لم يكن للإسلام في عصر الراشدين دولة سياسية، بل هي خلافة دينية أساس أحكامها التقوى والرفق والعدل، مما لم يسمع بمثله في عصر من العصور. ورجل هذا العصر، بل رجل الإسلام على الإطلاق «عمر بن الخطاب»، فإن ما يروونه من أعماله وأحكامه يندر اجتماعه في البشر، ومناقبه مدونة في الكتب ومشهورة. وأما أبو بكر فلا يقل عظمة عنه، لولا قصر مدة حكمه، ويكفيه من الأثر في الإسلام قتاله أهل الردة؛ إذ رجع بعض الناس عن الإسلام بعد موت النبي، فخاف المسلمون ذهاب دولتهم وهي لا تزال في طفولتها، فشمر أبو بكر عن ساعد الجد وقاتل المرتدين وأيَّد الدين، وكذلك يقال عن علي وعثمان.
أبو بكر
وعصر الراشدين هو في الحقيقة عصر الإسلام الذهبي، وبعد خلاف ابوبکر بستة أشهر تحول إلى المدينة وقال: «ما تصلح أمور المسلمين مع التجارة، وما يصلح إلا التفرغ لهم والنظر في شؤونهم». فترك التجارة، فصار ينفق من مال المسلمين ما فرضوه له: ٦٠٠٠ درهم في السنة. فلما حضرته الوفاة وصى بقطعة أرض كانت له، أن تباع ويصرف ثمنها عوض ما أخذه من مال المسلمين.عمر بن الخطاب
أما عمر بن الخطاب، ففي أيامه فتحت البلاد وكثرت الغنائم، وانصبت خزائن كسرى وقيصر بين يدي رجاله،. وإذا أنفق عطاءه واحتاج إلى المال أتى صاحب بيت المال فاستقرضه على أن يؤديه من عطائه. ووضع على من يشرب الخمر ثمانين ضربة، وكان يبعث أناسًا من القراء يعلمون أهل البادية القرآن، ثم يبعث من يمتحنهم فمن لم يقرأ شيئًا منه عاقبه بالضرب، وربما فرط الضارب حتى يقتل المضروب(1)وكان شديدًا على عماله وقواده، يحاسبهم ويدقق في استطلاع أحوالهم، فمن رأى فيه اعوجاجًا قومه، لا يبالي من هو حتى خالد بن الوليد القائد الإسلامي الشهير، فإن عمر نقم عليه لأمر يخالف قواعد التقوى، فاستقدمه إليه ووبخه وهدده كأنه غلام وخالد لا يجيبه(2)
وقد يضرب عامله بالدرة أو يوبخه، وليس فيهم من يرد في وجهه أو يعترضه، وكان شديد العقاب على من يشرب الخمر، أو يطمع في أموال المسلمين. ومع ذلك فقد كان يعامل الناس معاملة الأب لبنيه، فيطعمهم على موائد يجفن لهم فيها عشرة عشرة، وإذا غاب قواده تفقد بيوتهم وتعهد أهلهم بما يحتاجون إليه(3)
وكان عادلًا في الناس رفيقًا بغير المسلمين. وكانت الدنيا في أيامه مجمعة على الطاعة، والناس يدخلون في الإسلام أو يبقون تحت راية المسلمين عن رضى وراحة، كأنه كان قابضًا على شؤون الدولة وأعنة الحكومة بيد من حديد. فلما قتل تزعزعت أركانها، ونقض كثير من أهل الأمصار وخصوصًا خراسان وسجستانوغيرهما من الأطراف البعيدة. (4)
عثمان بن عفان
وكان عثمان مثل سائر الخلفاء الراشدين، لولا ضعفه واستسلامه إلى بعض ذوي قرابته من بني أمية، حتى نقم عليه سائر المسلمين، وخصوصًا أهل المدينة لأسباب معروفة وقتلوه، فاتخذ بنو أمية قتله حجة لطلب الخلافة لأنفسهم. على أن عثمان أول خليفة اقتنى المال لنفسه، فقد ذكروا أنه كان عند خازنه ١٥٠٠٠ دينار و١٠٠٠٠٠٠ درهم، وله ضياع بوادي القرى وحنين وغيرهما قيمتها ١٠٠٠٠٠ دينار، فضلًا عما خلفه من الخيل والإبل، وفي أيامه اقتنى الصحابة الضياع وابتنوا الدور واختزنوا الأموال(5)وتعودوا الغنى والترف، فلما جاءهم على بعده بما كان عليه عمر من الزهد والتقشف كابروه، وساعدهم على التمنع قيام معاوية وأطماعهم في الأموال.
الامام علي بن أبي طالب عليه السلام
أما علي فحكاياته في الزهد والتقوى كثيرة، وكان شديد التمسك بالإسلام، حر القول والفعل، لا يعرف الدهاء ولا يركن إلى الحيلة في شأن من الشؤون، وإنما همه الدين وعمدته في أعماله الصدق والحق. فمن أمثلة تقشفه وزهده أنه تزوج فاطمة بنت النبي وليس له فراش إلا جلد كبش كانا ينامان عليه بالليل ويعلقان عليه ناضحهما بالنهار، ولم يكن عنده خادم يخدمه.وجاءه مال من أصبهان في أيام خلافته فقسمه على سبعة أسهم، فوجد فيه رغيفًا فقسمه على سبعة، وكان يلبس قطيفة لا تقيه البرد. ورآه بعضهم يحمل تمرًا في ملحفته قد اشتراه بدرهم، فقال له: «يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك؟»، فقال: «أبو العيال أحق بحمله …». ومن أقواله في كيف يجب أن يكون المسلمون قوله: «خمص البطون من الطوي، يبس الشفاه من الظمأ، عمش العيون من البكاء».(6) ومن أمثلة عدله أنه رأى درعًا له عند رجل فتقاضيا إلى شريح القاضي. فوقف علي بجانب خصمه احترامًا للعدل. وكان إذا بعث رجاله في حرب أوصاهم أن يرفقوا بالناس وأن يكفوا الأذى عن النساء.
وكان شديدًا في محاسبة رجاله حرصًا على العدل والحق. وطمع العمال في الأحكام، وأطمعهم وأدهاهم معاوية بن أبي سفيان، فإنه جمع الرجال حوله بالدهاء والحيلة والبذل، وعلي يضيع الأحزاب بتدقيقه في محاسبة عماله وقوَّاده، والمبالغة في المحافظة على الدين وأسباب التقوى، ففارقه جُلة الصحابة حتى ابن عمه عبد الله بن عباس، وكان عاملًا له على البصرة. فوشى به أبو الأسود الدؤلي إلى علي، فكتب علي إلى ابن عباس بذلك ولم يذكر اسم الواشي، فأجابه: «أما بعد فإن الذي بلغك باطل، وإني لما تحت يدي لضابط وله حافظ، فلا تصدق الظنين والسلام».
فكتب إليه علي: «أما بعد فأعلمني ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذت، وفيما وضعت». فكتب إليه ابن عباس: «أما بعد فقد فهمت تعظيمك مرزاة ما بلغك، إني رزئته من أهل هذه البلاد، فابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه والسلام»، واستدعى أخواله من بني هلال بن عامر، فاجتمعت معه قيس كلها، فحمل مالًا وقال: «هذه أرزاقنا اجتمعت»، فتبعه أهل البصرة إلى مكة(7)
ولم ينتفع علي به ولا بأحزابه فعلي لم يفعل بابن عمه غير ما كان عمر يفعله بعماله، ولكن الأحوال كانت قد تغيرت، وقام معاوية يبتاع الأحزاب بالعطاء ويجتذب القواد بالدهاء.
على أن سياسة الراشدين على الإجمال ليست مما يلائم طبيعة العمران، أو تقتضيه سياسة الملك، وإنما هي خلافة دينية وفقت إلى رجال يندر اجتماعهم في عصر، وإلى أحوال يكفي منها الجامعة الإسلامية والحمية الدينية والأنفة البدوية والأريحية العربية. فهذه كلها اجتمعت في عصر واحد وتلاءمت فأتت بالعجائب، فانتشر الإسلام وفتح العالم في بضع عشرة سنة كما هو مشهور(8)
فأهل العلم بطبائع العمران لا يرون هذه السياسة تصلح لتدبير الممالك في غير ذلك العصر العجيب. وإن انقلاب تلك الخلافة الدينية إلى الملك السياسي لم يكن منه بد - سنة الله في خلقه.
انتشار الاسلام في الأرض
قد رأيت رغبة عمر بن الخطاب رجل الإسلام في جمع كلمة العرب، وتوثيق عُرى الاتحاد بين قبائلهم وتأكيد العلائق بين منازلهم، فحرضهم على فتح العراق والشام، لعلمه بما هنالك من قبائل العرب. فإذا انضموا إلى عرب الحجاز واليمن زادوا الإسلام قوة. ولكنه منعهم مما وراء ذلك، وأمرهم إذا بنوا بلدًا في دار الفتح أن لا يبنوه في مكان يحول بينه وبين المدينة ماء، خوفًا على الجامعة العربية أن يزداد تباعد أطرافها فتتمزّق، ورغبة منه في استبقاء مركز الخلافة في المدينة دار الهجرة، على أن يستبقي البلاد المفتوحة لاستدرار ما فيها من غلة أو مال لأهل الحجاز؛ ولهذا السبب أيضًا نهى المسلمين عن الزرع وشدَّد في منعهم اعتمادًا على الحديث القائل: «السكة (المحراث) ما دخلت دار قوم إلا دخله الذُّل»(9)ولأن الاشتغال بالزرع يشغلهم عن الحرب، وهو يريد أن يقيمهم حامية لجمع الخراج والجزية واستبقاء السلطة، ولم تكن المدن التي بنوها في صدر الإسلام كالبصرة والكوفة والفسطاط إلا حصونًا أو معسكرات، ينزل فيها جند العرب نزول الحامية أو جيش الاحتلال؛(10) ولهذا السبب أيضًا أخرج غير المسلمين من جريرة العرب عملًا بوصية النبي صلی الله عليه وآله وسلم «أن لا يترك في جزيرة العرب دينان»،(11)
وأن لا يأتي الحج أحد من المشركين فأخرجهم وتخلص من خطرهم، إذ لو بقوا هناك على غير دين الإسلام لأقلقوا الراحة، وربما كانوا عونًا لغير المسلمين كما كان نصارى الشام والعراق ينصرون الروم بعد ذلك. (12)
فكانت السياسة في صدر الإسلام أن يبقى المسلمون في بلاد العرب وضواحيها، وكان القواد الذي فتحوا الشام والعراق قد ذاقوا لذة الفتح مع سهولته عليهم، فلم يكفوا عن عمر حتى أذن لهم بفتح ما وراءه ذلك كما تقدم، فكان عمر وهو في المدينة قابضًا على أطراف الدولة يشدها نحوه، ورجاله يحاولون الذهاب بها شرقًا وغربًا، حتى اضطر أخيرًا إلى مجاراتهم وأذن بانسياحهم في الأرض، فتفرق العرب وفتحوا مصر وفارس وأفريقية وغيرها. ولما تولى عثمان أطلق العنان لقريش أن يخرجوا من المدينة، فخرجوا وتفرق العرب في الأرض وانتشروا في مصر والشام والعراق وفارس وما وراءها، وعددهم يومئذ لا يزيد على ٢٠٠٠٠٠ نفس(13)
وهم جند المسلمين وعليهم حماية مملكتهم الجديدة واستغلالها، وسكانها يزيدون على مئة مليون ودولة الروم واقفة لهم بالمرصاد.
الاستكثار بالتناسل
كانت العرب في الجاهلية قليلة العدد بالقياس على ما صارت إليه بعد الإسلام. ذكروا أن أكبر جيش اجتمع في الجاهلية لم يزد عدد رجاله على ثمانية آلاف رجل، وهو جيش يوم الصفقة(14)والذين تجندوا للإسلام وقاموا بنصرته كانوا في صدر الإسلام قليلين كما رأيت، ومملكتهم الواسعة تحتاج إلى رجال، فعمدوا إلى الاستكثار بالتناسل، وهو من قواعد العصبية العربية من أيام الجاهلية. فإن عبد المطلب جد النبي، لما ظهرت قريش عليه، نذر لله إذا رزقه عشرة من الولدان يبلغون أن يمنعوه ويذودوا عنه، أن ينحر أحدهم قربانًا لله، فجاءه عشرة أولاد فاشتد أزره بهم.
فالمسلمون لما رأوا قلة عددهم، وما وقع في أيديهم من السبايا الروميات والفارسيات والقبطيات، استكثروا من أمهات الأولاد، فضلًا عن الزوجات، فكثر نسلهم - والترف يزيد الدولة في أولها قوة بكثرة النسل - وتسابقوا إلى إحراز الجواري، حتى إن بعضهم أحصن ثمانين امرأة معًا، كالمغيرة بن شعبة فقد جمع في منزله أربع نسوة و٧٦ أمة(15)
فلا غرابة إذا وُلد لأحدهم خمسون ولدًا أو مئة ولد أو أكثر. ذكروا أنه وقع للأرض من صلب المهلب ٣٠٠ ولد(16)
وخلف عبد الرحمن بن الحكم الأموي ١٥٠ ذكرًا و٥٠ أنثى(17)
وخلف تميم بن المعز الفاطمي أكثر من مئة ذكر و٦٠ أنثى(18)
وكان لعمر بن الوليد تسعون ولدًا منهم ستون يركبون الخيل(19)
وولد لابن سيرين ٣٠ ولدًا من امرأة و١١ بنتًا(20)
وقس على ذلك مما يطول شرحه، وفي التاريخ أدلة كثيرة على قيام الدولة بعصبية الملك من الأولاد والإخوة والأعمام، كالعباسيين والأيوبيين وغيرهم.
المصادر:
1- الأغاني ٥٨ ج١٦.
2- ابن الأثير ١٧٤ ج٢.
3- الجزء الثاني من هذا الكتاب.
4- ابن الأثير ٦٠ ج٣.
5- المسعودي ٣٠١ ج١.
6- ابن الأثير ٢٠٤ ج٣.
7- ابن الأثير ١٩٦ ج٣.
8- الجزء الأول من هذا الكتاب.
9- ابن خلدون ١١٩ ج١.
10- الجزء الأول من هذا الكتاب.
11- ابن هشام ١٩٥ ج٢.
12- ابن هشام ٥٠ ج٣.
13- ابن خلدون ١٣٦ ج١.
14- العقد الفريد ٧٨ ج٣.
15- الأغاني ١٤٣ ج١٤ والمعارف ١٠٠.
16- ابن خلكان ١٤٧ ج٢.
17- نفح الطيب ١٦٤ ج١.
18- ابن خلكان ٩٩ ج١.
19- العقد الفريد ٢٥٨ ج٢.
20- ابن خلكان ٤٥٣ ج١.