![إلتآم الجوهرتين إلتآم الجوهرتين](https://rasekhoon.net/_files/thumb_images700/article_ar/%D8%A5%D9%84%D8%AA%D8%A2%D9%85%20,%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%88%D9%87%D8%B1%D8%AA%D9%8A%D9%86.jpg)
بعد أن توفيت ريحانة الرسول صلىاللهعليهوآله وسيدة نساء العالمين البتول ، شهيدة في سبيل الله ودفاعاً عن الولاية والامامة ، وكان مصاب بضعة المصطفى قد هدّ ركنه عليهالسلام ـ دعى أمير المؤمنين عليهالسلام أخاه عقيلا ـ وكان نسابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم وقال له :
انظر لي إمرأة قد ولدتها الفحولة من العرب ، من ذوي البيوت والنسب والحسب والشجاعة ؛ لكي أصيب منها ولداً يكون شجاعاً وعضداً ، ينصر ولدي هذا ، وأشار إلى الحسين عليهالسلام يواسيه في طف كربلا (١).
وذلك مراد أمير المؤمنين عليهالسلام من البناء على إمرأة ولدتها الفحولة من العرب ، فان الآباء لابد وأن تعرق في البنين ذاتياتها وأوصافها. فاذا كان المولود ذكراً بانت فيه هذه الخصال الكريمة ، وإن كانت أنثى بانت في أولادها. وإلى هذا أشار صاحب الشريعة الحقة بقوله :
«الخال أحد الضجيعين فتخيروا لنطفكم».
وقد ظهرت في أبي الفضل الشجاعتان :
١ ـ الهاشمية : التي هي الأربى والأرقى من ناحية أبيه سيد الوصيين وأمير المؤمنين عليهالسلام.
٢ ـ العامرية : من ناحية أمه أم البنين (2).
وعلى هذا رضى الامام أمير المؤمنين عليهالسلام بهذا الخيار وبعث أخاه عقيلاً ليخطب له أم البنين عليهاالسلام من أبيها.
مهمة عقيل عليهالسلام :
كان عقيل عليهالسلام أخو الامام علي عليهالسلام نسابة معروفاً ، وله في علم الأنساب باع طويل.
وكان ـ يومها ـ للشاعر والقصاص والنسابة وصاحب السيف والكاهن والعراف موقع خاص ؛ لندرتهم وشدّة الحاجة لتخصصاتهم ، وكان الناس يرجعون اليهم وينفذون قولهم ، ويكنون لهم احتراماً خاصاً ، وهم قليلون معدودون في الغالب ، فمثلاً اشتهر أمير المؤمنين عليهالسلام بضربات سيفه ، واشتهر امرؤ القيس بشعره وقصائده ، واشتهر عقيل عليهالسلام بخبرته وحفظه في الأنساب ومعرفته بالعرب وأيامها وقبائلها.
لذا دعاه أمير المؤمنين ذات يوم وقال له :
اختر لي إمرأة ولدتها الفحول من العرب ، من ذوي البيوت والحسب والنسب ؛ لتلد لي غلاماً شجاعاً فارساً رشيداً.
فقلّب عقيل قبائل العرب ظهراً لبطن ، وفكر قدّراً ، وفحص ونقّر ، وجاس ديار أنساب العرب ودرس أخلاقهم وطباعهم حتى اختار له «فاطمة» ، والتي سميت فيما بعد بأم البنين عليهاالسلام ، فعرضها على الامام أمير المؤمنين ذاكراً صفاتها وخصال أهلها وقبيلتها ، فأمره الامام عليهالسلام أن يخطبها من أهلها.
مضى عقيل بن أبي طالب عليهماالسلام في مهمته بأمر أخيه أمير المؤمنين عليهالسلام حتى ورد بيت حزام بن خالد ضيفاً على فراش كرامته ، وكان خارج المدينة ...
فقال له عقيل : جئتك بالشرف الشامخ والمجد الباذخ.
فقال حزام : وما هو يابن عم رسول الله صلىاللهعليهوآله؟
قال : جئتك خاطباً.
قال : من لمن؟
قال عقيل : أخطب ابنتك الحرة فاطمة إلى أمير المؤمنين عليهالسلام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.
فلما سمع حزام هشّ وبشّ ثم قال : بخ بخ بهذا النسب الشريف والحسب المنيف ، لنا الشرف الرفيع والمجد المنيع بمصاهرة ابن عم رسول الله صلىاللهعليهوآله وبطل الاسلام وقاسم الجنة والنار ، ولكن ـ يا عقيل ـ أنت جدّ عليم ببيت سيدي ومولاي ، إنه مهبط وحي ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وأنّ مثل أمير المؤمنين عليهالسلام ينبغي أن تكون له إمرأة ذات معرفة عن علم ، وآداب في ثقافة ، وعقل مع أخلاق حسنة ، حتى تكون صالحة لشأنه العالي ومقامه السامي ، وإنّ ابنتنا من أهل القرى والبادية ، وأهل البادية غير أهل المدينة ، ولعلها غير صالحة لأمير المؤمنين عليهالسلام.
فقال عقيل : يا حزام إنّ أخي يعلم بكلّ ما قلته ، وأنّه يرغب في التزويج بها.
فقال حزام : إذاً تمهّل حتى أسأل عنها أمها ـ ثمامة بنت سهل ـ هل تصلح لأمير المؤمنين عليهالسلام أم لا؟ فانّ النساء أعلم ببناتهن من الرجال في الأخلاق والآداب.
الرؤية الصادقة :
قام حزام من محلّه وجاء ليسأل ، فلما قرب من المنزل واذا هو يرى فاطمة
جالسة بين يدي أمها ، وهي تمشط رأسها ، وفاطمة تقول : يا أماه إنّي رأيت في منامي رؤيا البارحة.
فقالت لها أمها : خير رأيت ـ يا بنية ـ قصيها عليّ.
فوقف حزام في مكانه بحيث يسمع الصوت ولا يراه أحد.
فقالت فاطمة لأمها : إني رأيت فيما يرى النائم ؛ كأني جالسة في روضة ذات أشجار مثمرة وأنهار جارية ، وكانت السماء صاحية ، والقمر مشرقاً ، والنجوم ساطعة ، وأنا أفكر في عظمة خلق الله ، من سماء مرفوعة بغير عمد ، وقمر منير ، وكواكب زاهرة ، فبينما كنت في هذا التفكير ونحوه ، وإذا أرى كأنّ القمر قد انقض من كبد السماء ووقع في حجري ، وهو يتلألأ نوراً يغشي الأبصار ، فعجبت من ذلك ، واذا بثلاثة نجوم زواهر قد وقعوا أيضاً في حجري ، وقد أغشى نورهم بصري ، فتحيرت في أمري مما رأيت ، واذا بهاتف قد هتف بي ، أسمع منه الصوت ولا أرى الشخص ، وهو يقول :
بشراك فاطمة بالسادة الغرر / ثلاثة أنجم والزاهر القمر
أبوهم سيد في الخلق قاطبة / بعد الرسول كذا قد جاء في الخبر
فلما سمعت ذلك ذهلت وانتبهت فزعة مرعوبة ، هذه رؤياي يا أماه فما تأويلها؟!
فقالت لها أمها : يا بنية ؛ إن صدقت رؤياك ، فانك تتزوجين برجل جليل القدر ، رفيع الشأن ، عظيم المنزلة عند الله ، مطاع في عشيرته ، وترزقين منه أربعة أولاد ، يكون أولهم وجهه كأنّه القمر ، وثلاثة كالنجوم الزواهر.
فلما سمع حزام ذلك أقبل عليهما وهو مبتسم ويقول :
هذا عقيل بن أبي طالب جاء يخطب ابنتك للامام علي عليهالسلام وقد استمهلته حتى أسألك عن ابنتك ؛ هل تجدين فيها كفاءة بأن تكون زوجة لأمير المؤمنين عليهالسلام؟
واعلمي أن بيته بيت الوحي والنبوة ، والعلم والآداب والحكمة ، فان تجديها أهلاً لأن تكون خادمة في هذا البيت وإلّا فلا.
فقالت زوجته ذات القلب المفعم بالولاء للامامة :
يا حزام إنّي ـ والله ـ ربيتها وأحسنت تربيتها ، وأرجو الله العلي القدير أن يسعد جدّها ، وأن تكون صالحة لخدمة سيدي ومولاي أمير المؤمنين عليهالسلام ، فزوجها به (3).
فأقبل حزام على ابنته يهنئها ويشركها في فرحته :
يهنيك فاطمة بالفارس البطل
نعم القرين أمير المؤمنين علي عليهالسلام
من للأنام إمام حجة وولي
للمؤمنين أمير والغدير جلي
من لي بزوج كعلي عليهالسلام؟
لمّا سمعت أم البنين عليهاالسلام أنها خطبت لأمير المؤمنين غمرها السرور وطار قلبها بالفرح والحبور ، وتناثر عرق الحياء على محياها كاللؤلؤ على صفيحة النور ، واختارت السكوت فلم تحرك لسانها ، وجنانها يتدفق بالكلمات تعبيراً عن فرحتها بهذا الزواج السعيد ....
أجل ؛ كيف لا تفرح ولا تغمرها السعادة؟! وهي ترى الحياء في عيني علي عليهالسلام وسلطان الاسلام في يديه ، والاستقامة والعدالة في خطواته ، ونور الهداية المحمدية في قلبه؟! ... وإنّ في هذه الزيجة المباركه فخراً عميماً ، وشرفاً عظيماً ، وسعادة لم تخيب ، لها ولأهلها وعشيرتها جميعاً.
لقد أقسمت أم البنين عليهاالسلام أنها ستكون كالأم الرؤوم للحسنين عليهماالسلام ، فدخلت إلى بيت العصمة تحمل معها عالماً من المحبة والمودة والحنان.
هكذا كانت أُم البنين :
وهكذا خطبها عقيل ، ثم أجرى النكاح وكالة عن أخيه أمير المؤمنين عليهالسلام ، فاستعدت أم البنين فاطمة بنت حزام للرحيل إلى بيت الأمام عليهالسلام.
ولما دخل بها الامام عليهالسلام وجدها إمرأة ذات عقل وإيمان وأدب ، ورأى فيها ما أسرّه من الحسن والجمال والهيئة والكمال ، حيث كانت أم البنين عليهاالسلام من النساء الفاضلات العارفات بحقّ أهل البيت عليهمالسلام ، كما كانت فصيحة بليغة لسنة ورعة ذات زهد وتقى وعبادة.
وبلغ من عظمها ومعرفتها وتبصرها بمقام أهل البيت عليهمالسلام أنها لما دخلت على أمير المؤمنين عليهالسلام وكان الحسنان مريضين أخذت تلاطف القول معهما ، وتلقي اليهما من طيب الكلام ما يأخذ بمجامع القلوب ، وما برحت على ذلك تحسن السيرة معهما وتخضع لهما كالأم الحنون.
ولا بدع في ذلك فانها ضجيعة شخص الايمان ، قد استضاءت بأنواره وربت في روضة أزهاره ، واستفادت من معارفه ، وتأدبت بآدابه ، وتخلقت بأخلاقه (4).
أم البنين هي تلك المرأة التي كان يريدها علي عليهالسلام ، إمرأة وقور ، تقعد في بيتها وتربي له رجالاً أشاوس ، وفرسان أقوياء من أمثال أبي الفضل العباس عليهالسلام الذي ضرب المثل الأعلى في الشجاعة والمواساة والاقدام والوفاء ، وخاض لجج الموت ، واقتحم غمرات الحروب ، وجال بين صفوف الأعداء في ساحات الوغى منذ بدايات شبابه ، وهو لا يهاب الموت ، ولا يعبأ بوميض السيوف ورؤوس الحراب الخاطفة كالبرق .. كان قلبه أشدّ من زبر الحديد أمام الأعداء.
المصادر :
1- بطل العلقمي للمظفر ١ / ٩٧ ـ ٩٨ ، تنقيح المقال للمامقاني ٢ / ١٢٨.
2- العباس للمقرم : ١٢٧.
3- مولد العباس محمد علي الناصري : ٣٥ وما بعدها.
4- العباس للمقرم : ١٣٣.