الأسرة الخاصة و الاسرة العامة

تتكون الاسرة من الوالدين ، والاقربين حسبما جاء في الآية الكريمة من قوله تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ )
Thursday, August 3, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الأسرة الخاصة و الاسرة العامة
 الأسرة الخاصة و الاسرة العامة



 

تتكون الاسرة من الوالدين ، والاقربين حسبما جاء في الآية الكريمة من قوله تعالى :
( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ) (١).
الوالدان :
الابوة : لفظة بنفسها تعطي ما تحمله هذه الكلمة بين طياتها من الحنان ، والعطف نحو زهرة الحياة ، وبراعم العمر.
والامومة : أنها الشمعة الزاهية باضوائها الحلوة تذيب نفسها لتنير الطريق إلى الآخرين.
ولا يمكن لاي وليدٍ أن يؤدي بعض الحق المفروض عليه تجاه أبويه ، فلطالما سهر الليالي لينعم الوليد بلذة النوم ، ولكم ضمه صدر أم حنون ليشعر بدفء لذيذ حتى قال الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)يخاطب ولده الامام الحسن (عليه السلام).
« وجدتك بعضي بل وجدتك كلي ، حتى لو أن شيئاً أصابك أصابني » (2).
هذا الانصهار في الكيان بين الوليد ، ووالده ، وهذه الوحدة في الذات هما اللذان أوجبا أن يصور لنا الامام (عليه السلام)هذا الانشداد ليبين أن ما يصيب الولد يصيب الوالد لانهما شيء واحد بفارق يميز أحدهما أنه فرع ، والآخر أنه الأصل ، والنبتة التي كانت منشأ ، لذلك الفرع الجميل.
وإنما أولادنا في الورى / أكبادنا تمشي على الارض
وإذا ما أردنا أن نتبع هذه العواطف الجياشة الكامنة في قلب الاب تجاه وليده لوجدنا مشهداً من هذه المشاهد حيث تنعكس على صفحاته آيات الحب ، والعطف الابوي بين وليد يتمتع بنظارة الشباب ، وشيخ أحنت عليه السنون.
ففي خضم من القلق ، والاضطراب يتجه الشيخ الكبير يحمل فوق كتفيه متاعب القرون الماضية ليستعطف ربه بلهجة كلها الرقة ، والكلمات تتكسر بين شفتيه :
( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ ).
إنه نوح ( نبي الله ) أبو البشر الثاني كما تعتبر عنه كتب التأريخ والعبد الصالح المجاهد في سبيل الله. دعى قومه إلى عبادة الله والتوحيد به ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعاؤه إلا فراراً.
وكان يضربه قومه حتى يغشى عليه فلما يفيق يتجه إلى ربه وبفمٍ تتصاعد منه الحسرات يناجي ربه قائلاً :
« اللهم إهدِ قومي فانهم لا يعلمون ».
وتشاء القدرة الإِلهية أن ينزل العذاب على هؤلاء المعاندين ويكتب لهم الغرق.
( وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ).
وانتهى كل شيء وأصبحت السفينة ، وهي سفينة الامان ، جاهزة ووقت اليوم المعلوم لينفذ العذاب في هؤلاء.
( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ).
وكانت هذه العلامة ساعة الصفر. ولندع المفسرين ، وخلافاتهم في هذا التنور أين كان ، وفي أي بقعة من الأرض كان قابعا. المهم أنه كان مصدر نبع الماء ، وإندفعت المياه من السماء ضباباً بلا قطرات ، وتفجرت الأرض عيوناً منهمرة ، وفاضت البحار ، وطفحت الانهار ، وكان نوح قد أمر أن يحمل في سفينته :
( مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ).
من كل جنس من الحيوان زوجين أي ذكراً ، وأنثى.
( وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ).
أي من سبق الوعد بإهلاكه ، والمقصود بذلك أمرئته الخائنة وأضيف إلى أسرة السفينة من الراكبين فيها.
( وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ).
واقصر ما قيل في عدد من آمن به ثمانين نفر.
وتكامل العدد ، وسارت السفينة وسط دنياً من المياه المنهمرة من كل حدب ، وصوب.
( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالجِبَالِ ).
والرياح العاتية تهبط بالسفينة ، وترفعها ، وكسفت الشمس.
تمر تلك اللحظات ، ويتفقد ربان السفينة ، نبي الله نوح فلم يجد إبنه كنعان من ضمن الراكبين ، وحانت منه التفاتة وإذا بالولد يهرب صوب الجبال التي بعد لم يصل إليها الماء والهلع يأخذ منه مأخذه.
( وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ).
يا بني : إنه نداء الابوة الحنون ينبثق من القلب العطوف يرتل هذا النغم الهاديء ليصل إلى مسامع الولد المذهول من هذا المنظر المخيف يطلب إليه أن يلحتق بسفينته لينجو من عذاب الله المحتم.
ولكن الولد المذعور يهرب من هذا النداء الابوي ليطلقها صيحة مدوية تضيع بين زمجرة الامواج العالية.
( قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ ).
فهو يحاول عبثاً أن يأوي إلى جبلٍ يعصمه من الماء ، ويبعد عنه شبح الموت الذي يتراءى له من بين هذه المياه المتدفقة من جميع الجهات.
وعلى العكس فلم ييأس الشيخ الوقور ، وأعاد الكرة ، وظن أنه سيفلح في إقناع ولده ، فعاد إليه ، والحسرة تأكل قلبه متوسلاً وهو يقول :
( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ).
وضاعت التوسلات وسط الامواج ، وبعد الشبح ، وذهب الولد هارباً ، وأسدل الستار على الحوار العاطفي.
( وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ فَكَانَ مِنَ المُغْرَقِينَ ).
وابتلعت المياه كل شيء ، ولم يبق من مخلوقات الله إلا : ( مَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ).
وهم ركاب السفينة.
وصدرت الأوامر الإِلهية :
( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ).
وتنفس الشيخ الهرم الصعداء ، فلقد أخذت المياه كل أولئك الذين كفروا برسالته ، واذاقوه ألوان العذاب.
ولم تشغل هذه المناظر المرعبة ، والنتائج التي حصل عليها في التغلب على الاعداء من التفكير في ولده بعد أن ضاعت توسلاته بابنه المغرور لذلك اتجه إلى ربه يذكره بوعده بأن أهله من ضمن الناجين من العذاب إلا إمرأته التي خانته في الإِيمان به ، وولده من أهله.
( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ ).
أنه بهذا التضرع يعترف من طرف خفي بحقيقة العاطفة الطاغية على مركز النبوة ، والعصمة.
وماتت البسمة ، وانطفأ الأمل ، ومات شبح الابن حينما جاءه النداء :
( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ).
لقد أرخى الشيخ الكبير لعاطفته العنان فتجاوز الحد المرسوم ، وطالب بما ليس له أن يطالب فيه ، وها هو يتلقى التهديد بالترك عما يطلب ، وإذا به يعود إلى لطفه وعطفه فيتضرع من أجل هذا الالحاح قائلاً :
( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) (3).
بماذا تجازى هذه العواطف الجياشة من الآباء.
وما هو الاسلوب الذي يلزمنا تجاه هذا البركان المتفجر من العطف أنه القرآن الكريم حدد لنا ، وتكفل ببيان هذه الكيفية التي لا بد من تطبيقها نحو هذين الملاكين في المجالين التربوي ، والمالي.
( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) (4).
درس بليغ في الادب نستوضحه من خلال هذه الآية الكريمة حيث تدرج الشارع المقدس ببيان المراحل السلوكية مع الابوين على النحو التالي :
الاولى : بيان مكانة الابوين ، وقيمتهما المعنوية
ويبدو هذا واضحاً في اعتبار الاحسان اليهما بالدرجة التالية مباشرة لعبادة الله ، وبذلك نعرف مدى الواجب على الابناء في تقدير الابوين ، وقد جاء مثل هذا الايصاء في آيات أخرى فقد قال تعالى :
( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) (5).
( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ ) (6).
لقد أتى رجل إلى رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال : ( يا رسول الله : أوصني فقال : لا تشرك بالله شيئاً ، وإن حرقت بالنار ، وعذبت إلا وقلبك مطمئن بالايمان. ووالديك ، فأطعمهما ، وبرهما حيين كانا ، أو ميتين ، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ، ومالك فافعل ، فان ذلك من الايمان » (7).
إن هذه الوصية من النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) تعطينا مدى اهتمام المشرع بالوالدين ، فقد قرن الايصاء بالاحسان إليهما بعبادة الله وعدم الشرك به ، وجعل ذلك من الايمان ، ثم أنه لم يكتف بالايصاء بالبر بهما في حياتهما بل أمر بذلك بعد موتهما. ولما يتسائل عن كيفية البر بالوالدين بعد الموت ذلك لأن الاحسان إنما يكون لمن هو حي يتقبل ما يجود به الانسان عليه ، أما إذا مات الانسان فقد انقطعت عنه الحياة ومات فيه الشعور فكيف يكون الاحسان إليه ؟
لقد أوضح الامام أبو عبد الله الصادق ( عليه السلام ) هذه الجهة عندما قال :
« من يمنع الرجل منكم أن يبر بوالديه حيين ، وميتين يصلي عنهما ، ويتصد عنهما ، ويحج عنهما ، ويصوم عنهما ، فيكون الذي صنع
لهما ، وله مثل ذلك ، فيزيده الله عز وجل ببره وصلته خيراً كثيراً » (8).
وصحيح أن الانسان إذا مات انقطع شعوره ، وتوقفت الحركة الحياتية عنده إلا أن الله سبحانه لا يصفي حسابه معه رحمة منه ، ومنّة عليه ، فلعل من يقدم إليه خيراً من ولدٍ بارٍ به ، أو صديق يشفق عليه ، فيكتب ذلك له ليخفف به عن سيئاته ، أو ليزيد في حسناته.
الثانية : كيفية المعاشرة مع الابوين.
( فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ).
أنه غاية في الحشمة ، والادب أن يقف الابن حيال أبويه فلا يفتح شفتيه بأدنى ما يعبر عن الضجر ، والسأم ، ولو بحرفين من الكلام فلا يجوز للابن أن ينهر أبويه ، ففي ذلك سخط الرب لانه تجاوز ، وتعدٍ على حقوقهما.
يقول الامام الكاظم ( عليه السلام )
« لو علم الله شيئاً هو أدنى من أفٍ لنهى عنه وهو من أدنى العقوق » (9).
وإذاً فلا بد من تجنب كل ما يزعجهما ، ولو بأدنى كلام وإبدال ذلك بمخاطبتهما بلطف ، وإحترام ، وبرفق وخضوع.
( وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ).
ليبادل الولد أباه العطف ، فيجد الاب ثمرة عطفه وحنانه فيقطف من هذه الثمرة ، وهو على قيد الحياة وليجني ما زرعته ابوته فيحصد حباً كان قد غرس بذوره قبلاً حيث كان يطبع على جبين الصبي القبل في الليالي الحالكة.
الثالثة : الطاعة
وفي مقام الاطاعة والانتقال من حيز القول والعمل الخارجي لا بد أن يكون كما تريده الآية.
( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ).
وليتصور الانسان ما بين هذين المعنيين ، وكيفية الجمع بين جناحي الذل ، والرحمة من عطاء شامخ ، ومرمى بعيد يتجسد في مثول البنوة المؤدبة أمام الابوة الرحيمة إنه تعبير على إيجازه مفصل الأسلوب دقيق المضمون.
الرابعة : حفظهما بالغيب
وفي غيابهما لابد أن يحفظ لهما غيبتهما فيتضرع إلى الله بقلب ملؤه العطف ، والانكسار فيدعو لهما.
( وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ).
فيبادلهما حبهما وعطفهنما بالدعاء لهما ، وطلب الرحمة من الله فقد ربياه صغيراً يوم كان طفلاً لا يقدر على شيء ، وحيث شب ونمى لا بد أن يقوم بعمل يجازيهما به ، وهو الدعاء بطلب الخير لهما.
وفي مقام الانفاق ، والاحسان لا بد أن يقدمهما على كل أحد جزاء رعايتهما له لذلك كانت الآية في بيان مراحل الانفاق وجعل الوالدين في مقدمة من ينفق عليهم من أسرته الخاصة.
ومن جهة أخرى نرى الشارع المقدس يحذر الفرد من مغبة عقوق الوالدين ، والاعراض عنهما حتى جاء في بعض الأخبار عن الله سبحانه في الحديث القدسي أنه قال :
« بعزتي وجلالي ، وارتفاع مكاني لو أن العاق لولديه يعمل بأعمال الأنبياء جميعاً لم أقبلها منه » (10).
بعزتي ، وجلالي ، وإرتفاع مكاني. إنه قسم مغلظ يخبر الحديث عنه ـ جلّت قدرته ـ عن أنه سيرفض أعمال من يعق والديه حتى لو كانت تلك الاعمال موازية لاعمال جميع الأنبياء ، أو الاعمال التي يعملها الانبياء.
على أن للبر بالوالدين ، أو عقوقهما الاثار الوضعية في هذه الدنيا قبل الاخرى ، وقد وردت بذلك الاخبار العديدة حيث أوضحت لنا أن من يبر بوالديه يتفضل الله عليه ليمنحه من لطفه ، وعطفه كاحسان معجل ، وله أضعاف ذلك في الحياة الأخرى ، كما أن لمن بعق والديه من المشاق ، والعذاب ما هو معجل له أيضاً في حياته قبل مماته.
وإذا ما تعدينا هذه الحلقة وهي التي تحيط بالانسان وتلتصق به في تكوينه الأولى ، فإن أقرب حلقة تأتي بعد الأبوين يرتبط بها الفرد هي ما ذكرته الآية في قوله تعالى : ( وَالأَقْرَبِينَ ) فمن هم : الاقربون ؟ :
إنهم رحم المنفق ، ولحمته ، وقد جاءت الآيات الكريمة مكررة في الكتاب الكريم لتنوه بالاقرباء ، وانهم عصب الانسان وبهم يشد أزره فلا بد من أن ينالوا من عطفه ، وإحسانه.
فعن الرسول الاعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) بعدما سئل :
« أي الناس أفضل ؟ فقال : أتقاهم لله ، وأوصلهم للرحم وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر » (11).
صلة الرحم تجعل المنفق من أفضل الناس ، وفي عداد المتقين ولم يأت في الحديث الشريف تحديد لمقدار. وكيفية صلة الرحم بل ذلك يترك للشخص نفسه كما هي عادة الكتاب الكريم يترك هذه الجهة تابعة لما يصدق عليه في النظر العرفي أنه من مصاديق الصلة.
وعن الامام الباقر عليه السلام :
« إن صلة الرحم ، وحسن الجوار يعمران الديار ، ويزيدان في الأعمار ».
أما أنها تزيد في العمر فقد جاء هذا في أكثر من حديث وخبر فعن علي بن الحسين عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال : « من سره أن يمد الله في عمره وأن يبسط له في رزقه فليصل رحمه » (12).
وليس في هذا أي تأمل فالاعمار بيد الله ، ومن جاء بهذه الحسنة فله عند الله أن يزيد عمره ، والله يضاعف لمن يشاء.
ولكن للانسان أن يقف عند الفقرة الاولى من الحديث المتقدم فيتأمل كيف أن صلة الرحم تعمر الديار.
وبطبيعة الحال أن المفهوم لهذه الجملة هو أن القطيعة مما تساعد في تهديم الديار.
شيء ملفت في النظرات الاولى أن يكون الاتفاق على الهوامش مما يحقق للانسان هذا المعنى.
ولكن هذه الغرابة سوف تتبدد لو علمنا أن الخبر يرمز إلى معنى كنائي سامي ، فبقاء الدور على ما هي عليه ببقاء أصحابها ، وبقاء أصحابها منوط بما يحافظ عليهم من التعدي والتجاوزات من الآخرين.
ومن أقرب من الرحم يحافظ على الانسان ، ويحفظ له حقوقه وهم لحمته المقربة فبهم يرتفع الرأس عالياً ، ويقف الانسان مزهواً يحيطون به كما يحيط الاكليل بالرأس يذبون عنه ويفدونه بنفوسهم ، وأموالهم.
وعلى العكس لو قطعهم ، وحصلت الجفوة بين الطرفين ، فانه سيقف بمفرده في معترك هذه الحياة ان لم يكونوا يعينوا عليه أعدائه ( فأهل الدار أدرى بمن فيها ) وهم أقدر من غيرهم على تسليمه إلى الغير عند الوثبة ، فعمران الديار بصفاء ساكنيها وتخريبها به ينشأ من تعكر الود بين هؤلاء الاحبة.
ويأتي هذا المعنى موضحاً على لسان الامام جعفر الصادق (عليه السلام)حيث يقول : « قال أمير المؤمنين (عليه السلام)لن يرغب المرء عن عشيرته ، وإن كان ذا مال ، وولد ، وعن مودتهم ، وكرامتهم ، ودفاعهم بأيديهم ، وألسنتهم. هم أشد الناس حيطة من ورائه ، وأعطفهم عليه ، وألّمّهم لشعثه ، ان أصابته مصيبة ، أو نزل به عبض مكاره الأمور ، ومن يقبض يده عن عشريته ، فإنما يقبض عنهم يداً واحدة ، و عنه منهم أيدي كثيرة ، ومن يكن حاشيته يعرف صديقه منه المودة » الخ (13).
هذا التحليل من الامام (عليه السلام)ليعطينا صورة واضحة عن التشابك الذي يحصل بين الارحام في صورة تواصلهم ، وتقاربهم ، والفوائد التي يجنيها الفرد من وراء تجمهر هذه المجموعة ، ودفاعهم بأيديهم ، وألسنتهم ، فالفرد يقبض عنهم يداً واحدة وهي كناية عن بعده عنهم بينما يحرم هو عن كل مجموعتهم.
فهم أعطف الناس عليه ، وأنفعهم إليه ، وأضرهم في الوقت نفسه عليه.
كل ذلك لقربهم ، وإتصالهم النسبي به ، ولأجل ذلك نرى القرآن الكريم يجعل اكرامهم ، والاحسان إليهم يأتي في المرحلة التالية لاكرام الابوين فالفرع يتقوم بأصله والكل يتقوم بالحواشي المحيطة بهما.
الاسرة العامة :
واذا ما إنتهى التدرج من بيان أسرة الانسان الخاصة جاء الدور لبيان من ينفق عليه من أسرة الانسان العامة. فقد رتبت الآية الكريمة على الوالدين ، والاقربين ، قوله تعالى :
( وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ).
اليتامى أولاً ، ثم المساكين ، وبعدهم ابن السبيل ، وهو المنقطع في بلاد الغربة حيث يفقد ما يوصله إلى أهله من مال ، أو راحلة.
« اليتامى » فيهم ما في المساكين من العوز ، والفقر ، وزيادة وهي مشكلة اليتم ، والانفراد ، وفقدان الكفيل ، والمربي لذلك كانوا في التدرج مقدمين على من كانت به مسكنة ، وعوز سواء كان المسكين أسوأ حالاً من الفقير ، أو العكس.
فاليتيم : في الحقيقة مسكين زائداً ذل اليتم ، والانفراد ، وهما معاً مقدمان على ابن السبيل ، ولكن ليس في هذا التقدم ما يمنع من اعطاء ابن السبيل ، وإيصاله إلى بلده ما دام في البلد يتيم ، أو مسكين ، بل التدرج لبيان حالة السوء في الوضع الاجتماعي.
وابن السبيل بطبيعة الحال ليس في الغالب بيتيم ، ولا مسكين وان كان قد تجتمع هذه الخصال في واحد.
هذه هي جهات الانفاق يحددها الكتاب الكريم ليحصل المنفق من وراء كل حبة سبعمائة حبة ، وليشاهد عطائه ينمو فيحصل هذا الربح الوفير لقرابته ، والبعيدة ولاسرتيه الخاصة والعامة.
المصادر :
1- سورة البقرة : آية (٢١٥).
2- مقطع من وصية الامير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)أوصى بها ولده الامام الحسن (عليه السلام)قالها عند رجوعه من صفين.
3- الآيات المتقدمة من سورة هود : ( ٣٦ ، ٤٧ ).
4- سورة الاسراء آية ( ٣٣ ـ ٣٤ ).
5- سورة : آية (٣٦).
6- سورة لقمان آية (١٤).
7- اصول الكافي : حديث (٢) باب البر بالوالدين.
8- اصول الكافي باب بالوالدين ( حديث ٧ ).
9- جامع السعادات : ٢ / ٢٦٣ مطبعة النجف الاشرف.
10- جامع السعادات : ٢ / ٢٦٣ ـ مطبعة النجف / سنة ١٣٨٣.
11- أخرجه أحمد في مسنده : ٦ ـ ٤٣٢ من حديث درة بنت أبي لهب بأسناد حسن.
12- الكافي باب صلة الرحم.
13- الكافي : ج ٢ ـ ١٥٤ تحت رقم ١٩.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.