القتل على التهمة سياسة العباسيين

عمل بنو العباس بالدعوة إلى أنفسهم وهم بين خطرين عظيمين: الأول أن يحاربوا بني أمية ويتغلبوا على أحزابهم، والثاني أن يأمنوا جانب العلويين في مسابقتهم إلى الخلافة.
Monday, July 31, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
القتل على التهمة سياسة العباسيين
 القتل على التهمة سياسة العباسيين



 

عمل بنو العباس بالدعوة إلى أنفسهم وهم بين خطرين عظيمين: الأول أن يحاربوا بني أمية ويتغلبوا على أحزابهم، والثاني أن يأمنوا جانب العلويين في مسابقتهم إلى الخلافة.
وكانت الحوادث قد علمتهم أن الدولة لا تقوم بالدين والتقوى فقط، كما قامت في عصر الراشدين وكما أرادها بنو علي، وأن العلويين إنما عجزوا عن نيلها لاعتمادهم في دعوتهم على شرف نسبهم وصدق تدينهم، وأن معاوية لم يغلب إلا بالدهاء والحيلة، وأن عبد الملك لم يستطع استبقاءها إلا بالفتك وشدة البطش.
فلما انتقلت البيعة من العلويين إلى العباسيين، بمبايعة أبي هاشم بن محمد بن الحنفية لمحمد بن علي العباسي كما تقدم، ثم أفضت بعده إلى ابنه إبراهيم الإمام، وتوفق هذا إلى أبي مسلم الخراساني ورأى فيه الشدة والدهاء، جعله قائدًا على نقبائه ودعاته وأوصاه وصية هي محور سياسة العباسيين في تأييد دولتهم هذا نصها:إنك رجل منا أهل بيت، أحفظ وصيتي: أنظر إلى هذا الحي من اليمن فالزمهم واسكن بين أظهرهم، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم.
واتهم ربيعة في أمرهم، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار. واقتل من شككت فيه. وإن استطعت أن لا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل. وأيما غلام بلغ خمسة أشبار واتهمته فاقتله(1) …
فخرج أبو مسلم من عند الإمام إبراهيم بهذه الوصية، وقد عمل بها وعول عليها، فكان يقتل كل من اتهمه أو شك فيه، فبلغ عدد الذين قتلهم في سبيل هذه الدعوة ٦٠٠٠٠٠ نفس قتلوا صبرًا بدون حرب في بضع سنين(2)
وفي جملتهم جماعة من كبار الشيعة، وفيهم غير واحد من جلة النقباء وكبار الدعاة، كأبي سلمة الخلال الذي نصر الدعوة العباسية بماله كما نصرها أبو مسلم بسيفه، وكان يقال له: وزير آل محمد كما يقال لأبي مسلم: أمير آل محمد. فحالما استشار السفاح أبا مسلم في شأنه واتهمه بنقل الخلافة إلى العلويين، أشار أبو مسلم بقتله فقتلوه وقتلوا عماله على الأطراف. وفعل نحو ذلك أيضًا بسليمان بن كثر، وهو من أكبر دعاة الدولة العباسية قبله، وكان شيخًا جليلًا لم يدخر وسعًا في نصرة تلك الدعوة.
فبعد قتل أبي سلمة بلغ أبا مسلم عنه مثل ما بلغه عن أبي سلمة، فأحضره إليه وقال له: «أتحفظ قول الإمام لي: من اتهمته فاقتله؟» قال: «نعم» قال: «فإني قد اتهمتك!» فخاف سليمان وقال: «أناشدك الله …» قال: «لا تناشدني، فأنت منطو على غش الإمام»، وأمر بضرب عنقه(3)
ناهيك بمن قتلهم من غير الشيعة، وفيهم الأمراء والقواد. وقتل بعضهم بالحيلة والبعض الآخر بالغدر، ومنهم الكرماني وأولاده وكبار رجاله وغيرهم بشر كثير(4)
حتى سئم الناس فعله وملوا سفك الدماء، وأصبح المسلمون — حتى رجاله — لا يدعى أحدهم إلى مقابلته إلا أوصى وتكفن وتحنط. وثار من ذلك بعض الأمراء من شيعة بني العباس وصاح في رجاله:
«ما على هذا اتبعنا آل محمد: أن سفك الدماء وأن يعمل بغير الحق …»، فتبعه على رأيه أكثر من ٣٠٠٠٠ رجل، فوجه إليهم أبو مسلم جندًا قاتلهم وقتلهم.
المنصور والدولة العباسية
فبهذا وأمثاله مهد أبو مسلم الخلافة لبني العباس، فساعدهم أولًا على إخراجها من بني أمية إلى أهل البيت، ولم يكتف ببيعة أبي العباس وقتل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ولكنه حرضهم على قتل من بقي من بني أمية بالإغراء أو التخويف على ألسنة الشعراء. ويقال: إنه هو الذي أوعز إلى سديف الشاعر مولى بني هاشم أن يقول ذلك الشعر في مجلس السفاح، وفيه سليمان بن هشام بن عبد الملك، وكان السفاح قد أمنه وأكرمه وأمن سائر بني أمية — فيقال: أن سديفًا دخل يومًا على السفاح وعنده سليمان بن هشام فأنشد سديف قوله:
لا يغرنك ما ترى من رجال
إن تحت الضلوع داءً دويّا
فضع السيف وارفع السوط حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويّا
فتأثر السفاح وأمر بسليمان فقتل. ودخل شاعر آخر فقال شعرًا آخر، وكان عند السفاح نحو سبعين من رجال بني أمية، فقتلهم وبسطت له النطوع على جثثهم فأكل الطعام وهو يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعًا(5)
وقل في كيفية قتلهم غير ذلك، وأن الذي قتلهم عبد الله بن علي عم السفاح، وهو مشهور بكرهه لبني أمية وشدة نقمته عليهم، ولكن لا خلاف في أنهم قتلوا غدرًا سنة ١٣٢ﻫ وهم آمنون كما قتل الأمراء المماليك بمصر في أوائل القرن الماضي.
والغالب أن أبا مسلم أوعز إلى العباسيين بقتلهم؛ لئلا يقفوا في سبيل دولتهم، فأشار إلى سديف أن يحرضهم على ذلك بشعره. ولم يقل سديف ذلك حبًّا ببني العباس بل كرهًا لبني أمية وانتقامًا لآل علي؛ لأنه من الشيعة العلوية وهو يظن الخلافة شورى بين الشيعتين. فلما رأى المنصور استقل بها بعد ذلك، نقم على العباسيين وهجاهم بأشعار بلغ خبرها المنصور، فكتب إلى عامله أن يأخذ سديفًا فيدفنه حيًّا ففعل.(6)
وبعد أن قتل العباسيون من كان في قبضتهم من الأمويين، عمدوا إلى استئصال شأفتهم من سائر البلاد. ولم ينج منهم إلا قليلون، أهمهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، ففر إلى المغرب وأسس دولة بني أمية بالأندلس كما سيأتي. وتولى استئصال شأفة الأمويين من بني العباس عبد الله بن علي، فبالغ في ذلك حتى نبش قبورهم ومثل بجثثهم، انتقامًا لما فعلوه قبلًا بالأئمة من آل علي، وخصوصًا زيد بن زين العابدين. فاستخرج جثة هشام بن عبد الملك من قبره وهو لم يبل، فضربه ثمانين سوطًا ثم أحرقه.(7)
وبعد أن تخلص المنصور من الأمويين، لم يدخر أبو مسلم وسعا في تخليص الدولة من أقربائه آل العباس أنفسهم، وفي جملتهم عبد الله بن علي المتقدم ذكره، وقد طمع في الخلافة فحاربه بأمر المنصور وغلبه، واستولى على ما في عسكره من الغنائم والأسلحة. فأراد المنصور أن يوجه همه إلى بني الحسن منافسيه في الخلافة، فاشتغل خاطره بأبي مسلم وأصبح خائفًا منه على سلطانه، بعد ما بلغ إليه من النفوذ والشهرة والدالة.
ولم يكن همه إلا قتله ليفرغ للعلويين، فاتهمه بأنه ينوي إخراج الملك منهم فاستحق القتل عملًا بوصية الإمام.
وكان المنصور قد خاف أبا مسلم وعزم على قتله، من عهد خلافة أخيه أبي العباس، ولكن أبا العباس لم يرد الإقدام على ذلك. فلما مات السفاح وخلفه المنصور صمم على قتله، ولكنه استخدمه في حرب عمه عبد الله بن علي، فضرب عدويه أحدهما بالآخر، فأيهما قتل صاحبه انفرد فيسهل على المنصور قتله.
فلما فرغ أبو مسلم من حرب عبد الله بن علي، احتال المنصور في استقدامه إليه من خراسان في حديث طويل، وأدخله عليه دخول الزائر الأمين، وقد أكمن له أناسًا بالسلاح وراء الستر، فأخذ سيفه منه وحادثه، وتدرج من العتاب إلى التوبيخ، حتى إذا أزفت الساعة صفق المنصور، فخرج الكامنون بأسلحتهم وقتلوه سنة ١٣٧ﻫ فأمر به فلفوه بالبساط، ثم دعا بعض رجال خاصته وشاورهم في قتله — ولم يقل: أنه قتله — فقال له أحدهم: «إن كنت قد أخذت من رأسه شعرة فاقتله ثم اقتله»، فأشار المنصور إلى البساط، فلما رأى أبا مسلم فيه وتحقق موته قال: «عد هذا اليوم أول يوم خلافتك …».(8)
ولما فرغ المنصور من أبي مسلم، لبث يتوقع ما يبدو من رجاله الخراسانية؛ لعلمه أنه ركب بقتله خطرًا عظيمًا، فما عتم أن ثار عليه جماعة منهم يعرفون بالراوندية، وكادوا يفتكون به لو لم يدافع عنه معن بن زائدة. فقتل الراوندية جميعًا، ولكنه أصبح لا يأمن على نفسه من مثل هذه الثورة، فبنى مدينة بغداد بشكل حصين يقيه غائلة ذلك عند الحاجة، ثم عمد إلى تخليص الخلافة من آل علي، فحارب محمد بن عبد الله وقتله. ثم رأى من آل العباس من ينازعه عليها، منهم عمه عبد الله، وكان أبو مسلم قد غلبه ولكنه لم يتمكن من قتله، فاحتال المنصور في استقدامه بأمان بعثه إليه مع ولديه، فجاء فحبسه عنده.
ثم علم سرًّا أن ابن عمه عيسى بن موسى ينوي الخروج عن طاعته، وكان واليًا على الكوفة، فتجاهل وبعث إليه وقد دبر أمرًا كتمه عن رجال بطانته، فلما جاء عيسى استقبله المنصور بالترحاب والإكرام، ثم أخرج من كان في حضرته من الحاشية واستبقاه وحده، وأقبل عليه وقال:
«يا ابن العم … إني مطلعك على أمر لا أجد غيرك من أهله، ولا أرى سواك مساعدًا لي على حمل ثقله، فهل أنت في موضع ظني بك، وعامل ما فيه، بقاء نعمتك التي هي منوطة ببقاء ملكي؟» فقال له عيسى: «أنا عبد أمير المؤمنين، ونفسي طوع أمره ونهيه …»، فقال المنصور: «إن عمي وعمك عبد الله قد فسدت بطانته، واعتمد على ما بعضه يبيح دمه، وفي قتله صلاح ملكنا، فخذه إليك واقتله سرًّا …» فأطاعه عيسى، فسلم إليه عمه فمضى به إلى الكوفة.
وأضمر المنصور أن ابن عمه عيسى إذا قتل عمه عبد الله ألزمه القصاص. وسلمه إلى أعمامه إخوة عبد الله ليقتلوه به، فيكون قد استراح من الاثنين معًا. أما عيسى فكأنه شك في نية المنصور، والناس يومئذ يتهمون بعضهم بعضًا خوفًا من وصية الإمام، فاستشار بعض ذوي مشورته فحذروه من عاقبة ذلك، فحبس عمه ولم يقتله. ولما طلبه المنصور منه دفعه إليه حيًّا، فقتله في بيت جعل أساسه على الملح.(9)
وأمثلة ما أتاه المنصور من الدهاء والفتك في تأسيس دولته كثيرة. وكان يعطي الأمان ثم ينكث، كما رأيت فعله بعمه عبد الله، وكما فعل بابن هبيرة عامل بني أمية على واسط، لما بويع السفاح وأرسل أخاه المنصور لمحاربته، فجرت السفراء بينهما واتفقا على أن يدخل ابن هبيرة في أمان بني العباس، فكتب له المنصور أمانًا ظل ابن هبيرة أربعين ليلة وهو يشاور فيه العلماء حتى تحقق صحته ورضي به. فبعثه إلى أبي جعفر، فأنفذه أبو جعفر إلى أبي العباس فأمره بإمضائه.
وكان رأي أبي جعفر في بادئ الأمر أن يفي بما أعطاه، ولكن أبا مسلم (وكان لا يزال حيًّا) أشار على السفاح أن يقتله قائلًا: «إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد. لا والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة …»، فبعد أن جاء ابن هبيرة إلى أبي جعفر مستأمنًا غدر به وقتله لأنه اتهمه(10).
ثم اتهم أبا مسلم وقتله بعد أن أمنه كما رأيت. وشاع نكث الأمان والغدر عن المنصور وتحدث به الناس. فلما قام محمد بن عبد الله العلوي في المدينة، خافه المنصور كما تقدم، فبعث إليه يعرض عليه الأمان ويعده خيرًا، فأجابه محمد: «أي أمان تعطيني؟ أمان ابن هبيرة، أم أمان عمك عبد الله، أم أمان أبي مسلم؟».(11)
وظل المنصور وأبو مسلم قدوة لمن جاء بعدهما في الدهاء والفتك. على أنهم لم يكونوا يبطشون أو يفتكون إلا بمن نازعهم على الخلافة، فهذا يقتلونه على الشك. أما أحكامهم فيما خلا ذلك ففي نهاية العدل والرفق، كما سيأتي أما من كان في نفسه مطمع في الخلافة أو ما يتعلق بها فحكمه حكم المجرمين، فكل من يطلب الخلافة لنفسه أو يسعى فيها لأحد كانت حياته في خطر، فإذا دعي للمثول بين يدي الخليفة اغتسل وتحنط استعدادًا للموت.
وكان المنصور أيضًا قدوة لعبد الرحمن بن معاوية، مؤسس دولة بني أمية في الأندلس، وقد فر من العراق فالشام إلى المغرب خوفًا من القتل، فنصره رجاله وخصوصًا مولى له اسمه بدر، سعي في تأييد سلطانه مثل سعي أبي مسلم في الدولة العباسية، فلما استتب له الأمر سلبه كل نعمة وسبحنه ثم أقصاه حتى مات، وفعل نحو ذلك في رؤساء الأحزاب الذين نصروه، وسيأتي الكلام على ذلك.
واشتهر فتك العباسيين بالذين ينصرونهم في تأييد دولتهم، حتى صار الخلفاء أنفسهم يشيرون إلى ذلك إذا أعوزهم الاستدلال به. فالأمين لما رأى طاهر بن الحسين يتفانى في نصرة أخيه المأمون، وقد تولى قيادة جند الخراسانيين وغلب على جند الأمين وكاد يذهب بدولته، كتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، اعلم أنه ما قام لنا منذ قمنا قائم بحقنا وكان جزاؤه إلا السيف، فانظر لنفسك أو دع …».(12)
وفي الواقع أن المأمون لما استتب له الأمر في الخلافة بسيف طاهر المذكور عمل على قتله بحجة مثل حجة المنصور بقتل أبي مسلم، فأهدى له خادمًا كان رباه وأمره أن يسمه ففعل.(13)

المصادر :
1- ابن الأثير ١٦٥ ج٥.
2- ابن الأثير ٢٢٧ ج٢.
3- ابن الأثير ٢٠٨ ج٥.
4- ابن الأثير ١٨٣ ج٥.
5- الفخري ١٣٤ والعقد الفريد ٢٧٩ ج٢.
6- العقد الفريد ٣٢ ج٣.
7- ابن خلكان ٢٠٥ ج٢.
8- المسعودي ١٦٧ ج٢.
9- المستطرف ٦٣ ج١ وابن الأثير ٢٥٧ ج٥.
10- ابن خلكان ٢٧٩ ج٢.
11- ابن الأثير ٢٥٤ ج٥.
12- المسعودي ٢١٣ ج٢.
13- ابن خلكان ٢٣٧ ج١.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.