لا ريب ان التقدم العلمي في مختلف المجالات الطبية كان قد اثمر في تقليل نسب الامراض بشكل كبير ؛ وذلك من خلال تلقيح الافراد باللقاحات الطبية قبل انتشار الاوبئة ، واستخدام المضادات الحيوية في السيطرة على مختلف الامراض. ولكن هذا التقدم العلمي الجبار ليس له تأثير يذكر على نسب الوفيات في المجتمعات الانسانية المعاصرة ، بل ان نسب الوفيات في المجتمع الصناعي قد انخفضت قبل اكتشاف الامصال والمضادات الحيوية. ويعود انخفاض نسب الوفيات في المجتمعات المعاصرة الى سببين :
الاول : التحسن الظاهر في نوعية المواد الغذائية التي بدأ الناس بتناولها منذ القرن الماضي.
والثاني : تنظيم قوانين الصحة العامة ، كتعقيم الحليب ضد الجراثيم ، وتنقية مياه الشرب ، وفحص الطعام المطبوخ في المطاعم العامة من قبل المؤسسة الصحية ، والسيطرة على الحشرات الناقلة للامراض كالبعوض والذباب والقمّل. ولم يقلل التقدم العلمي في الطب عدد الامراض التي يعاني منها المجتمع الرأسمالي المعاصر ، حتى ان « النظرية الجرثومية » التي ابهرت العالم في القرن التاسع عشر لم يعد لها رصيد امام امراض الحضارة الرأسمالية الحديثة مثل السرطان وامراض القلب ، وانتفاخ الرئة ، والشلل ، وامراض نقص المناعة المكتسبة ، بل اصبح النظام الصحي الرأسمالي بكل تقدمه العلمي الجبار عاجزاً عن علاج هذه الامراض الحديثة.
ومجمل القول ، ان اغلب الامراض التى تصيب الافراد ، تعزى الى البيئة الاجتماعية والطبيعية التي يعيش فيها الانسان. فالغذاء ونوعيته وطريقة تحضيره تلعب دوراً مهماً في صحة او سقم الانسان ، وكذلك العامل الوراثي ، والجو وما يترتب عليه من برودة ، او حرارة ، والكآبة ، والضغط النفسي ، ونشاط الفرد او خموله ، وتناوله الخمر والمسكرات ، واستعماله السجائر والمخدرات ، وتلوث البيئة الطبيعية بالاشعاع والكيميائيات.
وبالتأكيد فان البيئة الحضارية الحديثة تساعد على انتشار امراض مثل الصداع النصفي ، وقرحة المعدة والامعاء ، والكآبة النفسية ، والشلل ، والسرطان بكافة انواعه ، والامراض العقلية التي تنتهي بالجنون او الانتحار. وهذه النهاية المحزنة في رحلة الحياة الانسانية المختومة بالانتحار تعكس الصفحة الاخيرة من مصير الحضارة الرأسمالية ؛ فهذه الحضارة جلبت للانسانية امراضاً واوجاعاً لم تأت بها اية حضارة انسانية اخرى على مر التاريخ.
وهذه الامراض الخطيره التي يعاني منها الفرد الرأسمالي تقاوم وتتحدى الطب الحديث بكل قواه ومؤسساته وامكانياته الجبارة. وعلاج امراض السرطان والقلب والقرحة تكلف مالاً اوفر ، وتتطلب وقتاً اطول. ومن المؤكد ان امراض الحضارة الحديثة تبقى ما بقيت الحضارة الرأسمالية تستثمر الارض بشكل جنوني لاعتصار اقصى قدر ممكن من الخيرات. فمصانع الحديد والصلب والكيميائيات ومصانع الذرة تلوث البيئة الانسانية ، مسببة امراضاً بشرية لم يعرف لها الانسان القديم اسماً ولا شكلاً.
وهذه المشاكل الصحية في النظام الغربي يرجع ظهورها وبروزها بهذا الحجم الى قضيتين مهمتين اهملهما ذلك النظام والتفت اليهما الاسلام وأكد عليهما منذ خمسة عشر قرناً ، ونحن نكتشفهما اليوم من جديد ، وهما اولاً : النظام الوقائي ، وثانياً : النظام الغذائي. فعلى صعيد الوقاية ، فقد ورد في المأثور : ( الوقاية خير من العلاج ).
فلو امتثل المجتمع الرأسمالي لهذه المقولة العظيمة لأنقذ حياة الملايين من الافراد الذين يموتون بسبب مخالفتهم هذه القاعة الصحية. ففي العقد الاخير من القرن العشرين يموت في الولايات المتحدة فقط بسبب عادة سيئة واحدة يمكن الوقاية منها ، وهي التدخين وما يترتب عليها من امراض ، كسرطان الرئة والفم والبلعوم ، اكثرمن ٣٥٠ الف فرد سنويا. ويكلف هؤلاء النظام الصحي الامريكي ، من ادوية وعناية طبية قبل موتهم ، مبلغاً يقدر باكثر من عشرين بليون دولار. ولو طُبِّقَ نظام الوقاية لوفر على المجتمع الرأسمالي هذا المبلغ الكبير من المال ، وارجع قسماً من هؤلاء الى اعمالهم وانتاجهم. واذا اضفنا نتائج عادات سيئة اخرى الى عادة التدخين ، كشرب الخمور ، واستعمال المخدرات ، واكل اللحوم والدهنيات بشراهة ، والادمان على شرب السوائل الغازية الحاوية على شتى المواد الكيميائية ، لتبين لنا حجم المشكلة الصحية التي يعاني منها النظام الطبي الرأسمالي.
وعلى صعيد النظام الغذائي ، فان امراض القلب مثلاً تعتبر من امراض الحضارة الحديثة ، وسببها كثرة تناول اللحوم الحمراء ، وهي لحوم الغنم والبقر والخنزير الحاوية على نسبة عالية من الشحوم الحيوانية. وشره الافراد في المجتمع الرأسمالي لتناول هذه اللحوم لا يحدها حد طبي اوقانوني ، لان اختيار الطعام مسألة متعلقة بالحرية الشخصية ، التي هي بزعمهم اساس المبدأ الرأسمالي. فلا يحق للجهة الطبية التدخل قانونيا لتنظيم حرية الافراد الشخصية. ولذلك فان امراض القلب التي تؤدي الى الوفاة ، تعتبر من اكثر الامراض انتشارا في اوروبا الغربية وامريكا في القرن العشرين.
والخلاصة ، ان المؤسسة الطبية الرأسمالية تساعد على تخفيف آلام العديد من الامراض ، ولكنها لا تستطيع محو نتائجها المتوقعة التي تؤدي في النهاية الى الوفاة. ولا نشك ان الطبقة الرأسمالية المتحكمة تعلم ان الوقاية وتحسين نوعية الغذاء اسلم وارخص الطرق لتكامل المجتمع الانساني صحيا ، الا انها لا ترى تغيير نظامها الصحي ، لان الوقاية وتحسين نوعية الغذاء لا تدرّ عليها ارباحاً هائلة كما يدرها النظام الصحي القائم اليوم. اضف الى ذلك ان انصار الفكرة الرأسمالية متمسكون بالمبدأ الرأسمالي الذي يترك للفرد حرية تقرير المصير ، فيما يتعلق باشباع الشهوات الفردية ، حتى لو كانت اضرار ممارسة تلك الشهوات طبياً واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
العلاقة بين الطبيب والمريض
ويختلف تفسير المرض من مريض الى آخر ، ويتنوع ـ على اثر ذلك ـ اندفاع المريض نحو العلاج. فبعض الافراد في المجتمعات الصناعية يفضل العلاج الروحي مثلاً عن طريق رجال الكنيسة ، والبعض الآخر يفضل العلاج الطبيعي الصيني لبعض المراض. والثالث يفضل علاج الهنود الحمر ، القائم على اساس ربط الاسباب الطبيعية بالغيب. والرابع يفضّل العلاج الطبي الذي تقدمه المؤسسة الطبية ، وهو القائم على اساس العلوم والاجهزة الطبية الحديثة.وطريقة الطبيب في وضع العلاج هو ربط الاعراض المرضية باسم طبي لاتيني غالباً ، مترجما آلام المريض ومعاناته الى مرض معروف ؛ فيتم على ضوئه تشخيص المرض والعلاج ، لأن المرض المجهول يصعب علاجه. ولا شك ان دور الطبيب حاسم في تشخيص الحالة المرضية حتى يتم التعامل معها اجتماعيا. فقد يشعر الفرد باضطراب ولكن لا يعرف هل انه مريض ام لا ، فدور الطبيب هنا هو تحديد وجود الحالة المرضية ، كمن يشعر بعدم ارتياح نتيجة تضخم في الانسجة الداخلية ، ولكن ظاهره الخارجي لا يوحي بانه مريض. وكمن يدعي التمارض ولكن باطنه سليم.
فدور الطبيب في هذه الحالات جميعاً هو فحص الحالة المرضية التي يدعيها ذلك الفرد. ولذلك فقد شبّه دور الطبيب بدور الحاكم الشرعي في الفصل بين المتخاصمين ، وهما المريض والنظام الاجتماعي. وعلى ضوء حكم الطبيب يتعامل المجتمع ونظامه مع المريض. فاذا حكم الطبيب بوجود المرض ، اقتنع النظام الاجتماعي بمرض ذلك الفرد ورتب على ذلك حكماً معيناً ، كاعفائه من دوره ومسوؤلياته الاجتماعية. واذا حكم الطبيب بعدم وجود المرض تصرف النظام الاجتماعي تصرفاً مغايراً للتصرف الاول ، وانكر على المتمارض اسلوبه في التهرب من المسؤوليات الاجتماعية.
وللطبيب دور مهم في التمييز بين علامات المرض واعراضه. فالطبيب يشخص علامات المرض من خلال فحص دقات القلب ، ومستوى الدهون في الدم ، ومستوى السكر في البول. اما الاعراض فيفحصها الطبيب من خلال شكوى المريض ، امثال التقيؤ ، واوجاع البطن ، وضعف الجسد ونحوله. وهذا التمييز بين الاعراض والعلامات مهم في تشخيص المرض ، لان المريض قد يأخذ الاعراض مأخذاً مغايراً لمأخذ الطبيب ويرتب عليها اموراً تخالف الواقع.
ولا شك ان الفجوة بين الطبيب والمريض تتسع ، اذا كان المريض جاهلاً بالعلوم الانسانية والطبيعية. فالمريض الذي لا يستطيع القراءة والكتابة ، ولا يفهم طبيعة عمل اعضائه الحيوية لا يفهم مجمل كلام الطبيب ، مهما اوتي ذلك الطبيب من قدرة على التبسيط والتعبير والتفاهم. وهذه الفجوة تخلق مشكلة اجتماعية في فصل الطبيب عن المريض فصلاً اجتماعيا طبقياً ، وهو ما يؤدي الى حرمان المريض من الحصول على مراده في العلاج الكامل.
وقد يلعب الطبيب في المجتمعات الصناعية دوراً في اخفاء المعلومات الاساسية عن زبونه ، مما يجعل الطبيب شخصا بعيد الوصول ، عميق العلم ، صاحب السلطة ، في عين المريض. وهذا الدور النفسي الذي يلعبه الطبيب ليس وليد صدفة ، بل سببه ان مشاركة المريض لمعلومات الطبيب بقدر متساوٍ قد يهدد المنزلة الاجتماعية والسلطة النفسية التي يصنعها الطبيب لنفسه امام المريض المعالج. وهذا يترجَم في النظام الرأسمالي الى خسارة مالية لا يريدها ذلك الخبير لنفسه. وعلى صعيد ثان ، فقد يعجز الطبيب عن تشخيص الحالة المرضية ، فيصف لزبونه علاجاً كاذباً حتى لا يُتهم بالقصور العلمي ، وعندها يخسر زبوناً مستعداً لبذل المال (1).
وبالاجمال فان العلاقة بين الطبيب والمريض في المجتمع الامريكي تعكس علاقة التاجر بالمستهلك ، او البائع بالمشتري ؛ فالاستشارة الطبية حالها حال البضاعة التجارية التي تنتظر من يشتريها من السوق الطبي.
الخبرة الطبية وروادها في النظام الرأسمالي
ومع تطور الطب وتقدم العلوم الصحية في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي اخذت المهنة الطبية ـ تاريخياً ـ تتجه نحو الاندماج بالنظام الطبقي الرأسمالي. فاصبح الاطباء المتخصصون يتمعتون بالمنزلة الاجتماعية التي تضعهم على قدم المساواة مع افراد الطبقة الرأسمالية. وللحفاظ على هذه المنزلة الرفيعة ، فقد سعى النظام الصحي الى تطويع القانون لصالحه (2)فاصبح الطب محصوراً من الناحية القانونية بالاطباء المجازين لممارسة المهنة فقط دون غيرهم. وبعد ذلك ، اصبح الاطباء لا يخضعون لمجالس ادارات المستشفيات ، بل امسى لهم استقلال ذاتي ضمن النظام الصحي. وهكذا اتخذ الطب اولى الخطوات للوصول الى الطبقة العليا حيث الثروة والقوة السياسية والمنزلة الاجتماعية ، على عكس المهن الاخرى ، كالتعليم مثلاً ، حيث يخضع المعلم لسيطرة اعضاء مجلس ادارة المدرسة من وجهاء المحلة ، في تعيين راتبه ، ووضع منهاج عمله في التدريس ، وطرق معاملته الطلبة في الصف المدرسي ، وبقية شروط العمل.
ومهما بلغت قدرتهم العلاجية الواقعية ، حقيقية كانت ام وهمية ، فان الاطباء وضعوا انفسهم في موضع اجتماعي وعلمي خاص ؛ فهم ـ في اعتقاد الناس ـ وحدهم القادرون على انقاذ المرضى من السقم والمرض والموت. وخبراء بهذه الدرجة العليا من العلوم الطبية النافعة قادرون على الدخول للطبقة الاجتماعية العليا من اوسع الابواب ، وقادرون على التحكم بقدر معين من القوة السياسية للنظام الاجتماعي. ولما كان النظام الطبقي يعكس لب الفكرة الرأسمالية ، فان انتظام الاطباء ضمن صفوف الطبقة العليا لم ينتهك حرمة النظام الرأسمالي بالمرة ، لان النظام الصحي الرأسمالي قائم على اساس المنافسة الاقتصادية. وهذه المنزلة العليا لا يجدها اطباء النظام الشيوعي المندثر في روسيا والجمهوريات الاشتراكية المحيطة بها ؛ لان الطبيب في النظام الاشتراكي اجير للدولة ، حيث تحدد الدولة اجرته ـ تماما ـ كما تحدد اجور بقية الموظفين والعمال.
وترجع القوة السياسية للاطباء في النظام الرأسمالي الامريكي الى دور الجمعية الطبية الامريكية في تنظيم الاطباء ضمن اتحاد فيدرالي قوي يمتلك ثروة تؤثر على قرارات السياسيين بمختلف الوانهم وتوجهاتهم. ولكي تستجمع هذه المنظمة قوتها ، قامت في البداية باستحصال تشريع دستوري يعتبر الطبيب من اهل الخبرة ، وبذلك سدت الباب بوجه المشعوذين ، واولئك الذين يدعون قدرتهم على العلاج الروحي والغيبي ، وحصرت تعليم الطب بكليات وجامعات ذات مستوى تعليمي معين. ثم منعت بعد ذلك اي طبيب ، من امتهان الطب مالم يحصل على اجازة رسمية موثقة تسمح له امتهان العلاج. وعن هذا الطريق رفع الاطباء اجور علاجهم تدريجيا ، واصبح لهم استقلال ذاتي مهني ضمن المؤسسة الرأسمالية.
وبطبيعة الحال ، فان وجود هذه الجمعية الطبية يناقض اصل الفكرة الرأسمالية القائلة بوجوب تعدد المؤسسات في حقل واحد من الاعمال ؛ بمعنى انه من اجل تحقيق عملية التنافس الاقتصادي لابد ان يكون هناك متنافسان على الاقل في ساحة واحدة ، حيث تتنافس في كل حقل مؤسستان تجاريتان او اكثر حتى يصح مفهوم التنافس ويصبح حقيقة واقعة. فلا تستطيع شركة طيران واحدة مثلاً ، احتكار سوق النقل الجوي التجاري ، بل يجب تواجد شركتي طيران على الاقل. ولكن الامر يختلف مع منظمة الاطباء الامريكية ، حيث ان الاموال التي تغدقها هذه المنظمة على السياسيين تجعلها تفلت من كل قانون مضاد يصدر لتنظيم واصلاح مهنة الطب في تلك الدولة الرأسمالية ، منذ منتصف القرن التاسع عشر ولحد اليوم.
واستقلال الاطباء ذاتياً يترجم من الناحية العملية الى ان اعمالهم لا تقيّم الا عن طريق زملائهم الاطباء. فالمريض ومدير المستشفى الاداري والقاضي لا يستطيعون تقييم اعمال الطبيب ونقدها ما لم ينقدها طبيب آخر.
ومع ان هذا المنطق سليم بطبيعته باعتبار ان الطبيب اقدر الافراد من حيث الخبرة على نقد زميله اذا اخطأ لانهما يشتركان معاً في فهم طرفي علم واحد ؛ الا ان نتيجة هذا التوجه قيام المؤسسة الصحية ببناء نظام طبي تجاري قائم على اساس تحديد العلاج ، وتعيين الاجور ، وتصنيع الدواء بشكل لا يتدخل فيه الا الكادر الطبي. فمدير المستشفى الاداري والقاضي مثلاً لا يستطيعان الاعتراض على عمل الطبيب او انتقاده باستخدام ادوية او اجهزة طبية لها دور ثانوي في العلاج. وبذلك ، يصبح المدار والهدف من التقييم الطبي نفع النظام الصحي بالدرجة الاولى ، دون النظر الى مصلحة المريض. ولو جمعنا الخصوصيات التي تتمتع بها المهنة الطبية وهي المنزلة الاجتماعية والاستقلال الذاتي والمورد المالي لتبين لنا ان الطب ، كخبرة ، اصبح من اقوى العوامل الاجتماعية في الدخول الى الطبقة العليا في المجتمع الرأسمالي.
ولكن هذا التغير في طبيعة المهنة الطبية يواجه اليوم تحدياً من قبل العديد من التيارات الاجتماعية. فالمعركة لا زالت قائمة بين السياسيين الذين تدعمهم الجمعية الطبية الامريكية وبين معارضي النظام الصحي القائم ، من اجل تحديد دور المؤسسة الطبية في المجتمع الرأسمالي. ولئن كانت المعركة بين اطراف الطبقة الرأسمالية والاطباء ونظامهم الصحي الرأسمالي والطبقة المتوسطة والفقيرة في اوجها اليوم ، فان معارك اخرى قد تفتح في المستقبل بين افراد النظام وبين قادة النظام السياسي والاجتماعي لاسترجاع حقوق الطبقات المستضعفة التي نهبها النظام بعنوان التقنية الصحية والتقدم العلمي. وهذا كله يعكس فشل النظام الرأسمالي في تأسيس نظام طبي مبني على اساس انساني ، لا على اساس المنفعة التجارية البحتة.
ومع ان المهنة الطبية مفتوحة نظريا لكل من يرغب الدخول فيها ، الا ان الدراسات تبين ان النسبة العظمى من الاطباء في النظام الامريكي هم من الافراد البيض البروتستانت من ذوي الخلفية الطبقية العليا. فالمال والواضع العائلي ولون البشرة لها دخل اساسي في تشكيل مستقبل الفرد منذ نعومة اظفاره. اما الفقير من ذوي البشرة السوداء او غير السوداء فليس له نصيب في الدخول الى كليات الطب. ولا شك ان هناك حالات استثنائية قد تسمح لبعض الافراد من الزنوج بالتسجيل في المعاهد الطبية ، الا اننا نتحدث عن السياسة العامة والاسلوب المتبع في تسيير النظام الصحي الرأسمالي الامريكي.
ولا شك ان لارتفاع اجور العلاج الطبي الرأسمالي تبريراً عاماً ، وهو ان الاطباء يتعاملون يومياً مع المرض والالم والموت ، ومهنة كهذه يستحق عاملها اجورا عالية. بل ان الخطأ والاهمال والتقصير في المعالجة يرجع سببه الى انهماك الطبيب في التعامل مع الجسم الانساني ، بما فيه من تغيرات لا يمكن التنبؤ بها. وهذا التبرير مناقض للواقع.
فكما ان الاطباء يتعاملون مع المرض والموت ، فكذلك الممرضين والممرضات المجازين ، فلماذا لا يتعمعتون بنسبة معقولة من الاموال التي يقبضها الاطباء ؟ واذا كان انهماك الطبيب يستدعي ارتكاب الخطأ ، فلماذا لا يدفع الطبيب ثمن خطئه من ماله الخاص ؟ اليس من الظلم تحميل المريض ثمن التجارب المختبرية العديدة التي يأمر بها الطبيب ؟ علماً بان هذه التجارب الزائدة تنفع الطبيب اصلا لا المريض ، لان الخبير ينبغي ان يكون ملمّا بعلمه ، فاين العدالة في ذلك ؟
وهكذا اصبحت المعركة الطبية الرأسمالية معركة ضد النظام المالي بدل ان تكون معركة ضد الامراض والاوبئة. فقد افرزت هذه المعركة نتائج عديدة منها ان النظام الصحي بات يحاول تطبيب المجتمع الانساني ، بمعنى انه يحاول اقحام الطب في مجالات جديدة كان لا يحق له الدخول فيها سابقاً. ولتوضيح ذلك نقول ان المؤسسة الطبية قد اصبحت ثاني اكبر صناعة في الولايات المتحدة ، حيث تستهلك اكثر من عشرة بالمائة من انتاج البلاد وتوظف حوالي عشرة بالمائة من القوى الانتاجية العاملة في صفوفها.
واصبحت صناعة الادوية والاجهزة الطبية من اكبر المصالح في النظام الرأسمالي ، واصبحت شركات التأمين الصحية من اكبر الشركات التي تدر على اصحابها اكبر قدر من الاموال. وهذا الاتساع والتضخم له تأثيره السياسي والاقتصادي على النظام الاجتماعي العالمي ، حيث اخذت المؤسسة الطبية تبحث عن اسواق جديدة وتطلب مستهلكين جدد لزيادة ارباحها وبسط نفوذها.
فالولادة مثلاً ، طبيعية بذاتها تحصل في كل ارجاء العالم منذ خلق الله البشرية على وجه الارض ، وهي لا تحتاج الى تلك العناية الفائقة التي تحاول المؤسسة الصحية الرأسمالية فرضها على الام ، خصوصا اذا كان غذاء الام غنياً بالمواد الطبيعية ؛ الا اللهم في الحالات الاضطرارية فيتحتم عندئذ العلاج الطبي. ولكن المؤسسة الطبية الامريكية جعلت الحمل والولادة قضية طبية تكلف الابوين اجوراً عالية من بداية التخصيب وحتى لحظة الولادة. واصبحت العمليات المختبرية والشعاعية ، بفضل جهود المؤسسة الامريكية ، تتجاوز حدود العناية الصحية للوالدة والمولود ، بل اضحت قضية التخصيب ، والحمل ، وحركة الجنين ، والاجهاض قضايا طبية تصرف من اجلها كميات كبيرة من الاموال. واصبحت السمنة داءً يحتاج الى علاج ، وكذلك الارق وعدم النوم مثلاً.
وهذه حالات لو استخدمت فيها وسائل الوقاية والغذاء الطبيعي والنشاط الجسدي لما استدعى تدخل الطب العلاجي في ذلك. الا ان المؤسسة الطبية الرأسمالية ألزمت الرأي العام بتطبيب القضايا الاجتماعية ، حتى ان الموت الذي كان يعدّ قضية اجتماعية اصبح اليوم قضية طبية ، بحيث ان الطبيب الرأسمالي يقوم مقام الحاكم الشرعي المطلق في الموت والحياة ، فيقرر تعجيل وفاة بعض المرضى ، او يحكم بابقائهم على قيد الحياة اعتماداً على الاجهزة الطبية. وحاولت المؤسسة الطبية اقحام نفسها في بحوث استرجاع سن الشباب ، واكتشاف طرق لوقف الموت. ومع ان هذه المحاولات لم ولن يكتب لها النجاح ، الا ان اعلانها يوحي للاخرين بان العلم قادر على خلق المعجز وفعل المستحيل. وهذا الاعلان يدر ارباحاً اضافية على هذه المؤسسة الطبية التجارية لانه يساهم في سرعة تطبيب النظام الاجتماعي.
ولم يتوقف نشاط المؤسسة الطبية الرأسمالية عند هذا الحد ، بل انها اقتحمت النظام القضائي الرأسمالي ايضا عن طريق تحديد سلوك الافراد وتشخيص الاضطراب العقلي ، لان الجريمة والانحراف اصبحت ، بنظر المؤسسة الصحية ، قضية طبية تستدعي علاجاً طبياً. بل ان الجميعة الطبية الامريكية اليوم تنادي بالعلاج الطبي بدل العقاب القانوني للمجرمين في جرائم القتل والسلب والاعتداء على اعراض الناس. واصبحت الجرائم الناتجة عن الادمان على الكحول والمخدرات ، والاعتداء على الاطفال ، والاعتداء على اعراض النساء ، والسرقة ، امراضاً نفسية تحتاج الى تدخل طبي. وهذا التدخل الطبي في المجال القضائي وضع الطب ومؤسسته في اعلى سلم المؤسسات الاجتماعية.
ولا شك ان نجاح المؤسسة الطبية في تطبيب المجتمع ساهم في تغيير النظام الحياتي للافراد ، فبدلاً من الاعتماد على الطبيعة في رفد الانسان بما يحتاج اليه في نشاطه اليومي ، اصبح الطب عاملاً اساسياً في الحياة اليومية للفرد. فعرضت المؤسسة الطبية ادوية لكل نشاطات الحياة ، فوفرت حبوباً للنوم وحبوباً للايقاظ ، وحبوباً لوقف شهية الطعام وحبوباً لانشاء الجوع ، وحبوباً لتهدئة الجسم وحبوباً لتنشيطه ، واجهزة لفحص الكلام الصادق واجهزة لفحص الكلام الكاذب. وامام هذا النشاط المحموم الذي تقوم به المؤسسة التجارية الطبية تبرز اسئلة عديدة دون جواب وهي : هل يحق للدولة التحقيق في جدوى هذه الادوية ومدى حاجة الناس الحقيقية لها ؟ وهل يحق للدولة التدخل في المؤسسة الصحية لضمان تقديم انزه الخدمات للافراد دون النظر الى الارباح التي تدرها المهنة الطبية ؟ وهل يحق للمريض الحصول على كل المعلومات المتعلقة بحالته الصحية ؟
ولعل الجواب على كل هذه التساؤلات يرتبط اساسا بمفهوم العدالة الاجتماعية وعدالة توزيع الثروة بين الافراد. ولما كان النظام الرأسمالي يؤمن باحقية تسلط الطبقة العليا على شؤون النظام الاجتماعي ، لامتلاكها رأس المال ووسائل الانتاج ، بقى النظام الصحي عندئذ متخلفاً في جوهره عن العدالة والمساواة الانسانية. وبذلك فان التقنية الحديثة والتقدم العلمي لا يستطيعان تغطية فساد جوهر الفكرة الرأسمالية في التعامل مع الافراد وانكار حق الفقراء والمستضعفين في العلاج الطبي وتوفير سبل المعافاة لهم.
المصادر:
1- سياسة السرطان. ( صموئيل ايبشتاين ) سان فرانسسكو : كتب نادي سيرا ، ١٩٧٨ م.
2- المهنة الطبية( اليوت فريدسون ). نيويورك : دود وميد ، ١٩٧٠.