لم تقف الشريعة المقدسة في أثناء مرحلة ولاية الولي على اليتيم في وجه الولي لتمنعه من تناول شيء من المال جزاء أتعابه ، ورعايته في هذه المدة ، بل سمحت له بذلك إلا أنها قيدته بما يقتضيه الحال لرعاية حال اليتيم الذي يكون في الغالب محتاجاً إلى ما يدخر له من مال.
تقول الآية الكريمة موضحة الخط الذي يليق بالولي أن يسلكه في هذا الحال.
( وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ ).
جاء ذلك بعد قوله تعالى :
( وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا ) (١).
لقد بدى واضحاً من الآية الكريمة أنها صنفت الاولياء إلى قسمين :
١ ـ ولي غني له من المال ما يكف نفسه عن تناول شيء من أموال اليتيم.
٢ ـ وولي فقير قد يضر بحاله المالي أن ينشغل بادارة الشؤون المالية لليتيم لذلك نجده يصبو إلى أخذ شيء من المال لقاء ما يقدمه له من رعاية ، ومحافظة.
١ ـ الولي الغني : وقد خاطبت الآية هذا النوع من الاولياء بقوله تعالى : ( فَلْيَسْتَعْفِفْ ).
والإِستعفاف في اللغة هو : الامتناع عن الشيء. والإِمساك عنه ، فهي إذا تخاطب الأغنياء بترك أموال اليتامى وعدم أكلها لا قليلاً ، ولا كثيراً فلماذا هذا الجشع ، والغني قد أعطاه الله من المال ما كفاه عن التطلع إلى هؤلاء الضعفاء ؟ وكيف تتم حلقة التكافل الاجتماعي ، والتضامن ما دام الغني يلاحق هؤلاء الصغار الذين فقدوا من يكفلهم ليضيف إلى مخزونه المالي ما يتقاضاه لقاء عمله لرعاية الايتام ؟.
وأين إذاً النوايا الحسنة ، والضمير النابض ليستيقظ فيتجه الغني إلى ربه مبتغياً وجهه سبحانه فيما يقدمه من خدمة ، ورعاية ربما يكون هو في مستقبل الأيام محتاجاً لمثل هذه الرعاية من الآخرين لو اختطفه الموت ، وخلف أيتاماً كهؤلاء الذين تولى هو أمرهم ، ورعايتهم ؟.
( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ) (2).
٢ ـ الولي الفقير : أما إذا كان الولي فقيرا فقد خاطبته الآية الكريمة بقوله تعالى : ( فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ ).
وقد روعيت ظروف الفقير في هذه الحالة ، فان الاشتغال بهذه الرعاية المالية يوجب انشغال الفقير عن كسبه ، أو لا أقل من توزيع جهوده بين كسبه ، ورعاية اليتيم المالية لذلك سمحت له الاكل ، وهو كناية عن تناوله من مال اليتيم قدر الحاجة والكفاية على بعض التفاسير مع تقييد كون هذا الأخذ على نحو الفرض حيث لا بد من رده إذا تمكن بعد ذلك مالياً ، أو الأخذ على قدر ما يسد به جوعته ، وليستر به عورته لكن لا على جهة القرض بل على جهة تملك المأخوذ لقاء عمله ، ورعايته كما جاء في بعض التفاسير الأخرى.
وليكن هذا أو ذاك ، فالولي إذا كان فقيراً مقيد ، ومضيق عليه في تناول ما يشاء من مال المولى عليه.
( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) (3).
والتعدي عن المقدار اللازم في الاخذ من مال اليتيم هو أكل ذلك المال ظلماً ، وتجاوزاً وهو مهدد عليه بنص الآية الكريمة.
وأخيراً فرفقاً بهؤلاء الصغار الذين تقتضي الرحمة الانسانية ان يحافظ على ماله إلى الوقت الذي يسلم إليه ليتمكن من مواجهة هذه الحياة بظروفها القاسية.
التجارة بمال اليتيم :
ونقصد بالتجارة بمال اليتيم كل تصرف يعود بالنفع عليه تجارة ، أو زراعة ، أو تنمية من قبل الجد ، أو الوصي من قبل الأب ، أو الحاكم الشرعي ، أو الاولياء المنصوبين من قبله ، وهكذا حيث تصل النوبة إلى عدول المؤمنين.ولم تحدد الآية الكريمة في قوله تعالى :
( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (4).
أبعاد هذا التصرف ، بل نهت عن التقرب إليه إلا على النحو الاحسن.
وقد ذكر الفقهاء للقرب المذكور في الآية معاني عديدة ، وكذلك النحو الاحسن ذكروا له معاني عديدة أيضاً.
ومن مجموع ما ذكروه نخرج بالنتيجة التالية :
أن الأدلة الواردة في رعاية اليتيم ، والاحسان إليه ثبت فيها أنه إذا كان الترك للتصرف بمال اليتيم مفسدة حرم ذلك لانه إتلاف له ، وإفساده ، وهذا ما لا يريده الشارع المقدس.
وأما لو لم يكن في ترك التصرف مفسدة ، بل كان التصرف فيه مصلحة فقد صرحت الآية الكريمة بسلوك الطريق الاحسن في مثل ذلك التصرف ، وقد جاء ذلك بصورة النهي إلى جميع المعنيين بشؤون اليتيم ، ورعايته أن يقربوا ، وهو كناية عن التصرف ـ لمال اليتيم إلا بالشيء الذي يصدق عليه التصرف الاحسن ، ويكون ذلك بحفظه ، وتثميره ، والانفاق عليه بالمعروف على ما لا يشك أنه أصلح له ، فأما لغير ذلك فلا يجوز لأحد التصرف فيه.
وإنما خص اليتيم بذلك ، وان كان التصرف في مال البالغ بغير إذنه لا يجوز أيضاً مما هي خصوصية اليتيم.
والجواب عن ذلك : أن اليتيم إلى هذه الرعاية أحوج والطمع في مثله أكثر (5) لذلك جاءت الآية الكريمة تحفظ حقه في التأكيد على ما هو أصلح له عند التصرف بماله.
ونقف أخيراً أمام السؤال الذي يفرض نفسه علينا ، ونحن نرى الآية الكريمة تجيز التصرف بالنحو الاحسن بأنه : لو دار الامر بين الأصلح ، والمصلحة ، ويمثل لذلك ، بما إذا كان يباع هذا المال في مكان بعشرة دنانير ، ولكنه يباع بعشرين دينار بمكان قريب من ذلك المكان ، ففي هذه الصورة يعد بيعه في المكان الأول ـ مع إمكان بيعه في المكان الثاني ـ إفساداً للمال ، ولو ارتكبه عاقل عد سفيهاً ليست لديه ملكة إصلاح المال ، وتثميره (6).
وإذاً فلا بد من رعاية الاصلح إن لم يكن ذلك موجباً لادخال الضرر على من يتصدى للتصرف بمال اليتيم.
وقد استدل الفقهاء على هذه الرعاية ، وعدم جواز الاخذ بالمصلحة في مورد يمكن الاخذ بالاصلح بعدة أدلّة :
الأول :
أن الولي بحسب وضعه الاولي منصوب لرعاية مصلحة الصغير ، وإذا كان هذا الملاك ، فرعاية الاصلح مقدمة على المصلحة لان ذلك من مقتضيات نصب الولي ـ كما عرفت ـ.
الثاني :
أننا نشك عند بيع مال اليتيم بالاقل رعاية للمصلحة ، وعدم البيع بالأكثر رعاية للاصلح بأن المال انتقل من ملك اليتيم إلى المشتري بدون وجود الاصلحية ففي هذه الصورة استصحاب ملكية اليتيم يحكم ببقائه ، وعدم إنتقاله أما لو راعى الولي حالة الاصلحية فان الاستصحاب لا يبقى مجال لجريانه كما هو واضح.
وهناك أدلة أخرى تعرضت لها الموسوعات الفقهية ، كما وقد ذكر من يكتفي بمجرد وجود المصلحة أدلة اعتمد عليها ، ودلل فيها على عدم لزوم تكليف الولي برعاية الاصلح ما دام عنوان المصلحة متحققاً في التصرف بمال اليتيم. وليس بالإِمكان التعرض لكل هذه الاراء ، والأدلة وملاحظة جميع ما ورد في هذا الموضوع. بل المهم أن نستفيد من وراء ما نقلناه أن رعاية اليتيم لا تقتصر على حفظ ماله ، وإيداعه إلى ان يصل إلى حد البلوغ ليسلم إليه بل لا بد من تثميره ، وتنميته رعاية لحق اليتامى ، واشعاراً لهم بأن القدر لو اختطف منهم اليد الحانية فقد عوضهم الله بمن يعطف عليهم لينسيهم مرارة الوحدة ، وذل اليتيم.
١ ـ تسليم أموال اليتامى :
أما من ناحية تسليم أموال اليتامى فقد حدد الشارع المقدس لذلك وقتاً خاصاً يكون بإمكان الولي ، أو الوحي التخلي عن هذه المسؤولية الملقاة على عواتقهم بدفع أموال اليتامى إليهم.
قال عز وجل :
( وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ ) (7).
وقال سبحانه :
( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ ) (8).
وقال تعالى :
( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ) (9).
خطوط المراحل النهائية للمحافظة على مال اليتيم حددتها الآيات الكريمة فبدى من خلالها لزوم شرطين أساسيين لتحقق هذه المرحلة الإِنتقالية ، وهما :
١ ـ البلوغ.
٢ ـ الرشد.
بلوغ النكاح : وهو كناية عن وصول الطفل إلى مرحلة النضوج البدني فيشهي بذلك النكاح والذي هو تعبير عن قدرة الطفل على ممارسة العملية الجنسية.
والرشد : وهو النضوج العقلي عند الانسان.
وبحصول هذين يكون اليتيم ناضجاً ، وقادراً على إدارة شؤونه والتصرف بأمواله بنفسه على النحو الذي يقوم به كل شخصٍ كامل .. على أن الفقهاء قد إستفادوا من الآيات الكريمة المذكورة الارتباط بين هذين الشرطين فلم يقولوا بدفع المال إلى اليتيم بمجرد وصوله إلى حد البلوغ فقط ، أو حصول الرشد لوحده دون البلوغ إذ لربما يصل الانسان إلى حد يتجاوز بها السن المقررة شرعاً في البلوغ ، ولكنه بعد لا يستطيع من القيام بأعباء المسؤولية المالية.
لقد لاحظ الشارع المقدس ، ومن خلال الآيات الكريمة أن رفع الولاية عن الصبي يتيماً كان ، أو ذا أبٍ يتمتع بالحياة لا بد له من المقدرتين البدنية ، والعقلية.
فلا فائدة في طفل اكتملت رجولته البدنية بالوصول إلى مرحلة من العمر ، وهو على أبواب الشباب بتخطيه الخامسة عشرة ما لم يكتمل نضوجه العقلي حيث تصبح لديه القدرة الكافية لتمييز مضاره من منافعه ، وما يصلح له مما يفسده وقد جعل المشرع لكلٍ من هاتين المرحلتين علامة تشعر بتحققها ، وإكتمالها.
البلوغ بالسن :
تقرر كافة المذاهب الإِسلامية ( عدى المالكية ) بأن وصول الصبي إلى مرحلة خاصة من العمر هو : البلوغ ولكنهم إختلفوا في الحد المقررة من السن لكل من الذكر والأنثى.لذلك لا بد من بحث ذلك للذكر أولاً ، والأنثى ثانياً.
لو بلغ الصبي غير رشيد لم يدفع إليه ماله ، وان صار شيخاً كبيراً ، وطعن في السن.
وإذا ففي هذه الحالة يبقى الولي محافظاً على مال اليتيم ولم يسلمه إليه نظراً لعدم تحقق الشرطين المأخوذين كأساس لعملية التسليم لأموال اليتامى : الرشد ، والبلوغ. إذ من المفروض أن البلوغ حصل ولكن الرشد لم يحصل والبلوغ لوحده لا يكفي لتسليم المال إليه وإمضاء تصرفاته المالية.
وينفرد أبو حنيفة برأي يقول فيه : أنه لو بلغ خمساً وعشرين سنة وهو باق على سفهه ، وعدم رشده سلم المال إليه ولم ينتظر بأكثر من هذا السن محجوراً عليه من هذه الجهة.
وقد رد هذا الرأي من طرف بقية فقهاء المذاهب ولم يأخذوا به.
كيف يثبت الرشد ؟ :
يثبت الرشد ـ كما يقرره الفقهاء ـ بأحد طريقين :
١ ـ الإِختبار.
٢ ـ الشهادة.
١ ـ كيفية الإِختبار :
لم يحدد الفقهاء كيفية خاصة لإِختبار الصبي ذكراً كان أم أنثى ، بل أوكلوا الأمر إلى ما تقتضيه طبيعة الطفل الاجتماعية. ـ وعلى سبيل المثال ـ فقد ذكروا بأن أولاد التجار يكون إختبارهم بالبيع ، والشراء ، فان أحسنوا التصرف علم رشدهم.
أما لو كانوا من أولاد الطبقات غير التجارية دفع إليهم مقدار من المال ، ويراقبون في صرفه فإن أحسنوا التصرف في ذلك المال دلّ ذلك على نضوجهم العقلي ، وتحولهم من عالم الطفولة إلى مراحل التكليف الشرعي.
وهكذا المرأه تختبر فيما يعود إلى تدبيرها المنزلي ، وتصرفها الإِجتماعي وإن قامت بدورها على النحو الذي تقوم به غيرها من الأهل ، ومتعلقيها دل ذلك على تحولها من طفلة إلى ربة بيت ، وحينئذٍ تسلم إليها أموالها كما تسلم إلى البالغ الرشيد.
وتجمع المذاهب الإِسلامية على إعتبار هذا كقاعدة أساسية لبيان كيفية الإِختبار من غير فرض مثالٍ خاص لذلك سواءً في الذكر ، أو الأنثى.
وفي الحقيقة أن هذه القاعدة مستوحاة من قوله تعالى : في الآية المتقدمة ( فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا ).
حيث تركت الآية الكريمة إيناس الرشد من دون تقييده بكيفية خاصة تبعاً لطبيعة الظروف الاجتماعية المحيطة بالطفل سواءً كان الطفل ذكراً ، أم أنثى.
٢ ـ ثبوت الرشد بالشهادة
وكبقية الموارد التي تقبل فيها الشهادة نرى موردنا ، وهو حصول الرشد ، فيثبت بشهادة رجلين ، أو رجل وإمرأتان.
يقول تعالى :
( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَىٰ ).
٣ ـ الإِشهاد على تسليم أموال اليتامى :
وكما أوصى الله باليتيم ، ورعى له مصالحه لاحظ في الوقت نفسه جانب الولي من حيث تسليم أموال اليتيم.
إن مرحلة تسليم أموال اليتامى بعد وصولهم إلى سن الرشد والنضج العقلي ليس إلا وضع الحد النهائي لسلطة الولي أو الوصي ، وبدء مرحلة السلطة لاصحاب الاموال أنفسهم حيث كان بإمكانهم في تلك المرحلة من القيام بإدارة أنفسهم من دون أن يكون في البين ولي ، أو وصي يقوم بذلك.
وفي هذه المرحلة نبّه الشارع المقدس الأولياء لنقطة قد تحصل نتيجة معاكسات ، ومشاكسات تلازم هذه المرحلة الدقيقة ، وهي حصول إتهام الولي في المستقبل ، وتوجيه اللوم له من جهة اليتيم يرميه بالاختلاس ، أو التقصير ، وعدم القيام بما يلزم من التصرف ، أو المحافظة على المال على نحو يكون قد وصل إليه حقه.
واليتيم بعد كل هذا بشر ، ومهما يكن فقد يشك بالولي كأي إنسان آخر تحصل له الشكوك من بعض الملابسات ، والقضايا الخارجية ، فبدلاً من أن يقوم بما يمليه عليه الواجب من أداء فروض الشكر لمن رعاه طيلة هذه المدة نراه يتهمه بما بينّاه من الإِختلاس ، وعدم وصول حقه كاملاً إليه.
لذلك كانت الآية الكريمة تدفع بالأولياء ، وتهيب بهم أن يلتزموا جانب الحيطة ، والتدبير لانفسهم بالإِشهاد وإطلاع الغير على عملية تسليم المال إلى ذوي العلاقة فراداً مما قد يقع فيه من محذور الإِتهام نتيجة إحسانه وأتعابه.
( فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِاللهِ حَسِيبًا ).
فكما كانت الشريعة تحافظ على حقوق الضعفاء من تلاعب الاقوياء كذلك تقضي الرحمة الإلهية أن تحمي الاقوياء من اتهام الضعفاء ، والتنكر لهم ، فرعاية المصلحة العامة ، وملاحظة الصالح العام تأخذ بنظر الاعتبار كل الجوانب. والافراد بنظر القانون سواسية فهو يحمي جميع الطبقات فلا يتجاوز قوي على ضعيف ـ وفي الوقت نفسه ـ لا يسمح بأن يتطاول ضعيف على قوي ، فلا أثرة لفئة على فئة بل كلهم عباد الله ، وفي نظر الشريعة سواسية.
هل الإِشهاد واجب ؟ :
لم يقرر الفقهاء وجوب الإِشهاد على الولي رغم أن الآية الكريمة خاطبت الأولياء ، والاوصياء بصيغة الامر فقالت :
( فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ).
وذلك لان هذا الحكم ارفاقي إحتياطي روعي فيه حال الأولياء ليحتاطوا لانفسهم بالإِشهاد عليهم عند تسليم الاموال ليبعدوا التهمة عنهم. أما إذا لم يرد الولي أن يسلك هذا الطريق ، وشاء أن يسلم المال بلا إشهاد ، فإنه سيتحمل تبعات ما قد سيحدث لو أنكر اليتيم تسليم المال إليه ، أو ادعى أن فيه نقصاً ، أو تبديلاً ، وما إلى ذلك من صور الإِتهام.
وقد تكررت مثل هذه الأوامر في موارد عديدة وجاء ذلك في آيات أخرى من الكتاب الكريم.
يقول تعالى :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ).
وقال سبحانه : ( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ) (10).
ولم يقل أحد من الفقهاء بلزوم ، ووجوب الكتابة عند حصول المداينة بين الاشخاص ، أو حصول معاملة بيعية ، بل ترك ذلك إلى الاطراف التي تتبايع ، أو تتداين ، أو الأولياء ، والأوصياء عند تسليم أموال اليتامى إليهم ، فإن شاؤوا أخذ الحيطة لانفسهم فهو ما يريده الشارع المقدس لهم من الارفاق وحسم مادة النزاع ، وإن أبوا إلا أن تسير أمثال هذه الامور إعتماداً على الثقة المتبادلة بين الطرفين من دون كتابة أو إشهاد كان ذلك من تبعات مسؤولياتهم الشخصية ، والانتظار لكل ما تفرضه الظروف المعاكسة في بعض الاحيان.
إن عملية الإِشهاد في هذه الموارد هي عملية طبيعية تفرضها ظروف المجتمعات العامة ، وتقتضيها طبيعة الإِنسان في هذه الحياة تماماً كما يحمل الإِنسان السلاح تجنباً لما قد يلاقيه من أخطار ، ومخاوف.
وأخيراً تختم الآية الكريمة الأمر الاحتياطي بضرورة الإِشهاد على عملية تسليم أموال اليتامى من قبل الاولياء ، أو الاوصياء بقوله تعالى :
( وَكَفَىٰ بِاللهِ حَسِيبًا ).
ورقيباً عليكم في أعمالكم ليحافظ كل فرد على ما هو مقرر في حقه ، فكما كان التشريع يقف في جانب اليتيم يحذر الآخرين مغبة التجاوز عليه ، ويشوقهم إلى مساعدته ، والأخذ بيده ، كذلك حذره من التطاول على من رعاه ، وسهر على شؤونه وهو الولي ، أو الوصي فلا يحسن به أن يعامله المعاملة السيئة فيرميه بالاختلاس ، والتقصير في الوقت الذي يكون بعيداً عن كل ذلك ، فإن الله ليس بغافل عن حساب الجميع ، وكفى به حسيباً ، ورقيباً في كل صغيرة ، وكبيرة ، وهو المطلع على السرائر ، ولا تخفى عليه خافية سواءً من جانب الاولياء في دوروليائهم على اليتامى ، أو بعد ذلك مما قد يتعقب عملية تسليم الاموال من إتهامات يوجهها اليتامى لاوليائهم.
1- سورة النساء : آية (٦).
2- سورة النساء : آية (٩).
3- سورة النساء : آية (١٠).
4- سورة الاسراء : آية (٣٤).
5- التبيان في تفسير القرآن في تفسيره لآية (٣٤) من سورة الاسراء.
6- مكاسب الشيخ الانصاري بحث الولاية.
7- سورة النساء : آية (٦).
8- سورة الانعام : آية (١٥٢).
9- سورة الاسراء : آية (٣٤).
10- سورة البقرة : آية (٢٨١).