الخيار الآخر

قد يجد المكلّف نفسه أمام حكم شرعي يصعب عليه الالتزام به ، ونقصد بذلك ما دون مرتبة العسر والحرج والاضطرار ، التي لها تكليفها الخاص ، وهنا في موقع الصعوبة ، فإنّ اختلاف الفتاوى يتيح للمكلف خياراً آخر ، يتناسب مع
Sunday, September 24, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الخيار الآخر
 الخيار الآخر



 

قد يجد المكلّف نفسه أمام حكم شرعي يصعب عليه الالتزام به ، ونقصد بذلك ما دون مرتبة العسر والحرج والاضطرار ، التي لها تكليفها الخاص ، وهنا في موقع الصعوبة ، فإنّ اختلاف الفتاوى يتيح للمكلف خياراً آخر ، يتناسب مع مصالحه وظروفه ، وهو ضمن دائرة المشروعية ما دام ناتجاً عن اجتهاد مقبول.
وتبرز أهميّة هذا الأمر أكثر من المستوى الاجتماعي ، بالنسبة للتشريعات التي تتعلّق بالشؤون العامّة للناس.
وكمثال على ذلك موضوع الطلاق ، حيث تحصل حالات من التسرّع والانفعال عند بعض الأزواج ، فيوقع الطلاق ثلاثاً على زوجته دفعة واحدة. وعلى رأي فقهاء المذاهب الأربعة ، فإنّ الطلاق يقع ثلاثاً ، ولا يحلّ له الرجوع إلى زوجته حتّى تنكح زوجاً غيره.
لكن الالتزام بهذا الرأي أدّى إلى الكثير من المشاكل العائلية والاجتماعية ، وفي مقابله رأي آخر لفقهاء الشيعة يرى عدم وقوع الطلاق إلّا مرّة واحدة ، مما يتيح فرصة الرجوع للزوج ، وهو رأي الزيدية أيضاً ، وقد ذهب إلى هذا الرأي من فقهاء السنة الشيخ ابن تيمية وابن القيم.
وقد أخذت بهذا الرأي عدة جهات إسلامية ، وتضمّنه قانون الأحوال الشخصية الذي صدر في مصر سنة ١٩٢٩ م ، وقد جاء في المذكّرة التفسيرية لهذا القانون أنّه موافق لآراء بعض فقهاء المسلمين ، ولو من غير المذاهب الأربعة ، وأنّه ليس هناك مانع شرعي من الأخذ بقول غيرهم خصوصاً إذا ترتّب عليه نفع عام (١).
ويقول الدكتور وهبة الزحيلي ، حول هذه المسألة : والذي يظهر لي رجحان رأي الجمهور وهو وقوع الطلاق ثلاثاً ، إذا طلّق الرجل امرأته دفعة واحدة ، لكن إذا رجّح الحاكم رأياً ضعيفاً صار هو الحكم الأقوى ، فإن صدر قانون ، كما هو الشأن في بعض البلاد العربية ، يجعل هذا الطلاق واحدة ، فلا مانع من اعتماده والافتاء به ، تيسيراً على الناس ، وصوناً للرابطة الزوجية ، وحماية لمصلحة الأولاد ، خصوصاً ونحن في وقت قلّ فيه الورع والاحتياط ، وتهاون الناس في التلفّظ بهذه الصيغة من الطلاق ، وهم يقصدون غالباً التهديد والزجر ، ويعلمون أنّ في الفقه منفذاً للحلّ ومراجعة الزوجة (٢).
ولعلّ كثيراً من المشاكل والتحدّيات ، التي يواجهها المجتمع الإسلامي في هذا العصر ، يمكن معالجتها في الإطار الشرعي ، إذا ما ساد منهج الانفتاح الفقهي ، وتوخي التيسير على الناس.
ويشير الأستاذ الكبير ، مصطفى الزرقا ، إلى هذا الاتّجاه بقوله : ويرى بعض المفكّرين من علماء العصر ، أنّ مجموعة المذاهب الاجتهادية ، يجب أن تعتبر كمذهب واحد كبير في الشريعة ، وكلّ مذهب فردي منها ، كالمذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي وغيرها ، يعتبر في هذا المذهب العام الكبير ، كالآراء والأقوال المختلفة في المذهب الفردي الواحد ، فيرجع علماء الأُمّة ويختارون منها للتقنين في ميدان القضاء والفتيا وما هو أوفى بالحاجة الزمنية ومقتضيات المصلحة في كلّ عصر ، وهذا رأي سديد (3).
وهذا الاتجاه في الاستفادة من تعدد آراء الفقهاء ، لاختيار ما هو الأنسب ، وللتوسعة على الأُمّة ، ليس جديداً ولا طارئاً ، بل هو اتّجاه أصيل وعريق في تاريخ التشريع الإسلامي.
قيل لعمر بن عبد العزيز : لو جمعت الناس على شيء؟ فقال : ما يسرني أنهم لم يختلفوا. قال : ثمّ كتب إلى الآفاق وإلى الأمصار : ليقضِ كلّ قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم (4).
وعن عون بن عبد الله قال : قال لي عمر بن عبد العزيز : ما أحبّ أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يختلفوا ، فإنّهم لو اجتمعوا على شيء فتركه رجل ترك السنّة ، ولو اختلفوا فأخذ رجل بقول أحد أخذ بالسنّة (5).
وروى ابن عبد البرّ النمري بسنده إلى يحيى بن سعيد قال : ما برح أولو الفتوى يفتون فيحل هذا ، ويحرم هذا ، فلا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله ، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه (6).
وقد ألف أحد علماء القرن الثامن الهجري كتاباً بعنوان رحمة الأمة باختلاف الأئمّة.
هو العلّامة الشيخ محمّد بن عبد الرحمن الدمشقي الشافعي ، وقد طبع أخيراً من قبل إدارة إحياء التراث الإسلامي في دولة قطر سنة ١٤٠١ هـ.
ويرى أكثر فقهاء الشيعة تخيير المكلّف في الأخذ بفتوى أيّ من المجتهدين المتساويين في المرتبة العلمية ، بأن يلتزم بالعلم بجميع فتاواه ، أو أن يأخذ ببعض الفتاوى منه ، والبقية من الفقهاء الآخرين.
يقول السيّد محمّد كاظم اليزدي : إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمقلّد تقليد أيّهما شاء ويجوز التبعيض في المسائل (7).

اختلاف المصالح والأهواء :

يفترض في رجل الدين أن يكون على درجة من الورع والتقوى ، تمنعه من الانقياد للأهواء ، والاستجابة للدوافع المصلحية الذاتية ، على حساب القيم والمبادئ.
وبالتالي ، فالمتوقع من رجل الدين الالتزام بتعاليم الدين ، التي تأمر بالوحدة والتعاون والتآلف ، وتنهى عن الفرقة والنزاع والتنافر.
فرجل الدين قد اطّلع ، أكثر من غيره ، على أحكام الدين وتعاليمه ، بشكل مفصل ، من خلال دراسته للقرآن الكريم ، والسنّة النبوية ، وسائر المناهج الدينية.
ولاحظ مدى تأكيد النصوص الشرعية على أهميّة الوحدة ، وحسن التعامل مع الآخرين ، وتشديدها على سوء التفرقة والنزاع والتنافر مع الآخرين.
وإنّ في الألفة والتودد بين الناس ، عظيم الأجر والثواب من الله سبحانه ، وفي التخاصم والتقاطع ما يوجب غضب الربّ تعالى ، وسخطه وعذابه.
هذه المعرفة والاطلاع ينبغي أن تجعل رجل الدين أكثر ورعاً ، وخشية لله ، وأبعد عن الانزلاق في مهاوي الفتن والبغضاء.
يقول تعالى : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) (8).
ورجل الدين ، بقراءته لسير الأنبياء والأولياء ، وخاصّة سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وسير الأئمة عليهم السلام من ذرّيته ، وخيرة أصحابه ، وما تنضح به تلك الصفحات المشرقة من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، وروائع الصفات ... يجب أن يكون أكثر تطلّعاً وتشوّقاً للتأسي ، والاقتداء بتلك النفوس الطاهرة ، والشخصيات المباركة.
ففي سورة الأنعام ، وبعد أن يستعرض القرآن الحكيم بعض الصور والمشاهد من حياة الأنبياء والأولياء ، يقول تعالى : (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (9).
ولأنّ رجل الدين في موقع الإرشاد والوعظ للآخرين ، حيث يدعو الناس إلى تقوى الله ، ويأمرهم بالتزام أحكامه وحدوده ، ويحذّرهم من إغواء الشيطان ، والخضوع للشهوات والأهواء ، فإنّه يجب أن يكون قدوة للناس ، متعظاً بما يعظ به ، وملتزماً قبل غيره ، ليكون كلامه مؤثَّراً في الناس ، مقبولاً لديهم ، وليكون منسجماً مع نفسه.
كما يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام : من نصب نفسه للناس إماماً ، فعليه أنْ يبدأ بتعليم نفسه ، قبل تعليم غيره ، ويكن تأديبه بسيرته ، قبل تأديبه بلسانه. ومعلِّم نفسه ومؤدبِّها ، أحقّ بالإجلال من معلِّم الناس ومؤدِّبهم (10).
لكلّ ذلك ، فإنّ المتوقّع أن تكون العلاقة بين رجال الدين علاقة مثالية ، نابعة من قيم الإسلام ، ومنسجمة مع تعاليمه. وإذا كان الاختلاف العلمي له مبرّراته وأسبابه المقبولة ، فليكن الخلاف ضمن دائرته ، وداخل إطاره وحدوده ، واختلاف الرأي لا يفسد للود قّضية ـ كما يقول الشاعر.
لكن رجال الدين هم من البشر ، وتعتمل في نفوسهم ، كسائر البشر ، مختلف النوازع الشهوانية ، وقد يضعف بعضهم أمامها ، وتخونه إرادته ، فينحرف عن منهج الله ، ويستجيب لدواعي الشهوة والأهواء ، فهو ليس معصوماً عن الخطأ والانحراف.
ولأنّ هذا الاحتمال وارد ، وواقع في تاريخ الرسالات الإلهية ، ولأنّه يشكّل خطورة كبرى في المجتمعات المتديّنة ، لذلك تحدّثت عنه النصوص الدينية ، ودعت المؤمنين لكي يتحلّوا باليقظة والانتباه ، في تعاطيهم وتعاملهم مع رجال الدين ، فلا يسلّمون لهم القياد دون وعي ، ولا يقلّدونهم تقليداً أعمى ، ولا يقدّسونهم تقديساً مطلقاً ، فهم معرّضون ، كغيرهم من الناس ، للخطأ والانحراف ، وليست لهم حصانة خاصّة ، تعفيهم من تبعات الذنوب والآثام.
ولنتأمّل بعض النصوص الواردة في الكتاب والسنّة ، حول التحذير من انحراف رجل الدين ، ومدى الخطورة التي يشكّلها بانحرافه.

نماذج يذكرها القرآن :

يتعاطى بعض المتديّنين مع رجل الدين بمثالية ساذجة ، وبساطة متناهية ، فيأخذون قوله دون تفكير ، ويقدّسون أعماله دون نقاش ، بل ويرفضون أن يتجرّأ أحد على انتقاده أو مناقشته ، وإذا ما انكشف لهم منه خطأ صارخ فاضح ، استعصى عليهم تبريره ، فإنّهم يصابون بهزّة عميقة وصدمة كبيرة ، وكأنّ من حدث لم يكن محتملاً ولا متوقّعاً.
لمثل هؤلاء يتحدّث القرآن الكريم عن بعض النماذج ، ممن خانوا أمانة العلم والدين في الأُمم السابقة ، ليكون المجتمع الإسلامي على حذر من تكرار مثل هذه النماذج.
ـ يقول تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (11).
ـ إنّها قصّة عالم وصل إلى رتبة متقدّمة ، من العلوم والمعارف الدينية ( آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ) فكان العلم ملتصقاً به ، محيطاً به ، محيطاً بجوانب شخصيته ، إحاطة الجلد بالبدن ، لكنّه مع سعة معرفته ، وعمق علمه ، سقط في هاوية الانحراف. ويعبرّ القرآن عن خيانة العالم للمعرفة التي تحتضنه وتحيطه ، بالانسلاخ ( فَانسَلَخَ مِنْهَا ) والانسلاخ خروج جسد الحيوان من جلده حينما يسلخ عنه.
وكيف ينفلت العالم ، وينفصل عن مؤدّى علمه ومعرفته ، مع أنّه عاش في أحضان العلم ، وتشرّبت نفسه بالمعرفة؟
لأنّ العلم لا يعني العصمة ، والإجبار على الطاعة ، فهو خلاف إرادة الله ومشيئته ، بأن يكون الإنسان حرّاً مختاراً ، في سلوكه وتصرّفاته ، ليكون جديراًبالثواب ، مستحقاً للعقاب ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ) فالعلم يهيّئ الإنسان للتحليق والارتفاع في سماء القيم ، إن أراد هو ذلك ، أما إذا خانته إرادته ، وسيطرت على نفسه الأهواء والشهوات ، والانشدادات المادية ، فـ ( أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ) فإنّه يتحمّل مسؤولية سقوطه وانحداره.
وماذا يحصل حينئذٍ؟
إنّه التورّط والتوغلّ في حضيض الانحراف والسقوط ، لأنّ غير العالم قد يردعه الوعظ والتوجيه ، أما العالم ، فلمعرفته بالمواعظ والتوجيهات ، يصبح لديه ما يشبه المناعة من تأثيرها ، كما يحدث لبعض الميكروبات في الجسم ، لذلك أمر الله تعالى نبيه أن يقرأ للناس ، ويتلو عليهم ، خبر هذا العالم المنحرف وقصته ، ليكون مثلاً ونموذجاً ، يدفع الناس للتفكير في تعاملهم وتعاطيهم مع رجال الدين (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (12).
وحديث القرآن عن انحرافات علماء اليهود والنصارى ، ليس في سياق التشهير بهم فقط ، وإنما ليستفيد المسلمون دروساً وعبراً من أوضاعهم. ولدقّة القرآن وموضوعيته ، فإنّه لم يصدر حكماً عاماً على جميع زعامتهم الدينية ، وإنّما الأكثر منهم ، إنصافاً للقلة الملتزمة المتورّعة منهم.
وقد يكون في الآية الكريمة إشارة إلى ناحية مهمّة وهي أنّ رجال الدين ، كطبقة متفرِّغة للعمل الديني ، تأخذ نفقاتها من الناس والأموال الشرعية ، إزاء قيامهم بواجب الإرشاد والهداية ، والدعوة إلى المبادئ والقيم ، ولكنّهم حينما يقومون بدور معاكس ، بممارساتهم الفاسدة المنحرفة ، فإنّهم لا يؤدّون الوظيفة التي على أساسها جاز لهم تناول الأموال الشرعية ، فيصدق عليهم حينئذٍ أنّهم (يأكلون .. الباطل) لأنّهم بدل أن يقودوا الناس إلى طريق الله ، يسيرون الناس في الاتّجاه المعاكس (وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) (13).
ـ يقول تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (14).
فالعلم بالدين يحمّل صاحبه مسؤولية العمل به ، فإذا لم يلتزم بذلك ولم ينعكس الدين على سلوكه ومواقفه ، فإنّه يشبه الحمار الذي يحمل على ظهره مجلّدات الكتب العلمية لكنّه لا يفقهها ولا يتفاعل مع ما فيها.
وعلماء الدين الذين يتحمّلون مسؤولية الرسالات الإلهية ، بعلمهم وموقعهم القيادي ، إذا ما تخلّوا عن القيام بواجبات تلك المسؤولية الخطيرة فإنّهم مصداق لهذا المثل السيِّئ.

تحذيرات من السنّة :

وفي السنّة الشريفة أحاديث كثيرة ، تبيّن خطورة انحراف رجل الدين ، وآثار ذلك الانحراف على قضايا الدين وأوضاع الأُمّة.
ـ فازدواج الشخصية عند العالم المنحرف ، حيث يدعو الناس إلى الدين ، وهو غير ملتزم بأحكامه ، يعرّضه لغضب الله تعالى وشديد عذابه.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : يطلع قوم من أهل الجنّة على قوم من أهل النار فيقولون : ما أدخلكم النار ، إنّما دخلنا الجنّة بفضل تأديبكم وتعليمكم؟ فيقولون : إنّا كنّا نأمر بالخير ولا نفعله (15).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : من تعلم العلم ولم يعمل بما فيه حشره الله يوم القيامة أعمى (16).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ أهل النار ليتأذون بريح العالم التارك لعلمه ، وإنّ أشدّ أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى الله وعجل الله تعالى فرجه ، فاستجاب له وقبل منه ، وأطاع الله وعجل الله تعالى فرجه ، فأدخله الله الجنّة ، وأدخل الداعي النار ، بتركه علمه واتباعه الهوى (17).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقارض من نار ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟
فقال : الخطباء من أمّتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ، وهم يتلون الكتاب ، أفلا يعقلون (18)؟!
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : الزبانية أسرع إلى فسقة حملة القرآن ، منهم إلى عبدة الأوثان ، فيقولون : يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان؟ فيقال لهم : ليس من يعلم كمن لا يعلم (19).
ـ وعلى الجمهور أن يحذر من العلماء غير الملتزمين ، فلا يمنحهم الثقة ، ولا يجعلهم في موقع القيادة والاتباع ، ولا يعتبرهم مصدراً ومرجعياً في شؤون الدين ، في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام : أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام قل لعبادي : لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدهم عن ذكري ، وعن طريق محبتي ومناجاتي ، أولئك قطاع الطريق من عبادي (20).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : إذا رأيتم العالم محبّاً للدنيا فاتهموه على دينكم فإنّ كلّ محبٍّ يحوط ما أحبَّ (21).
ـ وبالطبع ، فإن انحراف رجل الدين له مضاعفاته وآثاره الخطيرة ، على الدين والمجتمع ، لذا جاءت النصوص والأحاديث تنبه إلى ذلك.
قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أي الناس شر؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم : العلماء إذا فسدوا (22).
وعن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام : زلّة العالم كانكسار السفينة تغرق وتُغرق معها غيرها (23).
عالم الدين بين الاستقامة والانحراف إذا ما فقد عالم الدين مناعته ، وحصانته المبدئية ، وضعفت إرادته الإيمانية ، عن مقاومة ( فيروسات ) الأهواء ، فستكون نفسه مرتعاً لمختلف النزعات الشهوانية ، والتوجّهات الانحرافية.
ومن هذه الثغرة الخطيرة الواسعة ، تهبّ رياح الخلافات والصراعات في أوساط رجال الدين.
أولاً : تنمو النزعة الأنانية الذاتية ، على حساب المبدأ والمصلحة العامة ، فالفتاوى والآراء والمواقف حينئذ تتأثّر بحسابات المصلحة الشخصية ، وتصبح خاضعة لمعادلة الربح والخسارة.
فلا ينظر رجل الدين الأناني إلى الأمور والأحداث والأشخاص ، نظرة موضوعية على أساس مقاييس الحق والباطل ، وإنّما بمنظار مصلحته ومنفعته العاجلة ، وهذا قد يؤدي به إلى الاصطدام برجال الدين المبدئيين المخلصين ، كما قد يسبب له الصراع حتّى مع أشباهه من رجال الدين الأنانيين ، لأنّ المصالح تختلف وتتخالف.
وقد تحدّث القرآن الحكيم في آيات عديدة ، محذِّراً ومندِّداً بأولئك المساومين على المبادئ ، والمختلّين عن الحقائق ، من أجل مصالح مادية ضئيلة محدودة ، لأنّ أي ثمن في مقابل الحق تافه حقير.
يقول تعالى : ( وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (24).
وتشير الآية الكريمة إلى أسلوبين خبيثين تستخدمها عادة هذه الفئة : أسلوب تزوير وتزييف الحقائق بإلباس الباطل الذي يطرحونه صورة الحق وعنوانه ، لينطلي على الناس. وإلباس الحق الذي يطرحه غيرهم صورة الباطل وعنوانه ، ليصدّوا الناس عنه.
والأسلوب الآخر : هو كتمان الحقائق والسكوت عنها ، مع معرفتهم بها.
ويقول تعالى : (اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (25).
ويقول تعالى : (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) (26).
فمن أجل المصالح المادية الزائلة يختلقون الفتاوى ، ويبتدعون الآراء ، وينسبونها لله سبحانه.
ورجل الدين المصلحي ينظر إلى سائر رجال الدين كمنافسين له ، ينتابه الحسد إذا ما رأى تقدّماً أو تفوّقاً لأحد منهم ، ويحاول التقليل من شأنه أمام الناس ، ويتصيّد أخطاءه ويتابع عثراته ليشيعها في الجمهور ، وقد يسعى بكلّ جهده لعرقلة طريق الآخرين من رجال الدين إلى التقدّم.
ولعل هذا الجانب من أهم أسباب بروز الخلافات بين رجال الدين ، حيث إنّ ثقة الناس والتفافهم حول رجل الدين ، هما المكسب الرئيسي له ، والرصيد الأساسي لدوره وقيمته ، فالتنافس يكون على هذه الثقة والاتباع بين رجال الدين ، وإذا ما خاصم أحدهم الآخر ، فإنّ أهم ضربة يوجهّها إليه هي إسقاط أو إضعاف شعبيته وسمعته عند الناس ، عبر مخالفة آرائه والتشهير بأخطائه.
وهناك حديث شريف يبيّن أنّ الحسد هو المرض الأكثر شيوعاً في أوساط العلماء ، وأنّه مدخل أكثرهم إلى نار جهنم ، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ستة يدخلون النار قبل الحساب بستة ، قيل : يا رسول الله ، من هم؟ فعد منهم : والعلماء بالحسد (27).
ومثله روي عن الإمام علي عليه السلام : إن الله وعجل الله تعالى فرجه يعذب ستة بستة ... والفقهاء بالحسد (28).
ثانياً : من الطبيعي وجود حالة من التنوّع والتعدّدية في كلّ مجتمع ، بأن تشكّل من أكثر من قومية ، أو تختلف الأديان والمذاهب التي ينتمي إليه أبناؤه ، وقد تتعدّد المدارس الفكرية ضمن الدين الواحد ، أو المذهب الواحد ، هذا فضلاً عن تنوّع القبائل ، أو الطبقات الاجتماعية ، أو الانتماءات الحزبية والسياسية. وعادة ما يصاحب هذا التنوّع والتعدد نوع من الحسّاسيات والخلافات والحواجز والفواصل ، بين أبناء المجتمع الواحد ، قد يصل إلى حدّ التنازع والصراع.
ورجل الدين ، بما يمثّل من موقع ودور مبدئي ، يجب أن يتسامى على تأثيرات تلك الحسّاسيات والحواجز ، ويكون داعية للوحدة والتعاون ، ورائداً للعدالة والإنصاف ، لكن ذلك مشروط بنزاهة رجل الدين ، وصدقية التزامه المبدئي ، فإذا ما تسرّب الانحراف إلى نفسه ، فسيقع تحت تأثيرات الواقع الاجتماعي ، ويكون خاضعاً لتفاعلاته ، بل قد يصبح أداة وواجهة في معادلة الصراع ، بما يشكّله من ثقل ونفوذ بعنوانه الديني. وحينئذ يستغلّ الدين كوقود في معارك الصراع القومي أو الطائفي أو القبلي أو الحزبي أو الطبقي.
وكم من معركة دامية ، وفتنة مرعبة ، سالت فيها الدماء وهتكت فيها الحرم والأعراض ، بين أبناء الأُمّة ، حصلت بتحريض أو تبرير من رجال الدين المنحرفين؟
ثالثاً : أنّ القوى التي تريد الهيمنة على المجتمع ، والسّيطرة على قدراته ، لا تجد لخدمة نفوذها ومصالحها أفضل من رجل دين مصلحي ، يوفّر لممارستها الغطاء الشرعي ، ويكون رأس حربتها باسم الدين ، في مواجهة المخالفين والمعارضين.
وتعطيه في المقابل شيئاً من فتات موائدها ، أو تمنحه منصباً على هامش سلطاتها ، ولعلّ قسطاً لا بأس به من الخلافات والنزاعات داخل الساحة الدينية تحرّكه قوى خارجية معادية ، أو داخلية متسلّطة ، تستغلّ بعض العناصر المصلحية من رجال الدين.
وقد تتجه بعض القوى والجهات إلى دسّ بعض العناصر التابعة لهم بالأساس في أوساط رجال الدين ، للقيام بمهمّات الاستقطاب والإرباك ، مستغلّة ضعف الإدارة والتنظيم لدى المؤسّسات الدينية ، وبساطة التفكير ، وسذاجة التعاطي ، لدى بعض الزعامات والقيادات الدينية.
بالطبع ، فإنّ أي رجل دين مبدئي لا يبيع آخرته بدنياه ، ولا يساوم على مصلحة الدين والأُمّة.

الاختلاف العلمي أخلاقيات ومبادئ :

إذا كان الاختلاف العلمي في القضايا الدينية أمراً لا يمكن تلافيه ، إلّا أنّ التعاطي والتعامل مع هذا الأمر يختلف من حالة إلى أخرى ، فقد يكون هذا الاختلاف سبباً لاستثارة الأذهان والعقول ، وباعثاً لتنشيط حركة الفكر والاجتهاد ، وتوسعة على الناس بتعدّد الخيارات والحلول أمامهم في بعض المسائل.
وقد يتحوّل هذا الاختلاف العلمي عن مساره الإيجابي ليصبح عنصراً سلبياً ، يغذّي حالة التفرقة والنزاع ، وأرضية تنمو فيها أشواك العداوة والخصام.
فلابدّ من وجود ضوابط فكرية ، وأخلاقيات سلوكية ، تحكّم تعاطي العلماء فيما بينهم ، وخاصّة عند مواقع الاختلاف العلمي. والصفحات التالية استعراض وبحث لما يظهر أنّه من أهم الأخلاقيات والضوابط التي تنظّم حالة الاختلاف العلمي.

الاعتراف بحق الاختلاف ووجود الرأي الآخر :

كيف يتكوّن رأي علمي ، في أي قضية شرعية ، عند أي عالم من العلماء فيفتي به ويعتبره رأياً شرعياً وحكماً دينياً؟
لا شكّ أنّ السبيل الوحيد لذلك هو الاجتهاد وإعمال الفكر والنظر ، بالرجوع إلى الكتاب والسنّة ، وبدراسة واستقراء آراء الأئمّة ، والعلماء السابقين ، فالوحي لم ينزل ولا ينزل على أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والاجتهاد باب مشرع ، وطريق مفتوح لجميع المؤهلّين ، فلا يمكن لعالم أن يعتبر نفسه الواحد الوحيد الذي يجوز له الاجتهاد.
وحينما يمارس أي عالم مهمّة الاجتهاد وفق ضوابطها الشرعية ، فسيرى نفسه ملزماً بنتائج اجتهاده ، باعتبارها تمثّل رأي الشرع والدين في نظره.
وهذا ينطبق على غيره أيضاً ، فكما جاز له هو الاجتهاد ، وصحّ له الالتزام بنتائجه ، فذلك جائز وصحيح في حق غيره أيضاً ، فلا يمكن التفكيك والترجيح بلا مرجّح بينهما.
المصادر :
1- المدخل للتشريع الإسلامي : ٣٧٠.
2- الفقه الإسلامي وأدلتّه ٧ : ٤١٣.
3- المدخل للتشريع الإسلامي : ٣٧٠.
4- سنن الدارمي ١ : ١٥١ ، باب «اختلاف الفقهاء».
5- المصدر السابق ..
6- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ٢ : ٨٠.
7- العروة الوثقى ١ : ٢٩ (مسائل التقليد) رقم٣٣ وأيضاً لاحظ رقم٦٥.
8- فاطر : ٢٨.
9- الأنعام : ٩٠.
10- نهج البلاغة ٤ : ١٦ ، الحكمة رقم ٧٣.
11- الأعراف : ١٧٥ ـ ١٧٦.
12- الأعراف : ١٧٦.
13- التوبة: ٣٤ ،
14- الجمعة: ٥.
15- الأمالي للشيخ الطوسي : ٥٢٧.
16- مكارم الأخلاق : ٤٥١.
17- الخصال : ٥١ الحديث٦٣ باب الاثنين.
18- صحيح ابن حبّان ١ : ٢٤٩.
19- كنز العمال ١٠ : ١٩١ ، الحديث٢٩٠٠٥.
20- تحف العقول : ٣٩٧.
21- علل الشرائع ٢ : ٣٩٤.
22- تحف العقول : ٣٥.
23- غرر الحكم للآمدي : ١٥٦ ، الحكمة ٤٠٦٤.
24- ـ البقرة: ٤١ ـ ٤٢.
25- التوبة : ٩.
26- البقرة : ٧٩.
27- إحياء علوم الدين ٣ : ٢٧٦
28- الخصال : ٣٢٥ ، باب الستة.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.