
عن ابن مسکان عن أبی بصیر قال : سمعت الإمام أبا عبداللّه علیه السلام یقول : لم یزل اللّه جلّ وعزّ ربّنا ، والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدره ذاته ولا مقدور ، فلمّا أحدث الأشیاء وکان المعلوم وقع العلم منه علی المعلوم ، والسمع علی المسموع ، والبصر علی المبصر ، والقدره علی المقدور .
قال : قلت : فلم یزل اللّه متکلّماً ؟
قال : إنّ الکلام صفه محدثه لیست بأزلیّه ، کان اللّه عزّ وجلّ ولا متکلّم(1) .
أقول : هذا الخبر الشریف یدلّ دلاله واضحه علی علمه تعالی المستغنی عن وجود المعلوم ، فإنّه تعالی عالم ولا معلوم والعلم ذاته تعالی . وبعدما خلق المعلوم یقع العلم علی ما کان معلوماً بالعلم بلا معلوم ، وهکذا الأمر بالنسبه إلی السمع والبصر والقدره .
أفاد شیخنا الأستاذ آیه اللّه المیرزا حسن علیّ المروارید قدس سره :
قوله علیه السلام : «وقع العلم علی المعلوم» أی وقع العلم علی ما کان کاشفاً عنه قبل وجوده(2) ؛ انتهی کلامه رفع مقامه .
ومن الواضح أنّ العلم الذاتیّ هو العلم المکفوف المخزون الذی لا یمکن أن یطّلع علیه أحد لسبوحیّته وعدم حصره ، بل علمه تعالی کشف وعیان لجمیع الأنظمه اللامتناهیه ونقائضها بالعلم بلا معلوم .
ثمّ إنّ الإمام علیه السلام أجاب علی سوءال الروای بالنسبه إلی الکلام ، وأنّه تعالی هل کان متکلّماً أم لا ، بأنّ الکلام صفه محدثه ، فکان اللّه تعالی ولا متکلّم .
عن جعفر بن محمّد الأشعریّ عن فتح بن یزید الجرجانیّ قال : کتبت إلی الإمام أبی الحسن الرضا علیه السلام أسأله عن شیء من التوحید فکتب إلیّ بخطّه قال جعفر :
وإنّ فتحاً أخرج إلیّ الکتاب فقرأته بخطّ أبی الحسن علیه السلام : بسم اللّه الرحمن الرحیم الحمد للّه الملهم عباده الحمد ، وفاطرهم علی معرفه ربوبیّته الدالّ علی وجوده بخلقه ، وبحدوث خلقه علی أزلیّته ، وباشتباههم علی أن لا شبه له ، المستشهد بآیاته علی قدرته ، الممتنع من الصفات ذاته ، ومن الأبصار روءیته ، ومن الأوهام الإحاطه به ، لا أمد لکونه ، ولا غایه لبقائه ، لا تشمله المشاعر ، ولا تحجبه الحجاب ، فالحجاب بینه وبین خلقه لامتناعه ممّا یمکن فی ذواتهم ، ولإمکان ذواتهم ممّا یمتنع منه ذاته ، ولافتراق الصانع والمصنوع ، والربّ والمربوب ، والحادّ والمحدود ، أحد لا بتأویل عدد ، الخالق لا بمعنی حرکه ، السمیع لا بأداه ، البصیر لا بتفریق آله ، الشاهد لا بمماسّه ، البائن لا ببراح مسافه ، الباطن لا باجتنان ، الظاهر لا بمحاذ ، الذی قد حسرت دون کنهه نوافذ الأبصار ، وأقمع وجوده جوائل الأوهام ، أوّل الدیانه معرفته ، وکمال المعرفه توحیده ، وکمال التوحید نفی الصفات عنه لشهاده کلّ صفه أنّها غیر الموصوف وشهاده الموصوف أنّه غیر الصفه وشهادتهما جمیعاً علی أنفسهما بالبَیْنَه ، الممتنع منها الأزل . فمن وصف اللّه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن عدّه فقد أبطل أزله ، ومن قال کیف فقد استوصفه ، ومن قال علامَ فقد حمله ، ومن قال أین فقد أخلی منه ، ومن قال إلامَ فقد وقّته ، عالم إذ لا معلوم ، وخالق إذ لا مخلوق ، وربّ إذ لا مربوب ، وإله إذ لا مألوه ، وکذلک یوصف ربّنا ، وهو فوق ما یصفه الواصفون(3) .
قوله علیه السلام «عالم إذ لا معلوم» صریح فی ثبوت العلم بلا معلوم له تعالی فإنّه تعالی عالم قبل المعلوم ، وخالق إذ لا مخلوق ، وربّ إذ لا مربوب ، وإله إذ لا مألوه ، ومن الواضح أنّ ثبوت العلم له تعالی قبل المعلوم یشیر إلی علمه الذاتیّ القدّوس .
حدّثنی محمّد بن یحیی بن عمر بن علیّ بن أبی طالب قال : سمعت الإمام أباالحسن الرضا علیه السلام یتکلّم بهذا الکلام عند المأمون فی التوحید إلی قال علیه السلام : له معنی الربوبیّه إذ لا مربوب ، وحقیقه الإلهیّه إذ لا مألوه ، ومعنی العالم ولا معلوم ، ومعنی الخالق ولا مخلوق ، وتأویل السمع ولا مسموع ، لیس مذ خلق استحقّ معنی الخالق ، ولا بإحداثه البرایا استفاد معنی البارئیّه ، الخبر(4) .
الظاهر أنّ المراد من الربوبیّه هو المدبّریّه وللّه تعالی معنی المدبّریّه ولا مربوب ، فالربّ تعالی ربّ إذ لا مربوب ، وکذا الأمر بالنسبه الی الخلق فإنّه تعالی لیس مذ خلق الخلق استحقّ معنی الخالقیّه بل له معنی الخالقیّه قبل أن یخلق الخلق فکمال الخالقیّه ثابت للّه تعالی وإن لم یخلق ولیست الخالقیّه قوّه تصل إلی الفعلیّه بعد الخلق .
و أمّا الإلهیّه فإنّه تعالی إله قبل خلق الخلق ، فإنّه سبّوح سواء کان هناک من یعرف السبّوحیّه أم لم یکن من یعرفها .
و الظاهر أنّ المقصود من العلم هو الکشف ، ولمّا کان علمه تعالی الذاتیّ کشفاً للأنظمه اللامتناهیه وجمیع التقدیریّات یکون له معنی العالم ولا معلوم وکذا الأمر بالنسبه إلی السمع ، فإنّ اللّه تعالی عالم بالمسموعات قبل حدوثها .
أفاد شیخنا الأستاذ آیه اللّه المحقّق محمّد باقر الملکیّ قدس سره فی ذیل هذه الأخبار ونظائرها :
ظاهر عند أولی الألباب أنّ هذه الروایات سیاقها سیاق الإثبات والتمجید ، أی ، تمجیده تعالی بالألوهیّه والربوبیّه والعالمیّه والقادریّه ، وتمجیده تعالی بتوحّده وتفردّه فی هذه النعوت الکمالیّه ، وتمجیده سبحانه بالتفرّد بتلک النعوت فی الأزل : أی ، إنّها لیست مکتسبه ومستفاده من ناحیه وجود المربوبین والمألوهین والمعلومین والمقدورین . کما هو صریح قول مولانا أبی الحسن الرضا صلوات اللّه علیه حیث قال : له . . . حقیقه الإلهیّه إذ لا مألوه . . .
ولیس مذ خلق استحقّ معنی الخالق ، ولا بإحداثه البرایا استفاد معنی البارئیّه . فلا یجوز الإصغاء إلی القول بأنّ المراد فی هذه الروایات نفی المعلومات والمقدورات وغیرها عن مرتبه الذات ، فیکون الکلام راجعاً إلی توحید الذات وتقدیساً لها عن وجود شیء معه فی مرتبه الذات ، لأنّ سیاقها أجنبی عن سیاق التنزیه والتقدیس فی مرتبه الذات . ولکن حیث إنّ هذه الروایات مسوقه لتنزیهه تعالی وغناه عن المعلومات والمقدورات کی ینتزع من ناحیه المعلومات والمقدورات حقیقه العلم والقدره ، فلا محاله یستفاد منها بالملازمه البیّنه العقلیّه عدم وجود شیء مع اللّه سبحانه من سنخ ما یعلم ویسمع ویبصر ویوءله ویربَّب فی مرتبه الذات فی الأزل . فتحصّل أنّ اللّه تعالی عالم وقادر بذاته من دون افتقار إلی انتزاع العلم والقدره من ناحیه المعلوم والمقدور(5) ؛ انتهی کلامه رفع مقامه .
و حاصل کلامه رحمه اللّه تعالی أنّ هذه الأخبار ناظره إلی تمجیده تعالی من ناحیه عدم احتیاجه إلی المعلوم والمقدور وغیرهما فی کونه عالماً قادراً ، بل إنّه تعالی عالم بذاته وقادر بذاته ولا یحتاج إلی المعلوم والمقدور أبداً ، فهذه الکمالات ثابته له تعالی قبل کون المعلوم والمقدور . وبما أنّها مسوقه لتنزیهه تعالی عن المعلومات والمقدورات ، فیستفاد منها عدم وجود شیء معه تعالی من سنخ المعلومات والمعقولات .
أقول : الأمر کما أفاده قدس سره إلاّ أنّه لمّا کانت هذه الأخبار تتحدّث عن العلم الذاتیّ الإلهیّ ، تصیر بذلک دالّه علی العلم المخزون المکنون أیضاً .
عن ابن مسکان قال : سألت الإمام أبا عبداللّه علیه السلام عن اللّه تبارک وتعالی أکان یعلم المکان قبل أن یخلق المکان أم علمه عند ما خلقه وبعد ما خلقه ؟
فقال : تعالی اللّه ، بل لم یزل عالماً بالمکان قبل تکوینه کعلمه به بعد ما کوّنه ، وکذلک علمه بجمیع الأشیاء کعلمه بالمکان(6) .
هذا الخبر الشریف صریح فی أنّ العلم المکفوف لا یتأثر بالمتغیّرات فإنّه کشف للکائنات واللاکائنات والأنظمه اللامتناهیه ، فکیف یتأثّر بالخلق ! فإنّ اللّه تعالی عالم بالمکان قبل خلق المکان ، وعالم بجمیع الأشیاء قبل خلقها ، وبعد أن خلقها لم یتأثّر علمه المکفوف بها ، فإنّ من الواضح أنّ علمه الذاتیّ أجلّ وأشرف من أن یتأثّر بشیء .
المصادر :
1- بحارالأنوار : 4/71 ح18 ، التوحید : 139 .
2- تنبیهات حول المبدأ والمعاد : 138 .
3- بحارالأنوار : 4/284 ، التوحید : 56 .
4- بحارالأنوار : 4/229 ، عیون أخبار الرضا علیه السلام : 1/149 ، التوحید : 34 .
5- توحید الإمامیّه : 269 270 .
6- بحارالأنوار : 4/85 ، التوحید : 137 .