فروسية أبي الفضل عليه‌السلام

كان عبد المطلب من زعماء مكة قبل الاسلام ، وكان في زمانه رجل يقال له «سيف بن ذي يزن» وكان من ملوك اليمن ، فجمع عبد المطلب رؤساء قريش وقال : يا قوم إنّكم تحتاجون أن تخرجوا معي نحو «سيف بن ذي يزن»
Sunday, September 3, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
فروسية أبي الفضل عليه‌السلام
 فروسية أبي الفضل عليه‌السلام



 

كان عبد المطلب من زعماء مكة قبل الاسلام ، وكان في زمانه رجل يقال له «سيف بن ذي يزن» وكان من ملوك اليمن ، فجمع عبد المطلب رؤساء قريش وقال : يا قوم إنّكم تحتاجون أن تخرجوا معي نحو «سيف بن ذي يزن» لتهنئته في ولايته ...
فلما ذهبوا اليه استقبلهم بحفاوة وأكرم مثواهم وجعلهم في دار الضيافة.
وفي ذات يوم دعا عبد المطلب لوحده ، واختلى به وقال لخدمه : تباعدوا عنا ، فلم يبق في المجلس غير الملك وعبد المطلب وثالثهم ربّ العزة ـ تبارك وتعالى ـ.
فقال له الملك : يا أبا الحارث ، إنّ من آرائي أن أفوض اليك علماً كنت كتمته عن غيرك أريد أن أضعه عندك ، فانك موضع ذلك ، وأريد أن تطويه وتكتمه إلى أن يظهره الله ـ تعالى ـ.
فقال عبد المطلب : السمع والطاعة للملك وكذا الظن بك.
فقال الملك : اعلم يا أبا الحارث إن بأرضكم غلاماً حسن الوجه والبدن جميل القد والقامة ، بين كتفيه شامة ، المبعوث من تهامة ، أنبت الله ـ تعالى ـ على رأسه شجرة النبوة ، وظللته الغمامة ، صاحب الشفاعة يوم القيامة ، مكتوب بخاتم النبوة على كتفيه سطران : «لا اله الا الله» والثاني «محمد رسول الله» والله ـ تعالى ـ أمات أمه وأباه ، وتكون تربيته على جدّه وعمه ، وإني وجدت في كتب بني إسرائيل صفته ، أبين وأشرح من القمر بين الكواكب ، وإني أراك جدّه.
فقال عبد المطلب : أنا جده أيها الملك.
فقال الملك : مرحباً بك وسهلاً يا أبا الحارث.
ثم قال له الملك : أشهدك على نفسي ـ يا أبا الحارث ـ إني مؤمن به وبما يأتي به من عند ربّه ، ثم تأوّه «سيف» ثلاث مرات بأن يراه ، فكان ينصره ....
ثم إنّ الملك أمر لكل واحد منهم ببدرة بيض ، فحمل كلّ واحد منهم على دابة وبغل ، وأمر لكلّ واحد منهم بجارية وغلام وثياب فاخرة ، ولعبد المطلب بضعفي ما وهب لهم.
ثم دعا الملك بفرسه «العقاب» وبغلته «الشهباء» وناقته «العضباء» وقال : يا أبا الحارث ؛ إنّ الذي أسلمه اليك أمانة في عنقك تحفظها إلى أن تسلمها إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.
وقال له : إعلم أني ما طلبت على ظهر هذه الفرس شيئاً إلا وجدته ، وما قصدني عدو وأنا راكب عليها إلّا نجاني الله ـ تعالى ـ منه ، وأما البغلة فاني كنت أقطع بها الدكداك والجبال لحسن سيرها ، ولا أنزل عنها ليلي ونهاري ، فأمره أن يتحفظ ويجعلها لي تذكرة ، وبلغه عني التحية الكثيرة.
فقال عبد المطلب : السمع والطاعة.
ثم ودعوه وخرجوا نحو الحرم حتى دخلوا مكة ....
ثم إنّ عبد المطلب لما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نزل عن مركوبه وعانقه وقبّل ما بين عينيه وقال له : إنّ هذا الفرس والبغلة والناقة أهداها اليك «سيف بن ذي يزن» ويقرأ عليك التحية الطيبة.
ثم أمر أن يحمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الفرس ، فلمّا استوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ظهر الفرس انتشط وصهل صهيلاً شديداً فرحاً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.
كانت الخيل العربية ولا زالت ذات أنساب عريقة وأصيلة بحيث يحتفظ بشجرتها عند أصحابها عادة ونسب هذا الفرس أنّه : عقاب بن ينزوب بن قابل بن بطال بن زاد الراكب بن الكفاح بن الجنح بن موج بن ميمون بن ريح ... (1).
فكان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله العقاب والمرتجز وذو الجناح ، وكانت من جياد الخيل المدربة على الحروب ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما ركبها عادت قوية شابة بقوة الله وإعجاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.
فلما توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انتقلت إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن ثم إلى السبطين عليهما‌السلام ومن ثم صار العقاب إلى أبي الفضل العباس ، والمرتجز إلى علي الأكبر عليه‌السلام ، وذو الجناح إلى أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام.
وكان أبو الفضل العباس اذا ركب العقاب واقتحم الميدان أشرف على الجيش لطول قامته وارتفاع هامته.

الأمان :

قال أبو مخنف : لما كتب ابن زياد كتابه إلى عمر بن سعد بالتعجيل لحرب الحسين عليه‌السلام ، وقبضه شمر بن ذي الجوشن قام هو وعبد الله بن أبي المحل بن حزام الكلابي.
فقال عبد الله : أصلح الله الأمير ؛ إنّ بني أختنا أم البنين : العباس وعبد الله وجعفر وعثمان مع الحسين عليه‌السلام ، فان رأيت أن تكتب لهم أماناً فعلت.
قال ابن زياد : نعم ـ ونعمة عين ـ فأمر كاتبه فكتب لهم أماناً ...
فبعث به عبد الله بن أبي المحل مع مولى له يقال له «كزمان» (2).
ولما قدم عليهم «كزمان» مولى عبد الله بن أبي المحل دعاهم فقال : هذا أمان بعث به خالكم.
فقال له الفتية : أقرأ خالنا السلام وقل له : أن لا حاجة لنا في أمانكم ، أمان الله خير من أمان ابن سمية (3).
وفي اللهوف : وصاح شمر بأعلى صوته : أين بنو أختنا؟ أين العباس واخوته؟
فأعرضوا عنه فقال الحسين عليه‌السلام : أجيبوه ولو كان فاسقاً.
قالوا : ما شأنك وما تريد؟
قال : يا بني أختي أنتم آمنون لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين والزموا طاعة أمير ... يزيد.
فقال العباس : لعنك الله ولعن أمانك ، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ، وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء (4).

عشية اليوم التاسع :

وفي عشية اليوم التاسع من المحرم نادى عمر بن سعد : يا خيل الله اركبي وبالجنة أبشري ، فركب الناس حتى زحف نحوهم بعد العصر ، والحسين عليه‌السلام جالس أمام بيته محتبياً بسيفه ، إذ خفق برأسه على ركبتيه ، فسمعت أخته الضجة ، فدنت من أخيها فقالت : يا أخي أما تسمع الأصوات قد اقتربت ، فرفع الحسين عليه‌السلام رأسه فقال : إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الساعة في المنام فقال لي : إنّك تروح الينا ، فلطمت أخته وجهها ونادت بالويل.
فقال لها الحسين عليه‌السلام : ليس لك الويل يا أخيه اسكتي رحمك الله.
ثم قال له العباس بن علي عليه‌السلام : يا أخي أتاك القوم.
فنهض ثم قال : يا عباس ـ اركب بنفسي أنت يا أخي ـ حتى تلقاهم وتقول لهم : مالكم وما بدالكم وتسألهم عما جاء بهم ، فأتاهم العباس في نحو من عشرين فارساً ، فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر.
فقال لهم العباس : ما بدالكم وما تريدون؟
قالوا : قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم.
فقال : فلا تعجلوا حتى ارجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم.
فوقفوا وقالوا : ألقه فاعلمه ثم القنا بما يقول لك.
فانصرف العباس راجعاً يركض إلى الحسين عليه‌السلام يخبره الخبر ، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم ويكفونهم عن قتال الحسين عليه‌السلام ، فجاء العباس إلى الحسين عليه‌السلام فأخبره بما قال القوم فقال عليه‌السلام : ارجع اليهم ، فان استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة ، وتدفعهم عنا العشية لعلنا نصلّي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار.
فمضى العباس إلى القوم ، ورجع العباس واستمهلهم العشية ، فتوقف ابن سعد وسأل من الناس ، فقال عمرو بن الحجاج : سبحان الله لو كانوا من الديلم وسألوك هذا لكان ينبغي لك أن تجيبهم اليه.
فبعث عمر بن سعد إلى الحسين عليه‌السلام يقول : إنّا قد أجلناكم إلى غد فان استسلمتم سرحناكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد وإن أبيتم فلسنا تاريكيكم ... (5).

حارس خيام الحسين عليه‌السلام :

في معالي السبطين عن فخر المخدرات زينب عليها‌السلام قالت : لما كانت ليلة عاشوراء من المحرم خرجت من خيمتي لأتفقد أخي الحسين عليه‌السلام وأنصاره ، وقد أفرد له خيمة ، فوجدته جالساً وحده يناجي ربّه ويتلوا القرآن ، فقلت في نفسي : أفي مثل هذه الليلة يترك أخي وحده ، والله لأمضين أخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك.
فأتيت إلى خيمة العباس فسمعت منها همهمة ودمدمة ، فوقفت على ظهرها فنظرت فيها فوجدت بني عمومتي وأخوتي وأولاد اخوتي مجتمعين كالحلقة وبينهم العباس ابن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو جاث على ركبتيه كالأسد على فريسته ، فخطب فيهم خطبة ما سمعتها إلّا من الحسين عليه‌السلام ، مشتملة بالحمد والثناء لله والصلاة والسلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.
ثم قال في أخر خطبته : يا اخوتي وبني اخوتي وبني عمومتي إذا كان الصباح فما تقولون؟
فقالوا : الأمر اليك يرجع ونحن لا نتعدى لك قولك.
فقال العباس : إنّ هؤلاء ـ أعني الأصحاب ـ قوم غرباء ، والحمل الثقيل لا يقوم إلّا بأهله ، فاذا كان الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم ، نحن نقدمهم للموت لئلا يقول الناس : قدموا أصحابهم ، فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة.
فقامت بنو هاشم وسلّوا سيوفهم في وجه أخي العباس وقالوا : نحن على ما أنت عليه.
قالت زينب عليها‌السلام : فلما رأيت كثرة اجتماعهم وشدّة عزمهم وإظهار شيمتهم سكن قلبي وفرحت ... (6).
لقد قضى أبو الفضل العباس تلك الليلة في حراسة خيام الحسين عليه‌السلام ، فأطبق بجلاله وشهامته على الأجواء ، حيث كانت ومضات سيفه البتار تسلب الليل سكونه ، وعجز العدو على كثرتهم تلك الليلة عن القيام بأي حركة ، بل سلب العباس النوم من عيونهم ، كيف لا وهو شبل أسد الله وربيب علي المرتضى؟!
وهكذا قضى الحسين وأصحابه تلك الليلة بالمناجاة ، ما بين قائم وقاعد ، وراكع وساجد ، ولهم في تلاوت القرآن دوي كدوي النحل ، وأخلدن بنات النبي وعقائل الوحي والوصي ، ومن معهن من الأطفال والصبية تلك الليلة إلى الاطمئنان والأمان ؛ لأن الجميع كانوا في حماية العباس وحراسته.
لقاء بين زهير بن القين وأبي الفضل العباس عليه‌السلام :
ولما رجع العباس واخوته إلى الحسين وأعلموه بما أراده الماجن منهم ، قام زهير بن القين إلى العباس وحدّثه بحديث.
فقال له : ألا أحدثك بحديث وعيته؟!
قال العباس عليه‌السلام : بلى حدثني به.
قال زهير : اعلم يا أبا الفضل إنّ أباك أمير المؤمنين عليه‌السلام طلب من أخيه عقيل ـ وكان عارفاً بأنساب العرب وأخبارها ـ أن يختار له امرأة ولدتها الفحولة من العرب وذوو الشجاعة منهم ؛ ليتزوجها فتلد له غلاماً فارساً شجاعاً ينصر الحسين بطف كربلا ، وقد ادخرك أبوك لمثل هذا اليوم فلا تقصر عن نصرة أخيك وحماية أخواتك.
فثارث غيرته الهاشمية وتفجرت همته العلوية ، فتمطى في ركابه حتى قطعه وقال : يا زهير تشجعني هذا اليوم ، فوالله لأرينك شيئاً ما رأيته (7).
فجدل أبطالاً ونكس رايات في حالة لم يكن همه القتال ولا منازلة الأبطال ، بل كان همه إيصال الماء إلى الأطفال ، ولكن لا مردّ للقضاء ولا دافع للأجل المحتوم.
وقع العذاب على جيوش أمية / من باسل هو في الوقائع معلم
ما راعهم إلّا تقحم ضيغم / غيران يعجم لفظه ويدمدم
عبست وجوه القوم خوف الموت / والعباس فيهم ضاحك متبسم
قلب اليمين على الشمال وغاص في / الأوساط يحصد في الرؤوس ويحطم
قسماً بصارمه الصقيل وإنني / في غير صاعقة السما لا أقسم
لو لا القضا لمحا الوجود بسيفه / والله يقضي ما يشاء ويحكم (8)
وقال حفيده الفضل بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس عليه‌السلام :
إني لأذكر للعباس موقفه / بكربلاء وهام القوم تختطف
يحمى الحسين ويحميه على ظمأ / ولا يولي ولا يثني فيختلف
ولا أرى مشهداً يوماً كمشهده / مع الحسين عليه الفضل والشرف
أكرم به مشهداً بانت فضيلته / وما أضاع له أفعاله خلف (9)

لقد ضاق صدري :

ولما رأى أبو الفضل عليه‌السلام وحدة أخيه وقتل أصحابه وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم لله انبرى اليه يطلب الرخصة منه ليلاقي مصيره المشرق ، فلم يسمح له الامام عليه‌السلام. وقال له بصوت حزين النبرات : «أنت صاحب لوائي».
لقد كان الامام عليه‌السلام يشعر بالقوة والحماية مادام أبو الفضل ، فهو كقوة ضاربة إلى جانبه ، يذبّ عنه ، ويرد عنه كيد المعتدين ، وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً : «لقد ضدق صدري من هؤلاء المنافقين وأريد أن آخذ ثاري منهم ..».
لقد ضاق صدره وسئم من الحياة حينما رأى النجوم المشرقة من أخوته وأبناء عمومته صرعى مجزرين على رمضاء كربلاء ، فتحرّق شوقاً للأخذ بثأرهم والالتحاق بهم.
وطلب الامام منه أن يسعى لتحصيل الماء إلى الأطفال الذين صرعهم العطش ، فانبرى الشهم النبيل نحو أولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والرأفة ، فجعل يعظهم ويحذّرهم من عذاب الله ونقمته ، ووجّه خطابه اليهم قائلاً : «.. هذا الحسين بن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته وهؤلاء عياله وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء ، قد أحرق الظمأ قلوبهم ، وهو مع ذلك يقول : دعوني أذهب إلى الروم أو الهند وأخلّي لكم الحجاز والعراق ...».
وساد صمت رهيب على قوات ابن سعد ، ووجم كثيرون وودّوا لوتسيخ بهم الأرض ، وبكى جماعة ، واعتزل آخرون ، فانبرى اليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فردّ عليه قائلاً : يا ابن أبي تراب لو كان وجه الأرض كلّه ماءً وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلّا أن تدخلوا في بيعة يزيد ....
لقد بلغت الخسة ولؤم العنصر وخبث السريرة بهؤلاء الأرجاس مستوى ماله من قرار ....
ورجع أبو الفضل إلى أخيه فأخبره بعتو القوم وطغيانهم ، وسمع فخر عدنان صراخ الأطفال والصبية وهم يستغيثون وينادون : العطش .. العطش (10).
وروي أنّه دخل الخيمة التي وضعوا فيها القِرَب فرأى الأطفال قد كشفوا صدورهم ووضعوها على القِرَب الخالية لعل نداوتها تبرد غليلهم وتطفىء لهيب ظمأهم وتخفف عنهم ، فقال لهم أبو الفضل : اصبروا يا نور عيني سأسقيكم الماء ، فحمل رمحه وشهر سيفه وأخذ معه القربة ، واندفع ببسالة لاغاثتهم ، فركب فرسه واقتحم الفرات.

أهل البيت يمنعون الماء :

إذا كانت الشريعة المطهرة حثت على السقاية ذلك الحث المتأكد ، فانما تلت على الناس أسطراً نورية مما جبلوا عليه ، وعرفت الأُمة بأن الدين يطابق تلك النفسيات البشرية والغرائز الطبيعية ، وأرشدتهم إلى ما يكون من الثواب المترتب على سقي الماء في الدار الآخرة ؛ ليكونوا على يقين من أنّ عملهم هذا موافق لرضوان الله وزلفى للمولى سبحانه يستتبع الأجر الجزيل ، وليس هو طبيعي محض ، وهذا ما جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المعصومين عليهم‌السلام من فضل بذل الماء في محل الحاجة اليه وعدمها سواء كان المحتاج اليه حيواناً أو بشراً مؤمناً كان أو كافراً.
ففي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أفضل الأعمال عند الله إبراد الكبد الحرى من بهيمة وغيرها (11).
وقال الصادق عليه‌السلام : من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمن اعتق رقبة ، ومن سقى الماء في موضع لا يوجد في الماء كان كمن أحيى نفساً ، ومن أحياها فكأنما أحيى الناس أجمعين (12).
وقد دلت هذه الآثار على فائدة السقي بما هو حياة العالم ونظام الوجود ، ومن هنا كان الناس فيه شرع سواء كالكلاء والنار ، فلا يختص اللطف الالهي بطائفة دون طائفة.
وقد كشف الامام الصادق عليه‌السلام السر في جواب من قال له ما طعم الماء؟
فقال عليه‌السلام : طعم الحياة (13).
ولما كانت السقاية أشرف شيء في الشريعة المطهرة ، وكانت لها تلك الأهمية والمكانة من النفوس كان أجداد الحسين عليه‌السلام سادة السقاة ، وقد أذعنت قريش لقصي بسقاية الحاج فكان يطرح الزبيب في الماء ويسقيهم الماء المحلّى كما كان يسقيهم اللبن (14).
وكان ينقل الماء إلى مكة من آبار خارجها ثم حفر بئراً إسمها «العجول» في الموضع الذي كانت دار «أم هاني» فيه. وهي أول سقاية حفرت بمكة ، وكانت العرب إذا استقوا منها ارتجزوا :
نروي على العجول ثم ننطلق
إنّ قصياً قد وفى وقد صدق
ثم حفر قصي بئراً سماها «سجلة» وقال فيها (15) :
أنا قصي وحفرت سجلة
تروي الحجيج زغلة فزغلة
وكان هاشم ـ أيام الموسم ـ يجعل حياضاً من ادم في موضع زمزم لسقاية الحاج ويحمل الماء إلى منى لسقايتهم وهو يومئذٍ قليل (16).
ثم إنّه حفر بئراً سماها «البندر» وقال : إنّها بلاغ للناس فلا يمنع منها أحداً (17).
وأما عبد المطلب فقد قام بما كان آباؤه يفعلونه من سقاية الحاج ، وزاد على ذلك ، أنّه لما حفر زمزم وكثر ماؤها أباحها للناس ، فتركوا الآبار التي كانت خارج مكة لمكانها من المسجد الحرام ، وفضلها على من سواها لأنها بئر إسماعيل (18).
وزاد عبد المطلب في سقاية الحاج بالماء أن طرح الزبيب فيه ، وكان يحلب الابل فيضع اللبن مع العسل في حوض من أدم عند زمزم لسقاية الحاج (19).
ثم قام أبو طالب مقامه بسقي الحاج وكان يجعل عند رأس كلّ جادة حوضاً فيه الماء ليستقي منه الحاج ، وأكثر من حمل الماء أيام الموسم ، ووفره في المشاعر فقيل له : «ساقي الحجيج».
أما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقد حوى أكثر مما حواه والده الكريم من هذه المكرمة ، وكم له من موارد للسقاية لا يستطيع أحد على مثلها ، وذلك يوم بدر ، وقد أجهد المسلمين العطش ، وأحجموا عن امتثال أمر الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في طلب الماء فرقاً من قريش ؛ لكن نهضت بأبي الريحانتين غيرته الشماء ، وثار به كرمه المتدفق ، فلبّى دعاء الرسول وانحدر نحو القليب وجاء بالماء حتى أروى المسلمين (20).
ولا ينس يوم صفين وقد شاهد من عدوه ما تندى منه جبهة كلّ غيور ، فان معاوية لما نزل بجيشه على الفرات منع أهل العراق من الماء حتى كضّهم الظمأ ، فأنفذ اليه أمير المؤمنين عليه‌السلام صعصعة بن صوحان وشبث بن ربعي يسألانه أن لا يمنع الماء الذي أباحه الله ـ تعالى ـ لجميع المخلوقات ، وكلّهم فيه شرع سواء ، فأبى معاوية إلّا التردد في الغواية والجهل ، فعندها قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ارووا السيوف من الدماء ترووا من الماء (21).
ثم أمر أصحابه أن يحملوا على أهل الشام ، فحمل الأشتر في سبعة عشر ألفاً والأشتر يقول :
ميعادنا اليوم بياض الصبح
هل يصلح الزاد بغير ملح
فلمّا أجلوهم أهل العراق عن الفرات ونزلوا عليه وملكوه أبي صاحب النفسية المقدسة التي لا تعدوها أي مأثرة أن يسير على نهج عدوه حتى أباح الماء لأعدائه ، ونادى بذلك في أصحابه (22) ، ولم يدعه كرم النفس أن يرتكب ما هو من سياسة الحرب من التضييق على العدو بأي صورة.
وقد لا تجد مندوحة في تفضيل موقف الحسين عليه‌السلام على غيره في السقاية يوم سقى الحر وأصحابه في «شراف» وهو عالم بحراجة الموقف ، ونفاذ الماء بسقي كتيبة فيها ألف رجل مع خيولهم ، ووخامة المستقبل ، وأنّ الماء غداً دونه تسيل النفوس وتشق المرائر ؛ لكن العنصر النبوي والآصرة العلوية لم يتركا صاحبهما إلّا أن يحوز الفضل.
وأما أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين عليه‌السلام فلا يوازيه أحد في أمر السقاية يوم ناطح جبلاً من الحديد ببأسه الشديد حتى اخترق الصفوف ، وزعزع هاتيك الألوف ، ولم يبال بشيء إلّا إغاثة شخصية الرسالة المنتشرة في تلك الأمثال القدسية من الذرية الطاهرة ، ولم يكتف بهذه الفضيلة حتى أبت نفسيته الكريمة أن يلتذ بشيء من الماء قبل أن يلتذ به أخوه الامام وصبيته الأزكياء.
ومن أجل مجيئه بالماء إلى عيال أخيه وصحبه في كربلاء سمي «السقاء».
في كربلاء لك عصبة تشكوا الظمأ / من فيض كفك تستمد رواوءها
وأراك يا ساقي عطاشى كربلا / وأبوك ساقي الحوض تُمنع ماءها (23)
هذه جملة من موارد السقاية الصادرة من شرفاء سادة متبوئين على منصات المجد والخطر متكئين على أرائك العز والمنعة ، وما كانت تدعهم دماثة أخلاقهم وطهارة أعراقهم أن يكونوا أخلوا من هذه المكرمة ، وقد افتخر بذلك عبد مناف على غيرهم.
وعلى العكس عنهم تجد أعداءهم معاوية وذريته الأرجاس فقد حرموا الماء على آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويالها من فاجعة .. أن تشرب الذئاب والوحوش الماء وتذبل شفاه آل الرسول من الظمأ؟! ياله من ظلم أن يعطش الأسد ، وسيفه بيده ويبكي أطفال الحسين عليه‌السلام ويستغيثون.
أو تشتكي العطش الفواطم عنده / وبصدر صعدته الفرات المفعم
ولو استقى نهر المجرة لارتقى / وطويل ذابله اليها سلم
لو سدّ ذو القرنين دون وروده / نسفته همته بما هو أعظم
يا رب .. يا حكم ويا عدل .. لقد سلب الله الرحمة والانسانية من قلوب أولئك المسوخ فداسوا القيم وتنكروا للحسين عليه‌السلام ....
وحالوا بينه وبين الماء. وناده عبد الله بن حصين الأزدي : يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشاً أنت وأصحابك.
ونادى عمرو بن الحجاج : يا حسين هذا الفرات تلغ فيه كلاب السواد وخنازيرهم ، فوالله لا تذوق منه قطرة.
والغريب أن هذا اللعين كان ممن كاتب الحسين عليه‌السلام ودعاه للقدوم إلى الكوفة!!
وقال زرعة بن أبان بن دارم : حولوا بينه وبين الماء ، ورماه بسهم فأثبته في حنكه فقال عليه‌السلام : اللهم أقتله عطشاً ولا تغفر له أبداً (24).
وهكذا منعوا الحسين وأهله وأصحابه عن الماء ، وفي اليوم السابع اشتد الحصار على سيد الشهداء ومن معه ، وسدّ عنهم باب الورود ، ونفد ما عندهم من الماء ، فعاد كلّ واحد يعالج لهب العطش ، وبطبع الحال كان العيال بين أنة وحنة ، وتضور ونشيج ، ومتطلب للماء إلى متحرّ له بما يبلّ غلّته ، وكلّ ذلك بعين الحسين عليه‌السلام والغيارى من آه والأكارم من صحبه ، وما عسى أن يجدوا لهم شيئاً وبينهم وبين الماء رماح مشرعة وسيوف مرهفة لكن «ساقي العطاشى» لم يتطامن على تحمل تلك الحالة ، فراح يستقي لهم وقدم يمينه ويساره ورجليه وكلّ روحه في سبيل إغاثتهم.
وروي أنّ أهل البيت عليهم‌السلام صارعوا العطش ـ صغاراً وكباراً ـ ثلاثة أيام بلياليها (25).
المصادر :
1- البحار ١٥ / ١٥٠ ـ ١٥١ والقصة مفصلة طويلة.
2- مقتل أبي مخنف : ١٨٦ (مع الترجمة الفارسية).
3- مقتل أبي مخنف : ١٨٨.
4- ابن نما : ٢٨ ، مقتل الحسين عليه‌السلام (للمقرم) : ٢٠٩.
5- الارشاد (للمفيد) : ٢٣٠ ، مقتل الحسين عليه‌السلام (للمقرم) : ٢١١.
6- معالي السبطين ١ / ٣٤٠.
7- الخصائص العباسية : ٢٤٧ ، مقتل الحسين (للمقرم) : ٧٩٤.
8- الخصائص العباسية : ٢٤٩.
9- إبصار العين : ٣١.
10- العباس رائد الكرامة : ٢٢١ ـ ٢٢٢.
11- دار السلام ٣ / ١٦٢.
12- مكارم الاخلاق : ٨٥ فصل ٧ الباب الاول.
13- تهذيب الكامل ١ / ٢٩٩.
14- السيرة الحلبية ١ / ١٥.
15- الروض الانف ١ / ١٠١.
16- شرح النهج ٣ / ٤٥٧.
17- الروض الانف ١ / ١٠١.
18- سيرة ابن معلان بهامش السيرة الحلبية ١ / ٢٦.
19- السيرة الدحلانية ١ / ٢٦.
20- مناقب ابن شهر آشوب ١ / ٤٠٦.
21- نهج البلاغة ١ / ١٠٩.
22- مناقب ابن شهر آشوب ١ / ٦١٩.
23- العباس (للمقرم) : ١٦٥.
24- مثير الاحزان : ٧٠ ، نفس المهموم : ٣٣١.
25- مرأة الزمان في تواريخ الاعيان : ٨٩.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.