ، كاشفهم بكلّ الظواهر والبواطن وأوضح لهم الواضحات ، لئلاّ يبقى عذرٌ لمعتذر ، قال الرواة :
لما استكفَّ الناس بالحسين (عليه السّلام) ركب فرسه ، ثمّ استنصتَ الناسَ فأنصتوا له ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقال : «تبّاً لكم أيّتُها الجماعة وترحاً!
أحين استصرختمونا وَلِهينَ ، فأصرخناكم موجِفينَ ، شحذتُم علينا سيفاً كان في أيماننا ، وحششتُم علينا ناراً قدحناها على عدوّكم وعدوّنا ، فأصبحتُم إلْباً على أوليائكم ، ويَداً عليهم لأعدائكم.
بغير عدل رأيتموه بثُّوه فيكم ، ولا أمَل أصبح لكم فيهم.
ومن غير حَدَث كان منّا ، ولا رأي يُفَيّل فينا!
فهلاّ ـ لكم الويلاتُ! ـ إذ كرهتمونا تركتمونا ، والسيف مشيمٌ ، والجأش طامنٌ ، والرأي لم يستخفّ.
ولكن استصرعتم إلينا طيرة الدنيا ، وتداعيتم إلينا كتداعي الفراش.
قيحاً وحكةً وهلوعاً وذلّةً لطواغيت الأُمّة ، وشذّاذ الأحزاب ، ونَبَذة الكتاب ، وعُصبَة الآثام ، وبقيّة الشيطان ، ومحرّفي الكلام ، ومطفي السنن ، وملحقي العهر بالنسب ، وأسف المؤمنين ، ومزاح المستهترين الّذين جعلوا القُرآن عضين (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ)!
فهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟!
أجَلْ ـ والله ـ الخذلُ فيكم معروف ، وشجت عليه عروقكم ، واستأزرت عليه أُصولكم وفروعكم.
فكنتم أخبث ثمرة شجرة للناظر ، وأكلة للغاصب!
ألا فلعنة الله على الناكثين (وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً).
ألا وإنّ البَغيَّ قد ركز بين السِلّةِ والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، أبى الله ذلك ورسولهُ والمؤمنون ، وحجورٌ طابتْ ، وبطونٌ طهرتْ ، وأُنوفٌ حميّةٌ ، ونفوسٌ أبيّةٌ ، تُؤْثِر مصارعَ الكرام على ظآر اللئام.
ألا وإنّي زاحِفٌ بهذه الأُسْرة على قِلّة العدد ، وكثرة العدوّ ، وخذلة الناصر!
فإنْ نَهْزِمْ فهزّامون قِدْماً *** وإن نُهْزَم فغير مُهَزَّمينا
وما إنْ طِبُّنا جُبْنٌ ولكنْ ***منايانا وطعمة iiآخرينا
ألا ثمّ لا تلبثون إلاّ ريثما يُركبُ فرسٌ حتّى تُدار بكم دورَ الرحا ، ويُفلق بكم فلقَ المحور ، عهداً عهده النبي إلى أبي.
(فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ، ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ) [سورة يونس : 71].
(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَا مِن دَابَّة إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِراط مُسْتَقِيم)».
فإنْ كان في سامعي هذه الخطبة مَنْ عنده مثقال ذرّة من خير اكتسَبه بعرف أو تعلّمه من درس أو دين ، أو كان له ضمير ووجدان ، أو من يرجع إلى عقل ونظر لنفسه ، لكانت له مُرشدةً!
إذ إنّ الإمام (عليه السّلام) قد استعمل كلّ ذلك.
فحرّك الأعراف القائمة على الوفاء بالعهد ، والإحسان بالمثل.
وبصّرهم بالبؤس الذي غمرهم فهم في غمرته ساهون ، فلا عدلَ ولا أملَ في الحكم الذي تحت نيره يرزحون وهم لا يشعرون!
وقرأ لهم الشعر الحماسي الذي تمثّل به أبطال العرب ، وسارت به الأمثال!
أوضح لهم مفاسد الموقف من خلال عروض البغيّ ابن البغيّة ، كي تتحرّك عندهم خيوط الوجدان ، ويتبصّروا مواقع أقدامهم وأهدافهم لَعلّهم يهتدون.
كما عرّفهم ـ بأقوى نصٍّ ـ بنفسه وأصله وفصله ، والجماعة الّذين معه ، الّذين عبّر عنهم بـ «هذه الأُسرة» تعبيراً عن اندماجهم وتكتّلهم ووحدتهم في المسير والمصير ، وأنّهم ليسوا مّمن يتوقّع نزولهم على رغبة الأعداء ، هيهات!
وذكر في خُطبته الأنبيَاء ، والنبيّ ، وأباه.
وقرأ لهم الآيات مستشهداً بها.
ألم يكن الجمع قد سمعوا آيات القرآن وهم الآن يسمعون الإمام (عليه السّلام) يتلوها عليهم؟!
فإن لم يقرؤوا القرآن فكيف يدّعون الإسلام؟!
وإن قرؤوه فهل حجّة أتمّ عليهم من آياته؟!
ومن أعظم المواقف إثارة ، وأتمّ الخطب حجّة ، ما نقله الرواة ، قالوا :
إنّ الحسين بن عليّ (عليه السّلام) لمّا أرهقه السلاحُ قال : «ألا تقبلون منّي ما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقبل من المشركين؟».
قالوا : وما كان رسول الله يقبل من المشركين؟
قال : «إذا جنحَ أحدُهم قبِلَ منه»!
قالوا : لا.
قال : «فدعوني أرجع»!
قالوا : لا.
قال : «فدعوني آتي التُركَ فأُقاتلهم حتّى أموت» (4).
وبدلاً أن يتعاطفوا مع هذا العرض تمادوا في الغيّ ..
فأخذ له رجلٌ السلاحَ وقال له : أبشر بالنار!
فقال الحسين (عليه السّلام) : «بل ـ إن شاء الله ـ برحمة ربّي عزّ وجلّ ، وشفاعة نبيّي (صلّى الله عليه وآله)».
إنّها منتهى الضراوة والوحشية من جيش الكوفة ، ولكنّها منتهى الغاية في إتمام الحجّة عليهم من الإمام الحسين (عليه السّلام).

لقد كشف الإمامُ (عليه السّلام) بعرض هذه الأُمور عن مدى قساوة هؤلاء ، كما كشف عن جهلهم بسُنّة الرسول (صلّى الله عليه وآله) التي يدّعون الانتماء إليها والدفاع عنها.
وحين رفضوا الخيارات التي عرضها بكلمة النفي «لا» فإنّ الخيار الثالث مهما كانت صيغته فإنّه لم يقابَلْ إلاّ بالسلاح.
وهذا لا يصدر ممّن له وجدان وضمير وإنسانية فضلاً عن الّذين يدّعون الانتساب إلى الإسلام دين الرحمة والسلام والحقّ والعدل!
إنّ عروض الحسين (عليه السّلام) هذه تكشف بجلاء عن مدى بُعْدِ الأُمّة المسلمة عن دين الإسلام ولمّا يمضِ على وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) نصفُ قرن ، خمسون عاماً فقط!
وإنّ المسلمين لم يتعمقوا في فهم التعاليم القيّمة التي جاء بها الإسلام ولم يتخلّوا تماماً من روح الجاهليّة الأُولى الكامنة في نفوسهم فلا زالوا يتحرّكون بها ، ولا زالت أعراف الجاهليّة وعاداتها في حبّها لسفك الدماء ، وهتك الأعراض ، وخيانة الوعود ، ونبذ العهود ، وخفر الجوار ، وهتك الذمار تملأ نفوسهم ، وتعشعش في عقولهم.
وأبان الإمام الحسين (عليه السّلام) أنّ المسلمين يومذاك قد استولى عليهم الحكّام إلى حدّ الانقياد لهم في معصية الله ، وإلى حدّ الذُلّ والخضوع والطاعة لمن بيده القوّة ـ حبّاً للحياة الدنيا ـ مهما كان الحاكم في شخصه وفعله ، وتصرّفه وقوله وفكره : شناعةً وقباحةً ، وفساداً وجوراً ، وخِسّةً ووحشيّةً.
وفي كلّ هذا ردّ كاف على الرأي القائل بأنّ للأُمّة «عِصْمةً» في تعيين مصير السياسة المهمّة التي تتعلّق بدين الناس ودنياهم ، وتبنى عليها الأعراض والأموال والنفوس!
فقد كشف الإمامُ الحسين (عليه السّلام) بخطاباته ، ومواقفه ، وبشهادته أنّ الأُمّة المسلمة إذا كانت بعد مضيّ خمسين عاماً لم تعِ ولم تدرك ما عرض عليها من الحقائق الواضحة ، وقد أوغلوا في الجهل إلى حدّ الإقدام على قتل سبط نبيّهم! وأسر بناته وأهله!
إذا بلغَ وَعْيُ الأُمّة بعد خمسين سنة من حكم الخلفاء باسم الإسلام إلى هذا الحدّ المتردّي من الجهل والتدني والانحطاط والوحشيّة الذي هو عين «اللاوعي» بالرغم من تكاثف الأعوام وتكرّر المفاهيم التي جاء بها الإسلام بقرآنه وسُنّته ، وسيرة أصحابه ، أمام مرأى الأُمّة ومسامعها!
فكيف بهذه الأُمّة قبل خمسين عاماً ، وفي السنة التي توفّي فيها نبيّهم (صلّى الله عليه وآله) حين يُدّعى أنّها أجمعتْ ـ لو تمّ ثمّ الإجماعُ ـ على تنصيب خليفة لأنفسهم ، يقوم مقام الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، ذلك المقام الجليل المقدّس والمهمّ؟!
فإذا كانت الأُمّة في عصر الحسين (عليه السّلام) لم تبلغ الرشد في عامها الخمسين أن تعي من أمر الخليفة والولاة ، يزيد وابن زياد ، ما يبعثها على رفضهما ، والابتعاد عن خطّتهما ، أو الانعزال والتبرّؤ من أعمالهما ، بل بلغ بها الجهلُ والغيُّ أن أطاعتهما إلى حدّ الإقدام على قتل سيّد شباب أهل الجنّة ، سبط النبي (صلّى الله عليه وآله)؟!
فكيف تكون راشدةً في اختيار خليفة للرسول (صلّى الله عليه وآله) فور وفاته قبل خمسين عاماً ، وهي في حال الصِغَر؟!
إنّ إثبات هذه الحقيقة الدامغة كان واحدة من نتائج ما قام به الإمام الحسين (عليه السّلام) من إتمام الحجّة يوم عاشوراء!
ومهما تكن آثار جهود الإمام (عليه السّلام) في خُطبه إلاّ أنّ الأرض لا تخلو من حجّة ، وقد برز من بين تلك الجموع الكثيفة الغارقة في جهلها مَنْ وَعَى نداءات الحسين (عليه السّلام) ، وتحرّك وجدانه ، وأحسّ ضميره.
فقد جاء في نهاية حديث عرض الإمام (عليه السّلام) للخيارات الثلاث ومواجهة جيش الكوفة لها بالرفض والسلاح ، أنّه :
كان مع عمر قريب من ثلاثين رجلاً من أهل الكوفة فقالوا : يعرض عليكم ابنُ بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثلاث خصال فلا تقبلون شيئاً منها؟! فتحوّلوا مع الحسين (عليه السّلام) فقاتلوا.
إنّ هؤلاء أبلغ حجّة على كلّ القوم ، حيث دلّ حديثهم على أنّ كلام الحسين (عليه السّلام) قد بلغ جيش الكوفة ، لكن رانَ على قلوبهم حبُّ الدنيا ، ونخوة الجاهليّة ، والعمى عن الحقّ فهم لا يهتدون.
أيحقُّ بعد هذا كلّه لهذه الجماعة أنْ تدّعي أنّها أُمّة محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنّها آمنت بدينه الإسلام وتريد أن تدخل الجنّة؟!
وقد أشار إلى هذه المفارقة بعضهم لمّا قال :
لو كنتُ فيمن قَتَلَ الحسين ثمّ أُدخلتُ الجنّة لاستحييتُ أنْ أنظر إلى وَجْهِ النبي (صلّى الله عليه وآله).
ولم يصرّح ، لأنّ مثل هذا الفرض قد قيل في بيئة لم يستبعد فيها لقاتل الحسين (عليه السّلام) أن يدخل الجنّة!
وهذا هو واحد من أوجه التردّي في الضلال ، والتقهقر في الوعي ، والتخلّف في الشعور ، والبعد عن الإسلام!
فكيف يحتمل أن يدخلَ الجنّة قاتل الحسين ـ سيّد شبابها ـ بينما (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا) كما يقول القرآن؟!
العُريان :
وقبل أن نغادر كربلاء ونودِّعَ «يوم عاشوراء» بآلامه وشجاه ، لا بُدّ أن نلقي نظرة وداع على تلك الجثث الطاهرة المضرّجة بدمائها في سبيل الإسلام ورسالته الكبرى.
فإذا بِنا نشاهد مشهداً فظيعاً ، جسمَ الحسين (عليه السّلام) حبيبَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ملقىً ، عارياً عن كلّ ما يورايه عن حرّ الشمس!
ولقد جاء في الحديث أنّ الحسين (عليه السّلام) نفسه كان قد توقّع من لؤم القوم أن يجرّدوه من ثيابه :
قال الحسين بن عليّ حين أحسَّ بالقتل : «ابغوني ثوباً لا يُرْغَبُ فيه أجعله تحتَ ثيابي! لا أُجَرَّد»!
فأخذ ثوباً ، فخرقه فجعله تحت ثيابه!
فلمّا قُتِلَ جُرِّدَ صلوات الله عليه ورضوانه (5).
وا حسرتا على هذه الأُمّة!
إلى أيّ حدّ وصلت إليه من اللؤم والرذالة ، والخبث والنذالة وهم يدّعون الانتماء إلى أفضل دين عرفته البشرية بتعاليمه الإنسانية القيّمة!
أربعة آلاف في بداية القتال ، بلغوا اثنتي عشر ألفاً على بعض الأقوال ، وثلاثين ألفاً على أوسط الأقوال ، وأكثر على أقوال أُخر ، جنود الدولة الإسلاميّة ، ليس فيهم مَنْ يعرف من الإسلام أوّليات واجباته الأخلاقية! حقّاً إنّ من المستنكَر أن يدّعي أحدهم الإسلام!
وقد ذُهلوا عن هذه الدعوى لمّا واجهتهم أُخت الحسين (عليه السّلام) بمثل هذا السؤال : أما فيكم مسلم؟! فلم يُجبْها أحدٌ منهم!
وكيف يجرؤ على ادّعاء الإسلام مَنْ يُقدِمُ على هذا الإجرام الذي تأبى نفوس أحقر الناس وأفقرهم عن ارتكابه : تجريد ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من ثوب ممزّق ملطّخ بالدم!
ولماذا؟!
إنّه أمر يقزّز الشعور ، ويجرح العاطفة ، ويستدرّ العَبْرة.
لكنّهم فعلوا كلّ ذلك وهم يزعمون أنّهم مسلمون عَرَب!
أمّا الحسين (عليه السّلام) فقد فَنَّدَ بمواقفه وتضحياته مزاعمهم ، كما صرّح في خطاباته بانتفائهم عن كلّ ما ينتمون إليه حين صاح بهم :
«ويْحَكُم يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم إن كنتم عرباً كما تزعمُون» (6)!
فقد نفى أن يكون لهم «دين» يعتقدون بأحكامه ، ولا مسلمين يخافون المعاد الذي يخافُه كلّ ملّيٍّ معتقد ، فيمتنع من ارتكاب الأصغر من تلك الجرائم النكراء البشعة!
ونفى أن يكونوا «عرباً» لأن للعُروبة عند أهلها قوانين وسُنناً وآداباً وموازين ، أقلّها الشعور بالتحرّر والإباء والحميّة والمروءة والتأنُّف من ارتكاب المآثم الدنيئة والاعتداءات الحقيرة.
أمّا هؤلاء «المسلمونَ» و «العَرَبُ» فهم الممسوخُون المغمُورون في الرذيلة إلى حدّ الغباء والعمى ، لبعدهم عن الحقّ وانضوائهم تحت لواء الباطل.
وظلّت كربلاء ويوم عاشوراء وصمة عار على جَبينِ التاريخ الإسلاميّ وعلى جبين أهل القرن الأوّل ، لا يمحوها الدهر ، ولا يغسلها الزمن.
المصادر :
1- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 145.
2- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 146.
3- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 146.
4- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 146 .
5- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 147.
6- الإيقاد ص 129 ومقتل الحسين (عليه السّلام) للمقرّم : ص 275.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.