
حياة الإمام الحسين عليهالسلام حكمة خالصة من بدايتها إلى نهايتها ، وإذا قلنا بمقياسنا نحن البسطاء أنّ الأمور تُعرف بخواتيمها ، وعلمنا جميعاً أنّ ختام حياة الإمام عليهالسلام كانت أفضل الخواتيم وأفجعها ، ألا وهي الشهادة في سبيل الله ، حتّى صار إلى قيام الساعة سيّد الشهداء شهيد الطفوف وكربلاء.
وممّا يروى عنه (صلوات الله عليه) في هذا الباب الحكيم ، وهذا المجلس الذي كان بحضرة أبيه أمير المؤمنين الإمام علي عليهالسلام حيث أقبل على الحسين عليهالسلام فقال له :
«ما السؤدد؟». (أي السمو والرفعة والفخر والشرف للإنسان).
قال عليهالسلام : «اصطناعُ العشيرةِ ، واحتمالُ الجريرة». (أي خدمة الناس وحمل الأعباء الثقيلة عن أصحابها).
قال عليهالسلام : «فما الغنى؟». (أي الذي يجعلك غنيّاً في نفسك).
قال عليهالسلام : «قِلّةُ أمانيك ، والرّضا بما يكفيك». (أي قلّة الأماني ، فالقناعة كنز لا يفنى).
قال عليهالسلام : «فما الفقر؟». (أي المعنوي والنفسي وليس المادي فقط).
قال عليهالسلام : «الطَّمعُ وشدّةُ القنوط؟». (أي الطمع بما في أيدي الناس ذلّ ، والقنوط من رحمة الله كفر).
قال عليهالسلام : «فما اللؤم؟». (أي ما يخبرك عن لؤم إنسان ونذالته).
قال عليهالسلام : «إحرازُ المرءِ نفسهُ وإسلامهُ عرسهُ». (أي أن يصون نفسه عن الأعداء ويسلّم لهم زوجته).
قال عليهالسلام : «فما الخرَق؟».
قال عليهالسلام : «مُعاداتُكَ أميرَك ، ومَنْ يقدرُ على ضُرِّك ونفعك».
ثمّ التفت أمير المؤمنين إلى الحارث الهمداني الأعور ، فقال : «يا حارث ، علّموا هذه الحكمَ أولادكم ؛ فإنّها زيادةٌ في العقل والحزم والرأي» (1).
نعم ، إنّه درس حكيم ، وحكمة بالغة تعلّمنا إيّاها هذه الكلمات القصيرة التي اشتملت عليها هذه الرواية ، والحوار ما بين الأمير وشبله الحسين عليهماالسلام.
فالحكمة : هي التوازن العادل في القوّة الفكريّة ، والرذيلة التي تقابل الحكمة من جانب التفريط هي الحمق والبلادة ، ويعنون عنها : تعطيل القوّة الفكريّة عن العمل ، وكبت مالها من مواهب واستعدادات ، والخسيسة التي تضادها من جانب الإفراط هي المكر والدهاء ، ويريدون منه التجاوز بالفكر عن حدود البرهان الصحيح ، واستخدام قوّة العقل في ما وراء الحقّ ، فقد تثبت نتائج ينكرها الحسّ ، وقد تنفي أشياء تثبتها البداهة.
ولست أدري أنّ لفظ المكر والدهاء يدلاّن على هذا المعنى ؛ لأنّهما بمعنى الاحتيال والخداع وهو شيء آخر وراء الحكمة الباطلة التي يقصدها هؤلاء المفسّرون ، أمّا الدهاء بمعنى جودة الرأي فهو يقرب من معنى الحكمة ، وإذن فلنسمّ هذه النقيصة الخلقيّة (بالحكمة الباطلة) كما يسمّيها علماء الأخلاق.
ونحن إذا فحصنا الفضيلة العقليّة (الحكمة) وجدناها تتألّف من عنصرين أساسيّين لا غنى لها عن أحدهما :
ـ قوّة فكريّة في طريقها إلى التوازن.
ـ وعلم يرشد هذه القوّة إلى طريق الاعتدال.
ليس التوازن في القوّة الفكريّة من الأشياء التي تمنحها المصادفة ويكوّنها الاتفاق ، وليس بالأمر السهل الذي تكفي في حصوله للإنسان خبرة قليلة وتجربة نادرة ؛ لأنّه توازن في كلّ ما يعتقد ، وتوازن في كلّ ما يقول ، وتوازن في كلّ ما يعمل ، وأنّى للقوّة الفكريّة بهذه الاستقامة التامّة إذا هي لم تستعن بإرشاد العلم الصحيح ، وأنّى للعقل بمفرده أن يبصر هداه في الطريق الشائك والمسلك الملتوي.
كلّنا نتمنّى التوازن العادل في طبائعنا والاستقامة التامّة في سلوكنا ، وأيّ أفراد البشر لا يتمنّى الكمال لنفسه؟ ولكنّ الجهل يقف بنا دون الحدّ ، وميول النفس تبعدنا عن الغاية ، والعقل هو القوّة الوحيدة التي يشيع فيها جانب التفريط بين أفراد الإنسان ؛ وذلك من تأثير الجهل. فالجهل هو أوّل شيء يحاربه علم الأخلاق ؛ لأنّه أوّل خطر يصطدم به الكمال الإنساني ، وأوّل انحطاط تقع فيه النفس البشريّة ، وأوّل مجرّئ لها على ارتكاب الرذيلة ، بل هو أوّل خطيئة وآخر جريمة.
يرتكب الجاهل أخطاء خُلقيّة تعود بالضرر على نفسه ، وقد يعود ضررها على أُمّته وشعبه أيضاً ، وعذره في ذلك أنّه جاهل ، وإذا كان الفقيه لا يعد الجهل عذراً في مخالفة النظام الشرعي ، فإنّ الخلقي أجدر أن لا يقبل ذلك العذر ؛
لأنّ الفقه أسلس قياداً ، والفقيه أكثر تسامحاً ، أمّا العالم الخُلقي فإنّه يطبّق نظامه بحزم ، ويقرّر نتائجه بدقّة ، ولا يجد في المخالفة عذراً لمعتذر ، ولا سيما إذا كان ذلك العذر أحد المحظورات الخُلقيّة كالجهل.
وإذاً ، فمن الرشد أن يكون العلم أوّل شيء يفرضه علم الأخلاق (2) ، ولما تقدّم نعرف سبب تقسيم العلماء الحكمة إلى النظرية والعمليّة.
فالحكمة النظريّة : هي الأفكار الحكيمة والأقوال الحكيمة التي تنطلق من عقول وآراء حكماء البشر ، لا سيما الكاملين منهم والمعصومين بالذّات وبالخصوص الأئمّة الكرام عليهمالسلام ، وإذا استعرضنا كلمات الإمام الحسين عليهالسلام سنجد أنّها لا تخرج عن هذا القانون قيد أنملة.
أمّا الحكمة العمليّة : فهي تطبيق تلك الأفكار النورانيّة على أرض الواقع في الحياة الدنيا ، وأمثل تطبيق للحكمة الإلهيّة هو ما أولَّه وطبّقه قادة الإسلام العظام ، كلّ في زمانه ومكانه الذي عاش فيه.
والحكمة ؛ النظريّة منها والعمليّة ، تتجلّى في النهضة المباركة للإمام الحسين عليهالسلام ، والدارس المدقّق ، والمنصف لتلك النهضة يراها حكيمة من ألفها إلى يائها ، من البداية إلى حيث النهاية المأساويّة على بطاح كربلاء بالسمو الأعظم بالشهادة المقدّسة.
ولسنا هنا في مقام البحث التفصيلي لإثبات الحكمة في كلّ عمل أقدم عليه الإمام الحسين عليهالسلام في مسيرته المباركة ؛ لأنّ ذلك يطيل بنا المقام ، والوقوف حيث لا نريد أن نقف حاليّاً لإخراجنا عن موضوعنا وبحثنا حول الأخلاق وأطيافها ، ولكن في البحث القادم عن (الشجاعة) فإنّنا سوف نأخذ عيّنات وأمثلة تبيّن لنا حكمة القول والعمل الحسيني ووقوعه في محلّه الصحيح.
هكذا يصف حفيد الإمام الحسين عليهالسلام الإمام جعفر الصادق عليهالسلام الشجاعة ، ويعطيها هذا المعنى البديع الذي يحبب للإنسان المؤمن أن يتصف بها ، وهي عبارة عن أركان ثلاثة يرتكز عليها معنى الشجاعة الحقيقيّة في بني البشر :
1 ـ السخاء بالنفس : وهو غاية الجود والكرم ، وهل جاد بهذا المعنى أحد كجود الإمام الحسين عليهالسلام؟!
2 ـ الأنفة من الذلّ : وهو الإباء ، والإمام الحسين عليهالسلام أبيّ الضيم ، وقد صارت كلمته في كربلاء : «هيهات منّا الذلّة! يأبى الله ذلك لنا ورسولُهُ والمؤمنون ، وحُجورٌ طابت وطهرت» شعاراً لنا ولكلّ أحرار العالم.
3 ـ طلب الذكر بمعنى الشرف والسؤدد : وهذا هو الشَّمم والشموخ ، وهو
القائل : «والله ، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرّ منكم فرار العبيد» (3).
وقبل الاستطراد بالحديث عن شجاعة الإمام الحسين عليهالسلام وأهل بيته وأصحابه الميامين ، نقول : إنّ الشجاعة هي فضيلة بين التهوّر (الإفراط) والجبن (التفريط) ، والإنسان العاقل عليه أن يتذكّرها بما لها من مدائح وشرف عظيم ، وعليه أن يكلّف نفسه المواظبة على آثارها ولوازمها حتّى تصير عنده ملكة وطبعاً راسخاً في القلب والنفس.
والشجاعة : هي طاعة قوّة الغضب للعقل في الإقدام أو الإحجام عن الأمور الهائلة والخطيرة ، وعدم اضطرابها بدفعها إلى الخوض فيما يقتضيه رأيها عند ثورانها بالغضب.
ولا ريب أنّها من أشرف الملكات النفسيّة ، وأفضل الصفات الكماليّة لبني البشر ، والفاقد لها من الرجال بريء عن الفحولة والرجولة. وهو في الحقيقة إلى النساء أقرب منه إلى الرجال ؛ لأنّ الجبن في المرأة مطلوب ومرغوب.
وقد وصف الله سبحانه خيار الصحابة بها ، وذلك قوله في القرآن الكريم : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) (4)
وأمر الله بها نبيّه بقوله : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (5)
إذ الشدّة والغلظة من لوازم الشجاعة وآثار القوّة الغضبية المهذّبة. والأخبار والروايات تذكرها بكثير من التحبيذ ، وتعدّها من صفات أولياء الله ، والكمَّل من عباده المؤمنين المتّقين.
وتهذيب الغضب يكون قبل حصوله ، وطريقه : هو التفكير الصحيح في أسباب الغضب ، والتأمّل في عواقبه ، وما يجرَّه على النفس وعلى الغير من أضرار وأخطار.
والشجاعة : هي أوّل فضيلة للقوّة الغضبية ، ولها مظهران :
ـ ثبات في مقام الدفاع عن المقدّسات : النفس والمال ، والعرض والدين والأرض.
ـ إقدام في محلّ الجهاد الأكبر والأصغر.
والشجاعة لا تتميّز بلون واحد ، ولا تختصّ بسمة خاصّة ، فالغضب للحقّ شجاعة ؛ لأنّه ممّا يأمر به العقل ، والحلم عن جهل الجاهل شجاعة ؛ لأنّه ممّا يدعو إليه الرشد ، والثورة على الباطل شجاعة ؛ لأنّها ممّا تقتضيه الحكمة.
يقدم الشجاع في موضع يقتضي الإقدام ، ويحجم في موقف يقتضي الإحجام ، وهو في كلتا الحالتين شجاع ؛ لأنّه ثابت القلب أمام المخاطر ، شجاع لأنّه يدير حركاته وأعماله بحكمة (6).
وبما أنّنا في رحاب الإمام الحسين عليهالسلام وأخلاقيّاته الرحمانيّة وأفعاله القيميّة ، وما زلنا نسبح في تلك الرحاب العامرة ، قد وصلنا إلى البحر الخضمّ ، وصرنا في قلب التيّار الهائج ، والبحر المحيط المائج.
وهنا أعترف وبكلّ شجاعة أنّني أقف حائراً كلّما وقفت أمام هذه الصفة في الإمام الحسين عليهالسلام ؛ فإنّها الصفة التي أعجبت الإنس والجنّ ، بل قل حتّى السماوات والأرض ومَنْ فيهنّ.
هل تعجب وأنت أمام شخصيّة كالحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليهم)؟
أنا أعجب ؛ لأنّني قاصر عن إدراك أو فهم أو استيعاب مثل هذا الإقدام ، أو هذه الشجاعة التي تصدر عن إنسان بشري عاش على تراب هذه الأرض.
قيل الكثير الكثير عن شجاعة الحسين بن علي عليهالسلام في كربلاء ، ولكن مهما قيل فإنّ الصفة أكبر والموصوف أعظم وأجل وأكبر من كلّ قولٍ أو وصف قيل فيه. وقد شهد له أعداؤه قبل أوليائه بذلك ؛ فإنّه هو لا غيره الذي قال فيه ذاك الرجل : ما رأيت مكثوراً قط قُتل أهله وأصحابه جميعاً أربط جأشاً منه! فكان كلّما ازدادت المحن تهلّل وجه أكثر ، وكانت الكتيبة إذا شدَّ عليها تفرّ الرجال من بين يديه كالمعزى من السبع.
لم أقرأ ولم أسمع عن شخص يحيط به جيش عرمرم ، وهو ملقى على الأرض وفي جسده عشرات ، بل مئات من ضربات السيوف وطعنات الرماح ، وجراحات السهام والنبال ، وهو (روحي له الفداء) يجود بنفسه الشريفة ، وهم يخافون منه ويخشون حتّى النظر إلى وجهه الشريف أو عينيه المباركتين ، فما نظر لأحد إلاّ هابه وأخذ بمجامع قلبه فيفرّ منه ، حتّى انبرى إليه ذاك الشيطان اللعين شمر بن ذي الجوشن!
ولن نطيل الحديث حول هذه الصفة الحسينيّة ؛ لأنّها من أوضح الواضحات في تاريخ الإنسانيّة المكافح ، ولكن لنا أن نعطي شواهد ، وأن نقف أمام محطّات أساسيّة في المسيرة الشجاعة البطلة للمولى أبي عبد الله الحسين (صلوات الله وسلامه عليه).
المصادر :
1- معاني الأخبار ص 401 ح62 ، موسوعة البحار 72 ص 193 ح14.
2- الأخلاق عند الإمام الصادق عليهالسلام ص 53 ـ 54.
3- إرشاد المفيد ص 234.
4- سورة الفتح : الآية 29.
5- سورة التوبة : الآية 73.
6- الأخلاق عند الإمام الصادق عليهالسلام ص 85.
وممّا يروى عنه (صلوات الله عليه) في هذا الباب الحكيم ، وهذا المجلس الذي كان بحضرة أبيه أمير المؤمنين الإمام علي عليهالسلام حيث أقبل على الحسين عليهالسلام فقال له :
«ما السؤدد؟». (أي السمو والرفعة والفخر والشرف للإنسان).
قال عليهالسلام : «اصطناعُ العشيرةِ ، واحتمالُ الجريرة». (أي خدمة الناس وحمل الأعباء الثقيلة عن أصحابها).
قال عليهالسلام : «فما الغنى؟». (أي الذي يجعلك غنيّاً في نفسك).
قال عليهالسلام : «قِلّةُ أمانيك ، والرّضا بما يكفيك». (أي قلّة الأماني ، فالقناعة كنز لا يفنى).
قال عليهالسلام : «فما الفقر؟». (أي المعنوي والنفسي وليس المادي فقط).
قال عليهالسلام : «الطَّمعُ وشدّةُ القنوط؟». (أي الطمع بما في أيدي الناس ذلّ ، والقنوط من رحمة الله كفر).
قال عليهالسلام : «فما اللؤم؟». (أي ما يخبرك عن لؤم إنسان ونذالته).
قال عليهالسلام : «إحرازُ المرءِ نفسهُ وإسلامهُ عرسهُ». (أي أن يصون نفسه عن الأعداء ويسلّم لهم زوجته).
قال عليهالسلام : «فما الخرَق؟».
قال عليهالسلام : «مُعاداتُكَ أميرَك ، ومَنْ يقدرُ على ضُرِّك ونفعك».
ثمّ التفت أمير المؤمنين إلى الحارث الهمداني الأعور ، فقال : «يا حارث ، علّموا هذه الحكمَ أولادكم ؛ فإنّها زيادةٌ في العقل والحزم والرأي» (1).
نعم ، إنّه درس حكيم ، وحكمة بالغة تعلّمنا إيّاها هذه الكلمات القصيرة التي اشتملت عليها هذه الرواية ، والحوار ما بين الأمير وشبله الحسين عليهماالسلام.
فالحكمة : هي التوازن العادل في القوّة الفكريّة ، والرذيلة التي تقابل الحكمة من جانب التفريط هي الحمق والبلادة ، ويعنون عنها : تعطيل القوّة الفكريّة عن العمل ، وكبت مالها من مواهب واستعدادات ، والخسيسة التي تضادها من جانب الإفراط هي المكر والدهاء ، ويريدون منه التجاوز بالفكر عن حدود البرهان الصحيح ، واستخدام قوّة العقل في ما وراء الحقّ ، فقد تثبت نتائج ينكرها الحسّ ، وقد تنفي أشياء تثبتها البداهة.
ولست أدري أنّ لفظ المكر والدهاء يدلاّن على هذا المعنى ؛ لأنّهما بمعنى الاحتيال والخداع وهو شيء آخر وراء الحكمة الباطلة التي يقصدها هؤلاء المفسّرون ، أمّا الدهاء بمعنى جودة الرأي فهو يقرب من معنى الحكمة ، وإذن فلنسمّ هذه النقيصة الخلقيّة (بالحكمة الباطلة) كما يسمّيها علماء الأخلاق.
ونحن إذا فحصنا الفضيلة العقليّة (الحكمة) وجدناها تتألّف من عنصرين أساسيّين لا غنى لها عن أحدهما :
ـ قوّة فكريّة في طريقها إلى التوازن.
ـ وعلم يرشد هذه القوّة إلى طريق الاعتدال.
ليس التوازن في القوّة الفكريّة من الأشياء التي تمنحها المصادفة ويكوّنها الاتفاق ، وليس بالأمر السهل الذي تكفي في حصوله للإنسان خبرة قليلة وتجربة نادرة ؛ لأنّه توازن في كلّ ما يعتقد ، وتوازن في كلّ ما يقول ، وتوازن في كلّ ما يعمل ، وأنّى للقوّة الفكريّة بهذه الاستقامة التامّة إذا هي لم تستعن بإرشاد العلم الصحيح ، وأنّى للعقل بمفرده أن يبصر هداه في الطريق الشائك والمسلك الملتوي.
كلّنا نتمنّى التوازن العادل في طبائعنا والاستقامة التامّة في سلوكنا ، وأيّ أفراد البشر لا يتمنّى الكمال لنفسه؟ ولكنّ الجهل يقف بنا دون الحدّ ، وميول النفس تبعدنا عن الغاية ، والعقل هو القوّة الوحيدة التي يشيع فيها جانب التفريط بين أفراد الإنسان ؛ وذلك من تأثير الجهل. فالجهل هو أوّل شيء يحاربه علم الأخلاق ؛ لأنّه أوّل خطر يصطدم به الكمال الإنساني ، وأوّل انحطاط تقع فيه النفس البشريّة ، وأوّل مجرّئ لها على ارتكاب الرذيلة ، بل هو أوّل خطيئة وآخر جريمة.
يرتكب الجاهل أخطاء خُلقيّة تعود بالضرر على نفسه ، وقد يعود ضررها على أُمّته وشعبه أيضاً ، وعذره في ذلك أنّه جاهل ، وإذا كان الفقيه لا يعد الجهل عذراً في مخالفة النظام الشرعي ، فإنّ الخلقي أجدر أن لا يقبل ذلك العذر ؛
لأنّ الفقه أسلس قياداً ، والفقيه أكثر تسامحاً ، أمّا العالم الخُلقي فإنّه يطبّق نظامه بحزم ، ويقرّر نتائجه بدقّة ، ولا يجد في المخالفة عذراً لمعتذر ، ولا سيما إذا كان ذلك العذر أحد المحظورات الخُلقيّة كالجهل.
وإذاً ، فمن الرشد أن يكون العلم أوّل شيء يفرضه علم الأخلاق (2) ، ولما تقدّم نعرف سبب تقسيم العلماء الحكمة إلى النظرية والعمليّة.
فالحكمة النظريّة : هي الأفكار الحكيمة والأقوال الحكيمة التي تنطلق من عقول وآراء حكماء البشر ، لا سيما الكاملين منهم والمعصومين بالذّات وبالخصوص الأئمّة الكرام عليهمالسلام ، وإذا استعرضنا كلمات الإمام الحسين عليهالسلام سنجد أنّها لا تخرج عن هذا القانون قيد أنملة.
أمّا الحكمة العمليّة : فهي تطبيق تلك الأفكار النورانيّة على أرض الواقع في الحياة الدنيا ، وأمثل تطبيق للحكمة الإلهيّة هو ما أولَّه وطبّقه قادة الإسلام العظام ، كلّ في زمانه ومكانه الذي عاش فيه.
والحكمة ؛ النظريّة منها والعمليّة ، تتجلّى في النهضة المباركة للإمام الحسين عليهالسلام ، والدارس المدقّق ، والمنصف لتلك النهضة يراها حكيمة من ألفها إلى يائها ، من البداية إلى حيث النهاية المأساويّة على بطاح كربلاء بالسمو الأعظم بالشهادة المقدّسة.
ولسنا هنا في مقام البحث التفصيلي لإثبات الحكمة في كلّ عمل أقدم عليه الإمام الحسين عليهالسلام في مسيرته المباركة ؛ لأنّ ذلك يطيل بنا المقام ، والوقوف حيث لا نريد أن نقف حاليّاً لإخراجنا عن موضوعنا وبحثنا حول الأخلاق وأطيافها ، ولكن في البحث القادم عن (الشجاعة) فإنّنا سوف نأخذ عيّنات وأمثلة تبيّن لنا حكمة القول والعمل الحسيني ووقوعه في محلّه الصحيح.
الشجاعة الأخلاقيّة في النهج الحسيني
جُبلت الشجاعة على ثلاث طبائع ، لكلّ واحدة منهنّ فضيلة ليست للأُخرى ؛ السخاء بالنفس ، والأنفة من الذلّ ، وطلب الذكر. فإذا تكاملت في الشجاع كان البطل الذي لا يقام لسبيله والموسوم بالإقدام في عصره ، وإذا تفاضلت فيه بعضها على بعض كانت شجاعته في ذلك الذي تفاضلت فيه أكثر وأشدّ إقداماً.هكذا يصف حفيد الإمام الحسين عليهالسلام الإمام جعفر الصادق عليهالسلام الشجاعة ، ويعطيها هذا المعنى البديع الذي يحبب للإنسان المؤمن أن يتصف بها ، وهي عبارة عن أركان ثلاثة يرتكز عليها معنى الشجاعة الحقيقيّة في بني البشر :
1 ـ السخاء بالنفس : وهو غاية الجود والكرم ، وهل جاد بهذا المعنى أحد كجود الإمام الحسين عليهالسلام؟!
2 ـ الأنفة من الذلّ : وهو الإباء ، والإمام الحسين عليهالسلام أبيّ الضيم ، وقد صارت كلمته في كربلاء : «هيهات منّا الذلّة! يأبى الله ذلك لنا ورسولُهُ والمؤمنون ، وحُجورٌ طابت وطهرت» شعاراً لنا ولكلّ أحرار العالم.
3 ـ طلب الذكر بمعنى الشرف والسؤدد : وهذا هو الشَّمم والشموخ ، وهو
القائل : «والله ، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرّ منكم فرار العبيد» (3).
وقبل الاستطراد بالحديث عن شجاعة الإمام الحسين عليهالسلام وأهل بيته وأصحابه الميامين ، نقول : إنّ الشجاعة هي فضيلة بين التهوّر (الإفراط) والجبن (التفريط) ، والإنسان العاقل عليه أن يتذكّرها بما لها من مدائح وشرف عظيم ، وعليه أن يكلّف نفسه المواظبة على آثارها ولوازمها حتّى تصير عنده ملكة وطبعاً راسخاً في القلب والنفس.
والشجاعة : هي طاعة قوّة الغضب للعقل في الإقدام أو الإحجام عن الأمور الهائلة والخطيرة ، وعدم اضطرابها بدفعها إلى الخوض فيما يقتضيه رأيها عند ثورانها بالغضب.
ولا ريب أنّها من أشرف الملكات النفسيّة ، وأفضل الصفات الكماليّة لبني البشر ، والفاقد لها من الرجال بريء عن الفحولة والرجولة. وهو في الحقيقة إلى النساء أقرب منه إلى الرجال ؛ لأنّ الجبن في المرأة مطلوب ومرغوب.
وقد وصف الله سبحانه خيار الصحابة بها ، وذلك قوله في القرآن الكريم : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) (4)
وأمر الله بها نبيّه بقوله : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (5)
إذ الشدّة والغلظة من لوازم الشجاعة وآثار القوّة الغضبية المهذّبة. والأخبار والروايات تذكرها بكثير من التحبيذ ، وتعدّها من صفات أولياء الله ، والكمَّل من عباده المؤمنين المتّقين.
وتهذيب الغضب يكون قبل حصوله ، وطريقه : هو التفكير الصحيح في أسباب الغضب ، والتأمّل في عواقبه ، وما يجرَّه على النفس وعلى الغير من أضرار وأخطار.
والشجاعة : هي أوّل فضيلة للقوّة الغضبية ، ولها مظهران :
ـ ثبات في مقام الدفاع عن المقدّسات : النفس والمال ، والعرض والدين والأرض.
ـ إقدام في محلّ الجهاد الأكبر والأصغر.
والشجاعة لا تتميّز بلون واحد ، ولا تختصّ بسمة خاصّة ، فالغضب للحقّ شجاعة ؛ لأنّه ممّا يأمر به العقل ، والحلم عن جهل الجاهل شجاعة ؛ لأنّه ممّا يدعو إليه الرشد ، والثورة على الباطل شجاعة ؛ لأنّها ممّا تقتضيه الحكمة.
يقدم الشجاع في موضع يقتضي الإقدام ، ويحجم في موقف يقتضي الإحجام ، وهو في كلتا الحالتين شجاع ؛ لأنّه ثابت القلب أمام المخاطر ، شجاع لأنّه يدير حركاته وأعماله بحكمة (6).
وبما أنّنا في رحاب الإمام الحسين عليهالسلام وأخلاقيّاته الرحمانيّة وأفعاله القيميّة ، وما زلنا نسبح في تلك الرحاب العامرة ، قد وصلنا إلى البحر الخضمّ ، وصرنا في قلب التيّار الهائج ، والبحر المحيط المائج.
وهنا أعترف وبكلّ شجاعة أنّني أقف حائراً كلّما وقفت أمام هذه الصفة في الإمام الحسين عليهالسلام ؛ فإنّها الصفة التي أعجبت الإنس والجنّ ، بل قل حتّى السماوات والأرض ومَنْ فيهنّ.
هل تعجب وأنت أمام شخصيّة كالحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليهم)؟
أنا أعجب ؛ لأنّني قاصر عن إدراك أو فهم أو استيعاب مثل هذا الإقدام ، أو هذه الشجاعة التي تصدر عن إنسان بشري عاش على تراب هذه الأرض.
قيل الكثير الكثير عن شجاعة الحسين بن علي عليهالسلام في كربلاء ، ولكن مهما قيل فإنّ الصفة أكبر والموصوف أعظم وأجل وأكبر من كلّ قولٍ أو وصف قيل فيه. وقد شهد له أعداؤه قبل أوليائه بذلك ؛ فإنّه هو لا غيره الذي قال فيه ذاك الرجل : ما رأيت مكثوراً قط قُتل أهله وأصحابه جميعاً أربط جأشاً منه! فكان كلّما ازدادت المحن تهلّل وجه أكثر ، وكانت الكتيبة إذا شدَّ عليها تفرّ الرجال من بين يديه كالمعزى من السبع.
لم أقرأ ولم أسمع عن شخص يحيط به جيش عرمرم ، وهو ملقى على الأرض وفي جسده عشرات ، بل مئات من ضربات السيوف وطعنات الرماح ، وجراحات السهام والنبال ، وهو (روحي له الفداء) يجود بنفسه الشريفة ، وهم يخافون منه ويخشون حتّى النظر إلى وجهه الشريف أو عينيه المباركتين ، فما نظر لأحد إلاّ هابه وأخذ بمجامع قلبه فيفرّ منه ، حتّى انبرى إليه ذاك الشيطان اللعين شمر بن ذي الجوشن!
ولن نطيل الحديث حول هذه الصفة الحسينيّة ؛ لأنّها من أوضح الواضحات في تاريخ الإنسانيّة المكافح ، ولكن لنا أن نعطي شواهد ، وأن نقف أمام محطّات أساسيّة في المسيرة الشجاعة البطلة للمولى أبي عبد الله الحسين (صلوات الله وسلامه عليه).
المصادر :
1- معاني الأخبار ص 401 ح62 ، موسوعة البحار 72 ص 193 ح14.
2- الأخلاق عند الإمام الصادق عليهالسلام ص 53 ـ 54.
3- إرشاد المفيد ص 234.
4- سورة الفتح : الآية 29.
5- سورة التوبة : الآية 73.
6- الأخلاق عند الإمام الصادق عليهالسلام ص 85.