غادر الإمام الحسين عليه السلام مكّة ، ولم يمكث فيها ، فقد علم أن الطاغية يزيد قد دسّ عصابة من الإرهابيين لاغتياله ، وان كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، فخاف أن يراق دمه في البيت الحرام ، وفي الشهر الحرام ، وبالإضافة إلى ذلك فان سفيره مسلم بن عقيل قد كتب إليه يحثّه على القدوم إلى الكوفة ، وان أهلها يترقّبون قدومه ، ويفدونه بأرواحهم ودمائهم ، ويقدمون له الدعم الكامل لتشكيل حكومة علوية في بلادهم.
وسار الإمام مع عائلته تحفّ بها الكوكبة المشرقة من شباب أهل البيت عليهمالسلام الذين يمثّلون القوة والعزم والإباء ، وعلى رأسهم سيّدنا أبو الفضل عليه السلام فكانت رايته ترفرف على رأس أخيه أبي الأحرار من مكّة المكرّمة إلى أرض الشهادة والفداء كربلاء ، وكان يراقب بدقّة حركة القافلة وسيرها خوفاً على عيال أخيه وأطفاله من أن يصيبهم عناء أو أذى من وعورة الطريق ، وقد تكفّل جميع شؤونهم وما يحتاجون إليه ، وقد وجدوا في رعايته وحنانه من البرّ ما يفوق حدّ الوصف.
وواصل الإمام سيرته الخالدة ، وقد طافت به هواجس مريرة ، فقد أيقن أنّه سيلاقي مصرعه ، ومصارع أهل بيته على أيدي هؤلاء الذين كاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، وقد تشرّف بمقابلته في الطريق الشاعر الكبير الفرزدق همام بن غالب ، فسلّم عليه وحيّاه ، وقال له :
« بأبي أنت وأمّي يا بن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ما أعجلك عن الحجّ ؟ ».
فأحاطه الإمام علماً بما عزمت عليه السلطة من اغتياله قائلاً :« لو لم أعجل لأخذت .. ».
وسارع الإمام قائلاً :« من أين أقبلت ؟ .. »
« من الكوفة .. ».
« بيّن لي خبر الناس .. »
كشف الفرزدق للإمام بوعي وصدق الحالة الراهنة في الكوفة ، وانّها لا تبشّر بخير ، ولا تدعو إلى التفاؤل قائلاً :
« على الخبير سقطت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني أميّة ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء ... وربّنا كل يوم هو في شأن .. ».
واستصوب الإمام حديث الفرزدق ، وأخبره عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وانه ماضٍ قدماً في جهاده ، وذبّه عن حرمة الإسلام ، فان نال ما يرومه فذاك ، وإلاّ فالشهادة في سبيل الله قائلاً له :
« صدقت لله الأمر من قبل ، ومن بعد ، يفعل الله ما يشاء ، وكل يوم ربّنا في شأن ، ان نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على أداء الشكر وان حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدّ من كان الحقّ نيّته ، والتقوى سريرته » وأنشأ الإمام هذه الأبيات :
لئن كانت الدنيا تعدّ نفيسة ***فـدار ثواب الله أعلى وأنبل
وان كانت الأبدان للموت أنشئت ***فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل
وان كانت الأرزاق شيئاً مقدراً *** فقلة سعي المرء في الرزق أجمل
وان كانت الأموال للترك جمعها ***فما بال متروك به المرء يبخل
ودلّ هذا الشعر على زهده في الدنيا ، ورغبته الملحّة في لقاء الله تعالى ، وانّه مصمّم كأشدّ ما يكون التصميم على الجهاد ، والشهادة في سبيل الله.
إنّ التقاء الإمام مع الفرزدق كشف عن خنوع الناس ، وعدم اندفاعهم لنصرة الحق فالفرزدق الذي كان يملك وعياً اجتماعياً ، ووعياً ثقافياً متميزاً رأى ريحانه رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وهو ماضٍ في طريقه إلى الشهادة قد تضافرت قوى الباطل على حربه فلم يندفع إلى نصرته ، والالتحاق بموكبه ، واختار الحياة على الشهادة ، فاذا كان هذا حال الفرزدق فكيف بغيره من جهّال الناس وسوادهم.
وصول النبأ بمقتل مسلم :
وسارت قافلة أبي الأحرار تطوي البيداء لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى ( زرود ) وإذا برجل قد أقبل من جهة الكوفة ، فلمّا رأى الامام الحسين عليه السلام عدل عن الطريق وقد وقف الامام يريد مسألته فلمّا رآه قد مال عنه واصل سيره ، وكان مع الإمام عبد الله بن سليمان ، والمنذر بن المشمعل الأسديان فسارعا نحو الرجل حينما عرفا رغبة الإمام في سؤاله ، فأدركاه ، وسألاه عن خبر الكوفة فقال لهما : إنّه لم يخرج حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، ورآهما يجرّان بأرجلهما في الأسواق ، فودّعاه وأقبلا مسرعين حتى التحقا بالإمام ، فلما نزل الثعلبية قالا له :« رحمك الله ان عندنا اخباراً ان شئت حدّثناك به علانية ، وان شئت سرّاً ».
ونظر الإمام إلى أصحابه الممجّدين فقال :« ما دون هؤلاء سرّ ».
« أرأيت الراكب الذي استقبلته عشاء أمس ؟ .. »
« نعم وأردت مسألته ... ».
« والله استبرأنا لك خبره ، وهو أمرؤ منّا ذو رأي ، وصدق ، وعقل ، وانه حدّثنا انّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم ، وهانئ ورآهما يجرّان في الأسواق بأرجلهما .. ».
وتصدّعت قلوب العلويين وشيعتهم من هذا النبأ المفجع ، وانفجروا بالبكاء واللوعة ، حتى ارتجّ الموضع بالبكاء ، وسالت الدموع كالسيل ، وشاركنهم السيّدات من أهل البيت بالبكاء ، وقد استبان لهم غدر أهل الكوفة ونكثهم لبيعة الإمام ، وانّهم سيلاقون المصير الذي لا قاه مسلم ، والتفت إلى بني عقيل فقال لهم :« ما ترون فقد قتل مسلم ؟ .. ».
ووثبت الفتية كالأسود ، وهي تعلن استهانتها بالموت ، وسخريتها من الحياة ، مصمّمة على المنهج الذي سار عليه مسلم قائلين :
« لا والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم .. ».
راح أبو الأحرار يقول بمقالتهم : « لا خير في العيش بعد هؤلاء .. ».
وقال متمثلاً :
« سأمضي وما بالموت عار على الفتى *** إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما
فان مُتّ لم أندم وإن عشت لم ألم ***كفى بك عاراً أن تذل وترغما »
لقد مضيت ـ يا أبا الأحرار ـ قدماً إلى الموت ، بعزم وتصميم ، وأنت مرفوع الرأس ، ناصع الجبين في سبيل كرامتك ، ولم تخضع ، ولم تلن لأولئك الأقزام الذين غرقوا في الرذائل والموبقات.
النبأ المفجع بشهادة عبد الله :
وسار موكب الإمام لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى زبالة ، فوافاه النبأ الفظيع بشهادة عبد الله بن يقطر الذي أوفده للقيا مسلم بن عقيل ، فقد ألقت الشرطة القبض عليه ، وبعثته مخفوراً إلى ابن مرجانة ، فلمّا مثل عنده صاح به الخبيث الدنس :« اصعد المنبر ، والعن الكذّاب ـ يعني الامام الحسين ـ ابن الكذّاب ، حتى أرى رأيي فيك .. ».
وظنّ ابن مرجانة انّه على غرار شرطته ، ومن سنخ جلاّديه الذين باعوا ضمائرهم عليه ، وما درى أنّه من أفذاذ الأحرار الذين تربّوا في مدرسة أهل البيت عليهمالسلام ، وسجّلوا الفخر والشرف لهذه الأمة ، واعتلى البطل العظيم أعواد المنبر ، ورفع صوته صوت الحقّ الهادر قائلاً :
« أيّها الناس أنا رسول الحسين بن فاطمة ، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة الدعيّ ابن الدعيّ .. ».
واسترسل في خطابه الثوري ، وقد دعا فيه إلى نصرة ريحانة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم والذبّ عنه ، ومناهضة الحكم الأموي الذي عمد إلى إذلال الإنسان المسلم ، وسلب حريته وإرادته ، وانتفخت أوداج ابن مرجانة وورم أنفه ، فأمر بإلقاء هذا العملاق من أعلى القصر ، فأخذته الشرطة ، ورمته من أعلى القصر فتكسّرت عظامه ، وبقي به رمق من الحياة ، فأسرع إليه الخبيث عبد الملك اللخمي فذبحه ليتقرّب إلى سيّده ابن مرجانة.
ولمّا علم أبو الأحرار بمصرع عبد الله شقّ عليه ذلك ، ويئس من الحياة ، وعلم أنّه يسير نحو الموت ، وأمر بجمع أصحابه ، والذين اتبعوه طلباً للعافية لا للحق ، ليعلمهم بما آل إليه أمره من تخاذل الناس عنه ، وانصرافهم إلى بني أميّة قائلاً :
« أمّا بعد : فقد خذلنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام .. ».
وتفرّق ذوو الاَطماع الذين اتبعوه من أجل الغنيمة ، والظفر ببعض مناصب الدولة وخلص إليه الصفوة الكريمة من أصحابه الممجدين الذي اتبعوه على بصيرة من أمرهم وليست عندهم أية أطماع.
لقد صارح الإمام أصحابه بالواقع في تلك المرحلة الحاسمة ، فأعلمهم أنّه ماضٍ إلى الشهادة لا إلى الملك والسلطان ، وان من يلتحق به سيفوز برضا الله ، ولو كان الامام من عشّاق السلطة لما أدلى بذلك ، وكتم الأمر لأنّه في أمسّ الحاجة إلى الناصر والمحامي عنه.
لقد كان الإمام عليه السلام ينصح أصحابه وأهل بيته بالتخلي عنه في كل موقف والسبب في ذلك أن يكونوا على بصيرة من أمرهم ، ولا يدّعي أحد منهم أنّه كان على غير علم بالأمر.
الالتقاء بالحرّ :
وسار موكب الإمام يطوي البيداء حتى انتهى إلى « شراف » وفيها عين ماء فأمر الإمام فتيانه بالاستقاء والاكثار منها ، ففعلوا ذلك ، وسارت القافلة ، فانبرى بعض أصحاب الإمام بالتكبير ، فاستغرب الامام منه ، وقال له :« لمَ كبّرت ؟ ... »« رأيت النخل ... ».
وأنكر عليه رجل من أصحاب الإمام ممن عرف الطريق ، فقال له :
« ليس ها هنا نخل ، ولكنها اسنّة الرماح ، وآذان الخيل » ...
وتأمّلها الإمام ، فطفق يقول : وأنا أرى ذلك ـ أي أسنّة الرماح وآذان الخيل ـ وعرف الإمام أنّها طلائع الجيش الأموي جاءت لحربه فقال لأصحابه :« أما لنا من ملجأ نلجأ إليه ، فنجعله وراء ظهورنا ، ونستقبل القوم من وجه واحد .. ».
وكان بعض أصحابه عارفاً بسنن الطريق فقال له :
« بلى هذا ذو حُسم (ذو حسم : ـ بضم الحاء وفتح السين ـ جبل هناك.) إلى جنبك ، تميل إليه عن يسارك ، فان سبقت إليه فهو كما تريد ..».
ومال موكب الإمام إليه ، فلم يبعد كثيراً حتى أدركه جيش مكثف بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي ، قد عهد إليه ابن مرجانة أن يجوب في صحراء الجزيرة للتفتيش عن الإمام ، وإلقاء القبض عليه ، وكان عدد ذلك الجيش فيما يقول المؤرّخون زهاء ألف فارس ، ووقفوا قبال الإمام في وقت الظهر ، وقد أشرفوا على الهلاك من شدّة الظمأ ، فرقّ عليهم الإمام ، فأمر أصحابه أن يسقوهم الماء ، ويرشفوا خيولهم ، وسارع أصحابه فسقوا الجيش المعادي لهم عن آخره ، ثم انعطفوا إلى الخيل فجعلوا يملأون القصاص والطساس فإذا عبّ الفرس فيها ثلاثاً ، أو أربعاً ، أو خمساً ، عزلت ، وسقى الآخر حتى سقوها عن آخرها.
لقد تكرّم الإمام عليه السلام على أُولئك الوحوش الانذال الذين جاءوا لحربه فأنقذهم من الظمأ القاتل ، ولم تهزّهم هذه الأريحية وهذا النبل ، فقابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عنه ، وعن أطفاله حتى تفتّت قلوبهم من الظمأ.
خطاب الإمام في الجيش :
وخطب الإمام عليه السلام خطاباً بليغاً في قطعات ذلك الجيش ، فأوضح لهم أنّه لم يأتهم محارباً ، وانّما جاءهم محرراً ومنقذاً لهم من جور الأمويين وظلمهم ، وقد توافدت عليه وفودهم وكتبهم تحثّه بالقدوم لمصرهم ليقيم دولة القرآن والإسلام ، وهذه فقرات من خطابه الشريف :« أيّها الناس ، انّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ ، وإليكم ، إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت بها عليَّ رسلكم ان أقدم علينا فانّه ليس لنا إمام ، ولعل الله أن يجمعنا بك على الهدى ، فان كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فاعطوني ما أطمئنّ به من عهودكم ومواثيقكم ، وان كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم .. ».
وأحجموا عن الجواب لأن أكثرهم ممن كاتبوه وبايعوه على يد سفيره العظيم مسلم بن عقيل.
وحضر وقت صلاة الظهر فأمر الإمام مؤذّنه الحجاج بن مسروق أن يؤذّن ويقيم للصلاة ، وبعد فراغه منها التفت الامام إلى الحرّ فقال له :
« أتريد أن تصلّي بأصحابك ؟ .. ».
فقال الحرّ بأدب : « بلى نصلّي بصلاتك .. ».
وائتمّ الجيش بريحانة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وبعد الفراغ من الصلاة انصرفوا إلى اخبيتهم ، ولما حضر وقت صلاة العصر جاء الحرّ مع قومه فاقتدوا بالامام في الصلاة وبعد الانتهاء منها خطب الإمام الحسين عليه السلام خطاباً رائعاً ، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه :
« أيّها الناس : إنّكم إن تتّقوا الله ، وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فان أنتم كرهتمونا ، وجهلتم حقّنا ، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم ... ».
لقد دعاهم إلى تقوى الله ، ومعرفة أهل الحقّ ، ودعاة العدل فان في ذلك رضاً لله ونجاة لأنفسهم ، كما دعاهم إلى مناصرة أهل البيت عليهمالسلام روّاد الشرف والفضيلة ، ودعاة العدل الاجتماعي في الإسلام ، وهم أولى وأحقّ بولاية أمور المسلمين من بني أميّة الذين حكموا فيهم بغير ما أنزل الله ، وإذا لم يستجيبوا لذلك ، وتبدّلت نيّاتهم فانّه ينصرف عنهم إلى المكان الذي جاء منه.
وانبرى إليه الحرّ ، وكان لا يعلم بشأن الكتب التي بعثتها جماهير أهل الكوفة إلى الإمام فقال له :
« ما هذه الكتب التي تذكرها ؟ .. ».
فأمر الإمام عقبة بن سمعان بإحضارها فأخرج خرجين مملوئين صحفاً فنشرها بين يدي الحرّ ، فبهر منها ، وجعل يتأمّل فيها ، وقال للإمام : « لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ... ».
ورام الإمام أن ينصرف إلى المكان الذي جاء منه فمنعه الحرّ ، وقال له :
« أن لا أفارقك إذا لقيتك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد .. ».
ولذعت الامام هذه الكلمات القاسية ، فثار في وجه الحرّ ، وصاح به « الموت أدنى إليك من ذلك .. ».
وأمر الإمام أصحابه بالركوب فلمّا استووا على رواحلهم أمرهم بالتوجه إلى يثرب فحال الحرّ بينهم وبين ذلك ، فصاح به الحسين :
« ثكلتك أمّك ما تريد منّا ؟ .. ».
واطرق الحرّ برأسه إلى الأرض ، وتأمّل ، ثم رفع رأسه إلى الامام وقال له بأدب :
« ولكن والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما يقدر عليه .. ».
وسكن غضب الامام ، وأعاد عليه القول :
« ما تريد منّا .. ؟ ».
« أريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد .. ».
« والله لا أتبعك .. ».
« إذن والله لا أدعك .. ».
وكاد الوضع أن ينفجر باندلاع الحرب إلاّ أن الحر ثاب إلى رشده ، فقال للإمام :
« إنّي لم أُؤمر بقتالك ، وانّما أُمرت أن لا افارقك حتى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ، ولا يردّك إلى المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد ، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بأمرك ».
واتفقا على هذا الأمر فتياسر الإمام عن طريق العذيب والقادسية ، وأخذت قافلة الإمام تطوي البيداء ، وكان الحرّ مع جيشه يتابع الامام عن كثب ويراقبه كأشدّ ما تكون المراقبة.
*خطاب الإمام :
وانتهى موكب الإمام إلى ( البيضة ) فألقى الإمام خطاباً رائعاً على الحرّ وأصحابه أعلن فيه عن دوافع ثورته ودعاهم إلى مناصرته ، وكان من بنود هذا الخطاب هذه الفقرات :
« أيّها الناس : إن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله » ..
« إلاّ أن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ ممن غيّر ، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم انّكم لا تسلموني ، ولا تخذلوني ، فان أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم ، وأنا الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، ولكن فيَّ أسوة ، وإن لم تفعلوا ، ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي ، فلعمري ما هي لكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي ، وابن عمّي مسلم فالمغرور من اغترّ بكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومن نكث فانّما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم .. ».
وأعلن أبو الأحرار في هذا الخطاب الرائع دوافع ثورته المقدّسة على حكومة يزيد ، وانّها لم تكن من أجل المطامع والأغراض الشخصية الخاصة ، وانّما كانت استجابة للواجب الديني الذي لا يقرّ بأيّ حال من الأحوال حكومة السلطان الجائر الذي يستحلّ حرمات الله ، وينكث عهده ، ويخالف سنّة رسوله ، وإن من لم يندفع إلى ساحات الجهاد لمناهضته فانّه يكون شريكاً له في ظلمه وجوره ، كما ندّد عليه السلام بالأمويين وقد نعتهم بأنّهم قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، واستأثروا بالفيء ، وعطّلوا حدود الله ، والإمام عليه السلام أحقّ وأولى من غيره بتغيير الأوضاع الراهنة وإعادة الحياة الإسلامية المشرقة إلى مجراها الطبيعي بين المسلمين ، وأعرب لهم أنّه إذا تقلّد شؤون الحكم فسيجعل نفسه مع أنفسهم ، وأهله مع أهليهم من دون أن يكون له أي امتياز عليهم ، وقد وضع الإمام بهذا الخطاب النقاط على الحروف ، وفتح لهم منافذ النور لو كانوا يبصرون ، ولما أنهى الإمام خطابه قام إليه الحرّ فقال له :
« أنّي أذكرك الله في نفسك ، فانّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ ... ».
وردّ عليه أبو الشهداء قائلاً :
« أبالموت تخوّفني ، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ، وما أدري ما أقول لك ، ولكنّي أقول : كما قال أخو الأوس لابن عمّه ، وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أين تذهب ، فانّك مقتول ، فقال له :
سأمضي وما بالموت عار على الفتى ***إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلماً
ووآس الرجال الصالحين بنفسه *** وخالف مثبوراً وفارق مجرما
فان عشت لم أندم وان متّ لم أُلم ***كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما
ولما سمع الحرّ ذلك تنحّى عنه ، وعرف أنّه مصمّم على الموت والتضحية لإنقاذ المسلمين من ويلات الأمويين وجورهم :
*رسالة ابن مرجانة إلى الحرّ :
وتابعت قافلة الإمام سيرها في البيداء ، وهي تارة تتيامن ، وأخرى تتياسر وجنود الحرّ يذودون الركب عن البادية ، ويدفعونه تجاه الكوفة ، والركب يمتنع عليهم ، وبينما هم كذلك ، وإذا براكب يجدّ في سيره ، فلبثوا هنيئة ينتظرونه فإذا به رسول من ابن زياد إلى الحرّ ، فسلّم الخبيث على الحرّ ، ولم يسلّم على ريحانة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ، وناول الحرّ رسالة من ابن مرجانة جاء فيها :
« أمّا بعد : فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ، ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن ، ولا على غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام .. ».
وأعرض ابن مرجانة عما عهد به إلى الحر من إلقاء القبض على الإمام ، وإرساله مخفوراً إلى الكوفة ، ومن المحتمل أنّه خاف من تطوّر الأحداث ، وانقلاب الأوضاع إليه ان وصل الإمام إلى الكوفة ، فرأى التحجير في الصحراء بعيداً عن المدن أولى بالوصول إلى أهدافه.
وقرأ الحرّ كتاب ابن مرجانة على الإمام ، وكان يريد أن يستأنف سيره ليحطّ رحله صوب قرية أو ماء ، فامتنع عليه الحرّ لأن نظرات الرقيب الوافد من ابن زياد كانت تتابعه ، وكان يسجّل عليه كل بادرة يخالف أوامر سيّده ابن مرجانة ، وأشار زهير بن القين وهو من أعلام أنصار الإمام ومن خلّص أصحابه عليه أن يبادر إلى قتال الحرّ ، فامتنع عليه الإمام ، وقال ما كنت أبدأهم بقتال.
المصدر :
بتصرف من کتاب/ العباس بن علي عليهما السلام/ باقر شريف القرشي