
الإيمان بالقضاء والقدر على الوجه الصحيح يثمر ثمراتٍ جليلة، وأخلاقاً جميلة، وعبودياتٍ متنوعةٍ، يعود أثرها على الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة، وسيتضح ذلك من خلال المباحث التالية، علماً بأنَّ بعضها قريب من بعض داخل في بعض.
للإيمان بالقدر ثمرات إيمانية عقدية تعود على إيمان العبد بالزيادة، وعلى عقيدته بالثبات، ومن ذلك:
أداء عبادة الله - عز وجل -: فالإيمان بالقدر مما تعَبَّدنا الله به، وكمال المخلوق في تحقيقه العبودية لربه، وكلما ازداد تحقيقاً للعبودية ازداد كمالُه، وعلت درجتُه، وكان كل ما يجري عليه مما يكرهه خيراً له، وحصل له من جرَّاء ذلك الإيمانِ عبودياتٌ كثيرة، سيأتي ذكرٌ لشيء منها .
الخلاص من الشرك: فالمجوسزعموا أن النورَ خالقُ الخيرِ، والظلمةَ خالقةُ الشرِّ، والقدرية قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد، بل العباد يخلقون أفعالهم؛ فأثبتوا خالِقِينَ مع الله - جل وعلا -.
وهذا الضَّلال شركٌ، والإيمان بالقدر على الوجه الصحيح توحيد لله -عز وجل -.
ثم إن المؤمن بالقدر يعلم أن جميع الكائنات واقعة تحت قهر الله، محكومة بقدره، وليس لها من الأمر شيء، فلا تملك لنفسها - فضلاً عن غيرها - نفعاً أو ضرّاً، كما يعلم علم اليقين بأن أزمَّة الأمور بيد الله؛ فهو المعطي لمن شاء، المانع لمن شاء، لا رادَّ لقضائه، ولا معقب لحكمه.
وهذا يبعثه إلى إفراد الله بالعبادة وحده دون من سواه، فلا يتقرب لغير الله، ولا يتمسح بأتربة القبور وعتبات الصالحين.
حصول الهداية وزيادة الإيمان: فالمؤمن بالقدر على الوجه الصحيح يتحقق توحيده، ويزيد إيمانه، ويسير على هُدى من ربه؛ ذلك أن الإيمان بالقدر من الاهتداء، والله - عز وجل - يقول: [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] سورة محمد: 17.
ويقول: [مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ] سورة التغابن: 11.
قال علقمة× في هذه الآية: -هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من قِبِلِ الله - تعالى - فيسلِّم ويرضى.
4- الإخلاص: فالإيمان بالقدر يحمل صاحبه على الإخلاص، فيكون الباعث له في جميع أعماله امتثال أمر الله؛ ذلك أن المؤمن بالقدر يعلم أن الأمر أمر الله، وأن الملك ملكه، وأن ما شاءه الله كان، وما لم يشأه لم يكن، لا راد لفضله، ولا معقب لحكمه، فيقوده ذلك إلى إخلاص العمل لله، وتصفيته من كل شائبة تشوبه؛ لأن الحامل على عدم الإخلاص أو قِلَّتِه مراءاةُ الناس، أو طلب التزيُّن في قلوبهم، أو طلب مدحهم والهرب من ذمهم، أو طلب أموالهم أو خدمتهم أو محبتهم، أو نحو ذلك من الشوائب والعلل التي يجمعها إرادة ما سوى الله في العمل.
فإذا أيقن العبد أن هذه الأمورَ لا تُنال إلا بتقدير الله - عز وجل - وأن الناس ليس لهم من الأمر شيء في أنفسهم ولا في غيرهم - لم يعد يبالي بالناس، ولم يَسْعَ إلى إرضائهم بسخط الله، فينقاد إلى إيثار الحق على الخلق، وإلى الإخلاص والتفريد، بعيداً عن كل رياء وتنديد.
ومن هنا ينال فضيلة الإخلاص وأكرم بها من فضيلة؛ فالإخلاص يرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقيَ للفلاح، وهو الذي يحمل الإنسان على مواصلة عمل الخير، وهو الذي يجعل في عزم الرجل متانة، ويربط على قلبه، فيمضي حتى يبلغ الغاية.
5- صحة التوكل وتمامه: فالتوكل على الله هو لُبُّ العبادة، ولا يصح التوكل ولا يستقيم إلا لمن آمن بالقدر على الوجه الصحيح.
قال ابن القيم ×: -قال شيخنا÷: ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف، ولا من القدرية النفاة القائلين بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يستقيم - أيضاً - من الجهمية النفاة لصفات الرب - جل جلاله - ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات.
والتوكل في لسان الشرع إنما يراد به توجه القلب إلى الله حال العمل، واستمداد المعونة منه، والاعتماد عليه وحده؛ فذلك سر التوكل وحقيقته.
والشريعة أمرت العامل بأن يكون قلبه مطوياً على سراج التوكل والتفويض.
والذي يحقق التوكل هو القيام بالأسباب المأمور بها؛ فمن عطَّلها لم يصحَّ توكله.
فإذا توكل العبد على ربه، وسلَّم له، وفوض إليه أمره أمده الله بالقوة، والعزيمة، والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عُرْضَةُ اختيارِ العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه.
وهذا يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منه في عقبة، وينزل في أخرى
الخوف من الله: فالمؤمن بالقدر تجده دائماً على خوف من الله، وعلى حذر من سوء الخاتمة؛ إذ لا يدري ما يُفعل به، ولا يأمن مكر الله.
ومن هنا يستقل عمله، ولا يغتر به مهما كان؛ فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، والخواتيم علمها عند الله - عز وجل -.
قال النبي ": فوالله إن أحدكم أو الرجل يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.
وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها
وقال ": -إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار؛ وإنما الأعمال بالخواتيم.
قوة الرجاء وإحسان الظن بالله: فالمؤمن بالقدر حَسَنُ الظن بالله، قويُّ الرجاء به؛ لعلمه بأن الله لا يقضي قضاءً إلا وفيه تمام العدل والرحمة والحكمة.
فلا يتهم ربه فيما يجريه عليه من أقضيته وأقداره، وذلك يوجب له استواء الحالات عنده، ورضاه بما يختاره له سيده، كما يوجب له انتظار الفرج وترقبه، وذلك يخفف حمل المشقة، ولاسيما مع قوة الرجاء، أو القطع بالفرج؛ فإنه يجد في حشو البلاء من رَوْح الفرج ونسيمه وراحته ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج مُعَجَّل.
الرضا: فالمؤمن بالقدر قد تسمو به الحال، فَيَصِلُ إلى منزلة الرضا، فمن رضي عن الله رضي الله عنه، بل إن رضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه؛ فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده: رضاً قبله أوجب له أن يرضى عنه، ورضاً بعده هو ثمرة رضاه عنه.
ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين، وقرة عيون المشتاقين
قال ابن القيم ×: -من ملأ قلبه من الرضا بالقدر ملأ الله صدره غنىً، وأمناً، وقناعةً، وفرَّغ قلبه لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه.
ومن فاته حظه من الرضا امتلأ قلبه بضد ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه.
وقيل ليحيى بن معاذ: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟
فقال: إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه؛ فيقول: إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت.
وقال بعضهم: -ارض عن الله في جميع ما يفعله بك؛ فإنه ما منعك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا أمرضك إلا ليشفيك، ولا أماتك إلا ليحييك؛ فإياك أن تفارق الرضا عنه طرفة عين، فتسقط من عينه.
ومما ينبغي أن يُعْلم أنه ليس من شرط الرضا ألا يحس العبد بالألم والمكاره، بل ألا يعترض على الحكم، ولا يتسخطه.
قال أحد الحكماء:
إذا اشتدت البلوى تخفف بالرضا / عن الله قد فاز الرضيُّ المراقب
وكم نعمة مقرونة ببلية / على الناس تخفى والبلايا مواهب
ومع هذا فلا خروج للعبد عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود، مشكور، ملطوف به، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به.
ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدورِ العطفُ عليه، واللطف فيه، فيصير بين عطفه ولطفه؛ فعطفه يقيه ما يحذره، ولطفه يُهَوِّنُ عليه ما قدر له.
الشكر: فالمؤمن بالقدر يعلم أن ما به من نعمة فهي من الله وحده، وأن الله هو الدافع لكل مكروه ونقمة، فيبعثه ذلك على إفراد الله بالشكر؛ فإذا نزل به ما يحب شكر الله عليه؛ إذ هو المنعم المتفضل، وإذا نزل به ما يكرهه شكر الله على ما قدَّره عليه، كظماً للغيظ، وستراً للشكوى، ورعاية للأدب، وسلوكاً لمسلك العلم؛ فإن العلم بالله والأدب مع الله يأمران بشكر الله على المحاب والمكاره، وإن كان الشكر على المكاره أشقَّ وأصعبَ؛ ولذلك كان الشكر أعلى من الرضا.
فإذا لزم الإنسان الشكر قرت نعمه ودرَّت؛ فالشكر قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة، والله - تبارك وتعالى - يقول: [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] سورة إبراهيم: 7.
فمتى لم تر حالك في مزيد فاستقبل الشكر.
قال ابن ناصر الدين الدمشقي:
يجري القضاءُ وفيه الخيرُ نافلة / لمؤمن واثق بالله لا لاهي
إن جاءه فرحٌ أو نابه ترحٌ / في الحالتين يقول: الحمد للهِ
الفرح: فالمؤمن بالقدر يفرح بهذا الإيمان الذي حرم منه أكثر الخلق، قال - تعالى -: [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] سورة يونس: 58.
ثم إن المؤمن بالقدر قد يرتقي به الحال من الرضا بقضاء الله والشكر له فيما يقدره حتى يصل إلى منزلة الفرح، فيفرح بكل ما يقدره الله ويقضيه عليه.
قال ابن القيم ×: -والفرح أعلى نعيم القلب، ولذته وبهجته، فالفرح والسرور نعيمه، والهم والحزن عذابه.
والفرح بالشيء فوق الرضا به؛ فإن الرضا طمأنينة، وسكون، وانشراح.
والفرح لذة، وبهجة، وسرور؛ فكلُّ فَرِحٍ راضٍ، وليس كلُّ راضٍ فَرِحاً؛ ولهذا كان الفرح ضد الحزن، والرضا ضد السخط، والحزن يؤلم صاحبه، والسخط لا يؤلمه إلا ما كان مع العجز عن الانتقام، والله أعلم.
العلم بحكمة الله - عز وجل -: فالإيمان بالقدر على وجه الحقيقة يكشف للإنسان حكمة الله - عز وجل - فيما يقدره من خير أو شر، فيعلم أن وراء تفكيره، وتخيلاته من هو أعظم وأعلم، وأحكم.
ولهذا كثيراً ما يقع الشيء فنكرهه وهو خير لنا؛ وكثيراً ما نرى الشيء مصلحة ظاهرة فنحبه، ونرغب فيه، ولكن الحكمة لا تقتضيه؛ فالمدبر للإنسان أعلم بمصالحه وعاقبة أمره، كيف وقد قال: [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ] سورة البقرة: 216.
ومن أسرار هذه الآية وحِكَمها أنها تقتضي من العبدِ التفويضَ إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يقضيه عليه؛ لما يرجوه من حسن عاقبته.
ومن أسرارها ألا يقترح على ربه، ولا يسأله ما ليس له به علم؛ فلعل مضرتَه فيه وهو لا يعلم، فلا يختار على ربه، بل يسأله حسن العاقبة فيما يختاره له، فلا أنفع له من ذلك.
ولهذا من لطف الله بعبده أنه ربما طمحت نفسه لسبب من الأسباب الدنيوية التي يظن أن بها إدراكَ بغيته، فيعلم الله أنها تضره، وتصده عما ينفعه، فيحول بينه وبينها، فيظل العبد كارهاً، ولم يَدْرِ أن الله قد لطف به؛ حيث أبقى له الأمر النافع، وصرف عنه الأمر الضار.
فكم من الناس - على سبيل المثال - من يندم ويتحسر إذا فاته موعد إقلاع الطائرة، وما هي إلا مدة يسيرة، ثم يُعْلَن عن سقوط الطائرة، ووفاة جميع ركابها.
وكم من الناس من يتبرم ويضيق صدره؛ لفوات محبوب، أو نزول مكروه.
وما إن ينكشف الأمر، ويستبين سرُّ القدر إلا وتجده جذلاً مسروراً؛ لأن العاقبة كانت حميدة بالنسبة له.
وما أجمل قول من قال:
كم نعمةٍ لا تستقل بشكرها / لله في طي المكاره كامنهْ
وقول الآخر:
تجري الأمور على حكم القضاء وفي / طيِّ الحوادث محبوب ومكروه
وربما سرني ما كنت أحذره / وربما ساءني ما كنت أرجوه
تحرير العقول من الخرافات والأباطيل: فمن بدهيات الإيمان بالقدر الإيمانُ بأن ما جرى وما يجري، وما سيجري في هذا الكون إنما هو بقدر الله - عز وجل - وأن قدر الله سر مكتوم، لا يعلمه إلا هو، ولا يُطلع عليه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً.
ومن هذا المنطلق تجد المؤمن بالقدر لا يعتمد على الدجَّالين والمشعوذين، ولا يذهب إلى الكهان والمنجمين والعرافين، فلا يعتد بأقوالهم، ولا ينطلي عليه زيفهم ودجلهم؛ فيعيش سالماً من زيف هذه الأقاويل، متحرراً من جميع تلك الخرافات والأباطيل.
وقال لبيد بن ربيعة ÷:
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى/ ولا زاجرات الطير ما الله صانع
سلوهن إن كذبتموني متى الفتى / يذوق المنايا أو متى الغيث واقع
المصدر: راسخون2017