هنا كربلاء

وصل ركب الإمام الحسين عليه السلام الی كربلاء فأصرّ عليه الحرّ بن يزيد الرياحي أن ينزل فيها ، ولم يجد الإمام بُدّاً من النزول فالتفت إلى أصحابه قائلاً :
Tuesday, June 6, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
هنا كربلاء
 هنا كربلاء





 

وصل ركب الإمام الحسين عليه السلام الی كربلاء فأصرّ عليه الحرّ بن يزيد الرياحي أن ينزل فيها ، ولم يجد الإمام بُدّاً من النزول فالتفت إلى أصحابه قائلاً :
« ما اسم هذا المكان ؟ .. ».
« كربلاء .. ».
وفاضت عيناه بالدموع ، وراح يقول :
« اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء .. ».
وأيقن الإمام بنزول الرزء القاصم ، فالتفت إلى أصحابه ينعي إليهم نفسه ونفوسهم قائلاً :
« هذا موضع كرب وبلاء ، ها هنا مناخ ركابنا ، ومحطّ رحالنا ، وسفك دمائنا .. ».
وسارع أبو الفضل العباس مع الفتية من أهل البيت عليهم‌السلام ، وسائر الأصحاب الممجدين إلى نصب الخيام لعقائل الوحي ، ومخدرات النبوة ، وقد خيّم عليهنّ الرعب ، وأيقن بمواجهة الأحداث الرهيبة على صعيد هذه الأرض.
ورفع الإمام الممتحن يديه بالدعاء إلى الله شاكياً إليه ما ألمّ به من عظيم المحن والخطوب قائلاً :
« اللهمّ .. انّا عترة نبيّك محمد صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم قد أخرجنا ، وطردنا ، وأزعجنا عن حرم جدّنا وتعدّت بنو أميّة علينا ، اللهمّ فخذ لنا بحقّنا ، وانصرنا على القوم الظالمين .. ».
وأقبل الإمام على أهل بيته وأصحابه ، فقال لهم :
« الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا مُحصوا بالبلاء قلَّ الديّانون .. ».
يا لها من كلمات ذهبية حكت واقع الناس واتجاهاتهم في جميع مراحل التأريخ فهم عبيد الدنيا ، وعبيد السلطة ، وأما الدين والمثل العليا فلا ظلّ لها في أعماق نفوسهم ، فإذا دهمتهم عاصفة أو بلاء هربوا من الدين ، ولم يثبت عليه إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان أمثال الصفوة العظيمة من أهل بيت الحسين وأصحابه.
ثم حمد الامام عليه‌ السلام الله وأثنى عليه ، والتفت إلى أصحابه قائلاً :
« أمّا بعد : فقد نزل بنا ما قد ترون. وان الدنيا قد تغيّرت ، وتنكّرت ، وأدبر معروفها ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل (هو الطعام الوخيم الذي يخاف وباله وسوء عاقبته) ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله ، فاني لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برما .. » (1).
لقد أعلن أبو الأحرار بهذا الخطاب عمّا حلّ به من المحن والبلوى ، وأعلم أهل بيته وأصحابه عن عزمه الجبّار وأرادته الصلبة في مقارعة الباطل ، واقامة الحق الذي آمن به في جميع أدوار حياته ... وقد وجه إليهم هذا الخطاب ليكونوا على بيّنة من أمرهم ، ويشاركوه في تحمّل المسؤولية ، وقد هبّوا جميعاً وهم يسجّلون في تأريخ البشرية أروع الأمثلة للتضحية والفداء من أجل إقامة دولة الإسلام ، وكان أول من تكلّم منهم زهير بن القين وهو من أفذاذ الأحرار فقال له :
« سمعنا يا بن رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها .. ».
ومثلت هذه الكلمات شرف الإنسان الذي لا يضاهيه شرف ، وقد حكى ما في نفوس أصحابه الأحرار من الولاء لريحانة رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم والتفاني في سبيله ، وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام وهو برير الذي وهب حياته لله ، فقال له :
يا بن رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، وتقطع فيك أعضاؤنا ، ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة .. ».
ولا يوجد في البشرية مثل هذا الإيمان الخالص ، لقد أيقن أن نصرته لابن رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم فضل ومنّة من الله عليه ليفوز بشفاعة جدّه الأعظم يوم يلقى الله.
وانبرى بطل آخر من أصحاب الإمام ، وهو نافع فأعلن نفس المصير الذي اختاره الأبطال من أصحابه ، فقال :
« أنت تعلم أن جدّك رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم لم يقدر أن يشرب الناس محبّته ، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبّ ، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر ، ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلى من العسل ، ويخلفونه بأمرّ من الحنظل ، حتى قبضه الله إليه ، وان أباك عليّاً كان في مثل ذلك ، فقوم قد أجمعوا على نصره ، وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين ، حتى أتاه أجله فمضى إلى رحمة الله ورضوانه وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده ، وخلع بيعته فلن يضرّ إلاّ نفسه ، فسر بنا راشداً معافى ، مشرقاً ، ان شئت أو مغرباً ، فوالله ما اشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا ،وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا ، نوالي من والاك ونعادي من عاداك .. » (2).
دلّ هذا الخطاب الرائع على وعي نافع ، وإدراكه العميق للأحداث ودراسته لأبعادها فقد أعرب أن الرسول الأعظم صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم بما يملك من طاقات روحية لم يستطع أن يجمع الناس على محبّته ، ويخضعهم إلى الإيمان برسالته ، فقد كان هناك طائفة من المنافقين انتشروا في صفوف المسلمين ، وهم يضمرون الكفر في دخائل نفوسهم ويظهرون الإسلام على ألسنتهم ، وكانوا يبغون للنبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم الغوائل ويكيدون له في غلس الليل وفي وضح النهار .
وكذلك حال وصيّه وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين من بعده فقد ابتلي بمثل ما ابتلي به النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم فقد آمن به قوم وحاربه قوم آخرون ، وحال الإمام الحسين عليه‌ السلام كحال جدّه وأبيه ، فقد آمنت به قلّة مؤمنة من أصحابه ، وزحفت لحربه الجموع الهائلة من الذين نزع الله الإيمان من قلوبهم.
وعلى أيّ حال فقد تكلّم أكثر أصحاب الإمام بمثل كلام نافع وهم يعلنون له الإخلاص والتفاني ، وقد شكرهم الامام ، وأثنى عليهم ، ودعا لهم بالمغفرة والرضوان.

خروج الجيوش لحرب الإمام الحسين :

وتمّت أحلام ابن مرجانة ، وتحققت آماله حينما استولت طليعة جيوشه على ريحانة رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم ، وأخذ يطيل النظر فيمن ينتدبه لحربه ، ويرشّحه لقيادة قوّاته المسلّحة ، وتصفح الأرجاس من أذنابه وعملائه ، فلم ير رجساً مثل عمر بن سعد يقدم على اقتراف هذه الجريمة فقد درس نفسيته ، ووقف على ميوله واتجاهاته التي منها الخنوع والمروق من الدين ، وعدم المبالاة بارتكاب الآثام والجرائم ، والتهالك على المادة وغير ذلك من نزعاته الشريرة.
وعرض ابن مرجانة سليل الأدعياء على ابن سعد القيام بحرب سبط رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم فامتنع عن إجابته فهدده بعزله عن ولاية الريّ فلم يطق صبراً عنها ، فقد سال لها لعابه فأجابه إلى ذلك ، وزحف إلى كربلاء ، ومعه أربعة آلاف فارس ، وهو يعلم أنّه خرج لقتال ذريّة رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم الذين هم خيرة من في الأرض ، وانتهى الجيش إلى كربلاء فانظم إلى الجيش الرابض هناك بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي.

خطبة ابن زياد :

وأمر الطاغية بجمع الناس في رحاب المسجد الأعظم فهرعوا كالأغنام خوفاً من ابن مرجانة ، وقد امتلأ الجامع منهم فقام خطيباً فقال :
« أيّها الناس : إنّكم قد بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ، وهذا أمير المؤمنين يزيد ، قد عرفتموه حسن السيرة ، محمود الطريقة ، محسناً إلى الرعية ، يعطي العطاء في حقّه ، وقد أمنت السبل على عهده ، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه يزيد يكرم العباد ، ويغنيهم بالأموال ، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة ، وأمرني أن أقّرؤها عليكم ، واخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين فاسمعوا له وأطيعوا .. » (3).
لقد خاطبهم باللغة التي يفهمونها ، ويتهالكون عليها ، ويقدمون أرواحهم بسخاء في سبيلها ، وهي المادة التي هاموا بحبها ، وقد أجابوه إلى ما أراد فزجّهم لاقتراف أفظع جريمة في تأريخ البشرية.
واسند القيادة في بعض قطعات جيشه إلى كل من الحصين بن نمير ، وحجار بن أبجر ، وشمر بن ذي الجوشن ، وشبث بن ربعي ، وغيرهم ، وقد زحفوا بمن معهم إلى كربلاء لمساعدة ابن سعد.

احتلال الفرات :

وقامت العصابة المجرمة التي تحمل شرور أهل الأرض وخبثهم باحتلال الفرات ، ولم تبق شريعة أو منفذ إلاّ وقد وضع عليها الحرس ، وقد صدرت إليهم الأوامر المشدّدة من قبل القيادة العامة بالحذر واليقظة كي لا تصل قطرة من الماء إلى عترة رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم الذين هم من خيرة ما خلق الله.
ويقول المؤرّخون : حيل بين الحسين والماء قبل قتله بثلاثة أيّام(4)
وكان ذلك من أعظم ما عاناه الإمام من المحن والخطوب ، فكان يسمع صراخ أطفاله ، وهم ينادون : العطش ، العطش ، وذاب قلب الإمام حناناً ورحمة لذلك المشهد الرهيب ، فقد ذبلت شفاه أطفاله ، وذوي عودهم ، وجفّ لبن المراضع لقد نزع الله الرحمة من قلوبهم ، فتنكّروا لإنسانيتهم ، وتنكّروا لجميع القيم والأعراف ، فان جميع الشرائع والمذاهب لا تبيح منع الماء عن النساء والأطفال فالناس فيه جميعاً شركاء .
وقد أكّدت ذلك الشريعة الإسلامية ، واعتبرته حقاً طبيعياً لكل إنسان ، ولكن الجيش الأموي لم يحفل بذلك ، فحرم الماء على آل النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم وكان بعض الممسوخين يتباهى ويفخر لحرمانهم الحسين من الماء ، فقد انبرى الوغد اللئيم المهاجر بن أوس صوب الامام رافعاً صوته قائلاً :
« يا حسين ألا ترى الماء يلوح كأنّه بطون الحيات ، والله لا تذوقه أو تموت دونه .. » (5).
واشتدّ عمرو بن الحجاج نحو الحسين ، وهو فرح كأنّما ظفر بمكسب أو مغنم قائلاً :
« يا حسين هذا الفرات تلغ فيه الكلاب ، وتشرب فيه الحمير والخنازير ، والله لا تذوق منه جرعة حتى تذوق الحميم في نار جهنّم .. » (6).
وكان هذا الوغد الأثيم ممن كاتب الإمام الحسين عليه‌ السلام بالقدوم إلى الكوفة.
وانبرى جلف آخر من أوغاد أهل الكوفة وهو عبد الله بن الحصين الأزدي فنادى بأعلى صوته لتسمعه مخابرات ابن مرجانة فينال منه جوائزه وهباته ، قائلاً :
« يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء ، والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشاً .. ».
فرفع الإمام يديه بالدعاء عليه قائلاً :
« اللهمّ اقتله عطشاً ، ولا تغفر له أبداً .. » (7).
لقد تمادى هؤلاء الممسوخون بالشرّ ، وسقطوا في هوّة سحيقة من الجرائم والآثام ما لها من قرار.
المصادر :
1- حياة الإمام الحسين ٣ : ٩٨.
2- مقتل المقرم : ٢٣١.
3- الطبري ٦ : ٢٣٠.
4- مرآة الزمان في تواريخ الأعيان : ٨٩.
5- أنساب الأشراف ٣ : ١٨١.
6- أنساب الأشراف ٣ : ١٨٢ ، تأريخ ابن الأثير ٤ : ٢٣٦.
7- الصراط السوي في مناقب آل النبي : ٨٦.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.