أساليب الحكم عند الامويين

أن الامويين أبعد المسلمين ـ من الناحية الشرعية ـ عن تولى خلافة رسول الله. ولكنهم ـ مع هذا ـ قد ارتفعوا إلى مستويات الحكم في البلاد الإسلامية. وكان ارتفاعهم هذا ، كما سلف أن ذكرنا ، نتيجة للأساليب الفاسدة التي استعانوا بها في هذا
Monday, October 2, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
أساليب الحكم عند الامويين
أساليب الحكم عند الامويين
 



 

أن الامويين أبعد المسلمين ـ من الناحية الشرعية ـ عن تولى خلافة رسول الله. ولكنهم ـ مع هذا ـ قد ارتفعوا إلى مستويات الحكم في البلاد الإسلامية. وكان ارتفاعهم هذا ، كما سلف أن ذكرنا ، نتيجة للأساليب الفاسدة التي استعانوا بها في هذا المضمار. فلا عجب أن رأيناهم يستعينون بالأساليب الفاسدة أيضا لتثبيت قواعد حكمهم الممقوت. وتتلخص أساليبهم تلك في الامور التالية :

اتباعهم سياسة الشدة واللين

اتباعهم سياسة الشدة ـ ووصلهم إلى ذروتها من جهة ، وتبنيهم سياسة اللين وبلوغهم منتهاها من جهة أخرى.
وقد رافق ذلك ونتج عنه تبذير لأموال المسلمين وصرفها في غير مواضعها المشروعة من جهة ، وحبس لها عن مستحقيها من جهة ثانية. وقد جرى ذلك كله حسب مستلزمات الظروف التي كانوا يعيشون فيها. فأثرت تلك السياسة ـ بجناحيها ـ في الخلق العربي الإسلامي اسوأ تأثير.
وتعدى أثرها العهد الأموي فانتشر ـ عن طريق الوراثات الأجتماعية ـ بين العرب المسلمين جيلا بعد جيل حتى أدرك العهد الذي نعيش فيه ، وربما انتقلت أثاره إلى الأجيال القادمة.
وإلى القارئ طائفة من الأمثلة لتأييد وجاهية ما ذهبنا إليه. قال ابن عبد ربه (١).
قدم يزيد بن منبه على معاوية بن أبي سفيان من البصرة ـ وهو أخو يعلى بن منبه صاحب جمل عائشة ـ فلما دخل على معاوية شكا إليه دينا لزمه. فقال معاوية : ياكعب اعطه ثلاثين ألفاً. فلماولى قال معاوية وليوم الجمل ثلاثين ألفاً أخرى.
ولا ندري كيف استحق الرجل ذلك المبلغ الضخم من مال المسلمين !! وهل الخروج على الإمام علي في حرب الجمل جهاد يستحق عليه الناس تناول هذا المبلغ الكبير من بيت المال؟
وإذا كان يزيد قد استحق ذلك المبلغ الجسيم لأن أخاه كان صاحب جمل عائشة فما هي حصة يعلى؟
هل كان معاوية يعتبر أصحاب الجمل وأصحاب صفين ـ كما سنرى ـ من ذوي السابقة في « الإسلام »؟ فيجعل منزلتهم كمنزلة البدريين عند عمر؟
ذلك جانب من جوانب الاعتداء على حرمة الإسلام في سبيل تثبيت قواعد الحكم الأموي.
أما الجوانب الأخرى ـ في هذا الصدد ـ فتظهر في الأمور التالية :
عندما أراد معاوية أن يعزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة ويستعمل بدله سعيد بن العاص بلغ ذلك المغيرة فقدم على معاوية واقترح عليه تولية يزيد ـ من بعده ـ « خليفة » المسلمين. متثنى ذلك معاوية عن عزله وأوجد في نفسه ميلا لتخليف يزيد. فمضى المغيرة ، حتى دخل على يزيد وقال له : أنه قد ذهب أعيان أصحاب النبي. وبقي أبناؤهم ، وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأيا واعلمهم بالسنة والسياسة.
ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة !! ... فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة. فأحضر معاوية المغيرة.
فقال المغيرة يا أمير المؤمنين قد رايت ما كان من سفك الدماء ... وفي يزيد منك خلف فاعقد له. فإن حدث بك حادث كان كهفا للناس ...
قال معاوية : ارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه في ذلك وترى ونرى.
وسار المغيرة حتى قدم الكوفة وذاكر من يثق إليه أمر يزيد. فأجابوا إلى بيعته. فأوفد منهم عشرة ... وأعطاهم ثلاثين ألف درهم وجعل عليهم ابنه موسى.
وقدموا على معاوية فزينوا له بيعة يزيد .. فقال معاوية لموسى : بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال بثلاثين الفاً.
قال : لقد هان عليهم دينهم. فقوى عزم معاوية على البيعة ليزيد.
فكتب إلى عماله بتقريظ يزيد ، وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار. فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو من المدينة والأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة فتبادلوا الكلام في يزيد.
ثم قام يزيد بن المقنع العذري فقال : هذا أمير المؤمنين ـ وأشار إلى معاوية فإن هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ومن أبى فهذا ـ وأشار الى سيفه.
فقال له معاوية : اجلس فأنت سيد الخطباء.
وخطب معاوية فذكر يزيد فمدحه وقال : من أحق بالخلافة منه في فضله وعقله وموضعه !!
منكم منكراً فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ».
أما القصص والأخبار المكذوبة فإلى القارئ طائفة منها تاركين تلمس جوانب الوضع فيها إلى القارئ نفسه. ولنبدأ بقصة نفي العهر والزنى عن هند ام معاوية:
تحدث عتبة مع ابنته هند في أحد الايام حول رمي الناس إياها بالفجور على أثر اتهام زواجها الفاكه إياها بذلك وطلاقه إياها الأمر الذي أدى إلى زوجها بأبي سفيان ، وأخبر عتبة إبنته قائلا : إنك إذا كنت زاينه فإنني سأدس إلى الفاكه من يقتله فينقطع عنك القالة. محلقت أنها لا تعرف لنفسها جرماً وإنه لكاذب عليها.
فقال عتبة للفاكه إنك قد رميت إبنتي بأمر عظيم فهل لك أن تحاكمني إلى بعض الكهنة؟ فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم ، وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف وأخرج معه هند ونسوة معها. فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيرت حال هند وتنكر أمرها واختطف لونها. فرأى ذلك أبوها. فقال لها أبوها : إني أرى ما بك. وما ذاك إلا لمكروه عندك. فهلا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا؟
فقالت : يا إبتي إن الذي رأيت مني ليس لمكروه عندي ولكني أعلم أنكم تأتون بشراً يخطء ويصيب ولا آمن يسمني ميسما يكون علي عاراً عند نساء مكة.
ودراستنا هذه تحتوي على طائفة كبيرة من تلك الأمثلة. ويدخل ضمن تلك الأساليب تصرف آخر توضحه الحادثة الطريفة التالية أوضح تمثيل.
« دخل اياس بن معاوية الشام وهو غلام. فقدم خصما ـ إلى باب القاضي ـ في أيام عبد الملك بن مروان. فقال له القاضي أما تستحي تخاصم ـ وأنت غلام ـ شيخا كبيرا؟
فقال الغلام : الحق أكبر منه. فقال القاضي اسكت ويحك !! فقال الغلام فمن ينطق بحجتي؟.
فقام القاضي ودخل على عبد الملك واخبره. فقال له عبد الملك : إقض حاجته واخرجه من الشام لكيلا يفسد علينا الناس (2) ».
« وخطب معاوية فقال له رجل كذبت. فنزل مغضبا. فدخل منزله ثم خرج عليهم تقطر لحيته ماء. فصعد المنبر فقال ايها الناس إن الغضب من الشيطان وأن الشيطان من النار. فإذا غضب أحدكم فليطفئه بالماء (3).
وقد بدا معاوية ـ في هذا المثال ـ على جانب كبير من المرونة وضبط النفس. كما بدا الشخص الذي رماه بالكذب متثبتاً من قوله. ولو استطاع معاوية أن يثبت عكس ذلك لناقشه على الأقل أو لأمر به فنال ما يستحقه من عقاب لتطاوله على الخليفة.
وقد تجلت أيضاً براعة معاوية في الإلتواء ، وبرز دهاؤه « في التملص من المآزق الحرجة » في إشغاله السامعين بالتحدث عن وسائل إزالة الغضب بدلا من التحدث عن أصل المشكلة التي كان يتحدث عنها فرمي بالكذب من أجلها.
ومن أطرف ما عثرنا عليه أثناء البحث في هذا الجانب من جواب الموضوع إن يزيد ابن شجرة الرهاوي ذكر انه بينهما كان سائراً مع معاوية ومعاوية يحدثه « إذ صك وجه يزيد حجر عاثر فادماه ـ وهو منصت.
فقال له معاوية : لله أنت ! ما نزل بك؟ قال وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال هذا دم وجهك يسيل.
قال : إن حديث أمير المؤمنين ألهاني حتى غمر فكري .. فما شعرت بشيء حتى نبهني أمير المؤمنين. فقال له معاوية. لقد ظلمك من جعلك في ألف من العطاء وأخرجك من عطاء أبناء المهاجرين وكماة أهل صفين.(4)
فأمر له بخمسمائة ألف درهم. وزاده في عطائه الف درهم.
ولا ندري ما هو حق ابن شجرة بهذا العطاء من مال المسلمين.
هل صك الحجر وجهه أثناء الجهاد في سبيل العقيدة الاسلامية؟ أم أثناء النفاق للخليفة؟
وأنكى من ذلك أن بن هند يعطي من بيت مال المسلمين عطاء خاصا لكماة صفين ـ الذين حاربوا عليا ـ واعتدوا على قدسية الإسلام.
ولسنا نعلم فيما إذا كان الذين حاربوا عليا ـ من أهل الشام ـ كماة أم لا. إن الذي نعلمه ـ بالتأكيد ـ أن معاوية وجنوده في ليلة الهرير قد اندحروا أمام جيوش الإمام كما تندحر جيوش الظلام أمام أشعة الشمس فلجأ معاوية إلى الدس والمرواغة ـ كما هو معروف في التحكيم ـ وفي معرض التحدث عن جنس ما ذكرنا
يقول الجهشياري.
الجاحظ : « التاج في اخلاق الملوك » ص ٥٥ ـ ٥٧. وقد عبر أحدهم عن هذا النوع من العطاء بقوله :
سألنـاه الجزيل فما تلكا / وأعطى فوق منبتنا وزادا
وأحسن ثم أحسن ثم عدنا / وأحسن ثـم عدت له فزادا
مراراً لا أعود إليـه إلا / تبسم ضاحكا وثنى الوسادا
لما توفي يزيد بن عبد الملك وأفضى الأمر إلى هشام أتاه الخبر وهو في ضيعة له مع جماعة. فلما قرأ الكتاب سجد. وسجد من كان معه من أصحابه خلا سعيد فإنه لم يسجد
فقال له هشام : لم لم تسجد؟ فقال علام أسجد؟ أعلى إن كنت معي فصرت في السماء؟ قال له فإن طيرناك معنا؟
قال : الآن طاب السجود.
وشبيه بهذا قول مالك بن هبيره لحصين بن نمير ـ على أثر تنازل معاوية بن يزيد عن « الخلافة » ـ هلم فلنبايع لهذا الغلام ـ أي خالد بن يزيد ـ « الذي نحن ولدنا أباه وهو ابن أختنا فقد عرفت منزلتنا من أبيه فإنه كان يحملنا على رقاب العرب (5).
« يتضح من هذين المثالين أن مقياس الخلافة قد أصبح عند الناس في العهد الأموي خاصة ـ هو المصلحة الشخصية بأضيق معانيها. وقد حصل ذلك ـ على ما يبدو ـ كنتيجة من نتائج الحكم الأموي نفسه. ومن ثم صار سبباً من أسباب تثبيته. فهو نتيجة وسبب في آن واحد.
وقد عبر عن ذلك كله خالد بن عبد الله بن أسيد في جوابه لعبد الملك بن مروان حين عاتبه عبد الملك على قلة المال الذي أرسله إليه حينما كان والياً على العراق :
استعملتني على العراق وأهله رجلان : سامح مطيع مناصح وعدو مبغض مكاشح
فأما السامع المطيع المناصح فاجزيناه ليزداد ودا إلى وده.
وأما المبغض المكاشح فأنا دارينا ضغنه وسللنا حقده. فكثرنا لك المودة في صدور رعيتك ».
روي ابن الكلبي عن أبيه عبد الرحمن بن السائب ان الحجاج قال يوماً « لعبد الله بن هاني » ـ وهو رجل من بني أود وكان شريفاً في قومه وقد شهد مع الحجاج مشاهده كلها وكان من أنصاره وشيعته ـ والله ما كافأتك بعد.
ثم أرسل الحجاج إلى أسماه بن خارجة ـ سيد بني فزارة ـ أن زوج عبد الله بن هانىء من ابنتك. فقال لا والله ولا كرامة. فدعا له بالسياط. فلما رأى الشر قال نعم أزوجه.
ثم بعث الحجاج إلى سعيد بن قيس الهمداني ـ رئيس اليمانية ـ زوج ابنتك من عبد الله بن هايئ من أود.
فقال : ومن أود؟ لا والله لا أزوجه ولا كرامة. فقال علي بالسيف. فقال دعني حتى أشاور أهلي. فشاورهم.
فقالوا : زوجه ولا تعرض نفسك لهذا الفاسق فزوجه.
فقال الحجاج لعبد الله : قد زوجتك بنت سيد فزارة وبنت سيد همدان وعظيم كهلان. وما أورد هناك !! فقال لاتقل ـ أصلح الله الأمير ـ ذلك فإن لنا مناقب ليست لأحد من العرب. قال وماهي؟ قال ماسب امير المؤمنين عبد الله بن مروان ـ في نادينا قط.
قال الحجاج : منقبة والله. قال وشهد معنا صفين مع أمير المؤمنين ـ معاوية ابن أبي سفيان ـ سبعون رجلا وما شهد منا ـ مع أبي تراب ـ إلا رجل واحد ، وكان ـ والله ما علمته امرأ سوء.
قال الحجاج : منقبة والله. قال ومنا نسوة نذرن إن قتل الحسين بن علي أن تنحر كل واحدة عشر قلائص. ففعلن.
قال الحجاج : منقبة والله. قال وما منا رجل عرض عليه شتم أبي تراب ولعنه إلا فعل وزاد ابنيه حسنا وحسينا وأمهما فاطمة.
قال الحجاج : منقبة والله. قال وما أحد من العرب له من الصباحة والملاحة :
فضحك الحجاج وقال : أما هذه ـ يا أبا هانئ ـ فدعها وكان عبد الله بشع المنظر مجدوراً قبيح الوجه شديد الحول (6)
ذلك ما يتصل بالمصانعة والمداراة والملاينة التي اتبعها الأمويون لتثبيت حكمهم في بلاد الاسلام.
أما سياسة الشدة ـ وهي الجانب السلبي لما ذكرناه ـ فتظهر ـ بأبشع صورها ـ في قتل حجر بن عدي وأصحابه ، والحسين بن علي وأصحابه ، وفي قتل عمرو بن سعيد الأشدق ومصعب ابن الزبير ، وعبد الله بن الزبير ، وفي رمي الكعبة واستباحة المدينة ثلاثة أيام كما سنرى في مكان آخر من هذه الدراسة.

الكذب على الله وعلى رسوله وعلى المسلمين

فقد تبنى الأمويون ـ عن طريق المصانعة والمداراة بالمال ـ طائفة من المسلمين لوثوا ضمائرهم فدسوا ـ على رسول الله حديثا مكذوباً.
ولفقوا على المسلمين آنذاك طائفة من القصص والحكايات وأوجدوا مخارج شرعية كثيرة لموبقات الأمويين.
وقد نهى الإسلام عن الكذب في شتى صوره وبخاصة الكذب على الله ورسوله
وفي القرآن طائفة كبيرة من الآيات كلها تبدأ بهذا الشكل : « ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً » الخ (7).
وباستطاعة الباحث المدقق أن يهتدي ـ دون مشقة كبيرة إلى معرفة « الحديث » المفتعل المكذوب ، وتحديد زمانه وتعيين الغاية من وضعه. ويصدق الشيء نفسه على الروايات المكذوبة والأخبار الملفقة
والهدف العام من تلك « الأحاديث » والروايات المكذوبة والأخبار الملفقة : خدمة « العرش » الأموي وتثبيت قواعد بنائه.
أما الهدف الخاص فهو ترجيح كفة بعض الأمويين على بعض آخر في حالة النزاع بين أكثر من جهة أموية واحدة تطمح إلى تسنم مركز قيادة المسلمين.
وكان الأمويون أنفسهم يفعلون ذلك أحيانا ، وكان أتباعهم يفعلونه أحياناً ثانية وكان المأجورون من المشتغلين بامور الدين يدسونه على الدين أحياناً ثالثة.
وإلى القارئ طائفة من ذلك سقناها على سبيل التمثيل لا الحصر.
ولنبدأ بالاحاديث الملفقة أولا :
ذكر البخاري بأسانيده المختلفة عن عبد الله بن عمر « قال قال رسول الله إنكم سترون بعدي إثرة وأموراً تنكرونها. قالوا فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال أدوا أليهم حقهم وسلوا الله حقكم » (8).
وروى البخاري كذلك باسانيده المختلفة عن عبد الله بن عباس « قال قال رسول الله من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا ميتة جاهلية (9).
وذكر البخاري (10) أيضاً باسانيده المختلفة عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه « قال : سأل مسلمة بن زيد الجعفي رسول الله فقال يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعونا حقنا ! فما ترى؟ فاعرض عنه. ثم سأله. فاعرض عنه. ثم سأله في الثانية أو الثالثة ـ فجذبه الأشعث بن قيس ـ وقال رسول الله : اسمعوا واطيعوا فإن عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم. وروى البخاري أيضا باسناده عن عجرفة قال « قال سمعت رسول الله يقول انه ستكون هنات وهنات. فان أراد أن يفرق أمر هذه الامة ـ وهي جمع ـ فاضربوه بالسيف كائنا ما كان (11) »
وروى البخاري كذلك باسناده عن أبي سعد الخدري « قال : قال رسول الله إذا بويع لخلفيتين فاقتلوا الآخر منهما (12) »
وما يجري هذا المجرى من « الأحاديث » لا يكاد يقع تحت حصر لكثرته. وجميعه يدعو الملسمين إلى الخضوع لأوامر الحكومة القائمة مندداً بمثيري الفتن والمشتركين فيها. ويتلخص جميعه فيما يلي (13) « ستكون فتن ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي ، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به ».
يتضح من « الاحاديث » الآنفة الذكر أن الرسول يدعو أمته ـ والمؤمنين برسالته ـ إلى الانصياع إلى حكامهم حتى وإن خرج أولئك الحكام في تصرفاتهم على مبادئ الإسلام ـ وذلك خوفاً من التفرقة والقطيعة. فكان الرسول في تلك « الاحاديث » يدعو امته الى هدم رسالته للمحافظة على وحدة الصفوف على حساب الدين ـ وهو أمر على جانب كبير من الخطورة والمجازفة.
وإذا كانت وحدة الصفوف هي الهدف الأسمن للنبي ـ دون اهتمام بالمبادئ التي تحدث تلك الوحدة وفقاً لمستلزماتها ـ فلماذا هدم الرسول وحدة صفوف العرب في جاهليتهم وحطم أصنامهم ودك معتقداتهم الوثنية وهي أعز شيء لديهم؟ !
ولو كانت تلك « الاحاديث » سليمة من الناحية التاريخية فلماذا لم يستشهد بها أحد من الصحابة عند وفاة الرسول واختلاف الاراء حول تراثه وخلافته.
ولماذا لم يستشهد بها أحد من المسلمين حين ظهور الخلاف بين بعض المسلمين حول الزكاة في عهد أبي بكر وظهور ما يطلق عليهم إسم « المرتدين »؟
ولسنا نعلم من هو الآخر منهما؟ أهو الذي تدور عليه الدوائر؟ وقديماً قيل :
الناس من يلق خيراً قائلون له / ما يشتهي ولأم المخفق الهبل
ولماذا لم تتذكرها السيدة عائشة وطلحة والزبير ـ مع مكانتهم من رسول الله فيحجمون على الخروج على الإمام وشق عصا المسلمين؟
ولماذا لم يستشهد بها أبو موسى الأشعري حينما كان يخذل أهل الكوفة عن نصرة الإمام؟. يضاف إلى ذلك أن تلك « الاحاديث » تتناقض هي وكثير من الآيات القرآنية والاحاديث النبوية. كما أنها لا تنسجم مع الذوق الإسلامي وسيرة الرسول.
جاء في سورة البقرة « وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ».
وفي سورة المائدة « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم .. »
وفي سورة المجادلة « لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو ابناءهم أو اخوانهم وعشريتهم ».
وفي سورة الممتحنة « يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم ».
أما الاحاديث التي تفند « الاحاديث » الآنفة الذكر فإلى القارئ طرفا منها : ذكر مسلم ابن الحجاج (14) عن ابن مسعود بأسانيده المختلفة « أن رسول الله قال : ما من نبي بعثه الله في امته قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدرون بأمره. ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ؛ ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن »
وجاء عن أبي سعيد الخدري أنه قال : « سمعت رسول الله يقول : من رأى منهم منكراُ فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ».
أما القصص والخبار المكذوبة فإلى القارئ طائفة منها تاركين تلمس جوانب الوضع فيها إلى القارئ نفسه. ولنبدأ بقصة نفي العهر والزنى عن هند أم معاوية.
تحدث عتبة مع إبنته هند في أحد الأيام حول رمي الناس إياها بالفجور على أثر اتهام زوجها الفاكه إياها بذلك وطلاقه إياها الأمر الذي أدى إلى زواجها بأبي سفيان ، وأخبر عتبة إبنته قائلاً إنك اذا كنت زانية فانني سأدس إلى الفاكه من يقتله فينقطع عنك القالة. فحلفت أنها لاتعرف لنفسها جرما وإنه لكاذب عليها.
فقال عتبة للفاكه إنك قد رميت إبنتي بأمر عظيم فهل لك أن تحاكمني إلى بعض الكهنة؟ فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم ، وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف وأخرج معه هند ونسوة معها. فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيرت حال هند وتنكر أمرها واختطف لونها ، فرأى ذلك أبوها.
فقال لها أبوها : إني أرى ما بك. وما ذاك إلا لمكروه عندك. فهلا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا؟
فقالت : يا أبيتى إن الذي رأيت مني ليس لمكروه وعندي ولكني أعلم أنكم تأتون بشراً يخطئ ويصيب ولا آمن أن يسمى ميسما يكون علي عاراً عند نساء مكة.
قال لها فاني سأمتحنه قبل المسألة بأمر.
ثم صفر بفرس له فأدلى ثم أخذ حبة بر فأدخلها في إحليله وشده بسير وتركه. حتى إذا وردوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم. فقال عتبة : إنا جئناك لامر وقد خبأت لك خبيئا اختبرك به. فانظر ما هو؟
فقال : ثمرة في كمرة.
فقال : أبين من هذا؟
قال : حبة بر في إحليل مهر.
قال صدقت. أنظر الآن في امر هذه النسوة. فجعل يدنو من واحدة واحدة منهم ويقول انهضي حتى صار إلى هند فضرب على كتفها وقال : أنهضي غير رقحاء ولا زانية ولتلدن ملكا يقال له معاوية ». ولاندري كيف اهتدى ذلك الكاهن إلى حبة البر في إحليل المهر !! وإلى هند ـ دون سائر النساء ـ فأثبت « طهرها » وبشرها بغلام إسمه معاوية؟
إن كل ما نستطيع أن نقوله عن هذا « الكاهن » إنه خرافي من نسيج خيال المدافعين عن هند والمعتذرين عن عهرها الذي يذكره مؤرخو المسلمين. وما يصدق على القصة الآنفة الذكر يصدق على زميلتها التي تروى « إسلام » معاوية قبل عام الفتح.
ذكر الواقدي على ما يروي ابن حجر العسقلاني (15). « أن معاوية أسلم بعد الحديبية وكتم إسلامه حتى اظهره عام الفتح ».
وما ينطبق على ما ذكرناه من الأخبار ينطبق على أخبار أخرى مشابهة وفي مقدمتها الاستدلال بسيماء معاوية ـ وهو في طفولته ـ على سيادته قومه بنظر أعرابي ، وعلى سيادته العرب قاطبة بنظر أمه هند. قال ابن حجر العسقلاني (16).
« أخرج البغوي من طريق محمد بن سلام الجمحي عن أبان بن عثمان بن عفان قال كان معاوية بمنى ـ وهو غلام مع أمه ـ إذ عثر. فقالت قم لا رفعك الله. قال لها إعرابي لم تقولين هذا؟ والله إني لأراه سيسود قومه. فقالت لا رفعة الله إن لم يسد إلا قومه ».
ومن أكذب ما قرأناه ـ في معرض الإطراء على معاوية ـ ما ذكر عن أبي هريرة إنه قال سمعت رسول الله يقول « إن الله إئتمن على وحيه ثلاثة : أنا وجبرئيل ومعاوية ».
وذكر الخطيب البغدادي قولا مأثوراً فحواه أن معاوية ابن أبي سفيان ستر أصحاب رسول الله فاذا كشف الرجل الستر اجترئ على ما وراءه »
وذكر ايضاً أنه سمع رجلا يسأل المعافي بن عمران رأيه في المفاضلة بين عمر بن عبد العزيز ، ومعاوية بن أبي سفيان. فغضب المعافي من ذلك غضبا شديداً وقال : لا يقاس بأصحاب رسول الله أحد. معاوية صاحبه ، وصهره ، وكاتبه ، وأمينه على وحي الله ، وقد قال رسول الله. دعوا لي أصحابي وأصهاري فمن سهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين ».
ومن الطريف أن نذكر هنا أن تلفيق الأحاديث والقصص لخدمة الامويين لم يقتصر على دعاتهم فقط بل تعداه إلى الامويين أنفسهم. فقد لفق شيخهم معاوية ، كثيراً من القصص أثناء نزاعه مع علي كما سنرى وإلى القارئ نموذجاً من أكاذيبه الاخرى ذكر الجهشياري في كتاب الوزراء والكتاب ص ٣٤ « إن معاوية مر بسعد ـ في طريق مكة بعد صلاة الصبح ـ ومعه أهل الشام فوقف على سعد فسلم عليه. فلم يرد عليه‌السلام. فقال معاوية لأهل الشام أتدرون من هذا؟ هذا سعد صاحب رسول الله لا يتكلم حتى تطلع الشمس فبلغ سعدا ذلك فقال ما كان ذلك مني والله على ما قال. ولكن كرهت أن أكلمه ».
يلوح أن دعاة معاوية قد نسوا أن هذا « الحديث »على معاوية لا له. فمعاوية هو الذي بدأ بلعن الامام علي بن ابي طالب دون مبرر شرعي وخلافا للقرآن وسيرة النبي والاخلاق الانسانية الرفيعة. فكأن الرسول لم يلعن إلا معاوية في هذا « الحديث » حين قال « دعوا لي أصحابي واصهاري فمن سبهم فعليه لعنة الله » !! ويغلب على ظني أن هذا » الحديث » قد وضع بعد أن بلغ معاوية غايته من سب الامام وأصبحت ظرووفه السياسة بحاجة إلى أسلوب آخر غير السب.
وعندما أراد معاوية أن يمهد الأمر ـ من بعده ـ لإبنه يزيد لفق دعاة السوء جملة قضايا لتغطية فسقه وفجوره. نذكر منها ما يلي :
ذكر محمد بن عبيد الله بن عمرو العتبي ، على ما يروي ابن الأثير (17). «أن معاوية ـ ومعه إمرأته إبنة قرظة ـ نظر إلى يزيد وأمه ترجله. فلما فرغت منه قبلته بين عينيه. فقالت إبنة قرظة لعن الله ساقي أمك.
فقال معاوية : أما والله لما تفرجت عنه وركاها خير مما تفرجت عنه وركاك.
وكان لمعاوية من أبنة قرظة ـ عبد الله وكان أحمق. فقالت : لا والله ولكنك تؤثر هذا عليه. فقال لها سوف أبين لك ذلك. فأمر فدعى له عبد الله. فلما حضر.
قال أي بني : إني أردت أن أعطيك ما أنت أهله ، ولست بسائل شيئاً إلا أجبتك إليه. فقال : حاجتي أن تشتري لي كلباً فارها وحماراً.
فقال اي بني : أنت حمار واشتري لك حماراً ! اخرج. ثم أحضر يزيد وقال له مثل قوله لأخيه. فخر ساجداً. ثم قال ـ حين رفع رأسه :
الحمد لله الذي بلغ أمير المؤمنين هذه المدة وأراه هذا الرأي. حاجتي أن تعتقني من النار لأن من ولي أمر الامة ثلاثة أيام اعتقه الله من النار.
فتعقد لي ولاية العهد بعدك ، وتوليني العام الصائفة.
وتأذن لي في الحج إذا رجعت ، وتوليني الموسم.
وتزيد لأهل الشام كل رجل عشرة دنانير.
فقال معاوية : قد فعلت. وقبل وجهه وقال لامرأته ـ بنت قرظة ـ كيف رأيت؟ ».
والطريف في القصة الآنفة الذكر ـ عدا تلفيق القول بأن من ولي أمر هذه الامة ثلاثة أيام اعتقه الله من النار.
أن محتويات تلك القصة قد اسندت الى يزيد ابن معاوية ـ قبيل وفاة أبيه وذلك لتحبيبه لأهل الشام تمهيداً لتوليته العرش الأموي بعد وفاة أبيه.
ويؤيد ما ذهبنا إليه أن يزيد طلب من أبيه زيادة عطاء أهل الشام ـ دون غيرهم من المسلمين ، بالاضافة إلى ما كانوا يتمتعون به أثناء حياة أبيه وبخاصة في فترة النزاع مع ابن أبي طالب ليحصل على مؤازرتهم في ترشيحه للخلافة.
ومما يلفت النظر في هذه القصة أن ما ذكر في آخرها يهدم ما ذكر في اولها. فقد نسي واضع القصة أن « يزيد » الذي خر ساجداً بين يدي أبيه وطلب ولاية العهد ليعتقه الله ـ حسب زعمه ـ من النار إلخ .. هو :
يزيد بن معاوية الذي كانت أمه ترجله ـ وعمره ـ في هذه الحال لا يتجاوز السنتين على أحسن الفروض. أي أن واضع القصة نسى أن يزيد بن معاوية هو غير عيسى بن مريم الذي كلم الناس في المهد صبياً. ففي القصة إذن يزيدان :
يزيد بن معاوية الذي ترجله أمه ـ والذي عرفه المسلمون بالفسق ، والفجور بعد ذلك و « يزيد » آخر لفق وجوده دعاة السوء ـ قبيل وفاة أبيه أثناء التمهيد لتوليته أمور المسلمين.
ومن الجدير بالذكر أن « يزيد » الوهمي يظهر لنا أحيانا بعد وفاة أبيه كلما آنس أنصار الامويين في ظهوره خدمة للعرش الأموي.
وليزيد الآنف الذكر أخبار مسطورة في بعض كتب الأدب والتاريخ ، وله سيرة تناقض سيرة يزيد بن معاوية الذي يعرفه المسلمون. وليزيد الوهمي كذلك خطب تناقض ما هو مأثور عنه.
من ذلك مثلا أن : « يزيد » الوهمي خطب مرة ـ على ما يذكر ابن عبد ربه « العقد الفريد : ٢ / ٢٦٥ ».
فقال : الحمد لله. أحمده واستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له. ومن يضل فلا هادي له. واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، اصطفاه لوحيه واختاره لرسالته بكتاب فصله وفضله ، وأعزه وأكرمه ونصره وحفظه. ضرب فيه الأمثال وحلل فيه الحلال وحرم فيه الحرام ، وشرع فيه الدين إعذاراً أو إنذاراً لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسول ، ويكون بلاغاً لقوم عابدين. أوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم الذي ابتدأ الأمور يعلمه وإليه معادها وانقطاع مدتها وتصرم دارها.
ثم إني أحذركم الدنيا فأنها حلوة خفرة حفت بالشهوات ... »
يا للعجب !! يزيد بن معاوية ـ لا يزيد الوهمي ـ يحث الناس على الورع ويزهدهم في الدنيا !! إن الذي لا يرقي إليه الشك بنظرنا هو أن الانسان لو عرض ـ الكلمة المأثورة المارة الذكر مجردة عن توقيع صاحبها ـ على المسلمين في كل مكان لما ترددوا في نسبتها للإمام علي أو الذين يسيرون على نهجه من المسلمين.
ولعل اسم يزيد آخر اسم يرد على الذهن في هذا المضمار.
ومن الأخبار الموضوعة ـ في العهد الاموي « حين اختلف الامويين وانصارهم على « الخليفة » بعد اعتزال معاوية بن يزيد بن معاوية الملك » رؤيا الحصين بن نمير السكوني ، وما اتصل بها من حوادث.
قال الحصين ـ على ما يذكر الطبري (18) : إني رأيت في المنام قنديلا معلقاً في السماء ، وإن من يمد عنقه إلى الخلافة تناوله. فلم ينله أحد. وتناوله مروان بن الحكم فناله. والله لنستخلفنه ... فلما اجتمع رأيهم للبيعة لمروان بن الحكم
أيها الناس تذكرون عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو رجل ضعيف وليس بصاحب أمة محمد الضعيف.
وأما ما يذكر الناس عن عبد الله بن الزبير فانه منافق شق عصا المسلمين. وليس بصاحب محمد المنافق.
وأما مروان فو الله ما كان في الاسلام صدع قط إلا وكان مروان ممن يشعب ذلك الصدع .. وهو الذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل ».
إن هذه القصة تحمل في ثناياها جملة أمور تستوقف الباحثين. فقد لفق موضوع القنديل المعلق في السماء للتعبير عن أمر الخلافة منوط بالله وان خليفة المسلمين هو نور الله في الارض ليربط هذا الامر ـ بعد ذلك ـ بمروان بن الحكم إيهاما للبسطاء والسذج من المسلمين.
وقد اتهم منافسو مروان بتهم شتى من شأنها ـ بنظر واضع القصة ـ أن تبعدهم عن تسنم خلافة المسلمين. فعبد الله بن عمر ضعيف ـ وليس بصاحب أمة محمد الضعيف ـ في حين أن عثمان بن عفان كان ، بنظر الامويين أنفسهم خطب عبد الملك بن مروان يوماً فقال : « لست بالخليفة المستضعف ـ يعني عثمان ـ ولا بالخليفة المداهن ـ يعني معاوية ـ ولا بالخليفة المأفون ـ يعني يزيد » (19)
ووصف واضع القصة عبد الله بن الزبير بالنفاق وأنه شق عصا المسلمين ، وليس بصاحب أمة محمد المنافق ـ في حين ان زبير « أبا عبد الله » وطلحة ومعاوية وآخرين كثيرين قد شقوا عصا المسلمين بخروجهم على الامام علي بن أبي طالب.
أما مروان بن الحكم فلم يكن « برأي واضع القصة » في الاسلام صدع قط الا كان مروان ممن يشعبه. في حين أن سيرته ـ وسيرة أبيه التي ذكرنا طرفا منها في فصل سابق.
قد دلت على نقيض ذلك. ومواقفه من الرسول معروفة ، وسيرته في تأليب الناس على عثمان بن عفان أشهر من أن تذكر.
ولا ندري كيف جاز لواضع القصة أن يزعم مع اعترافه بحرب مروان لعلي بن أبي طالب ـ وشقه عصا المسلمين ـ بان مروان ممن يشعب الصدع في الاسلام عند حدوثه!!
ويتعلق بما ذكرناه « من القصص الملفقة لخدمة الامويين » ما رواه ابن الاثير عن ابي زياد انه قال : كان فقهاء المدينة أربعة : سعيد بن المسيب وعروة ابن الزبير وقبيصة بن ذئيب وعبد الملك بن مروان.(20)
وقال الشعبي : ما ذاكرت أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك بن مروان فأني ماذاكرته حديثاً إلا زادني فيه ولا شعراً إلا زادني فيه ».
ويلوح للباحث أن هذا النوع من الكذب كان يظهر أحياناً على لسان الحكام الامويين. فكان عبد الملك بن مروان مثلا يقول ـ عندما حضرته الوفاة عام ٨٦ هـ.
« أخاف الموت في شهر رمضان. فيه ولدت ، وفيه فطمت ، وفيه جمعت القرآن ، وفيه بايع لي الناس ».
ولا ندري : كيف استطاع عبد الملك أن يعرف أنه فطم في شهر رمضان؟ ! وعمره آنذاك لا يتجاوز السنتين .. على أنه ليس من العسير على الباحث ، مع هذا أن يتلمس دوافع الوضع والكذب في أمثال تلك الامور؟
أما أرجوزة ابن عبد ربه في وصف سيرة عبد الرحمن الناصر فأشهر من أن تذكر. فقد أغفل اسم علي بن أبي طالب من سلسلة الخلفاء الراشدين واعتبر معاوية رابعهم ثم وصل الدولتين الامويتين ـ في الشام والاندلس ـ ببعضهما كما هو معروف.
فقد حدثت ولادة حفيد الحكم بن أبي العاص ـ طريد رسول الله ـ في شهر رمضان كما حصل ـ في ذلك الشهر ـ فطامه وجمعه القرآن ، ومبايعة الناس إياه بالخلافة لكي ترتفع قيمته بنظر المسلمين لما لشهر رمضان من حرمة في نفوسهم.
أما قضية جمع عبد الملك القرآن فنترك التعليق عليها للقارئ لأننا نعلم أن جمع القرآن قد تم في عهد ابن عفان بعد أن أحرقت جميع الصحائف الاخرى.
فهناك إذن « عبد الملك » آخر غير عبد الملك بن مروان. « عبد الملك » الذي لم يكتف بجمع القرآن فقط بل زاد على ذلك أنه جمعه في رمضان ـ وربما كان صائماً ـ على عادة الامويين .. !
ولم يقتصر الكذب الأموي على الامويين أنفسهم بل تعداهم الى إخوانهم في الصراع ضد مبادئ الإسلام. فقد انتشرت قصص كثيرة عن عمرو بن العاص ، وزياد بن أبيه ، والحجاج بن يوسف ومن هم على شاكلتهم من ولاة السوء ، لرفع شأنهم بنظر البسطاء من الناس. قال ابن حجر العسقلاني (21) :
« ذكر الزبير بن بكار أن رجلا قال لعمرو بن العاص ما أبطاك عن الاسلام وأنت انت في عقلك .. قال : أنا كنا مع قوم لهم علينا تقدم .. فلما بعث رسول الله فأنكروا عليه لذنبهم. فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا فاذا حق بين. فوقع في قلبي الاسلام ...
وقال ابراهيم بن مهاجر عن الشعبي عن قبيصة بن جابر : صحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلا أبين قرآناولا أكرم خلقا ولا اشبه سريرة بعلانية منه.
وفي صحيح مسلم من رواية عبد الرحمن بن شماسة قال : لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة بكى. فقال له عبد الله بن عمرو ـ ابنه ـ ما يبكيك؟ فذكر أنه كان شديد الحياء من رسول الله لا يرفع طرفه إليه ...
عمرو بن العاص بن وائل السهمي المستهزئ برسول الله الذي نزل فيه أن شانئك هو الأبتر ».
عمرو الذي حارب رسول الله يوم أحد وقاوم أصحابه عند النجاشي.
عمرو بن العاص الذي غدر بأبي موسى أثناء التحكيم « كان شديد الحياء من رسول الله » وأبين السملمين قرانا ، وسريرته لا تختلف عن علانيته !!! إنه « عمرو الوهمي » عمرو آخر دون شك .
أما كذب عمرو بن العاص نفسه فيتضح بأوضح أشكاله في المثال التالي : ذكر الواقدي في مغازي رسول الله ص ١٩ أن عاتكة بنت عبد المطلب رأت في المنام « أن راكبا أقبل على بعير حتى وقف بالابطح ثم صرخ بأعلى صوته يا آل غدر إنفروا إلى مصارعكم ... فاجتمع الناس ... ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فصرخ بمثلها ثلاثا. ثم مثل به بعيره على رأس ابي قبيس. ثم صرخ بمثلها ثلاثا. ثم أخذ صخرة من ابي قبيس فأرسلها فأقبلت تهدي حتى اذا كانت بأسفل الجبل انفلقت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دور مكة الا دخلته منها فلقة. فكان عمرو بن العاص يقول لقد رأيت في دارنا فلقة من الصخرة التي انفلقت من أبي قبيس. »
المصادر :
1- العقد الفريد : ١ / ١٩٤.
2- ابن أبي الحديد ، « شرح نهج البلاغة » ٤ / ١٣٣.
3- ابن قتيبة ، « عيون الأخبار » ١ / ٢٩٠.
4- الوزراء والكتاب ص ٥٩.
5- الطبري : « تاريخ الامم والملوك » ٧ / ٣٨.
6- راجع ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ١ / ٣٥٧ الطبعة الأولى بمصر.
7- راجع : سورة آل عمران ، والأنعام ، والأعراف ، وهود ، والنحل ، والكهف ، والعنكبوت ، والسجدة ، والزمر.
8- صحيح البخاري ٨ / ٨٧.
9- المصدر نفسه ٨ / ٨٧.
10- المصدر نفسه ٢ / ١١٩.
11- صحيح البخاري ٢ / ١٢١.
12- صحيح البخاري ٢ / ١٢٢.
13- روى ذلك أحمد بن حنبل في مسنده ٢ / ٢٨٢ بإسناده عن أبي هريرة
14- صحيح مسلم ١ / ٣٨ ـ ٣٩.
15- الاصابة في تمييز الصحابة ٣ / ٤١٢ ـ ٤١٣.
16- المصدر نفسه ٣ / ٤١٢ ـ ٤١٣.
17- الكامل في التاريخ ٣ / ٣١٧.
18- تاريخ الامم والملوك ٧ / ٣٨.
19- ابن الاثير : الكامل في التاريخ ٤ / ٤١.
20- الكامل في التاريخ ٣ / ١٠٤
21- الإصابة في تمييز الصحابة : ٣ / ٢ ـ ٣.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.