موقف المختار من التحوّلات السياسية

من الثابت تاريخيا تشيّع المختار وموالاته لأهل بيت نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن المعروف أنّ أقطاب التشيع والمحدثة في ذلك الحين لم ينهضوا بأعباء تغيير الواقع التاريخي الذي ساد بعد غياب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمور
Sunday, October 8, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
موقف المختار من التحوّلات السياسية
 موقف المختار من التحوّلات السياسية



 

من الثابت تاريخيا تشيّع المختار وموالاته لأهل بيت نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن المعروف أنّ أقطاب التشيع والمحدثة في ذلك الحين لم ينهضوا بأعباء تغيير الواقع التاريخي الذي ساد بعد غياب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمور كثيرة ، أوضحها لدينا الاقتداء بأمير المؤمنين عليه‌السلام الذي صرح في بعض خطبه بالسكوت والصبر بعد أن لم يجد ناصرا ولا معينا ، ومن هنا اتخذ شيعته موقف المسالمة حفظا على بيضة الإسلام الذي كانت تحيطه الأخطار من كل حدب وصوب ، ولم يكن هذا الموقف ثابتا في تاريخ التشيّع ، إذ تغير بعد بروز نجم الأمويين بعد أن تمهّدت السبل إليهم ، وهنا يبرز المختار كشخصية شيعية معارضة فنراه قد فتح أبواب بيته لمبعوث الحسين بن علي عليهما‌السلام ، إلى أهل الكوفة مسلم بن عقيل عليه‌السلام ، وهذا يساعدنا على اعتبار أن ثورته رحمه‌الله كانت أمرا طبيعيا ومنتظرا من رجل شجاع ومخلص مثل المختار رضي‌الله‌عنه (١).
وحيث انتهى مصير الإمام الحسين إلى ما انتهى إليه من ثورة عملاقة على طغاة العصر وفراعينه كتبها الدهر بأحرف من نور ، وحيث لم تسنح الفرصة للمختار بالاشتراك في تلك الثورة ، إذ كان في سجن ابن زياد كما تقدم. وما ان أفرج عنه إلاّ وقد صمّم الانتقام من الشجرة الملعونة وأتباعها من اشترك في قتل ريحانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسبطه الإمام الحسين عليه‌السلام.

علاقة المختار بمسلم بن عقيل

لقد بلغ يزيد بن معاوية الطاغية المستبد لعنه اللّه الذروة في الشراسة والعنف ، فزرع الأحقاد والضغائن في كل مكان ، ومثل المجازر الدموية على مسرح الشهوات ، وأصبح الإسلام على حافة الهاوية والدمار ، يستعمله أداة لتحقيق أطماعه الجشعة. فقد وضع مصلحته الخاصة فوق كل الاعتبارات المقدسة ، وأطلق أيدي الأذناب والخونة والمرتزقة لتعبث بأموال الناس ، وتعبث في الأرض فسادا ، وتطعن الأمة الإسلامية في أقدس قضاياها.
وكان لاستهتار ذلك الوغد اللعين بمقدرات الأُمّة ، والأوزار الثقيلة التي نجمت عن تصرفاته الطائشة قد فجرت في نفس الإمام الحسين عليه‌السلام ، آلاما لا حدّ لها ، نتيجة لإحساسه بالمساوئ التي كان يعجّ بها المجتمع الإسلامي ، فاتّقدت الحمية في قلبه الشريف واستعر نارها ، تلك النار المحرقة لكل ظالم مستبد ، وجهر بإعلانه على التصميم والمضي قدما على طريق الكفاح ، التصميم الكامل على خوض المعركة الضارية مع المنحرفين ، وأشعل البركان الذي لا ينطفئ ، منغمرا في زحمة النضال ، مهما يتطلّب هذا النضال من تضحيات ، ما دام الإسلام في خطر عظيم ، وهو عليه‌السلام يعلم بأن كل ما يبذله في تصحيح المسار من ثمن ضد الذين لا يضمرون للإسلام إلاّ الحقد الأسود ، والعداء السافر ، هو بعين اللّه محسوب.
وقد زاده ألما وملأه حسرة ، من أن يكون (يزيد) الماجن الخليع حاكما على المسلمين ، فيعمل على الانسلاخ من المبادئ السامية ، والطباع العربية الأصيلة ، فيرتمي في أحضان الخيانة ، ويخضع لأحقاده الموروثة على آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!
فما كان من الإمام الحسين عليه‌السلام وقد بلغته من الكتب ما يقرب من إثني عشر ألف كتاب ، فقرر عند ذلك السفر إلى العراق ولكنه بعث ابن عمه مسلم بن عقيل ليستوثق من البيعة ، وعلى أثر ذلك التفويض خرج مسلم ابن عقيل عليه‌السلام من مكة للنصف من شهر رمضان سنة ستين للهجرة (2) ، وبعد معاناة وصل مسلم الكوفة ، فنزل بدار المختار بن عبيد الثقفي (3) ، وكان شريفا في قومه ، كريما عالي الهمة ، مقداما مجربا قوي النفس شديد على أعداء أهل البيت عليهم‌السلام.
وليس نزول مسلم عليه‌السلام في بيت المختار بالشيء اليسير إذا نظرناه من وجهة الظروف الراهنة آنذاك ، ومن وجهة دعوة جديدة يُراد بها قلب نظام جماعي يدين بالولاء لبني أمية ، فهو على أية حال يعطينا صورة واضحة عن عقيدة هذا الرجل الذي جعل من بيته ندوة ينشر منها دعوة الحسين عليه‌السلام ، بالرغم من كثرة أزلام السلطة الأموية في الكوفة التي كانت تراقب كل شيء.
ومن بيت المختار راح مسلم عليه‌السلام ينشر دعوته ، ويجمع الأنصار من حوله ، وجدَّ في ذلك حتى بلغ عدد من بايعوه ثمانية عشر ألفا (4) ، وقيل خمسة وعشرين ألفا (5) ، حيث اكتظّت شوارع الكوفة بجماهير الهاتفين بتحيات الاستقبال ، وامتلأت الدار على سعتها بالمزدحمين من مختلف الطبقات على الترحيب به ، حاملين وسام حفلة الحفاوة بقدومه ، رافعين شعار التهاني والابتهاج بتشريفه.
وكان من جملة من بايعه ودعا الناس إليه هو المختار ، وكان أمير الكوفة يومئذٍ هو النعمان بن بشير ، ولكن جماعة من بني أمية لم يسكتوا عن تحركات مسلم عليه‌السلام فكتبوا إلى يزيد بجلية الحال. فقد كتب عبد اللّه بن مسلم الباهلي (6) كتابا إلى يزيد يخبره فيه بنشاط مسلم بن عقيل عليه‌السلام وما كان من يزيد إلاّ أن يبعث (عبيداللّه بن زياد) ، واليه على البصرة ويضمّ إليه الكوفة. ثم تدور الدائرة وإذا بعبيداللّه بن زياد أميرا على الكوفة (وسيفه وسوطه على من ترك أمره وخالف نهيه) ، وإذا بأهل الكوفة الذين بايعوا مسلما بالأمس القريب يتخاذلون عنه ، فهم بين متخاذل وخائف مرتاب.
إنّ مجيء ابن زياد إلى الكوفة واليا عليها من قبل يزيد الفاسق الملعون كان سببا في خنق حركة مسلم بن عقيل ، حيث ان أول عمل قام به هو القضاء عليها ، وذلك بتثبيط عزائم قادتها ، وهناك ظفر بهم فسجنهم في بيوتهم ، وجعل عليهم رقابة شديدة ، ومنهم من ألقي في غياهب السجون.
أما المختار فلم يك يعلم بما حدث ، ولم يدر بخلده أن يتخاذل الناس عن مسلم ثم يسلّمونه للسيوف وهم يتفرّجون ، لأنّه يُروى أنه كان في قرية خارج الكوفة تسمى (القفا) وحين علم بذلك أقبل بمواليه وطائفة من قبيلته لتلافي الموقف ومعه (عبد اللّه بن الحرث) ، وهو يحمل رايته الخضراء حتى انتهى به المطاف إلى (باب الفيل).
ولكن رأى فور وصوله ما لم يكن يقدر أن يراه ، رأى الكوفة وهي تموج بحركة قوية عنيفة وعلى رأسها السفاح (عبيد اللّه بن زياد) يصفعها بالسيف والسوط ، فماذا يكون موقفه ضد ذلك التيار الجارف؟ أتراه يقاتل بتلك الجماعة الضئيلة؟ كلاّ ، ولكنه الاستسلام والخضوع للأمر الواقع وليدخر ما عنده من قوى إلى فرصة أخرى ، فلبث وهو لا يدري ما يصنع حتى أُشير عليه أن يجلس تحت راية (عمرو بن حريث) ـ راية الأمان ـ ليأمن على حياته من هذا الطاغية ، فقبل مشورة ذلك الرجل الذي أشار عليه بالدخول تحت الطاعة والخضوع ، ولكنه قال ما يدل على تأثره وانزعاجه (أصبح رأيي مرتجيا لعظم خطيئتكم) ، وأكد عمرو هو الآخر أن يشهد له بالبراءة أن بلغ الأمير عنه ما يريب.
ولكنه سرعان ما مثل بين يدي اللعين ابن زياد :
ابن زياد : أنت المقبل في الجموع لتنصر ابن عقيل وتتولّى أبا تراب وولده.
المختار : أما علي وأولاده فإنّي أحبّهم لمحبّة رسول اللّه. وأما نصرتي لمسلم فلم أفعل.
فانبرى عمرو عند ذلك وشهد له بالبراءة ، ولكن ابن زياد أبى أن يستجيب لهذه الشهادة والعمل على إخلاء سبيله ، بل عمد إلى سوط واستعرض به وجهه ضربا حتى أدماه ، كما أصاب عينه فشترها ، وهذا المشهد العدواني لاشك قد أثر في نفسه تأثيرا قويا وأومى إليه بالقسوة والانتقام وبخاصة من (ابن زياد) ، الذي حاول أن ينفذ فيه القتل ولكن شهادة عمرو
خفّفت من حدّة الموقف فأمر به فغُيِّب (7).

في غيابة السجن :

أدخل المختار إلى السجن ، ولم يداخله اليأس من العودة إلى الحياة الحرة لمواصلة ثورته ، لأنّ البطل الذي يقوم بما قام به المختار من أعمال جبارة لايمكن أن يتسرب إليه اليأس والنكوص ، فإذا عرفنا بأنّه لم يكن رجلاً عاديا ولا من سائر الناس ، أدركنا بأنه رجل ملئ بالثقة والاطمئنان شأنه في ذلك شأن بقية الأبطال الثائرين ، فمن المؤكد بأنه لا يدري بوثوق بأن الحركات السياسية معرضة للفشل كما أنها معرضة للانتصار ، وهو يدري بأنه هو وأمثاله ينبغي لهم أن يعيدوا الكرة مرة أخرى إذا هم فشلوا في حركاتهم ومن شأنهم أنهم يحاولون مرة بعد أخرى حتى ينتصروا ، أما اليأس والتراجع فهما من صفات الجبناء المغفلين لامن صفات الأبطال الناهضين ، لذلك تملكه الأمل والرجاء في المستقبل.
فبقى صامدا ينتظر الساعة التي يخرج من السجن ويعمل في الحياة السياسية الثورية ، آملاً أن يحقق ذلك بعد أن يعمد إلى الخلاص من السجن حين تنتهي هذه الظروف أو تأتي فرصة تسمح له بالخروج ، فهو واثق من تحطيم أغلال السجن ويعيد العمل في الأمر الذي نذر نفسه من أجله وهو الطلب بثأر الحسين عليه‌السلام.
وظل بهذه الخواطر ونحوها وهو في محبسه بـ (قصر الإمارة) ، حتى انبثقت في ذهنه فكرة كانت بمثابة الخلاص من السجن ، وهي أن يكتب إلى عبد اللّه بن عمر ليتولّى مسألة إطلاق سراحه ، يقول المؤرخون أن شقيقته ـ صفية ـ قامت بدورها في هذا المضمار بنصرته فحرّضت زوجها (عبد اللّه بن عمر) أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بهذا الكتاب :
« .. أما بعد فإنّ عبيد اللّه قد حبس المختار وهو صهري ، وأنا أحب أن يعفى ويصلح من حاله فإن رأيت ـ رحمنا اللّه وإياك ـ أن تكتب إلى ابن زياد فتأمره بتخليته والسلام».
وكتب يزيد إلى واليه (عبيد اللّه) بهذا الكتاب :
« .. أما بعد فخلِّ سبيل المختار حين تنظر في كتابي هذا. ».
وحالما وصل الكتاب إلى واليه ابن زياد ، أمر باحضار المختار وأطلق سراحه ولكنّه قال له : « قد أجّلتك ثلاثا فإن أدركتك بالكوفة فقد برئت منك الذمّة ». وهكذا أخرج المختار من محبس عبيد اللّه بن زياد ليتوجّه إلى الحجاز ولكنه يصادف في الطريق بمكان يدعى (واقصة) رجلاً يسمى (ابن عرق) ـ وهو مولى لثقيف ، فقال هذا الرجل : مالي أرى عينك على هذا الحال؟ قال فعل بي ذلك (ابن الزانية) ويعني به (ابن زياد) قتلني اللّه إن لم أقطع أنامله وأعضاءه إربا ، ولأقتلن بالحسين عدد الذين قتلوا بيحيى بن زكريا ، وهم سبعون ألفا (8).

مع ابن الزبير :

كان ابن الزبير ممن يطلب الخلافة لنفسه بعد هلاك معاوية ، وحينما جاء المختار إلى مكة بعد استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام ، علم ابن الزبير بمقدمه ثم حضر عنده وسأله بدوره عن نفسيات أهل الكوفة وما هم عليه فأجابه المختار : « هم في السرّ أعداء ، وفي العلانية أولياء ».
فقال ابن الزبير : « هذه واللّه صفة عبيد السوء ، إذا حضر مواليهم خدموهم ، وإذا غابوا عنهم شتموهم ».
ذرني من هذا وابسط يدك لأبايعك واعطني ما أرضى به لأكون لك من الدعاة في الحجاز ، فسكت ابن الزبير وكأنه لم يصادف هوى من نفسه بهذا الشرط الأخير ، فتركه المختار ومضى إلى الطائف بعد أن رأى ما لا يعجبه فقال : «وإني لما رأيت استغنى عني ، أحببت أن أريه أني مستغنٍ عنه».
بقي المختار في الطائف عاما كاملاً ثم عاد ثانية إلى مكة وحضر عند ابن الزبير وبايعه. وهنا قد يخطر في البال ، لماذا بايع المختار ابن الزبير ، وقد رفض بيعته أول الأمر؟ وجوابه :
أولاً : إنّه كان يعلم عداء ابن الزبير للأمويين وسعيه للوصول إلى السلطة فانضم إليه بهدف الاطاحة بالحكم الأموي لا إيمانا بقضية ابن الزبير ولا حبا وإخلاصا له.
ثانيا : قد تكون بيعة المختار لابن الزبير وسيلة لا غاية ، يهدف من خلالها إلى تحقيق أهدافه وآماله الثورية والسياسية التي وضعها على نفسه في أخذ ثار الحسين عليه‌السلام ، وحين علم أن ابن الزبير لا يحقق ما كان يصبو إليه ولا ينفذ طلباته ولا يفي له بالشروط التي اشترطها عليه انسحب عنه.
وبمعنى آخر : كانت هذه البيعة السبب المباشر للقضاء على الذين اشتركوا في قتل الإمام الحسين عليه‌السلام وأهل بيته وأنصاره ، وإلاّ لتمتّع هؤلاء القتلة المجرمون بالعيش الهانئ والقصور الفارهة التي أقرّها لهم النظام الأموي.
ثالثا : ربما أن البيعة تمّت بطلب من عبد اللّه بن الزبير ، بدليل أن المختار فرض عدّة شروط من أجل أن يبايع ابن الزبير ، كما ذكر الطبري (9) ، والشروط كما يلي :
١ ـ أُبايعك على أن لا تقضي الأمور دوني.
٢ ـ أكون أول من تأذن له ، وآخر من يخرج من عندك.
٣ ـ إذا ظهرت ، استعنت بي على أفضل عملك.
على أية حال ، فكل ذلك يدلّنا بجلاء ووضوح من أن المختار لم يبايع ابن الزبير لا لكونه خارجا عن طاعة بني أمية فحسب ، بل يضاف إلى ذلك أن المختار لم يكن بالرجل العادي الذي يعترف لابن الزبير بالخلافة حتى يمد إليه يده صاغرا ، وهو يعرفه جيدا بأنّه الرجل الممالئ المنحرف في عقيدته ومذهبه ، وأنّه قد شبّ على عداء آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ظهر العداء فيه واضحا حين ترك الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثناء خطبه حتى نقده الناس ولاموه ، فقال كلماته النكراء التي توضّح مدى عقيدته :
«إن له ـ أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أهل بيت إذا ذكرته اشرأبت نفوسهم إليه وفرحوا فلا أحب أن أقرأ ذلك في عينهم».
وبعد كل ذلك ، وبعد أن تيقّن للمختار عدم صدق عبد اللّه بن الزبير معه قرر السفر إلى الكوفة على أن يجد ما يصبو إليه من الثورة والأخذ بالثأر من قتلة الإمام الحسين عليه‌السلام.
المختار قائدا
لا نشك ، في أن موقف المختار من تولّي معاوية للخلافة كان من موقف الإمام الحسين عليه‌السلام ، وإنّما دعاه إلى موقفه السلبي هو الظروف السائدة حينها ، إذ باتت بوادر ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام ، من خلال رفضه لمبايعة يزيد ، وإرساله مسلم بن عقيل عليه‌السلام ، ممثِّلاً عنه إلى أهل الكوفة.
برز دور المختار واضحا في مساندته للإمام الحسين عليه‌السلام ، من خلال تحويل بيته إلى مقرّ للسفارة الحسينية ، وملتقى للمعارضة الشيعية ، غير أن استشهاد مسلم عليه‌السلام ، بأساليب ابن زياد التي نوّهنا عنها سابقا ، وما أعقبها من إلقاء القبض على المختار ، وزجِّه في السجن ، وشتر إحدى عينيه ، الأمر الذي حال بينه وبين الاشتراك في القتال إلى جانب الإمام الحسين عليه‌السلام ، وكان غيابه الذي أكره عليه قد أثّر في نفسه أثرا شديدا ، ومن هنا نذر نفسه على الانتقام ، والثأر من قتله الإمام الحسين عليه‌السلام ، وما كان له ـ والوضع في الكوفة يدعوا للخيبة واليأس ـ إلاّ أن يباشر حركته تلك ، خصوصا وأن ابن زياد كان قد أمره بمغادرة الكوفة بعد أن أخرجه من السجن بواسطة عبد اللّه بن عمر ، فكان أن توجه إلى بلاد الحجاز ، وهناك التقى بعبد اللّه بن الزبير الذي لم يجرؤ على أن يدعو لنفسه والإمام الحسين عليه‌السلام على قيد الحياة. وإذ لقى الحسين ربه ، أظهر ابن الزبير دعوته على الملأ ، وبيّن للناس حقّه في الخلافة ، ووقف يخطب بالناس ، فهاجم أهل الكوفة لغدرهم بالحسين عليه‌السلام (10)
وكان لكلماته رنّة السحر في نفوس العلويين وأهل الحجاز خاصة ، والساخطين على الحكم الأموي عامة ، فالتفّوا حوله ، وناصروه ورأوا فيه الزعيم الذي يأخذ بثار شهيدهم الحسين عليه‌السلام ، ويقضي على الحكم الأموي ، ولما طلبوا منه أن يبايع لنفسه ، لم يجبهم إلى طلبهم كأنّما يريد أن يظهر للناس زهده في الخلافة (11).
وقد ذكر خروج المختار من الكوفة إلى الحجاز ولقائه بابن الزبير ومبايعته له على شروط قبلها المختار للأسباب التالية :
أ ـ خوف ابن الزبير على السلطة التي لم يكن يحلم أن تؤول إليه بهذه السهولة.
ب ـ تخوّف ابن الزبير من المختار الذي أصبحت له منزلة عظيمة بين أشراف المسلمين ، وفي قلوب الشيعة بشكل خاص.
ج ـ أو ربما لاسترضاء عبد اللّه بن عمر بن الخطاب صهر المختار والذي كان ابن الزبير بأمسِّ الحاجة إلى كسب ودِّه.
ولمّا تبيّن لدى المختار ، أن ابن الزبير ليس بالرجل المؤتمَن الذي يتولّى تحقيق وتلبية مطالب الشيعة وطموحاتهم بالقضاء على الحكم الأموي والأخذ بثار الإمام الحسين عليه‌السلام ، ومن ثم إقامة حكومة تلبّي مطالب عامة الناس من الفقراء ، والمعوزين ، وكان من بينهم الموالي الذين عانوا من الاضطهاد الأموي الكثير الكثير. لذلك فقد حزم المختار أمره وجاء إلى الكوفة ليتولّى بنفسه قيادة الجموع وذلك في يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان عام ٦٤ هـ (السادس من مايس عام ٦٧٤م). بعد هلاك يزيد بن معاوية لعنهما اللّه بنحو سنة وبضعة أشهر إذ هلك يزيد لعنه اللّه في يوم الخميس لأربع عشر ليلة خلت من شهر ربيع الأول (سنة / ٦٣ هـ).
وكان يصحب المختار رجل واحد هو عبد اللّه بن كامل الهمداني ، وقد لقيا بـ (العذيب) ، هاني بن أبي حبة الوداعي (12) ، فسأله المختار عن أخبار الكوفة ، فقال : تركت الناس كالسفينة تجول بلا ملاح عليها. فقال المختار : أنا ملاحها الذي يقيمها .
ثم سار المختار حتى انتهى إلى نهر الحيرة ، فنزل واغتسل ولبس ثيابه ، وتقلّد سيفه ، وركب فرسه ، ودخل الكوفة نهارا ، والناس يتهيئون للصلاة ، فجعل لا يمر بملأ إلاّ وقف وسلّم ، وقال : «ابشروا بالفرج ، فقد جئتكم بما تحبّون ، وأنا المسلّط على الفاسقين ، والطالب بدم أهل بيت نبي رب العالمين». ثم دخل الجامع وصلّى فيه ، فرأى الناس ينظرون إليه ، ويقول بعضهم لبعض : هذا المختار ما قدم إلاّ لأمر ونرجو به الفرج.
وخرج من الجامع ، ونزل داره ، ثم بعث إلى وجوه الشيعة وعرفهم أنه جاء من محمد بن الحنفية ، وعلي بن الحسين السجّاد عليه‌السلام ، للطلب بدماء أهل البيت عليهم‌السلام. فقالوا : « أنت موضع ذلك وأهل ».
وخلال ذلك هرب ابن زياد من الكوفة إلى الشام ، وبعد أُسبوع من وصول المختار ، أرسل عبد اللّه بن الزبير واليا من قبله على الكوفة هو ، عبد اللّه ابن يزيد الخطمي ، ومعه إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد اللّه عاملاً على الخراج (13).
المصادر :
1- الأخبار الطوال : ٣٤١ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٣٨٦ (سنة٦٠) ، بحار الأنوار ٤٥ : ٣٥٣.
2- مروج الذهب ٢ : ٨٦ ، الإرشاد / المفيد : ٢٢٨.
3- الطبري ٦ : ١٩٩.
4- المختار الثقفي / أحمد الدجيلي : ٣١ ، نقلاً عن الطبري ٦ : ٢١١.
5- ابن شهرآشوب ٢ : ٣١.
6- وقيل عبد اللّه بن مسلم الحضرمي ، حليف بني أمية.
7- المختار الثقفي / أحمد الدجيلي : ٣٤.
8- تاريخ الطبري ٧ : ٥٩.
9- تاريخ الطبري ٤ : ٤٤٥.
10- انظر الخطبة في تاريخ الطبري ٤ : ٣٦٤.
11- المختار الثقفي / الخربوطلي ٤ : ٣٦٤ ، نقلاً عن الطبري.
12- الطبري ج٨ ، طبقات ابن سعد ٥ : ٧١.
13- الطبري ٥ : ٥٦٠.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.