عمر على فراش الموت يتفكر بمستقبل امة محمد صلی الله عليه وآله وسلم ، ويقلب الامر على وجوهه المختلفة قال : لو ادركت ابا عبيدة باقياً استخلفته ووليته ، ولو ادركت معاذ بن جبل استخلفته ولو ادركت خالد بن الوليد لوليته ولو ادركت سالما مولى ابي حذيفة وليته ...
وسالم من الموالي ولا يعرف له نسب في العرب ، ومعاذ من الانصار ، ويوم السقيفة لم يكن جائزاً تولية الانصار ! وخالد من بني مخزوم ومن الطبقة العاشرة من طبقات الصحابة حيث هاجر في الفترة الواقعة بين صلح الحديبية وفتح مكة .
قال عمر لابن عباس اثناء خلافته : يا ابن عباس اتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال ابن عباس : فكرهت ان اجيبه ، فقلت : ان لم اكن ادري فان امير المؤمنين يدري ، فقال عمر : كرهوا ان يجمعوا لكم النبوة والخلافة ، فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً ، فاختارت قريش لانفسها فأصابت ووفقت ، قال : فقلت : يا امير المؤمنين ان تأذن لي في الكلام وتحط عني الغضب تكلمت ، قال : تكلم .
قال ابن عباس فقلت : اما قولك يا امير المؤمنين ( اختارت لانفسها فأصابت ووفقت ) فلو ان قريشا اختارت لانفسها من حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، واما قولك ( انهم ابوا ان تكون لنا النبوة والخلافة ) فان الله عز وجل وصف قوماً بالكراهية فقال ( ذلك بأنهم كرهوا ما انزل الله فأحبط أعمالهم ) فقال عمر : هيهات يا ابن العباس قد كانت تبلغني عنك اشياء اكره ان اقرك عليها فتزيل منزلتك مني ، فقلت : يا اميرالمؤمنين فان كان حقاً فما ينبغي ان تزيل منزلتي منك ، وان كان باطلاً فمثلي اماط الباطل عن نفسه .
فقال عمر : بلغني انك تقول : صرفوها عنا حسداً وبغياً وظلماً ، قال ابن عباس : فقلت : اما قولك يا امير المؤمنين ظلماً فقد تبين للجاهل والحليم ، واما قولك حسدا فان آدم حسد ونحن ولده المحسودون . فقال عمر : هيهات هيهات ، ابت والله قلوبكم يا بني هاشم الا حسداً لا يزول . قال : فقلت يا امير المؤمنين مهلاً لا تصف بهذا قلوب قوم اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً (1) .
والواقعة التي يرويها المسعودي في كتابه مروج الذهب والتي جرت بين ابن عباس وبين الفاروق رضي الله عنهما ، تؤكد حدوث الانقلاب الفكري وانفلات التيار الغلاب الذي كان ساكناً في النفوس وملجوماً اثناء حياته صلى الله عليه وآله وسلم وقبل ان تتأس دولة الخلافة الراشدة . وسأورد النص الحرفي لهذه الواقعة .
النص الحرفي للقصة
ذكر عبد الله بن عباس ان عمر ارسل اليه فقال : يا ابن عباس ان عامل حمص قد هلك وكان من اهل الخير ، واهل الخير قليل ، وقد رجوت ان تكون منهم وفي نفسي منك شيء واعياني ذلك فما رأيك في العمل ؟ قال ابن عباس : لن اعمل حتى تخبرني بالذي في نفسك . قال عمر : وما تريد الى ذلك ؟ قال ابن عباس : اريده ، فان كان شيئاً اخاف منه على نفسي خشيت منه عليها الذي خشيت ، وان كنت بريئاً من مثله علمت اني لست من اهله ، فقبلت عملك هنالك ، فاني قلما رأيتك طلبت شيئا الا عالجته .فقال : يا ابن عباس ، اني خشيت ان يأتي علي الذي هو آت ( يعني موت عمر ) وانت في عملك فتقول هلم الينا ، ولا هلم اليكم دون غيركم ، اني رأيت رسول الله استعمل الناس وترككم . قال : والله قد رأيت من ذلك فلم تره فعل ذلك ؟ قال عمر : والله ما ادري اضن بكم عن العمل فأهل ذلك انتم ، ام خشي ان تبايعوا بمنزلتكم منه فيقع العتاب ولا بد من عتاب ، وقد فرغت لك من ذلك فما رأيك ؟ قال ابن عباس : ارى الا اعمل لك . قال : ولم ؟ قلت : ان عملت لك وفي نفسك ما فيها لم ابرح قذى في عينك ، قال : فأشر علي . قلت : اني ارى ان تستعمل صحيحاً منك صحيحاً لك (2) .
من فرط حرصه على مصلحة المسلمين يريد حتى بعد موته ان يتأكد بأن الهاشميين لن يسلطوا على رقاب الناس ، ولن يحكموا امة محمد .
وبالاجمال تحولت هذه المقولة الى تيار غلاب افصح عن ذاته ، وفرض نفسه كقناعة عامة تؤمن بها السلطة وآمنت بها الاكثريه الساحقة على اعتبار ان هذه المقولة هي الوسيلة المثلى لمنع الاجحاف الهاشمي ، وانصاف البطون القريشية لتتداول الخلافة في ما بينها كرد على النبوة الهاشمية او كتعويض لها عن الاختصاص الهاشمي بالنبوة ، واخيراً على اعتبار ان هذه المقولة مظهر من مظاهر هداية قريش وتوفيقها ، على حد تعبير الفاروق .
وباستمالة ابي سفيان الى جانب السلطة ، وترك ما بيده من الصدقات التي جمعها وتولية ابنه يزيد قائداً على جيش الشام وتعيين ابنه الثاني معاوية قائداً من قواد يزيد ، ثم خلافته لاخيه يزيد كوال على الشام بعد وفاته ، كل هذا كون حلفاً حقيقياً بين السلطة وبين الطلقاء لهم قناعة سياسية مشتركة تقوم على عدم تمكين الهاشميين من ان يجمعوا مع النبوة الخلافة ، وبهذا التحالف قطع دابر المعارضة ، وحجمت وتم تكريس مبدأ عدم جواز جمع الهاشميين للنبوة والخلافة معاً .
وهكذا فقدت العترة الطاهرة حتى نصيبها من امتيازات الشرف التي كانت مخصصة لها بموجب الصيغة السياسية التي سادت مكة قبل الاسلام ، وعزلت تماماً وحجمت . انظر الى قول الفاروق مخاطباً العباس وبني هاشم ( اي والله واخرى إنا لم نأتكم حاجة منا اليكم ، ولكن كرهنا ان يكون الطعن منكم فيما اجتمع عليه العامة فيتفاقم الخطب بكم وبهم ) وبلغت الاستهانة بهم حداً انه حتى عبد الله بن الزبير هم بأن يحرق بيوت الهاشميين على من فيها لولا ان تدخل اهل الخير .
ومعنى ذلك ان اي قبيلة من القبائل التي حاصرت الهاشميين في شعاب ابي طالب ثلاث سنين وارسلت مندوبها للاشتراك بقتل النبي هي اسعد حظاً من الهاشميين ، والفرد منها اولى واحق برئاسة الدولة من اي هاشمي . فالرئاسة والولاية حلال لكل الناس وحرام على اي هاشمي من الناحية العملية ، كل ذلك من اجل عدم تمكين الهاشميين من الجمع بين النبوة والخلافة ، وهل جزاء الاحسان الا الاحسان ؟ .
التكييف الشرعي لمقولة لا ينبغي ان يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة
هذه مقولة جاهلية من كل الوجوه ، وتتعارض معارضة تامة مع النصوص الشرعية ومع النظم السياسية المشتقة من العقائد الالهية . فداود النبي ، ورَثه ابنه سليمان فجمع كل واحد منهم النبوة والخلافة معاً ، واوتي الانبياء وذرياتهم الحكم والنبوة والكتاب ، ولم يعترض عليهم احد ، لان الفصل بيد الله ، والخلافة منصب ديني وبالدرجة الاولى دنيوي والخليفة قائم مقام النبي ، ومن مهام البيان والحكم وعملية البيان والحكم عملية فنية تماماً واختصاصاً .ومن هو على علم بالتقاطيع الاساسية للنظام السياسي الاسلامي يتبين له بأقل جهد ممكن ، ان هذه المقولة نسفت نسفاً تاماً النظام السياسي الاسلامي كنظام الهي وفرغته تماماً من مضمونه وحولته من الناحية العملية الى نظام وضعي لا يختلف عن الانظمة الوضعية الا بالشكل ( سياسياً ) ، بل والاهم من ذلك ان رئاسة الدولة صارت غنيمة وطعمة يأكلها الغالب والغالب وحده ، وبعد ان يغلب يجلس على كرسي النبي ( او حصيرته ) ، ويلبس جبة الاسلام فاذا هو خليفة
فان غلب الطليق الذي قاتل الاسلام بكل فنون القتال حتى احيط به فأسلم رغبة او رهبة ، فانه يتأمر على المهاجر الذي قاتل مع الاسلام كل معاركه ، ويصبح ولي الله المخصص شرعاً لرئاسة الدولة الاسلامية بمجرد مواطن عادي من رعاياه ، يتكلم الجاهل ، ويسكت العالم ، يتقدم المحاصر ـ بالكسر ـ ويتأخر المحاصر ـ بالفتح ـ كل هذا من اجل انصاف القبائل الآخرى ومنع الهاشميين من ان يجمعوا مع النبوة الخلافة ، او بتعبير ادق من اجل العودة عملياً الى الصيغة السياسية التي كانت سائدة قبل الاسلام ، ولكن بثوبها الجديد .
فالصيغة السياسية الجاهلية كانت تقوم على اقتسام مناصب الشرف بحيث تأخذ كل قبيلة نصيبها من هذه المناصب ، وبتطبيق المقولة اصبحت القبائل تتداول رئاسة الدولة وبنفس الوقت تتشارك بالشرف والمناصب اثناء عملية التداول ، اما الاحكام الالهيه المتعلقة بالنظام السياسي الاسلامي فهي موضوع آخر ، فهي لا تستجيب للصيغة السياسية التي وجدت قبل الاسلام في مكة .
النتائج التي ترتبت على تكريس مبدأ عدم جواز جمع الهاشميين النبوة والخلافة
النتيجة الاولى :زوال الفوارق نهائيا بين الذين قاتلوا الاسلام بكل فنون القتال حتى احيط بهم فأسلموا ، وبين اولئك الذين قاتلوا مع الاسلام كل معاركه حتى اعز الله دينه ونصر نبيه واقام دولة الايمان . فالكل مسلم لا فرق من الناحية السياسية بين هذا او ذاك ، فكلهم مسلم وكله في الجنة ، فالهاشمي الذي حاصرته قريش ثلاث سنين هو تماماً مثل اي شخص كان على الشرك واشترك بالحصار ، الم يسلم ذلك الشخص ؟ اليس الاسلام يجب ما قبله ؟ فلو ان حمزة سيد الشهداء رجع الى الدنيا فهو تماماً كوحشي من الناحية العملية السياسية ، فالقاتل كالمقتول تماماً ، والمهاجر كالطليق ، والجاهل كالعالم ، ولو غلب الجاهل لكان لزاماً على العالم ان يطيعه سياسياً ، وان يتبعه وينقاد اليه ، بل على العكس ، فلو كان هنالك هاشمي عالم كعلي بن ابي طالب ، وكان هنالك انصاري بدرجته او اقل علماً منه فالانصاري العالم مقدم على الهاشمي . انظر الى قول الفاروق رضي الله عنه بوجود علي بن ابي طالب وهو يقول : لو ادركت معاذ بن جبل لوليته ، ولو ادركت خالد بن الوليد لوليته .
خالد قاتل الاسلام في احد وفي اكثر من وقعة ، وعلي قاتل مع الاسلام في كل مواقعه ، ومع هذا فالاولى هو خالد . حتى ان الفاروق لو ادرك سالما مولى ابي حذيفة وهو من الموالي ولا يعرف له نسب في العرب لولاه الخلافة وامره على علي بن ابي طالب ، مع ان علياً هو مولى عمر ومولى ابي عبيدة ومولى كل مؤمن ومؤمنة باعتراف الفاروق واقراره .
النتيجة الثانية : زرع بذرة الخلاف ونموها
طالماً انه لا فرق بين المهاجر والطليق ، ولا بين القاتل والمقتول ، ولا بين المحاصر ـ بالفتح ـ والمحاصر ـ بالكسر ـ ومن حق كل واحد ان يفهم الاسلام وان يستقطب حول هذا الفهم ، فمعنى ذلك وجود مرجعيات متعددة ووجود مفاهيم متعددة وقناعات متعددة وكل فريق يزعم انه على الحق . ففريق يذهب الى الشمال واخر الى اليمين ، وثالث الى الشرق ورابع الى الغرب وخامس الى الشمال بزاوية كذا ... الخ .ولا يوجد مرجع يعتبر كلامه حجة يقينية شرعية يقر بها الجميع . بهذا الجور زرعت بذرة الخلاف ونمت بأرض خصبة . فلو قال علي عليه السلام كلاماً وقال واحد من الطلقاء كلاماً آخر فالذي يزن القولين هو السامع ، لانه عملياً لا فرق بين علي واي طليق ، فكلاهما في الجنة وكلاهما مسلم فهم صحابة ، اي لا يقرون عملياً بأي ترجيح شرعي لقول علي ، فكيف يرجح بين المتساوين وكيف يفرق بين المتعادلين تماماً ؟ فهذه قطعة ذهبية تتساوى حجماً وشكلاً ومقداراً وقيمة مع قطعة اخرى فخذ ما شئت واياك والتمييز . فالوفاق الحاصل وفاق ظاهري وتحت هذا الظاهر ينمو الخلاف ويشب ثم يتحول الى سرطان عاجلاً ام آجلاً ، يمزق وحدة الامة ويخرجها من اطار الشرعية الى الغامض والمجهول .
النتيجة الثالثة ـ رئاسة الدولة حق للجميع الا لهاشمي
بمعنى انه لا شيء على الاطلاق يمنع اي مسلم من ان يتولى رئاسة الدولة الاسلامية شريطة ان يتمكن من الوصول اليها والاستحواذ عليها ، وانقياد الجميع له وتسليمهم له بالغلبة والسلطان ، شريطة ان لا يكون من بني هاشم لانهم اختصوا بالنبوة ، والنبوة تكفيهم .هذا الحق حول الطمع برئاسة الدولة الى كابوس بغيض ، والى آلية مزعجة سلبت الامة قرارها واستقرارها ، وحولتها الى حقل تجارب لكل الطامعين بالرئاسة ، وعطلت نظامها السياسي الشرعي .
أما من أي قبيلة هذا الرئيس ؟ ما هو عمله ؟ ما هو دينه ؟ ما هي سابقته ؟ من الذين سيحكمهم ؟ تلك امور ثانوية لا قيمة لها من الناحية العملية ، ولا يعول عليها ، لان الغالب غالب والحصول على رضوان المغلوب فن قائم بذاته .
ما الذي يمنع يزيد بن معاوية وهو المشهور بعهره وفجوره من ان يكون رئيساً للدولة الاسلامية لانه ابن معاوية الرئيس ، ومن الذي يمنع الحسين بن علي بن ابي طالب سيد شباب اهل الجنة في الجنة بالنص وريحانة النبي من هذه الامة بالنص والامام الشرعي لهذه الامة بالنص ، فما الذي يمنعه من ان يكون احد رعايا يزيد ، وأحد الذين يتأمر عليهم ؟ فكلاهما مسلم وكلاهما في الجنة . يزيد القاتل المجرم في الجنة ، والحسين الامام المقتول في الجنة ، فكلاهما صحابي ! ومن ينقد هذا الرأي فهو زنديق لا يؤاكل ولا يشارب ولا يصلى عليه .
النتيجة الرابعة ـ اختلاط الاوراق
اختلط الحابل بالنابل والحق بالباطل والخير بالشر والعلقم بالشهد ، واصبح المتأخر كالمتقدم واللاحق كالسابق والمجاهد كالقاعد والقاتل كالمقتول والمحاصَر كالمحاصِر ، ومن وقف مع الاسلام تماما مثل من وقف ضده ، ومن قاتل الإسلام تماماً كمن قاتل معه . لقد دخل الجميع بدين الله وشاهد النبي او شاهدوه ، فكلهم صحابة وكلهم في الجنة !!وضاع الصادقون وتفرقوا في الامصار واصبحوا ـ على حد تعبير معاوية ـ كالشعرة البيضاء في جلد ثور اسود ، وانهار النظام السياسي الاسلامي وتأخر المتقدمون وتقدم المتأخرون ، ولله عاقبة الامور .
المصادر :
1- الكامل في التاريخ لابن الاثير ج 3 ص 24 وراجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن ابي الحديد ج 3 ص 107 اخرجه الامام احمد ابو الفضل بن ابي الطاهر في تاريخ بغداد راجع مجلد 2 ص 97 من شرح النهج .
2- الامامة والسياسة ص 15 .