كان الإمام عليه الصلاة والسلام كما ينطق تاريخه المشرق المثل الأعلى للجهاد في سبيل القضيّة الإسلاميّة الكبرى؛ فلم تكن حياته الطاهرة منذ بدأها في المسجد الحرام إلى أن خرّ شهيداً في بيت ربّه إلّا شعلة من الكفاح المقدّس الذي لا يعرف هوادةً في الدين، ولا توانياً في الواجب، ولا تراخياً في الحقّ، ولا شيئاً يعزّ أو يعلو على الفداء والتضحية.
وقد عاصر الإمام الدعوة الإسلاميّة وامتزج فيها بروحه وعقله وفكره وكلّ أحاسيسه وعواطفه، وسايرها منذ الساعة الاُولى من عمرها الطاهر، حين انطلقت كالعملاق لتصنع التاريخ، وتنشئ العالم من جديد، وتحقّق على يد الإنسان الرسالةَ التي خلق من أجلها.
وبقي الإمام يساير موكب الدعوة الجبّار في زحفه الروحي والفكري والاجتماعي المظفّر، ويواكب انتصاراتها الرائعة التي كانت قيادة النبي (صلّى الله عليه وآله) المثلى تحقّقها نصراً تلو نصر في كلّ الميادين الفكريّة والعسكريّة. وكان الإمام في كلّ تلك الميادين الجهاديّة يحمل بيده مشعل الدعوة ولواء الداعي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لواء الحقّ والعدل والخير.
وهكذا رافق الإمام أدوار الدعوة كلّها؛ فتغذّى بروحها، وغذّاها بجهاده، واستمدّ منها مثله العليا، وتحقّق فيه وجودُها الإنسانيُّ الأمثل.
رافق الإسلامَ وهو دعوة تبشّر لعالم جديد كلّه عدلٌ وخيرٌ وحقّ، فكان أوّل من أسلم وآمن بدعوته وجنّد نفسه وكلّ إمكاناته لها.
ورافق الإسلام وهو ركيزة تكتّل فكري قويٍّ متضامن، يستعذب الموت في سبيل المبدأ الحيّ، ويستهين بالآلام لأجل أن ترتفع راية الإسلام وتخفق على أرجاء المعمورة بالخير والرحمة، فكان الإمام بطلَ ذلك التكتّل الإسلامي المرصوص، وشريك النبي (صلّى الله عليه وآله) في حمل أعباء التكتّل وقيادة الدعوة والدفع بها إلى الأمام، وتذليل العقبات المعنويّة والمادّيّة التي تعترض طريق التكتّل الإسلامي المبارك وتعيقه عن نشر رسالته الإلهيّة الكبرى.
ورافق الإسلامَ حين أصبح الإسلامُ دولةً كاملةً تتمتّع بأداة سياسيّة قويّة، فاحتفل مع سائر المسلمين بوضع الحجر الأساسي للدولة الإسلاميّة إثر هجرة النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى المدينة.
واستمرّ يؤازر النبيَ (صلّى الله عليه وآله) في تسيير جهاز الدولة وتنميتها والاضطلاع بمختلف المسؤوليّات فيها، كتحمّل أعباء القيادة العسكريّة كما اتّفق في أكثر غزوات النبي(1)
وحمل الدعوة إلى الخارج كما صنع حين أرسله النبيُّ إلى اليمن(2)
وتمثيل الدولة الإسلاميّة في مجال العلاقات السياسيّة كما حصل عند قيامه بمهمّة تبليغ (براءة) إلى أهل مكّة(3)
إلى غير ذلك من ألوان العمل والجهاد التي زخرت بها حياة الإمام.
ولم يُتَح له بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يحتلّ موضعه الطبيعي، غير أنّه كان على طول الخطّ العينَ الساهرةَ على القضيّة الإسلاميّة، والجنديَّ الأوّل لها إذا دقّت أجراس الخطر مهما كانت الظروف السياسيّة، حتّى اُتيح له أخيراً أن يباشر صلاحيّاته رئيساً للدولة الإسلاميّة، فاستطاع الإسلام أن يقدّم فيه الحاكمَ الإسلاميَّ الأروع، والنموذجَ الفذَّ للحكم، الذي عجزت كلّ المبادئ الاُخرى في العالم عن تقديم نظيره طيلة حياته السياسيّة.
فحياة الإمام إذاً كانت -أبداً ودائماً- حياةً جهاديّة تتفجّر بطاقات الكفاح من أجل تحقيق مَثَل الإنسانيّة الأعلى بتطبيق الإسلام وترجمته إلى واقع ملموس محسوس، يتمثّل في حاكم وحكم يسعد به الناس، ويعيشون في كنفه إخواناً وادعين.
وكانت الحياة الجهاديّة للإمام ذات لونين:
فقد وقف تارةً يحارب قوى الكفر الصريحة السافرة التي أنكرت الإسلام كدين وتنكّرت له كمبدأ وعادته كدولة، فسجّل في وقفاته الغرِّ معها أروعَ الانتصارات للدعوة والإسلام.
ووقف تارةً اُخرى وقفته الجهاديّة الخالدة في أيّام خلافته ليصحّح مفاهيم المسلمين عن الإسلام، ويقوم سدّاً دون الانحراف عن أهدافه العليا ونظامه الأمثل الذي بدأ المنحرفون والمتأوّلون يتلاعبون به ويشوّهونه طبقاً لأفكارهم الجاهليّة وشهواتهم الرخيصة، ويرفعون شعارات جديدة لا تمتّ إلى روح الإسلام بصلة، فذاك هو القتال على التنزيل وهذا هو القتال على التأويل على حدّ تعبير رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(4).
والواقع أنّ المعركة التي خاضها الإمام ضدّ التأويل والتلاعب بأحكام الإسلام والانحراف عن نصوصه في الدولة والحكم والدستور لم تكن تقلّ خطراً عن معاركه الكبرى مع الكفّار والمشركين. ولم يُمنَ بما مني به من الأعداء والخصوم السياسيّين والحربيّين إلّا بسبب استبساله في الحفاظ على أهداف الدعوة، وحرصه على إقامة الدولة الإسلاميّة بعيدةً عن تضليل المضلّلين وأطماع الطامعين.
وهكذا نستطيع أن نقول: إنّ الإمام حارب أوّلاً في سبيل الدعوة الإسلاميّة ومُثُلها، وحارب أخيراً في سبيل الدولة الإسلاميّة ومنهاجها في السياسة والحكم، فلم تكن الدولة الإسلاميّة في نظر الإمام لتنفصل عن الإسلام بالذات، ولم تكن العقيدة الإسلاميّة في رأيه لتنفصل عن وعي إسلامي كامل لكلّ نواحي الحياة، ولم يكن ليكتفي الإمام من المسلمين أن يفهموا الإسلام كعقيدة في القلب أو ألفاظ تردّدها الشفتان فحسب، وإلّا فلماذا شنَّ تلك الحروب في خلافته ومني بالمنازعات؟! مع أنّ الإسلام -من حيث هو عقيدة في القلوب أو ألفاظ على الشفاه- لم يكن موضع خلاف ونقاش، أَلم يكن كلُّ ذلك لأجل أن تعي الاُمّة الإسلام وعياً صحيحاً، وأن يطبّق عليها تطبيقاً نزيهاً!
وهذا ما فعله الإمام (عليه السلام) تماماً حينما تولّى الحكم وأخذ بزمام القيادة السياسيّة للاُمّة، فأعلن قبل كلّ شيء هدف الحكم الإسلامي الصحيح وحدّد رسالته المقدّسة، فقال مشيراً إلى نعله: «إنّ هذا النعل هو خير عندي من ولايتكم هذه إن لم أقم حقّاً واُزهق باطلاً»(5).
وهكذا وضع للدولة الإسلاميّة هدفها الأساسي المتمثّل في جانب إيجابي، وهو إقامة القسط والعدل، وجانب سلبي، وهو إزهاق الباطل.
فليس الحكم في مفهوم عليٍّ عن الإسلام ذريعةً من ذرائع الثراء المحرّم والجاه العريض، ولا أداةً للقهر والغلبة والاستيلاء، ولا وسيلةً من وسائل التخمة والدعة وإشباع الحفدة والأنصار، ولا جهازاً يتملّق لطائفة أو تستأثر به فئةٌ على حساب الآخرين، وإنّما هو حكومة الحقّ والعدل والتطبيق النزيه لأحكام الله على العباد، فإذا فقد ذلك كان صفراً في حساب عليٍّ والإسلام.
ولذلك قالها الإمام صريحة مدويّة في وجوه اُولئك الذين كانوا يزعمون أنّهم ينصحونه بشيء من اللين والانحراف، قالها لتخلد في تاريخ الإسلام كلمات مشرقةً بالنور، عامرةً بأسمى مثل العدالة: «أَتأمرونّي أن أطلب النصر بالجور في من ولّيت عليه، والله لا أطور به ما سمر سمير، وما أمَّ نجمٌ في السماء نجماً»(6)؛ ذلك لأنّ حكومة الإسلام هي حكومة العدل والحقّ والقسط، فإذا قامت على أساسٍ من الجور فقدت معناها الإسلامي، الذي هو كلّ قيمتها في نظر عليّ العظيم.
وحدّد (عليه السلام) مسؤوليّته تجاه رعيّته ومدى مشاركته لهم في جشوبة العيش ومكاره الدهر، فقال: «هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز وباليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل(7):
وحسبك داءً(8) أن تبيت ببطنةٍ
وحولك أكبادٌ تحنُّ إلى القدّ
أَأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا اُشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون اُسوة لهم في جشوبة العيش»(9).
وهكذا أَفْهَمَ الإمامُ (عليه السلام) الاُمّةَ أنّه آخر من ينبغي أن يشبع في رعيّته، وليس أوّل من يشبع هو الحاكم كما كان يريد المتأوّلون والمنحرفون من خصومه السياسيّين.
ووضع الإمام المساواة الحقيقيّة التي جاء بها الإسلام موضع التنفيذ؛ فأعلن بكلّ صراحة قائلاً: «إنّما أنا رجلٌ منكم، لي ما لكم وعليَّ ما عليكم»(10).
وقال لأحد ولاته إذ ارتكب جنحة: «والله! لو أنّ الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا منّي بإرادة حتّى آخذ الحقّ منهما، واُزيح الباطل عن مظلمتهما»(11).
وهكذا حقّق الإمام المساواة بأروع معانيها، هذه المساواة التي لا تزال في الحضارات الأجنبيّة حتّى الآن حبراً على ورق.
ودشّن سياسته الاقتصاديّة بتطبيق المساواة الصارمة التي فرضها الإسلام بين المسلمين في الأموال العامّة، وضرب بيدٍ من حديد على الثروات المنهوبة من الاُمّة، وأعلن بكلّ وضوح أنّ كلّ القيم والاعتبارات لا تبيح شرعاً أن تزلزل تلك المساواة بين المسلمين في فيئهم؛ فهم في نظر الدولة الإسلاميّة سواءٌ، مهما اختلفت درجاتهم عند الله: قال (عليه السلام): « ألا لا يقولنَّ رجال منكم قد غمرتهم الدنيا فاتّخذوا العقار وفجّروا الأنهار...: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا، ألا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرى أنّ الفضل له على من سواه لصحبته فإنّ الفضل النيّر غداً عند الله،.... فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسويّة»(12).
وأوضح الإمام بكلّ جلاء نظريّة الإسلام الإنسانيّة التي تترفّع عن التعصّب الذميم مهما كان لونه، فقال لواليه يوصيه: «فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق»(13).
فما أروعها كلمة أراد بها (عليه السلام) أن يصحّح مفهوم الناس عن الدولة الإسلاميّة؛ فليست الدولة الإسلاميّة في ضوء هذه الكلمة أداة استعباد لغير المسلمين وعداوة لهم، بل هي رعاية للاُخوّة الدينيّة الخاصّة وللاُخوّة الإنسانيّة العامّة.
وقد بلغ حرص الإسلام على هذه النظرة الإنسانيّة مبلغاً رائعاً لا نظير له؛ حتّى إنّ عليّاً -وهو رئيس الدولة الإسلاميّة- وجد درعاً له عند مسيحي، فلم يكن له طريقٌ إلى أخذه منه إلّا بالوقوف معه بين يدي القضاء.
وهكذا وقف رئيس الدولة الإسلاميّة مع المسيحي جنباً إلى جنب أمام القاضي، وقال الإمام: «إنّها درعي، ولم أبع ولم أهب»، فقال القاضي للرجل المسيحي: «ما تقول في ما يقول أمير المؤمنين؟»، فقال المسيحي: «ما الدرع إلّا درعي». وهنا التفت القاضي إلى الإمام يسأله هل من بيّنة تشهد أنّ هذه الدرع لك، فضحك عليّ وقال: «ما لي بيّنة»، فقضى القاضي بالدرع للرجل المسيحي، فأخذها ومشى.
إلّا أنّه لم يخطُ خطوات قلائل حتّى عاد يقول: «أمّا أنا، فأشهد أنّ هذه أحكام أنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاضٍ يقضي عليه؟!»، ثمّ قال: «الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين»، وأسلم وحسن إسلامه(14).
وهكذا استطاع الإمام أن يسجّل في ذهنيّة الاُمّة بأقواله وأفعاله مفاهيم الدولة الإسلاميّة الخالدة وآياتها البيّنة، فأصحبت دولةُ الإسلام التي عكسها تاريخ عليٍّ أملَ الإنسانيّة في كلّ العصور، والعقيدةَ التي يتبنّاها المسلمون جميعاً في كلّ زمان وكلّ مكان.
صحيح أنّ الإمام (عليه الصلاة والسلام) لم ينجح كلَّ النجاح في القضاء على المناوئين والمتربّصين بالدولة الإسلاميّة؛ لأنّ المؤامرة الأثيمة على حياته المقدّسة التي انهار بها أعظم صروح الإسلام بعد صرح النبوّة قامت حائلاً دون تحقيق أماني الإسلام العذبة على يديه، وضمان السيادة السياسيّة له بشكل ثابت.
وصحيحٌ أنّ الإمام كان يؤلّب على نفسه ودولته جيشاً ضخماً من المنافقين والمارقين الذين ضاقوا بالحقّ، ولم يجدوا عند عليٍّ ما يشبع نهمهم المحموم إلى المال والجاه، فنقضوا عليه وعارضوه بكلّ طَول وحَول، فلم يفكّر الإمام لحظةً واحدة في مهادنتهم على حساب الحقّ، وأن يسترضيهم بالوسائل التي لا تتّفق مع طبيعة الغاية المثلى، فنجمت عن ذلك سلسلة من المشاكل السياسيّة التي رافقت خلافة الإمام إلى آخر أيّامها.
كلّ هذا صحيح، ولكن ماذا يضير عليّاً من ذلك كلّه وقد خرج من المعركة كما أراد وكما أراد له الإسلام، ظافراً، منتصراً، قد ضرب للإسلام مَثَله الرفيع، وركّز إلى الأبد في عقول الواعين من الاُمّة مفاهيم الدولة الإسلاميّة، وطبع في أذهانهم صورتها الزاهية بكلّ ما تصبو إليه الإنسانيّة المهذّبة من القيم المادّيّة والمعنويّة؛ فصلوات الله عليه وعلى جهاده، وسلامٌ عليه يوم ولد، ويوم مات، ويوم يبعث حيّاً.
المصادر:
1- والتي لم يتخلّف (عليه السلام) عن واحدةٍ منها إلى حين غزوة تبوك؛ حيث خاطب رسول الله قائلاً: «لم أتخلّف عنك في غزاة منذ بعثك الله تعالى»، فراجع: الأمالي (الطوسي): 171، الحديث 39.
2- السيرة النبويّة (ابن هشام) 641 :2؛ الطبقات الكبرى 128 :2، واُنظر: الكافي 28 :5، الحديث 4.
3- السيرة النبويّة (ابن هشام) 545 :2؛ الطبقات الكبرى 128 :2؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 122 :3.
4- الكافي 11 :5 - 12، الحديث 2؛ تهذيب الأحكام 116 :4، الحديث 1؛ 137 :6، الحديث1.
5- نهج البلاغة: 76، الخطبة 33: «والله، لهي أحبُّ إليَّ من إمرتكم، إلّا أن اُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً».
6- نهج البلاغة: 183، الخطبة 126.
7- البيت منسوبٌ إلى حاتم بن عبدالله الطائي، فراجع: شرح نهج البلاغة 288 :16.
8- في البحث المطبوع: «عاراً» وفقاً لما جاء في: شرح نهج البلاغة 286 :16، وما أثبتناه من المصدر، ومن: ربيع الأبرار ونصوص الأخيار 242 :3 و: التذكرة الحمدونيّة 99 :1.
9- نهج البلاغة: 417 - 418، الرسالة 45.
10- شرح نهج البلاغة 36 :7.
11- نهج البلاغة: 412، الرسالة 41.
12- شرح نهج البلاغة 37 :7، ويبدو أنّ الشهيد الصدر (قدّس سرّه) قد نقل المتن عن: روائع نهج البلاغة: 95.
13- نهج البلاغة: 427، الرسالة 53.
14- الغارات 47 :1؛ البداية والنهاية 4 :8؛ شذرات الذهب 320 :1؛ مناقب آل أبي طالب 105 :2؛ بحار الأنوار 56 :41.