
(إنّ للبيتِ ربّاً يحميه) كلمة انطلقت منذ آلاف السنين ، وما زالت تردّدها الأجيال فتسمع صداها في كلّ زمان ومكان ، منذ أن نطق بها سيدنا شبية الحمد عبد المطلب بن عمرو العلى هاشم الخير ، وإلى اليوم نردّدها وكأنّها قيلت اليوم أو أمس القريب.
منذ أن جابه بها عبد المطلب أبرهة الحبشي الذي قاد جيش الفيل وجاء ليهدم الكعبة المشرّفة ؛ لأنّه بنى خيراً منها كما يزعم ويدّعي كذباً وزوراً في اليمن ، وأراد هو عكس ما أراد الله ؛ لأنّه لم يكن يعتقد بالله ، وكان جلّ اعتقاده بنفسه وقوّته.
بيت الله الحرام لا ينتهك حرمته إلاّ مَنْ هو على شاكلة أبرهة الحبشي ، والحجّاج بن يوسف الثقفي ومَنْ لفَّ لفهم من خوارج هذه الأُمّة المرحومة كهؤلاء الذين يدَّعون الإسلام ويكفّرون الأُمّة الإسلاميّة في هذا العصر بأبشع أسلوب وأشنع طريقة عرفها التاريخ.
فللمكان قدسيته لا سيما مكة المكرّمة حرم الله ، والمدينة المنوّرة حرم رسول الله صلىاللهعليهوآله «المدينةُ حَرمي» كما قال الحبيب المصطفى لأصحابه. وللزمان قدسيته كذلك ، كأيّام الأعياد ، وشهر الله شهر رمضان وغيرها من (أيّام الله) ، فكلّ شيء يُنسب إلى مقدّس فهو مقدّس وذو مكانة ماديّة ومعنويّة.
الحسين عليهالسلام يرفض بيعة يزيد
ومن أخلاق أبي عبد الله الحسين عليهالسلام أنّه كان يحترم المقدّسات ويجلّها ، ويحترم ذوي الشأن في المقدّسين كجدّه وأبويه وأخيه (صلوات الله عليهم جميعاً) ؛ ولذا تراه إذا كانت تهجم عليه الخطوب والمحن فإنّه يلتجئ إلى جدّه المصطفى ، ويحبس نفسه الشريفة على ترابه ، ويناديه ويناجيه بعبارات تفيض بكلّ المعاني المقدّسة.
فعندما رفض البيعة للحاكم الجديد ، يزيد الظالم الفاجر ، الفاسق العربيد ، وأعلن ذلك على رؤوس الأشهاد ، راحوا يعدّون العدّة لاغتياله في حرم جدّه (المدينة المنوّرة) ، فما كان منه إلاّ أن أعدَّ واستعدَّ للهجرة إلى مكة المكرّمة ؛ طلباً للحماية الإلهيّة وحاجّاً للبيت العتيق ، وقبل خروجه من المدينة ذهب إلى قبر جدّه وروضته ولاذ بها مودِّعاً بهذه الكلمات النورانيّة : «السّلامُ عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة ، فرخك وابن فرختك ...».
ولمّا كانت الليلة الثانية خرج الحسين بن علي عليهالسلام إلى القبر أيضاً وصلّى ركعات ، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول :
«اللّهمّ إنّ هذا قبرُ نبيّك محمّد وأنا ابن بنت نبيّك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمتَ. اللّهمّ إنّي أحبُّ المعروف وأكره المنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومَنْ فيه إلاّ اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى».
ثمّ جعل يبكي عند القبر حتّى إذا كان قريباً من بياض الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ، فإذا هو برسول الله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه حتّى ضمّ الحسين إلى صدره وقبَّل بين عينيه ، وقال :
«حبيبي يا حسين ، كأنّي أراك عن قريب مُرمّلاً بدمائك ، مذبوحاً بأرض كربٍ وبلاء ، من عصابةٍ من أُمّتي ، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى ، وظمآن لا تُروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي ، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة. حبيبي يا حسين ، إنّ أباك وأُمّك وأخاك قدموا عليّ وهم مشتاقون إليك ، وإنّ لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلاّ بالشهادة».
فجعل الحسين عليهالسلام في منامه ينظر إلى جدّه ويقول : «يا جدّاه ، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا فخذني إليك ، وأدخلني معك في قبرك».
فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : «لا بدّ لك من الرجوع إلى الدُّنيا حتّى تُرزق الشهادة ، وما قد كتب الله لك فيها من الثواب العظيم».
قال : فانتبه الحسين عليهالسلام من نومه فزعاً مرعوباً ، فقصَّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطلب ، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق ولا مغرب قوم أشدُّ غمّاً من أهل بيت رسول الله صلىاللهعليهوآله ولا أكثر باكٍ وباكية منهم (1).
ألم تلحظ الشجاعة التي تفيض من موقف الإمام الحسين عليهالسلام؟ وهل يمكن لغير الإمام أن يعرف هذه التفاصيل الدقيقة عن مسيرته الاستشهادية ويطيق عليها صبراً ويحتسبها عند الله؟! هذا من ناحية.
ومن ناحية أُخرى ألم تلحظ عزيزي القارئ الأدب الجمّ ، والأخلاق الإسلاميّة الحسينيّة ، واحترامه لمقام جدّه المصطفى صلىاللهعليهوآله وهو ملحود تحت التراب ، يزوره ويناجيه ، ويبثّ إليه شجونه وهمومه ، ويتلقى التعليمات والتوجيهات المباشرة منه عبر الأحلام الصادقة فينفذها بكلّ قوّة واطمئنان وشجاعة وإقدام؟!
وهؤلاء الخوارج الجدد يرون أن لا قيمة ولا فائدة من رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ والعياذ بالله ـ حتّى قال قائلهم : (إنّ عصاي هذه خير من محمد ؛ لأنّها تنفع ومحمد لا ينفع). أستغفر الله ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً فمقام رسول الله صلىاللهعليهوآله ومكانته ميّتاً كمقامه ومكانته حيّاً بلا فرق أبداً عند أولياء الله.
فالإمام الحسين عليهالسلام يلجأ إلى قبر جدّه ويلوذ به ويناجيه ويناديه ويبثّه شكواه ، فهل كان مشركاً والعياذ بالله؟!
أم أنّه كان لا يعلم ما هو الشرِّك والتوحيد حتّى جاء اُولئك وعرفوا أن الاستجارة بقبر النبيّ صلىاللهعليهوآله شرك أكبر ، وفاعله مشرك كافر يُقتل؟! لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.
أم صدّقوا أنّ عصا مسخهم أفضل من رسول الله صلىاللهعليهوآله ؛ لأنّها تنفع للحيّة والعقرب ، ورسول الله صلىاللهعليهوآله لا ينفع بعد أن مات ودُفن تحت التراب ، وهو الذي قال صلىاللهعليهوآله :
«مَنْ زارني ميّتاً كمَنْ زارني حيّاً» و «مَنْ زارني بعد موتي كان كمَنْ زارني في حياتي» (2).
والإمام الحسين المظلوم عليهالسلام كان في أخلاقيّاته هذه الصفة النورانيّة الحميدة ، ألا وهي احترام وتعظيم وتقديس جدّه صلىاللهعليهوآله حيّاً وميّتاً ، ولا أريد أن أعيد الكلمات لأنّها من أوضح العبارات وأعذبها ، والإمام الحسين عليهالسلام يخاطب جدّه ، والجدّ يسمعه ويجيبه ولو في عالم الرؤيا والأحلام حتّى تبقى في الصورة البشريّة التي يمكن لنا أن نفهمها نحن البسطاء.
اقتلوا الحسين ولو في الكعبة
إلى مكة ، اتّجه الإمام عليهالسلام من حرم جدّه إلى حرم ربّه ، إلى بيت الله الحرام الكعبة المشرّفة ، وراح يلتقي بالوفود تلو الوفود ، والأعيان بعد الأعيان ، والشخصيّات بعد الشخصيّات إلى أيّام الحجّ ، فأحرم حاجّاً لله تعالى ، ولكن في تلك الأثناء علم الحاكم الجديد بأمر الإمام الحسين عليهالسلام ورفض البيعة له ، فبعث رسولاً وجنَّد جنوداً وأمرهم : اقتلوا الحسين ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، إنّه إذن الفتك بالحسين أينما وجد.
فما العمل إذن؟ والأيّام من أيّام الله المقدّسة هي أيّام الحجّ ، والشهر هو الشهر الحرام (ذو الحجّة) محرّم فيه القتال ، والمكان حرم الله الأقدس بيت الله العتيق مكة المكرّمة ، والمطلوب أقدس دم في ذاك الزمان ، هو دم شخص الإمام الحسين عليهالسلام بالذّات للحاكم الجائر الظالم يزيد بن معاوية.
علم الإمام بالمؤامرة الخبيثة التي كان يقودها عمرو بن سعيد بن العاص وحثالة من أهل الشام أعدَّهم وجعل السيوف تحت إحرامهم ؛ للفتك بالحسين عليهالسلام في مكة المكرّمة ، وأينما وجدوه حتّى ولو كان يطوف بالبيت ، أو يسعى بين الصفا والمروة أو حتّى في عرفات والمشعر الحرام ، أينما استطاعوا أن يجدوه فسوف يقتلونه ـ والعياذ بالله ـ. ويا ويلهم من جرأتهم على الله ورسوله ووليّه! فأراد الإمام أن يحبط المؤامرة الدنيئة تلك ، فاقتصر على العمرة وعدل عن الحجّ ، وأراد الخروج من مكة بأسرع وقت ممكن حفاظاً على حرمة البيت وقدسيته ، فأعلن ذلك على رؤوس الأشهاد بخطبة رائعة قال فيها :
«الحمدُ لله ، وما شاء الله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، وصلّى الله على رسوله ، خُطّ الموتُ على ولدِ آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تُقطعها عسلانُ الفلوات بين النّواويس وكربلا ، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً ، وأجربة سُغباً ، لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم ، رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويُوفيّنا أجور الصّابرين ، لن تشذّ عن رسول الله صلىاللهعليهوآله لحمته ، وهي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقرُّ بهم عينه ، وينجز لهم وعده. مَنْ كان فينا باذلاً مهجته ، وموطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا ؛ فإنّي راحلٌ مُصبحاً إن شاء الله» (3).
أخي الكريم ، هل قرأت أو سمعت بمثل هذا الكلام البليغ؟ وهل يخطر بذهنك أنّ قائد ثورة تغييريّة يقوم في وجه دولة قائمة يصرّح بمثل هذا البيان (بالموت والشهادة) لكلّ مَنْ يذهب معه؟!
نعم ، الصراحة قمّة الشجاعة الأدبيّة ، والتعاطي والتعامل معها قمّة الشجاعة العمليّة ، والصريح شجاع يعترف بنقاط قوّته ويعزّزها ، ويعترف كذلك بنقاط ضعفه ويعالجها.
وهذا عادةً لا يتميّز به القادة العسكريون ؛ لأنّ للمعركة ظروفها الخاصّة وحالاتها وأحكامها ، والقائد الناجح بنظريات قادة الجيوش ، هو الذي يستطيع السيطرة على قوّاته في جميع مراحل القتال ، لا سيما في الظروف المعقّدة. وهذا قد يتطلّب التكتّم التام على المعلومات التي تؤثّر سلباً على معنويّات القوّات ونفسيّات الجنود ، والروح المعنوية أساس في ثبات الجند في كلّ معركة. أمّا قيادة الإمام الحسين عليهالسلام فكانت استثناء من هذا كلّه ، ونهضته فريدة في هذه الحياة كلّها.
كان هذا واضحاً في المدينة المنوّرة منذ البداية ، وفي مكة المكرّمة كان الأمر أوضح ، وكان الإمام به أصرح ؛ فإنّه عندما عزم على الرحيل من مكة المكرّمة في يوم التروية ، والناس يستعدّون للخروج إلى عرفات ، دبَّ الخبر أنّ الحسين بن علي عليهالسلام سوف يخرج إلى العراق ، وذلك بعد الخطبة التي أوردناها ، وسمع بذلك أهل الموقف والموسم.
وفي الليل جاءه أخوه محمد بن الحنفية رضياللهعنه فقال له : (يا أخي ، إنّ أهل الكوفة مَنْ قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفت أن يكون حالك حال مَنْ مضى ، فإن رأيت أن تقيم ؛ فإنّك أعزّ مَنْ في الحرم وأمنعه).
فقال عليهالسلام : «يا أخي ، قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم ، فأكونَ الكبش الذي تُستباحُ به حرمةُ هذا البيت».
فقال له ابن الحنفية : (فإن خفت ذلك فسر إلى اليمن ، أو بعض نواحي البَرّ ؛ فإنّك أمنع الناس به ، ولا يقدر عليك أحد).
فقال عليهالسلام : «أنظُرُ فيما قُلتَ».
فلمّا كان السَّحر ، ارتحل الحسين عليهالسلام فبلغ ذلك ابن الحنفية ، فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها ، فقال له : (يا أخي ، ألم تعدني النظر فيما سألتك؟!).
قال عليهالسلام : «بلى».
فقال : (فما حداك على الخروج عاجلاً؟!).
قال عليهالسلام : «أتاني رسول الله صلىاللهعليهوآله بعد ما فارقتك فقال : يا حسين ، اخرجْ فإنَّ الله شاء أن يراكَ قتيلاً».
فقال له ابن الحنفية : (إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟!).
فقال له عليهالسلام : «قد قال لي صلىاللهعليهوآله : إنَّ الله قد شاءَ أن يراهنَّ سبايا» (4).
والصراحة بهذا الشكل شيمة الأقوياء دون الضعفاء ومن أخلاق العظماء ، قال فيلسوف من الغرب : (الاعتذار : هو أقصى مراتب النضوج العقلي والعاطفي ، فالعظيم يعتذر ويشعر بأخطائه ، وهو في قمّة النصر لا في هوّة الهزيمة).
ويقول العقاد : (لا أحد يعترف بالنقص إلاّ أن يريد التوصّل للاستشهاد بالكمال ، أو يخشى أن يفشي أسرار عدوّ له على غير حقيقتها) (5).
والإمام الحسين عليهالسلام قائد ولكن ليس فيه نقص ولا عيب ـ حاشاه ـ وليس عنده خطأ في أقواله وأفعاله ؛ فإنّ القرآن الكريم وجدّه المصطفى قد شهدا له بذلك ، ولذا بقيت مواقفه هذه نبراساً لكلّ الأحرار ، ومناراً للهداية إلى كافة البشرية.
فالإمام عليهالسلام عند الكعبة المقدّسة (حرسها الله وشرفها) ولا يريد أن تُنتهك به حُرمة المكان الأكثر حُرمة على وجه الأرض.
المصادر :
1- ـ موسوعة بحار الأنوار 44 ص 328 ، الفتوح 5 ص 20 ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي 1 ص 186.
2- وسائل الشيعة 14 ص 578 ، بحار الأنوار 98 ص 366 ، كامل الزيارات ص 287.
3- كشف الغمة 2 ص 203 ، اللهوف ص 26.
4- الكلمة ص 246 ، اللهوف ص 27.
5- فلسفة الأخلاق الإسلاميّة ص 203.
منذ أن جابه بها عبد المطلب أبرهة الحبشي الذي قاد جيش الفيل وجاء ليهدم الكعبة المشرّفة ؛ لأنّه بنى خيراً منها كما يزعم ويدّعي كذباً وزوراً في اليمن ، وأراد هو عكس ما أراد الله ؛ لأنّه لم يكن يعتقد بالله ، وكان جلّ اعتقاده بنفسه وقوّته.
بيت الله الحرام لا ينتهك حرمته إلاّ مَنْ هو على شاكلة أبرهة الحبشي ، والحجّاج بن يوسف الثقفي ومَنْ لفَّ لفهم من خوارج هذه الأُمّة المرحومة كهؤلاء الذين يدَّعون الإسلام ويكفّرون الأُمّة الإسلاميّة في هذا العصر بأبشع أسلوب وأشنع طريقة عرفها التاريخ.
فللمكان قدسيته لا سيما مكة المكرّمة حرم الله ، والمدينة المنوّرة حرم رسول الله صلىاللهعليهوآله «المدينةُ حَرمي» كما قال الحبيب المصطفى لأصحابه. وللزمان قدسيته كذلك ، كأيّام الأعياد ، وشهر الله شهر رمضان وغيرها من (أيّام الله) ، فكلّ شيء يُنسب إلى مقدّس فهو مقدّس وذو مكانة ماديّة ومعنويّة.
الحسين عليهالسلام يرفض بيعة يزيد
ومن أخلاق أبي عبد الله الحسين عليهالسلام أنّه كان يحترم المقدّسات ويجلّها ، ويحترم ذوي الشأن في المقدّسين كجدّه وأبويه وأخيه (صلوات الله عليهم جميعاً) ؛ ولذا تراه إذا كانت تهجم عليه الخطوب والمحن فإنّه يلتجئ إلى جدّه المصطفى ، ويحبس نفسه الشريفة على ترابه ، ويناديه ويناجيه بعبارات تفيض بكلّ المعاني المقدّسة.
فعندما رفض البيعة للحاكم الجديد ، يزيد الظالم الفاجر ، الفاسق العربيد ، وأعلن ذلك على رؤوس الأشهاد ، راحوا يعدّون العدّة لاغتياله في حرم جدّه (المدينة المنوّرة) ، فما كان منه إلاّ أن أعدَّ واستعدَّ للهجرة إلى مكة المكرّمة ؛ طلباً للحماية الإلهيّة وحاجّاً للبيت العتيق ، وقبل خروجه من المدينة ذهب إلى قبر جدّه وروضته ولاذ بها مودِّعاً بهذه الكلمات النورانيّة : «السّلامُ عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة ، فرخك وابن فرختك ...».
ولمّا كانت الليلة الثانية خرج الحسين بن علي عليهالسلام إلى القبر أيضاً وصلّى ركعات ، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول :
«اللّهمّ إنّ هذا قبرُ نبيّك محمّد وأنا ابن بنت نبيّك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمتَ. اللّهمّ إنّي أحبُّ المعروف وأكره المنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومَنْ فيه إلاّ اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى».
ثمّ جعل يبكي عند القبر حتّى إذا كان قريباً من بياض الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ، فإذا هو برسول الله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه حتّى ضمّ الحسين إلى صدره وقبَّل بين عينيه ، وقال :
«حبيبي يا حسين ، كأنّي أراك عن قريب مُرمّلاً بدمائك ، مذبوحاً بأرض كربٍ وبلاء ، من عصابةٍ من أُمّتي ، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى ، وظمآن لا تُروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي ، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة. حبيبي يا حسين ، إنّ أباك وأُمّك وأخاك قدموا عليّ وهم مشتاقون إليك ، وإنّ لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلاّ بالشهادة».
فجعل الحسين عليهالسلام في منامه ينظر إلى جدّه ويقول : «يا جدّاه ، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا فخذني إليك ، وأدخلني معك في قبرك».
فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : «لا بدّ لك من الرجوع إلى الدُّنيا حتّى تُرزق الشهادة ، وما قد كتب الله لك فيها من الثواب العظيم».
قال : فانتبه الحسين عليهالسلام من نومه فزعاً مرعوباً ، فقصَّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطلب ، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق ولا مغرب قوم أشدُّ غمّاً من أهل بيت رسول الله صلىاللهعليهوآله ولا أكثر باكٍ وباكية منهم (1).
ألم تلحظ الشجاعة التي تفيض من موقف الإمام الحسين عليهالسلام؟ وهل يمكن لغير الإمام أن يعرف هذه التفاصيل الدقيقة عن مسيرته الاستشهادية ويطيق عليها صبراً ويحتسبها عند الله؟! هذا من ناحية.
ومن ناحية أُخرى ألم تلحظ عزيزي القارئ الأدب الجمّ ، والأخلاق الإسلاميّة الحسينيّة ، واحترامه لمقام جدّه المصطفى صلىاللهعليهوآله وهو ملحود تحت التراب ، يزوره ويناجيه ، ويبثّ إليه شجونه وهمومه ، ويتلقى التعليمات والتوجيهات المباشرة منه عبر الأحلام الصادقة فينفذها بكلّ قوّة واطمئنان وشجاعة وإقدام؟!
وهؤلاء الخوارج الجدد يرون أن لا قيمة ولا فائدة من رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ والعياذ بالله ـ حتّى قال قائلهم : (إنّ عصاي هذه خير من محمد ؛ لأنّها تنفع ومحمد لا ينفع). أستغفر الله ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً فمقام رسول الله صلىاللهعليهوآله ومكانته ميّتاً كمقامه ومكانته حيّاً بلا فرق أبداً عند أولياء الله.
فالإمام الحسين عليهالسلام يلجأ إلى قبر جدّه ويلوذ به ويناجيه ويناديه ويبثّه شكواه ، فهل كان مشركاً والعياذ بالله؟!
أم أنّه كان لا يعلم ما هو الشرِّك والتوحيد حتّى جاء اُولئك وعرفوا أن الاستجارة بقبر النبيّ صلىاللهعليهوآله شرك أكبر ، وفاعله مشرك كافر يُقتل؟! لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.
أم صدّقوا أنّ عصا مسخهم أفضل من رسول الله صلىاللهعليهوآله ؛ لأنّها تنفع للحيّة والعقرب ، ورسول الله صلىاللهعليهوآله لا ينفع بعد أن مات ودُفن تحت التراب ، وهو الذي قال صلىاللهعليهوآله :
«مَنْ زارني ميّتاً كمَنْ زارني حيّاً» و «مَنْ زارني بعد موتي كان كمَنْ زارني في حياتي» (2).
والإمام الحسين المظلوم عليهالسلام كان في أخلاقيّاته هذه الصفة النورانيّة الحميدة ، ألا وهي احترام وتعظيم وتقديس جدّه صلىاللهعليهوآله حيّاً وميّتاً ، ولا أريد أن أعيد الكلمات لأنّها من أوضح العبارات وأعذبها ، والإمام الحسين عليهالسلام يخاطب جدّه ، والجدّ يسمعه ويجيبه ولو في عالم الرؤيا والأحلام حتّى تبقى في الصورة البشريّة التي يمكن لنا أن نفهمها نحن البسطاء.
اقتلوا الحسين ولو في الكعبة
إلى مكة ، اتّجه الإمام عليهالسلام من حرم جدّه إلى حرم ربّه ، إلى بيت الله الحرام الكعبة المشرّفة ، وراح يلتقي بالوفود تلو الوفود ، والأعيان بعد الأعيان ، والشخصيّات بعد الشخصيّات إلى أيّام الحجّ ، فأحرم حاجّاً لله تعالى ، ولكن في تلك الأثناء علم الحاكم الجديد بأمر الإمام الحسين عليهالسلام ورفض البيعة له ، فبعث رسولاً وجنَّد جنوداً وأمرهم : اقتلوا الحسين ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، إنّه إذن الفتك بالحسين أينما وجد.
فما العمل إذن؟ والأيّام من أيّام الله المقدّسة هي أيّام الحجّ ، والشهر هو الشهر الحرام (ذو الحجّة) محرّم فيه القتال ، والمكان حرم الله الأقدس بيت الله العتيق مكة المكرّمة ، والمطلوب أقدس دم في ذاك الزمان ، هو دم شخص الإمام الحسين عليهالسلام بالذّات للحاكم الجائر الظالم يزيد بن معاوية.
علم الإمام بالمؤامرة الخبيثة التي كان يقودها عمرو بن سعيد بن العاص وحثالة من أهل الشام أعدَّهم وجعل السيوف تحت إحرامهم ؛ للفتك بالحسين عليهالسلام في مكة المكرّمة ، وأينما وجدوه حتّى ولو كان يطوف بالبيت ، أو يسعى بين الصفا والمروة أو حتّى في عرفات والمشعر الحرام ، أينما استطاعوا أن يجدوه فسوف يقتلونه ـ والعياذ بالله ـ. ويا ويلهم من جرأتهم على الله ورسوله ووليّه! فأراد الإمام أن يحبط المؤامرة الدنيئة تلك ، فاقتصر على العمرة وعدل عن الحجّ ، وأراد الخروج من مكة بأسرع وقت ممكن حفاظاً على حرمة البيت وقدسيته ، فأعلن ذلك على رؤوس الأشهاد بخطبة رائعة قال فيها :
«الحمدُ لله ، وما شاء الله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، وصلّى الله على رسوله ، خُطّ الموتُ على ولدِ آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تُقطعها عسلانُ الفلوات بين النّواويس وكربلا ، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً ، وأجربة سُغباً ، لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم ، رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويُوفيّنا أجور الصّابرين ، لن تشذّ عن رسول الله صلىاللهعليهوآله لحمته ، وهي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقرُّ بهم عينه ، وينجز لهم وعده. مَنْ كان فينا باذلاً مهجته ، وموطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا ؛ فإنّي راحلٌ مُصبحاً إن شاء الله» (3).
أخي الكريم ، هل قرأت أو سمعت بمثل هذا الكلام البليغ؟ وهل يخطر بذهنك أنّ قائد ثورة تغييريّة يقوم في وجه دولة قائمة يصرّح بمثل هذا البيان (بالموت والشهادة) لكلّ مَنْ يذهب معه؟!
نعم ، الصراحة قمّة الشجاعة الأدبيّة ، والتعاطي والتعامل معها قمّة الشجاعة العمليّة ، والصريح شجاع يعترف بنقاط قوّته ويعزّزها ، ويعترف كذلك بنقاط ضعفه ويعالجها.
وهذا عادةً لا يتميّز به القادة العسكريون ؛ لأنّ للمعركة ظروفها الخاصّة وحالاتها وأحكامها ، والقائد الناجح بنظريات قادة الجيوش ، هو الذي يستطيع السيطرة على قوّاته في جميع مراحل القتال ، لا سيما في الظروف المعقّدة. وهذا قد يتطلّب التكتّم التام على المعلومات التي تؤثّر سلباً على معنويّات القوّات ونفسيّات الجنود ، والروح المعنوية أساس في ثبات الجند في كلّ معركة. أمّا قيادة الإمام الحسين عليهالسلام فكانت استثناء من هذا كلّه ، ونهضته فريدة في هذه الحياة كلّها.
كان هذا واضحاً في المدينة المنوّرة منذ البداية ، وفي مكة المكرّمة كان الأمر أوضح ، وكان الإمام به أصرح ؛ فإنّه عندما عزم على الرحيل من مكة المكرّمة في يوم التروية ، والناس يستعدّون للخروج إلى عرفات ، دبَّ الخبر أنّ الحسين بن علي عليهالسلام سوف يخرج إلى العراق ، وذلك بعد الخطبة التي أوردناها ، وسمع بذلك أهل الموقف والموسم.
وفي الليل جاءه أخوه محمد بن الحنفية رضياللهعنه فقال له : (يا أخي ، إنّ أهل الكوفة مَنْ قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفت أن يكون حالك حال مَنْ مضى ، فإن رأيت أن تقيم ؛ فإنّك أعزّ مَنْ في الحرم وأمنعه).
فقال عليهالسلام : «يا أخي ، قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم ، فأكونَ الكبش الذي تُستباحُ به حرمةُ هذا البيت».
فقال له ابن الحنفية : (فإن خفت ذلك فسر إلى اليمن ، أو بعض نواحي البَرّ ؛ فإنّك أمنع الناس به ، ولا يقدر عليك أحد).
فقال عليهالسلام : «أنظُرُ فيما قُلتَ».
فلمّا كان السَّحر ، ارتحل الحسين عليهالسلام فبلغ ذلك ابن الحنفية ، فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها ، فقال له : (يا أخي ، ألم تعدني النظر فيما سألتك؟!).
قال عليهالسلام : «بلى».
فقال : (فما حداك على الخروج عاجلاً؟!).
قال عليهالسلام : «أتاني رسول الله صلىاللهعليهوآله بعد ما فارقتك فقال : يا حسين ، اخرجْ فإنَّ الله شاء أن يراكَ قتيلاً».
فقال له ابن الحنفية : (إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟!).
فقال له عليهالسلام : «قد قال لي صلىاللهعليهوآله : إنَّ الله قد شاءَ أن يراهنَّ سبايا» (4).
والصراحة بهذا الشكل شيمة الأقوياء دون الضعفاء ومن أخلاق العظماء ، قال فيلسوف من الغرب : (الاعتذار : هو أقصى مراتب النضوج العقلي والعاطفي ، فالعظيم يعتذر ويشعر بأخطائه ، وهو في قمّة النصر لا في هوّة الهزيمة).
ويقول العقاد : (لا أحد يعترف بالنقص إلاّ أن يريد التوصّل للاستشهاد بالكمال ، أو يخشى أن يفشي أسرار عدوّ له على غير حقيقتها) (5).
والإمام الحسين عليهالسلام قائد ولكن ليس فيه نقص ولا عيب ـ حاشاه ـ وليس عنده خطأ في أقواله وأفعاله ؛ فإنّ القرآن الكريم وجدّه المصطفى قد شهدا له بذلك ، ولذا بقيت مواقفه هذه نبراساً لكلّ الأحرار ، ومناراً للهداية إلى كافة البشرية.
فالإمام عليهالسلام عند الكعبة المقدّسة (حرسها الله وشرفها) ولا يريد أن تُنتهك به حُرمة المكان الأكثر حُرمة على وجه الأرض.
المصادر :
1- ـ موسوعة بحار الأنوار 44 ص 328 ، الفتوح 5 ص 20 ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي 1 ص 186.
2- وسائل الشيعة 14 ص 578 ، بحار الأنوار 98 ص 366 ، كامل الزيارات ص 287.
3- كشف الغمة 2 ص 203 ، اللهوف ص 26.
4- الكلمة ص 246 ، اللهوف ص 27.
5- فلسفة الأخلاق الإسلاميّة ص 203.