كان الخلفاء يذعنون للعامة باسم الدين حتى إنهم كثيرًا ما كانوا يضطرون إلى مسايرة بعض الناس في بعض اعتقاداتهم الدينية، ولو كان ذلك الاعتقاد مخالفًا لما في نفوسهم أو مناقضًا للواقع، كما فعل المهدي إذ جاءه رجل بنعل زعم أنها نعل النبي صلی الله عليه وآله وسلم، فقبلها المهدي منه وأجازه عليها مع اعتقاده كذبه، وإنما خاف إن كذبه أن يحمل العامة قوله على الفتور في الدين.(1)
ولم يكن للخلفاء بد من إظهار التقوى والقيام بالفروض الدينية؛ لئلا يفسد عليهم العامة ويحتقروا سلطانهم ولو كان الخليفة لا يعتقد ذلك. ذكروا أن الوليد بن يزيد الأموي مع اشتهاره بالخلاعة والتهتك، كان إذا حضرت الصلاة يطرح ما عليه من الثياب المصبغة والمطيبة، ثم يتوضأ فيحسن الوضوء ويؤتى بثياب بيض نظاف من ثياب الخلافة، فيصلي فيها أحسن الصلاة بأحسن قراءة وأحسن سكوت وسكون وركوع وسجود، فإذا فرغ عاد إلى تلك الثياب.(2)
فلهذا السبب كان الأمراء الذين يستقلون عن الدولة العباسية بالإدارة والسياسة لضعف الخليفة عن حربهم لا يستطيعون الاستقلال عنه بالدين، إذ لا يستغنون عن بيعته لتثبيت سلطانهم. فإذا أراد أحدهم الاستقلال بولاية أو فتح بلد أو إنشاء إمارة لنفسه، بعث إلى الخليفة في بغداد يبايعه ويطلب منه أن يعطيه تقليدًا أو عهدًا بولاية ذلك البلد، أو أن يلقبه ويخلع عليه، وإذا أبى الخليفة أن يجيبه غضب وعد ذلك تحقيرًا له، وقد يجرد عليه الجند ليكرهه على تثبيته.
فالإمارات أو الممالك التي استقلت عن الدولة العباسية، في فارس وخراسان وتركستان وما بين النهرين والشام ومصر وبلاد المغرب وغيرها، قبل قيام الدولة الفاطمية، كان أصحابها يخطبون لخليفة بغداد ويبعثون إليه بمال معين في العام، مع أنهم في أمن من سطوته، وإنما يريدون أن يرضى العامة عن سلطانهم.
وكذلك كان شأن الأجناد الأتراك وأمرائهم، فقد كانوا مع استبدادهم بخلفاء بغداد قتلًا وخلعًا لا يجسرون على استبقاء منصب الخلافة خاليًا يومًا واحدًا، لاعتقادهم أنه بدون الخليفة لا تستصلح العامة. حتى الملوك أو السلاطين الذين تسلطوا على بغداد وقبضوا على كل شيء فيها وأصبح الخليفة آل في أيديهم، مثل آل بويه وآل سلجوق، فقد كانوا يحاربون الخليفة ويجردون عليه الجيوش، حتى إذا ظفروا به وغلبوه بايعوه وأكرموه ورفعوا مقامه وتبركوا به.
فعضد الدولة البويهي ملك بغداد واستبد بها، وهو شيعي على غير مذهب الخليفة. وكان يغالي في التشيع ويعتقد أن العباسيين غصبوا الخلافة من مستحقيها، فلم يكن ثمة باعث ديني يدعوه إلى طاعة خليفة بغداد، ومع ذلك فإنه بايعه وعظم شأنه، وأعاد من أمر الخلافة ما قد نسي، وأمر بعمارة دار الخلافة والإكثار من الآلات، وعمارة ما يتعلق بالخليفة وبطانته وأكرمه غاية الإكرام.(3)
وكان الخلفاء من الجهة الأخرى يعرفون حاجة الأمراء المسلمين إلى رضاهم، فإذا ساءهم أحد منهم هددوه بالخروج من بغداد، فيضطر إلى استرضائهم؛ لأن خروجهم بغضب العامة(4)
ويجرئهم على خلع الطاعة، لتقديسهم شخص الخليفة وتنزيهه عن الخطأ - ولذلك لم يكن من سبيل إلى نزع سلطته أو الاعتراض عليها إلا من وجه ديني، فكان الذين يقومون على الخلفاء يجعلون سلاحهم الدين، فيلبسون الصوف ويدعون إلى المعروف أو يعلقون في أعناقهم المصاحف(5)
أو نحو ذلك مما يحرك عواطف العامة. وإذا أراد أحد الخلفاء أن يصلح ما بينه وبين العامة أصلحه بالتقوى. فلما ضمن الفضل بن سهل الخلافة للمأمون أوصاه بإظهار الورع والدين؛ ليستميل القواد(6)
ولما رأى أبو مسلم الخراساني أهل اليمن في مكة قال: «أي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان غزير الدمعة» يريد تحريك عواطفهم الدينية بالوعظ والبكاء. فلم يكن للممالك الإسلامية بد من خليفة تبايعه ليثبت ملكها. وقد يستاء بعض الأمراء المستقلين من خليفة بغداد فيكظم ولا يخلع بيعته إلا إذا رأى خليفة آخر يبايعه.
فلما قامت الدولة الفاطمية بالمغرب ومصر خلعت كثير من البلاد بيعة خليفة بغداد وبايعت للفاطميين في القاهرة. ولما تغلب السلطان صلاح الدين الأيوبي على مصر، وذهبت الدولة الفاطمية منها، فأول شيء فعله أنه خطب بجامع القاهرة للخليفة العباسي في بغداد، وطلب المنشور منه والخلع عليه.
وكانت الخلافة العباسية في غاية الاضمحلال والضعف، وهو في غنى عن بيعتها، ولكنه علم أنه إذا لم يبايع الخليفة فلا يرضى عنه الناس.
وكذلك فعل السلاطين المماليك الذين ملكوا مصر بعد الدولة الأيوبية، فإنهم بايعوا للعباسيين وكانت الخلع تأتيهم من بغداد إلى القاهرة بتثبيت سلطتهم. فلما سطا التتر على بغداد وفتحوها سنة ٦٥٦ﻫ، وقتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله توقف شأن الخلافة، فاضطربت أحوال مصر وبذل سلاطينها جهدهم في إيجاد خليفة يبايعونه،(7)
ولو أعوزهم خليفة ولم يجدوه ربما اختلقوا واحدًا ليحكموا العامة به(8)
على أنهم ما زالوا يبحثون عن بقية الخلفاء العباسيين الذين كانوا في بغداد، حتى ظفروا بالهاربين منهم فاستقدموهم إلى القاهرة، وفرضوا لهم الرواتب واحتفلوا بها احتفالًا عظيمًا، وبالغوا في احترامهم وإكرامهم(9)
مع علمهم أن أولئك الخلفاء لا يغنون عنهم شيئًا، ولكنهم خافوا اختلال دولتهم بدونهم. وظل ملوك الهند وغيرهم من ملوك الإسلام بالأطراف البعيدة يبايعون للخليفة العباسي بالقاهرة، ويطلبون التقليد منه أو المنشور لإثبات سلطتهم على يد السلاطين المماليك،(10)
فما الذي بعث أولئك الملوك على طلب التقليد من خليفة لا ينفع ولا يشفع لولا ما يتوقعونه من أثر ذلك في أذهان العامة؟ ولا ننكر أن بعضهم كان يطلب بيعة الخليفة تدينا، ولكن الكثيرين كانوا يطلبونها لاستصلاح العامة بها.
الخلافة في غير قريش
ومما يستحق النظر والاعتبار أن ملوك المسلمين غير العرب، على اختلاف مواطنهم وأجناسهم ولغاتهم ودولهم، مع ما بلغوا إليه من سعة الملك وعز السلطان، ومع حاجتهم إلى السيادة الدينية لتستقيم دولتهم وتجتمع الرعية على طاعتهم، لم يخطر لأحد منهم أن يطلب الخلافة لنفسه قبل انتقال الإسلام إلى طوره الثاني، بعد تضعضعه بفتوح المغول، ولا ادعاها أحد من العرب غير قريش. وأول سلطان غير عربي بويع بالخلافة السلطان سليم العثماني.على أن الذين قويت شوكتهم في عهد ذلك التمدن، من الأمراء المسلمين أو القواد غير العرب، كانوا إذا طمعوا في السيادة الدينية أو الخلافة انتحلوا لأنفسهم نسبًا في قريش، كما فعل أبو مسلم الخراساني لما رأى من نفسه القوة على إنشاء الدولة، وربما طمع في الخلافة فانتحل لنفسه نسبًا في بني العباس، فقال: إنه ابن سليط بن عبد الله بن عباس.(11)
وأما الملوك أو السلاطين فلما ضخمت دولهم في أواخر العصر العباسي، ورأوا اضمحلال الخلافة وتقهقرها تمنوا الاستغناء عنها، ولكنهم لم يروا سبيلًا إلى ذلك إلا أن يستبدلوها بخلافة أخرى. على أن بعضهم طمع في النفوذ الديني من طريق الانتساب إلى الخليفة بالمصاهرة.
وأول من فعل ذلك عضد الدولة بن بويه المتوفى سنة ٣٧٢ﻫ، فإنه حمل الطائع لله الخليفة العباسي في أيامه أن يتزوج بابنته، وغرضه من ذلك أن تلد ابنته ولدًا ذكرًا فيجعله ولي عهده، فتكون الخلافة في ولد لهم فيه نسب ولم يوفق إلى مراده. (12)
ولما أفضت السلطة إلى السلاجقة، تقدموا في هذا الطريق خطوة أخرى، فعمدوا إلى التقرب بالمصاهرة أيضًا، ولكن على أن يتزوج السلطان طغرل بك السلجوقي ابنة الخليفة، وهو يومئذ القائم بأمر الله، فخطبها إليه ووسط قاضي الري في ذلك، فانزعج الخليفة لهذا الطلب أيما انزعاج، إذ لم يسبق أن يتزوج بنات الخلفاء إلا أكفاؤهم بالنسب.
وكانت يد السلطان قوية والخليفة لا شيء في يده، فأخذ في استعطافه؛ ليعفيه من إجابة طلبه، فأبى السلطان إلا أن يجاب. وحدثت أمور يطول شرحها خيف منها على الدولة، فاضطر الخليفة إلى القبول - فعقد له عليها سنة ٤٥٤ﻫ، وهذا ما لم يجر مثله قبله؛ لأن آل بويه لم يطمعوا في ذلك ولا تجاسروا على طلبه مع مخالفتهم للخليفة في المذهب(13)
إذ يكفي من الخليفة تنازلًا أن يتزوج بنات الملوك لا أن يزوجهم بناته، ولم ينل هذا الشرف أحد قبل طغرك بك. ومع ذلك فإنه لما دخل إلى عروسه في السنة التالية، قبل الأرض بين يديها وهي جالسه على سرير ملبس بالذهب، فلم تكشف الخمار عن وجهها ولا قامت له، وظل أيامًا يحضر على هذه الصورة وينصرف. على أنه لم يوفق لإتمام ما أراده؛ لأنه توفي في تلك السنة. أما المبايعة بالخلافة لغير العرب فلم تنلها دولة إسلامية قبل العثمانيين، فلما فتح السلطان سليم مصر وجد فيها آخر الخلفاء العباسيين الذين كان السلاطين المماليك قد استقدموهم، فتنازل له عن الخلافة سنة ٩٢٣ﻫ.
المصادر :
1- كتاب الأذكياء ٩.
2- الأغاني ١٤١ ج٦.
3- ابن الأثير ٢٥٧ ج٨.
4- ابن الأثير ٢١٣ ج٩.
5- ابن الأثير ٢٠٨ ج٨.
6- كتاب الأذكياء ٢٧.
7- أبو الفداء ٢٢٢ ج٣.
8- ابن الأثير ١١٩ ج٩.
9- المقريزي ٣٠١ ج٢.
10- ابن خلدون ٥٤٣ ج٣.
11- الفخري ١٢٣.
12- ابن الأثير ٢٨٣ ج٨.
13- ابن الأثير ٨ ج١٠.