مبرّرات الشفاعة

ربما يقال: إذا كان المنقذ الوحيد للإنسان يوم القيامة هو عمله الصالح كما صُرّح به في الآيات فلماذا جعلت الشفاعة وسيلة للمغفرة وسبباً لرفع العذاب، أوَ ليس الله بقائل: {وأمّا من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى}
Tuesday, June 20, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
مبرّرات الشفاعة
مبرّرات الشفاعة




 

هناك مبررات لجعل الشفاعة من أسباب المغفرة ورفع العذاب، نورد بعضها على سبيل المثال:

ألف ـ ابتلاء الناس بالذنب والتقصير

ربما يقال: إذا كان المنقذ الوحيد للإنسان يوم القيامة هو عمله الصالح كما صُرّح به في الآيات فلماذا جعلت الشفاعة وسيلة للمغفرة وسبباً لرفع العذاب، أوَ ليس الله بقائل: {وأمّا من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى} (الكهف/88)
{فأمّا من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين} (القصص/67)
{ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً} (القصص/80) وعلى ذلك فلماذا أُدْخِلت الشفاعة في سلسلة العلل لجلب المغفرة؟
الإجابة على هذا السؤال واضحة فالفوز بالسعادة وإن كان يعتمد على العمل أشدّ الإعتماد، غير أن صريح الآيات الأُخر هو أنّ العمل بنفسه ما لم تنضم إليه رحمته الواسعة لا يُنقِذ الإنسان من تبعات تقصيره، قال سبحانه: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابّة ولكن يؤخّرهم إلى أجل مسمّى} (النحل/61)
{ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة} (فاطر/45).

ب ـ سعة رحمته لكل شيء

إنّ التدبّر في الآيات القرآنية يعطي أنّ رحمة الله سبحانه واسعة تسع كلّ الناس، إلاّ من بلغ حداً لا يقبل التطهّر ولا الغفران. قال سبحانه حاكياً عن حملة العرش: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربّنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلماً فاغفر للّذين تابوا واتّبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} (غافر/7)
نرى أنّ حملة العرش يدللون طلب غفرانه سبحانه للتائبين والتابعين لسبيله، بكون رحمته واسعة وسعت كل شيء.
كما نرى أنّه سبحانه يأمر نبيّه أن يواجه الناس كلّهم ـ حتى المكذّبين لرسالته ـ بقوله:
{فإن كذّبوك فقل ربّكم ذو رحمة واسعة} (الأنعام/147)
ونرى في آية ثالثة يعد الذين يجتنبون الكبائر بالرحمة والمغفرة ويقول: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللَّمَمَ إنّ ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم} (النجم/32)
وهذه الآيات توضح مضامين الأدعية الإسلامية من قوله (عليه السلام): " يا من سبقت رحمتُه غضبَه ".
كيف لا! ونحن نرى أنّ الله سبحانه يعد القانط من رحمة الله والآيس من روحه كافراً وضالاّ، ويقول: {ولا تيأسوا من روح الله إنّه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون} (يوسف/87)
ويقول تعالى أيضاً: {ومن يقنط من رحمة ربّه إلاّ الضالّون} (الحجر/56)
ويقول سبحانه: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً إنّه هو الغفور الرحيم} (الزمر/53).
فإذا عرَّفَنا القرآن أنّ الله سبحانه ذو رحمة واسعة تفيض على كل شيء، فعند ذلك لا مانع من أن تفيض رحمته وغفرانه عن طريق أنبيائه ورسله وأوليائه، فيقبل أدعيتهم في حقّ عباده بدافع أنّه سبحانه ذو رحمة واسعة، كما لا مانع أن يعتقد العصاة في شرائط خاصة بغفرانه سبحانه من طرق كثيرة لأجل أنّه عدّ القانط ظالاّ والآيس كافراً.
وإجمالا: فكما يجب على المربّي الديني أن يذكّر عباد الله بعقوبته وعذابه وما أعدّ للعصاة والكفّار من سلاسل ونيران، يجب عليه أيضاً أن يذكّرهم برحمته الواسعة ومغفرته العامة التي تشمل كل شيء، إلاّ من بلغ من الخبث والرداءة درجة لا يقبل معها التطهير كما قال سبحانه: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء/48).

ج ـ الأصل هو السلامة

دلّت التجارب والبراهين العقلية على أنّ الأصل الأوّلي في الخليقة هو السلامة، وأنّ المرض والانحراف أمران يعرضان على المزاج، ويزولان بالمداواة والمعالجة، وليس هذا الأصل مختصاً بالسلامة من حيث العيوب الجسمانية، بل الأصل هو الطهارة من الأقذار والأدران المعنوية، فقد خلق الإنسان على الفطرة النقيّة السليمة من الشرك والعصيان التي أشار إليها القرآن بقوله: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} (الروم/30)
وقال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " كُل مولود يولد على الفطرة ثم أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه "(1).
وعلى ذلكّ فلا غرو في أن تزول آثار العصيان عن الإنسان بالعلاج والمداواة الخاصة في مواقف شتى حتى تظهر الخليقة الأُولى التي فُطِر عليها. فقد جعل الله سبحانه المواقف التي يمرّ بها الإنسان بعد موته في البرزخ ويوم القيامة، وسائل لتطهير الإنسان وتصفيته من آثار الذنوب وتبعاتها. ولا غرو في أن يكون الشفعاء المرضيون عند الله، أطباء يعالجون أُولئك المرضى، بتصرفاتهم ونفوسهم القويّة حتى يزيلوا عنهم غبار المعصية، ودرن الذنب حتى تعود الجوهرة الإنسانية نقيّةً صافيةً ناصعةً، فيستحقّ الإنسان نعيمَ الآخرة ودخول الجنة إلاّ من بلغ حداً لا يقبل العلاج والتداوي، لأجل أنّ ذاته قد انقلبت إلى ما يضاد
الجوهرة الإنسانية النقية التي لا تقبل أيّةَ مداواة أو علاج، كما لو اتّخذ لربّه شريكاً فاستحق الخلودَ في النار.
فليس التوقف في البرزخ ولا في المراحل المتنوعة في يوم القيامة ولا الدخول في النار مدةً محدودة ولا شفاعة الأنبياء والأولياء في حقّهم، إلاّ تصرّفاً تكوينياً في حقّهم حتى تعود الجوهرة الأوليّة إلى حالتها الطبيعية الأُولى وتصفو من كل شائبة تعلَّقت بها نتيجة العصيان والتمرّد.

د ـ الآثار البنّاءة والتربويّة للشفاعة

إنّ تشريع الشفاعة، والاعتراف بها في النظام الإسلامي إنّما هو لأجل غايات تربوية تترتب على ذلك التشريع والاعتقاد به، ذلك لأنّ الاعتقاد بالشفاعة المقيّدة بشروط معقولة، من شأنه بعث الأمل في نفوس العصاة وأفئدة المذنبين، يدفعهم إلى العودة عن سلوكهم الإجراميّ، وإعادة النظر في منهج حياتهم.
ولكن هناك من يعترض ويقول: إنّ الشفاعة توجب الجرأة وتحيي روح التمرّد في العصاة والمجرمين. إلاّ أنّ الواقع يفصح أنّ الشفاعة سبب في إصلاح سلوك المجرم ووسيلة لتخلّيه عمّا يرتكبه من آثام وما يقترفه من ذنوب.
وتظهر حقيقة الحال إذا لاحظنا مسألة التوبة، وهي التي اتفقت عليها الأُمة ونصّ عليها الكتاب المجيد والحديث الشريف، فإنّه لو كان باب التوبة مُوصداً، في وجه العصاة والمذنبين، واعتقد المجرم بأنّ عصيانه مرّة واحدة أو مرّات سيخلده في عذاب الله، ولا مناص له منه، فلا شك أنّ هذا الاعتقاد يوجب التمادي في اقتراف السيّئات وارتكاب الذنوب، لأنّه يعتقد بأنّه لو غيّر وضعه وسلوكه في مستقبل أمره لا يقع ذلك مؤثراً في مصيره وخلوده في عذاب الله. فلا وجه لأن يترك المعاصي ويغادر اللذة المحرّمة، ويتحمّل عناء العبادة والطاعة، بل يستمر في وضعه السابق حتى يوافيه الأجل.
وهذا بخلاف ما إذا وجد الطريق مفتوحاً، والنوافذ مشرعة واعتقد بأنّه سبحانه سيقبل توبته إذا كانت نصوحاً، وأنّ رجوعه هذا سيغيّر مصيره في الآخرة، ويُنقِذه من تبعات أعماله، وأليم العذاب، فعند ذاك سيترك العصيان ويرجع إلى الطاعة ويستغفر لذنوبه ويطلب الإغضاء عن سيئاته.
فهذا الاعتقاد له الأثر البنّاء في تهذيب الناس والشباب خاصة، وكم من شباب اقترفوا السيئات وأمضوا الليالي في اللذة المحرّمة، ثم عادوا إلى خلاف ما كانوا عليه في ظل التَّوبة والاعتقاد بأنّها تجدي المذنبين، وبأنّ أبواب الرحمة والفلاح مفتوحةٌ لم تغلق بعد، فعادوا يسهرون الليالي في العبادة، ويحيونها بالطاعة.
وليس هذا إلاّ أثر ذلك الاعتقاد، وذاك التشريع. ومثل ذاك، الاعتقاد بالشفاعة المحدودة، فإنّه إذا اعتقد العاصي بأنّ أولياء الله سبحانه قد يشفعون في حقه في شرائط خاصة إذا لم يهتك الستر، ولم يبلغ حداً لا تنفع معه شفاعة الشافعين، فعند ذاك سوف يعيدُ النظر في سيرته الشخصيّة، ويحاول تطبيق سلوكه على شرائط الشفاعة حتى يستحقّها، ولا يحرمها.
نعم، إنّ الاعتقاد بالشفاعة المطلقة، المحرّرة من كلّ قيد، من جانب الشفيع والمشفوع له، هو الذي يوجب التجرّي والتمادي في العصيان. وهذه الشفاعة مرفوضة في منطق العقل و القرآن، وكأنّ المعترض قد خلط بين الشفاعة المحدودة والشفاعة المطلقة من كل قيد، ولم يُميز بينهما وبين آثارهما.
فالشفاعة الموجبة للتجرّي ومواصلة العناد والتمرّد، هي الاعتقاد بأنّ الأنبياء والأولياء سيشفعون في حقّه يوم القيامة على كلّ حال وفي جميع الشرائط وإن فعل ما فعل، وارتكب ما ارتكب. وعند ذلك سيستمر في عمله الإجرامي إلى آخر حياته رجاءَ تلك الشفاعة التي لا تخضع لضابط ولا قانون، ولا تقيّد بقيد ولا شرط.
وأمّا الشفاعة التي نطق بها الكتاب وأقرّت بها الأحاديث واعترف بها العقل فهي الشفاعة المحدودة بشرائط في المشفوع له والشافع. ومجمل تلك الشرائط هو أن لا يقطع جميع علاقات العبودية مع الله، ولا يفصم وشائجه الروحية مع الشافعين، ولا يصل تمرّده إلى حدّ القطيعة ونسف الجسور. فالاعتقاد بهذا النوع من الشفاعة مثل الاعتقاد بتأثير التوبة في الغفران ماهية وأثراً.

هـ ـ الأمر بيده سبحانه أوّلا وآخراً

ما ذكرناه من الوجوه هي مبررات الشفاعة والجهات التعليلية لجعلها في صميم العقائد الإسلامية، ومع ذلك كلّه فالأمر إليه سبحانه فهو إن شاء أذن في الشفاعة وإن لم يشأ لم يأذن، وهو القائل سبحانه: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم} (فاطر/2).
وصفوة القول: إنّ الشفيع إنّما يشفع بإذنه، وفي إطار مشيئَته، وتحت الشروط التي يرتضيها، إذ هو الذي يبعثُ الشفيعَ على أن يشفع في حقّ المشفوع له. وعند ذلك فلا تستلزم شفاعة الشافعين خروج الأمر عن يده، وتحديد سلطته (تعالى) وملكه.
المصادر :
1- التاج الجامع للأصول: 4/180 ; تفسير البرهان: 3/261، الحديث 5.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.