
كان الامام الحسين سلام الله عليه حبيبا إلى جدّه وأبيه وأمّه ولمحبة أبيه له لم يدعه ولا أخاه الحسن يحاربان في البصرة ولا في صفين ولا في النهروان ، وقد حضرا الجميع ، وكانت إمامته عليهالسلام ثابتة بالنص الصريح من جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث قال فيه وفي أخيه : « الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا » (1)
فكان سكوته عن حقّه في زمن الحسن ، لأنّ الحسن إمام عليه وبعده للعهد الذي عاهد عليه معاوية الحسن عليهالسلام فوفى به ، أوغير ذلك ممّا يعلمه هو عليهالسلام.
ولمّا مات معاوية في نصف رجب سنة ستين وخلّف ولده يزيد ، كتب يزيد إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وكان على المدينة من قبل معاوية أن يأخذ له البيعة من الحسين عليهالسلام وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ففرّ العبدان وامتنع الحسين عليهالسلام ، وكان ذلك في أواخر رجب. ثمّ ما زال مروان بن الحكم يغري الوليد بالحسين عليهالسلام حتّى خرج الحسين من المدينة ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب ، وخرج معه بنوه وبنو أخيه الحسن عليهالسلام وإخوته وجلّ أهل بيته إلاّ محمّد بن الحنفيّة ، فتوجه إلى مكّة وهو يتلو ( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (2)
ولزم الطريق الأعظم فقال له أهل بيته : لو تنكّبت كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب ، فقال : « لا والله لا أفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاض ». ودخل مكّة لثلاث مضين من شعبان وهو يتلو ( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ ) (3).
ثمّ نزل الأبطح (الأبطح يضاف إلى مكّة وإلى منى .. وربما كان إلى منى أقرب) فجعل أهل مكّة ومن كان بها من المعتمرين يختلفون عليه وفيهم ابن الزبير.
قال أهل السير : ولمّا بلغ هلاك معاوية أهل الكوفة أرجفو بيزيد وعرفوا خبر الحسين عليهالسلام وامتناعه وخروجه إلى مكّة ، فاجتمعت الشيعة في دار سليمان بن صرد الخزاعي فذكروا ما كان وتوامروا على أن يكتبوا للحسين عليهالسلام بالقدوم إليهم وخطبت بذلك خطباؤهم ، فكتبوا إليه كتبا وسرحوها مع عبد الله بن مسمع ، وعبد الله بن وال وأمروهما بالنّجا ، فجدّا حتّى دخلا مكّة لعشر مضين من شهر رمضان ، ثمّ كتبوا إليه بعد يومين ، وسرّحوا الكتب مع قيس بن مسهر الصيداوي ، وعبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي ، ثمّ كتبوا إليه بعد يومين آخرين وسرحوا الكتب مع هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي حتّى بلغت الكتب اثني عشر ألفا ، وهي تنطوي على الاستبشار بهلاك معاوية والاستخفاف بيزيد ، وطلب قدومه والعهد له ببذل النفس والنفيس دونه. وكان من المكاتبين حبيب بن مظهّر ، ومسلم بن عوسجة ، وسليمان بن صرد ، ورفاعة بن شدّاد ، والمسيّب بن نجبة ، وشبث بن ربعي ، وحجار ابن أبجر ، ويزيد بن الحرث بن رويم ، وعزرة بن قيس ، وعمرو بن الحجاج ، ومحمد ابن عمير وأمثالهم من الوجوه (4).
وبلغ أهل البصرة ما عليه أهل الكوفة فاجتمعت الشيعة في دار مارية بنت منقذ العبدي ـ وكانت من الشيعة ـ فتذاكروا أمر الإمامة وما آل إليه الأمر فأجمع رأي بعض على الخروج فخرج وكتب بعض بطلب القدوم ، فلمّا رأى الحسين عليهالسلام ذلك دعا مسلم بن عقيل وأمره بالرحيل إلى الكوفة وأوصاه بما يجب ، وكتب معه إلى أهل الكوفة أمّا بعد : « فإنّ هانيا وسعيدا قدما عليّ بكتبكم وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم وقد فهمت ما اقتصصتم من مقالة جلّكم أنّه ليس علينا إمام فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحق والهدى. وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل ، فإن كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجا
والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم ، فإنّي أقدم إليكم وشيكا إن شاء الله فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحقّ الحابس نفسه على ذات الله والسلام » (5).
وسرح مع مسلم ، قيس بن مسهر ، وعبد الرحمن بن عبد الله وجملة من الرسل منهم عمارة بن عبد الله ، فرحل مسلم بن عقيل من مكّة ومرّ بالمدينة ثمّ خرج منها إلى العراق ، وأخذ معه دليلين من قيس فجارا عن الطريق حتّى عطشا ثم أومئا له على السنن وماتا عطشا ، فتطيّر مسلم وكتب بذلك إلى الحسين عليهالسلام من المضيق وسرّح بكتابه مع قيس بن مسهّر ، فأجابه الحسين عليهالسلام بالحثّ على المسير فسار حتّى دخل الكوفة ، فنزل على المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، فهرع إليه أهل الكوفة وبايعه ثمانية عشر ألفا ، فكتب بذلك إلى الحسين عليهالسلام مع قيس بن مسهر. وكتب الحسين عليهالسلام إلى رؤساء الأخماس في البصرة وإلى أشرافها مع سليمان مولاه فكتب إلى مالك بن مسمع البكري ، وإلى الأحنف بن قيس ، وإلى المنذر بن الجارود ، وإلى مسعود بن عمرو ، وإلى قيس بن الهيثم ، وإلى عمرو بن عبيد الله بن معمر بنسخة واحدة : « أمّا بعد فإنّ الله اصطفى محمّدا صلىاللهعليهوآلهوسلم على خلقه وأكرمه بنبوّته واختاره لرسالته ثمّ قبضه الله إليه ، وقد نصح لعباده وبلّغ ما أرسل به صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكنا أهله وأولياؤه وأوصياؤه وورثته وأحقّ الناس بمقامه في الناس فاستأثر علينا قومنا بذلك فأغضينا كراهية للفرقة ومحبة للعافية ، ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممن تولاّه ، وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ، فإنّ السنّة قد أميتت وإنّ البدعة قد أحييت ، فإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد والسلام » (6).
فأخبر بالكتاب المنذر وأتى بالرسول إلى ابن زياد ، وكان ابن زياد في البصرة والنعمان بن بشير الأنصاري في الكوفة عاملين عليها ليزيد فتعتع الشيعة عند ورود مسلم الكوفة بالنعمان فلم يحب الشدّة وتحرّج ، فكتب جماعة من العثمانيّة إلى يزيد فعزله وأعطى المصرين إلى عبيد الله بن زياد ، فلمّا قرأ الكتاب ونظر الرسول قتله ، وجعل أخاه عثمان على البصرة وتوعّدها ، وخرج إلى الكوفة ومعه شريك بن الأعور ، وكان قد جاء من خراسان معزولا عن عمله عليها ، ومسلم بن عمرو الباهلي وكان رسول يزيد إلى عبيد الله بولاية المصرين ، وحصين بن تميم التميمي وكان صاحبه الذي يعتمد عليه ، وجعل شريك يتمارض في الطريق ليحبسه عن الجدّ فيدخل الحسين الكوفة فما عاج عليه وتقدّم حتّى دخلها ونظم مسالحها على ضفة الطف من البصرة إلى القادسيّة. ولما جاء كتاب مسلم إلى الحسين عزم على الخروج ، فجمع أصحابه في الليلة الثامنة من ذي الحجّة فخطبهم فقال : « الحمد لله وما شاء الله ولا قوّة إلاّ بالله ، خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة ؛ على جيد الفتاة ؛ وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخيّر لي مصرع أنا لاقيه ، فكأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملأن منّي أكراشا جوفا وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضاء الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين ولن تشذّ عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لحمته وهي مجموعة في حظيرة القدس ، تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده ، فمن كان باذلا فينا مهجته موطّنا على لقاء الله نفسه فليرحل فإنّي راحل مصبحا إن شاء الله ». ثمّ أصبح فسار ، فمانعه ابن عبّاس وابن الزبير فلم يمتنع ، ومرّ بالتنعيم فمانعه ابن عمر ، وكان على ماء له فلم يمتنع ، ومرّ بوادي العقيق.
ثمّ سار منه فأرسل إليه عبد الله بن جعفر ابنيه وكتب إليه بالرجوع فلم يمتنع ، وسار مغذا لا يلوي على شيء حتّى نزل ذات عرق فتبعه منها رجال ، ثمّ نزل الحاجر من بطن الرمة فبعث قيسا إلى مسلم بكتاب يخبر به أهل الكوفة عن قدومه ، ثمّ سار فمرّ بالثعلبيّة فزرود فبلغه خبر مسلم وهاني وقيس ، ثمّ سار فمرّ بزبالة فأخبر بعبد الله بن يقطر ، فخطب أصحابه وأعلمهم بما كان من أمر مسلم وهاني وقيس وعبد الله وأذن لهم بالانصراف فتفرّق الناس عنه يمينا وشمالا إلاّ من كان من أهل بيته وصفوته. ثمّ سار فمرّ ببطن العقبة فنزل شراف وبات بها ، فلمّا أصبح سار فطلعت خيل عليهم فلجأ إلى ذي حسم فإذا هو الحر بن يزيد في ألف فارس يمانعه عن المسير بأمره ، وقد بعثه الحصين بن تميم التميمي وكان على مسلحة الطف التي نظمها ابن زياد من البصرة إلى القادسية ، فصلّى بهم الحسين الظهر ، ثمّ خطبهم فقال : « أيّها الناس إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم أن اقدم إلينا فإنّه ليس علينا إمام لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ ، فإن كنتم على ذلك فأعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم » (7) فسكتوا عنه.
ثمّ صلّى بهم العصر فخطبهم فقال : « أيّها الناس إنّكم إن تتقوا الله وتعرفوا أنّ الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمّد أولى الناس بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فإن أبيتم إلاّ كراهية لنا وجهلا بحقّنا ، وكان رأيكم غير ما أتتني به كتبكم وقدمت عليّ به رسلكم انصرفت عنكم ». فقال له الحر : والله ما أدري ما هذه الكتب التي تذكر ، فقال الحسين لعقبة بن سمعان غلام لزوجته الرباب ابنة امرئ القيس : قم فأخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم. فأتى بهما فنثرت بين يديه ، فقال الحر : إنّا لسنا منهم ، وقد أمرنا بملازمتك وإقدامك الكوفة على عبيد الله بن زياد ، فأبى الحسين وترادّا القول في ذلك ، ثمّ رضيا بكتابة الحر إلى ابن زياد في الاستيذان بالرجوع إلى مكّة ، فأجابه بالتضييق على الحسين والقدوم به عليه ، فأبى عليه الحسين عليهالسلام فجعل يسير والحرّ يمانعه ، ثمّ عزم على السير في طريق لا يرجع به إلى مكّة ولا يذهب به إلى الكوفة فتياسر والحر يلازمه (8).
فنزل وخطب أصحابه فقال : « أما بعد فإنّه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، ألا وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكرت وأدبر معروفها واستمرت حذاء ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه؟! فليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّا فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما ». فقام أصحابه وأجابوه بما اقتضى خالص الدين وأوجب محض الإيمان ، فركب وتياسر عن طريق العذيب والقادسيّة ، فمرّ بقصر بني مقاتل ثمّ سار ، فأتى إلى الحر أمر من عبيد الله بالتضييق عليه ، فنزل كربلا يوم الخميس ثاني محرّم الحرام من سنة إحدى وستين وضرب أخبيته هناك ، فأتاه عمر بن سعد بالسيل الجارف من الرجال والخيل حتّى نادى منادي ابن زياد في الكوفة ألا برئت الذمة ممن وجد في الكوفة لم يخرج لحرب الحسين عليهالسلام ، فرئي رجل غريب فأحضر عند ابن زياد فسأله فقال : إنّي رجل من أهل الشام جئت لدين لي في ذمّة رجل من أهل العراق. فقال ابن زياد : اقتلوه ففي قتله تأديب لمن لم يخرج بعد فقتل.
وكان عمر بن سعد أراد الموادعة فسأل الحسين عليهالسلام عما أتى به فأخبره ، وخيّره بين الرجوع إلى مكّة واللحوق ببعض الشعوب النائية والجبال القاصية ، فكتب بذلك إلى ابن زياد فأجابه بالتهديد والإيعاد وباعتزال العمل وتوليته لشمر بن ذي الجوشن إن لم ينازل الحسين عليهالسلام أو يستنزله على حكمه ، فوصل الكتاب إلى عمر بن سعد في اليوم السادس من المحرّم ، وقد تكامل عنده من الرجال عشرون ألفا ، فقطع المراسلات بينه وبين الحسين وضيّق عليه ومنع عليه ورود الماء وطلب منه إحدى الحالتين النزول أو المنازلة ، فجعل يتسلل إلى الحسين من أصحاب عمر بن سعد في ظلام الليل الواحد والاثنان حتّى بلغوا في اليوم العاشر زهاء ثلاثين ممّن هداهم الله إلى السعادة ووفقهم للشهادة.
ثمّ إنّ الحسين عليهالسلام عطش في اليوم الثامن فأرسل أخاه العبّاس في عشرين فارسا ومثلهم راجلا فأزالوا الحرس عن المراصد وشربوا وملئوا قربهم ورجعوا ، ثمّ أتى أمر من عبيد الله إلى عمر بن سعد يستحثّه على المنازلة ، فركبوا خيولهم وأحاطوا بالحسين عليهالسلام وأهل بيته وأصحابه فأرسل الحسين عليهالسلام أخاه العبّاس ومعه جملة من أصحابه وقال : سلهم التأجيل إلى غد إن استطعت ، وكان ذلك اليوم تاسع محرّم فأجّلوه بعد مؤامرة بينهم وملاومة ، فلمّا دجا الليل بات أولئك الأنجاب بين قائم وقاعد وراكع وساجد ، وإنّ الحرس لتسمع منهم في التلاوة دويّا كدوي النحل ، ثمّ جاءهم سيّدهم الحسين عليهالسلام فخطبهم وقال : « أثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء ، اللهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة ، فاجعلنا من الشاكرين ».
أما بعد : « فإنّي لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عنّي خيرا ، ألا وإنّي لأظنّ أن لنا يوما من هؤلاء ، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملا ودعوني وهؤلاء القوم فإنّهم ليس يريدون غيري » (9).
فأبى عليه أهل بيته وأصحابه وأجابوه بما شكرهم عليه ، فخرج عنهم وتركهم على ما هم عليه من العبادة ينظر في شئونه ويوصي بمهماته.
فلمّا أصبح الحسين عليهالسلام عبّأ أصحابه وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا ، فجعل الميمنة لزهير والميسرة لحبيب ، وأعطى أخاه العبّاس الراية وجعل البيوت خلف ظهورهم وعمل خندقا وراءها فأحرق فيه قصبا وحطبا لئلاّ يؤتى من خلف البيوت.
وأصبح عمر بن سعد فعبّأ أصحابه ، وقد بلغوا إلى ذلك اليوم ثلاثين ألفا ، فجعل الميمنة لعمرو بن الحجّاج ، والميسرة لشمر بن ذي الجوشن ، وعلى الخيل عزرة بن قيس ، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي ، وأعطى مولاه دريدا الراية (10).
فلمّا نظرهم الحسين رفع يديه داعيا وقال : « اللهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ، وأنت رجائي في كلّ شدّة وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة ، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد ، وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدوّ ، أنزلته بك وشكوته إليك رغبة منّي إليك عمّن سواك ؛ ففرّجته عنّي وكشفته ؛ فأنت وليّ كلّ نعمة ، وصاحب كلّ حسنة ، ومنتهى كلّ رغبة » (11).
ثمّ دعا براحلته فركبها ونادى بأعلى صوته : « يا أهل العراق ـ وجلّهم يسمع ـ اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما يحق لكم عليّ ، وحتّى أعتذر إليكم في مقدمي هذا وأعذر فيكم ، فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد ، وإن لم تقبلوا منّي العذر ولم تعطوني النصف من أنفسكم فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ثمّ اقضوا إليّ ولا تنظرون ، إنّ وليي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين » (12). فأنصتوا بعض الإنصات.
فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله من المحامد وصلّى على نبيّه محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وعلى ملائكته وأنبيائه بأحسن ما يجب ، فلم ير متكلّم قط أبلغ منه لا قبله ولا بعده ، ثمّ قال : « أمّا بعد ، فانسبوني من أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم ، وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله بما جاء به من عند ربّه؟! أوليس حمزة سيّد الشهداء عمّي؟! أوليس جعفر الطيّار في الجنّة بجناحين عمّي؟! أوليس بلغكم ما قال رسول الله لي ولأخي هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟! فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحق فو الله ما تعمّدت الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ؛ وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلكم أخبركم ، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، وأبا سعيد الخدري ، وسهل بن سهل الساعدي ، وزيد بن أرقم ، ومالك بن أنس ، يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله. أما في هذا حاجز لكم عن دمي؟! فقطع عليه شمر كلامه وأجابه حبيب بن مظهر بما يأتي في ترجمته. فعاد الحسين إلى خطبته وقال : « فإن كنتم في شكّ من هذا أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟! فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم ، ويحكم أتطلبوني بقتيل فيكم قتلته أو مال لكم استهلكته ، أو بقصاص جراحة »؟! فأخذوا لا يكلّمونه ، فنادى : يا شبث بن ربعي ويا حجّار بن أبجر ويا قيس بن الأشعث ويا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب ، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة؟! فقال له قيس بن الأشعث : نحن لا ندري ما تقول ، ولكن انزل على حكم بني عمّك فإنّهم لا يرونك إلاّ ما تحب.
فقال له الحسين : « أنت أخو أخيك ، أتريد أن تطالب بأكثر من دم مسلم »؟! ثمّ قال : « لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرّ فرار العبيد ، يا عباد الله ، إنّي عذت بربي وربّكم أن ترجمون ، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب ».
ثم أناخ راحلته فعقلها عقبة بن سمعان وزحف القوم إليه وجالت خيولهم ، فدعا بفرس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المرتجز وعمامته ودرعه وسيفه ، فركب الفرس ولبس الآثار ووقف قبالة القوم ، فاستنصتهم فأبوا عليه ، ثمّ تلاوموا فنصتوا ، فخطبهم : حمد الله وأثنى عليه ، واستنشدهم عن نفسه الكريمة وما قال فيها جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعن فرس رسول الله ودرعه وعمامته وسيفه ، فأجابوه بالتصديق ، فسألهم لم يقتلونه؟
فأجابوه لطاعة أميرهم. فخطبهم ثانيا وقال : « تبّا لكم أيّتها الجماعة وترحا ، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفا لنا في أيمانكم ، وحششتم علينا نارا اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم؟ فأصبحتم إلبا لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، فهلاّ لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم والجأش طامن والرأي لما يستحصف ، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدباء وتداعيتم إليها كتهافت الفراش ، فسحقا لكم يا عبيد الأمة ، وشذّاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ومحرّفي الكلم ، وعصبة الإثم ونفثة الشيطان ، ومطفئ السنن ، ويحكم أهؤلاء تعضدون ، وعنّا تتخاذلون؟! أجل والله ، غدر فيكم قديم وشجت عليه أصولكم ، وتآزرت عليه فروعكم ، فكنتم أخبث ثمر ، شجى للناظر وأكلة للغاصب ، ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طابت وطهرت ، وأنوف حميّة ، ونفوس أبيّة ، من أن نؤثر طاعة اللئام ، على مصارع الكرام ، ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر! ثمّ أنشد أبيات فروة بن مسيك المرادي :
فإن نهزم فهزّامون قدما / وإن نهزم فغير مهزّمينا
وما إن طبّنا جبن ولكن / منايانا ودولة آخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا / سيلقى الشامتون كما لقينا
ثمّ قال : « أما والله لا تلبثون بعدها إلاّ كريث ما يركب الفرس حتّى تدور بكم دور الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور ، عهد عهده إليّ أبي عن جدّي صلىاللهعليهوآلهوسلم ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ) (13) ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ ) في الأرض ( إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (14) ، اللهمّ احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسنّي يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبّرة فإنّهم كذّبونا وخذلونا وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك المصير » (15).
ثمّ خرج إليه الحرّ بن يزيد ، وأمر عمر بن سعد الناس بالحرب ، فتقدّم سالم ويسار فوقعت مبارزات ، ثمّ صاح الشمر بالناس وعمرو بن الحجّاج بأنّ هؤلاء قوم مستميتون فلا يبارزنهم أحد ، فأحاطوا بهم من كلّ جانب وتعطّفوا عليهم ، وحمل الشمر على الميسرة ، وعمرو على الميمنة ، فثبتوا لهم وجثّوا على الركب حتّى ردوهم ، وبانت القلّة في أصحاب الحسين عليهالسلام بهذه الحملة التي تسمّى الحملة الأولى ، فإنّ الخيل لم يبق منها إلاّ القليل ، وذهبت من الرجال ما يناهز الخمسين رجلا.
ثمّ صلّى الحسين عليهالسلام الظهر أوّل وقتها صلاة الخوف ووقعت مقاتلات قبلها وفي أثنائها ممّن وقف لمحاماته واقتتلوا بعد الظهر ، فلم يبق مع الحسين أحد من أصحابه ، فتقدّم أهل بيته حتّى لم يبق منهم أحد ، فتقدّم إلى الحرب بنفسه فوقف بينهم وضرب بيده على كريمته الشريفة وكانت مخضوبة كأنّها سواد السبج ، قد نصل منها الخضاب ، وقال : « اشتدّ غضب الله على اليهود إذ قالوا عزيز ابن الله ، واشتدّ غضبه على النصارى إذ قالوا المسيح ابن الله ، واشتدّ غضبه على قوم أرادوا ليقتلوا ابن بنت نبيّهم » (16).
ثمّ نادى : « هل من ذاب يذبّ عن حرم رسول الله ، هل من موحّد يخاف الله فينا ، هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا ، هل من معين يرجو ما عند الله بإعانتنا »؟! فارتفعت أصوات النساء بالعويل ، فمضى إلى مخيّمه ليسكت النساء وأخذ طفلا له من يد أخته زينب فرماه حرملة أو عقبة بسهم فوقع في نحره كما سيأتي ذكره في ترجمته ، فتلقى الدم بكفّيه ورمى به نحو السماء ، وقال : « هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله ».
ثمّ جرّد سيفه فيهم فجعل ينقف الهام ويوطئ الأجسام ، ورماه رجل من بني دارم بسهم فأثبته في حنكه الشريف ، فانتزعه وبسط يديه (17) تحت حنكه فلمّا امتلأتا دما رمى به نحو السماء وقال : « اللهمّ إنّي أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيّك » (18).
ثمّ عاد إلى مخيّمه فطلب ثوبا يلبسه تحت ثيابه فأتي بتبان ، فقال : « لا ، هذا لباس من ضربت عليه الذلّة » ، فجيء له ببرد يماني يلمع فيه البصر ففزره ولبسه تحت ثيابه ، ثمّ شدّ عليهم شدّة ليث مغضب وجراحاته تشخب دما فتطايروا من بين يديه ، وحال من تيامن أو تياسر بينه وبين حرمه. فصاح : « ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون » فناداه شمر : ما تقول يا ابن فاطمة؟ قال : « أقول : إنّي أقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهنّ جناح ، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم من التعرّض لحرمي ما دمت حيّا » ، فقال له شمر : لك ذلك يا ابن فاطمة ، فجعل يحمل ويحملون وهو مع ذلك يطلب شربة ماء ، فلم يجد حتّى أثخنته جراحاته ، فوقف ليستريح فرمي بحجر فوقع في جبهته فسالت الدماء على وجهه فرفع ثوبه ليمسح الدم عن وجهه ، فرمي بسهم فوقع في قلبه ، فأخرجه من وراء ظهره فانبعث الدم كالميزاب ، فوقف بمكانه لا يستطيع أن يحمل ، فصاح شمر بن ذي الجوشن ( لعنه الله ) ما تنتظرون بالرجل؟ فطعنه صالح بن وهب المزني على خاصرته ، فوقع من ظهر فرسه إلى الأرض على خدّه الأيمن وهو يقول : « بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله » ، ثمّ قام فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى ، وضربه آخر على عاتقه فخرّ على وجهه وجعل ينوء برقبته ويكبو ، فطعنه سنان في ترقوته ، ثمّ انتزع السنان فطعنه في بواني صدره ، ورماه سنان أيضا بسهم فوقع في نحره ، فجلس قاعدا ونزع السهم وقرن كفيه جميعا حتّى امتلأتا من دمائه فخضّب بهما رأسه ولحيته وهو يقول : « هكذا ألقى الله مخضبا بدمي مغصوبا عليّ حقّي ».
وجاء مالك بن النسر الكندي فشتم الحسين وقبض على كريمته وضربه بسيفه على رأسه ، وبدر خولي بن يزيد الأصبحي ليحزّ رأسه فأرعد ، فجاء سنان فضربه على ثغره الشريف ، وجاء شمر فاحتزّ رأسه ، ثمّ سلبوا جسده الكريم ، وحزّت رءوس أصحابه ، ووطئت أجسادهم بعوادي الخيول ؛ وانتهبت الخيام ، وأسر من فيها ، وذهبوا بالرؤوس والسبايا إلى الكوفة ، ومنها إلى الشام ، ومنها إلى المدينة وطن جدّهم عليه وعليهم السلام.
فاجعة إن أردت أكتبها / مجملة ذكرة لمدّكر
جرت دموعي فحال حائلها / ما بين لحظ الجفون والزبر
وقال قلبي بقيا عليّ فلا / والله ما قد طبعت من حجر
بكت لها الأرض والسماء وما / بينهما في مدامع حمر
واهتزّ عرش الجليل واضطربت / فرائص الكاتبين للقدر
فيما وقع في هذا المقدّمة من الألفاظ وشرحه على الترتيب :
( عبد الله بن مسمع ) : بوزن منبر الهمداني السبيعي له ذكر في التوابين.
( عبد الله بن وال ) : التيمي من تيم بن بكر بن وائل ، له شرف قتل بعين الوردة في التوابين مع سليمان بن صرد.
( هاني السبيعي ) : بضم السين مصغر سبع بطن من همدان ، وله ذكر في التوابين.
( سليمان بن صرد ) : بضم السين وفتح الراء الخزاعي من مشايخ الشيعة التوابين قتل بعين الوردة.
( رفاعة بن شدّاد ) : بضم راء رفاعة وتشديد دال شدّاد البجلي من الشيعة التوابين ، خرج في حرب مع اليمانين بالكوفة فسمعهم يقولون : يا لثارات عثمان ، فعطف عليهم يضرب بسيفه فيهم ويغوص في أوساطهم إلى أن قتل ، وله ذكر مع مالك بن الأشتر في تجهيز أبي ذر بالربذة.
المصادر :
1- الإرشاد : ٢ / ٣٠.
2- سورة القصص : ٢١.
3- سورة القصص : ٢٢.
4- الإرشاد : ٢ / ٣٦ ـ ٣٧.
5- المفيد في الإرشاد : ٢ / ٣٩ ، وابن الأثير في الكامل : ٣ / ٣٨٦.
6- الكامل : ٣ / ٣٨٨ ، الإرشاد : ٢ / ٤٠.
7- الإرشاد : ٢ / ٧٩. وفيه زيادة : ولم يتكلم أحد منهم بكلمة.
8- الإرشاد : ٢ / ٨٠ ـ ٨١.
9- الإرشاد : ٢ / ٩١.
10- الإرشاد : ٢ / ٩٥.
11- الإرشاد : ٢ / ٩٦.
12- الإرشاد : ٢ / ٩٧.
13- سورة يونس : ٧١.
14- سورة هود : ٥٥.
15- اللهوف : ١٥٧.
16- اللهوف : ١٥٨.
17- في الإرشاد : يده.
18- الإرشاد : ٢ / ١٠٩.