تفنن خلفاء بني امية باساليب الغدر والزنى وقتل النفس و كلها امور تقع من الظلم في الصميم و الظلم ـ بمختلف صنوفه ـ من الموبقات التي حاربها الاسلام ». جاء في سورة الزمر : ولو ان الذين ظلموا ما في الارض ومثله معه ـ لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ».
وذكر مسلم بأن عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار المزني في مرضه الذي مات فيه. فقال معقل : إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله لو علمت ان لي حياة ما حدثتك :
إني سمعت رسول الله يقول : ما من يسترعيه الله رعيته يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة. »
ولعل الحادثة التالية تكشف جانبا من جوانب الظلم عند الامويين :
ذكر الطبري : عن ابي عبيدة « عن رؤية بن الحجاج قال :
حج سليمان بن عبد الملك وحج الشعراء معه وحججت معهم. فلما كان بالمدينة راجعا تلقوه بنحو أربعمائة اسير من الروم. فقعد سليمان ...
فقدم بطريقهم ـ فضرب عنقه ـ. وجعل سليمان يدفع البقية إلى الوجوه وإلى الناس يقتلونهم حتى دفع إلى جرير منهم فدست إليه بنو عبس سيفا في قراب أبيض. فضربه فأبان رأسه.
ودفع إلى الفرزدق أحد الاسرى فلم يجد سيفا. فدسوا له سيفا ددنا متيناً لا يقطع. فضرب به الاسير ضربات فلم يصنع شيئا. فضحك سليمان والقوم. وشمت الفرزدق بنو عبس ـ أخوال سليمان. فألقى السيف وأنشأ يقول ويعتذر إلى سليمان :
إن يك سيف خان او قــدر أتى / بتأخير نفس حتفها غيــر شاهد
فسيف بني عبس وقد ضربوا به / نبا بيدي ورقـاء عن راس خالد
كذلك سيوف الهند تنبـو ظباتهـا / وتقطع أحيانـا مناط القلائد
ورقاء بن زهير ـ من جذيمة العبسي ـ ضرب خالد بن جعفر بن كلاب ، وخالد مكب على أبيه زهير فسد ضربه بالسيف وصرعه. فأقبل ورقاء بن زهير فضرب خالدا فلم يصنع شيئا : فقال ورقاء :
رأيت زهيـرا تحت كلكل خالد / فأقبلت أعسـى كالعجول أبادر
فشلت يميني يوم أضرب خالدا / ويحصنه مني الحديد المظاهر (1)
وإذا أمعنا النظر في قضية سليمان بن عبد الملك « خليفة » المسلمين مع أولئك ألروم المساكين ـ الذين ساقهم سوء الطالع إلى الوقوع أسرى بين يديه ويبعث ـ ويمرح ـ بأرواح أولئك البشر.
وإذا كان الذوق الانسان ـ والدين بالطبع ـ لا يستسيغان العبث ـ بهذا الشكل ـ بحياة الحيوان ، فكيف جاز « الخليفة » أن يفعل ذلك بالبشر !! ولكنها الاخلاق الاموية على كل حال.
ويظهر ظلم الامويين ـ بابشع اشكاله ـ في تصرفات ولاتهم القساة وفي مقدمتهم الحجاج بن يوسف الثقفي.
وإلى القارئ هذا الجانب المخيف من تلك القسوة.
كتب عبد الملك بن مروان (2) للحجاج أن يعرض أسرى دير الجماجم على السيف وقال له :
فمن أقر منهم بالكفر بخروجه علينا فخل سبيله.
ومن زعم أنه مؤمن فاضرب عنقه. ففعل. فلما عرضهم أتى بشيخ وشاب.
فقال للشاب : أمؤمن أنت ام كافر؟ قال بل كافر.
فقال الحجاج لكن الشيخ لا يرضى بالكفر. فقال الشيخ أعن نفسي تخادعني يا حجاج !! والله لو كان شيء أعظم من الكفر لارتضيت به.
فضحك الحجاج وخلى سبيلهما. ثم قدم إليه رجل فقال له على دين من أنت؟ قال على دين ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين. فقال أضربوا عنقه.
ثم قدم آخر فقال له : على دين من أنت؟ قال على دين ابيك الشيخ يوسف ... فقال : خل سبيله يا غلام.
فلما خلى عنه انصرف إليه فقال له يا حجاج سألت صاحبي على دين من أنت فقال على دين ابراهيم حنيفا وما كان المشركين. فأمرت به فقتل.
وسألتني على دين من انت فقلت : على دين أبيك الشيخ يوسف فأمرت بتخلية سبيلي !! والله لو لم يكن لابيك من السيئات إلا أنه ولد مثلك لكفاه. فأمر به فقتل .. ثم أتى بعامر الشعبي ومطرب بن عبد الله بن الشخير وسعيد بن جبير ...
فلما قدم له الشعبي قال : أكافر انت ام مسلم؟ قال :
أصلح الله الأمير بنا بنا المنزل واجدب بنا الجناب واستحلنا الخوف واكتحلنا السهر وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء.
قال الحجاج صدق والله. خليا عنه.
ثم قدم إليه مطرف بن عبد الله فقال له أكافر انت ام مؤمن؟ قال :
اصلح الله الامير إن من شهر العصا ونكث البيعة ، وفارق الجماعة ، وأخاف المسلمين لجدير بالكفر فقال صدق. خليا عنه.
ثم أتى بسعيد بن جبير. فقال له. أنت سعيد بن جبير؟ قال نعم : قال لا بل شقي بن كسير. قال : أمي أعلم بأسمي منك. فقال : شقيت وشقيت أمك. قال : الشقاء لأهل النار.
قال اكافر انت ام مؤمن؟ قال ما كفرت بالله منذ آمنت به. قال : أضربوا عنقه. »
خبرونا على أي شيء يدل سلوك الحجاج وخليفته؟!!
هل الخروج على أئمة الكفر ـ لإرجاعهم إلى حضيرة الدين ـ كفر بالله؟
يعاقب عليه بالقتل؟ هل فعل الرسول ـ باسرى قريش من المشركين ـ. ما فعله الامويون بهؤلاء المسلمين؟
الواقع : إن تلك أمثلة ـ كسابقاتها ـ « يسند بعضها بعضا » تدل على جاهلية القوم وتمردهم على الدين .. ويلوح لي : إن أسرى دير الجماجم كان يتنازعهم خوف ذو جانبين :
خوف من الله وخوف من « الوهية » الامويين ، والحجاج على حساب الله. وتنعكس الاية في الجانب الثاني. نقول :
الوهية الحجاج والامويين ونحن غير متجنين عليهم.
فقد مر بنا ما قاله عبد الملك للحجاج بشأن الاسرى : فمن أقر منهم بالكفر بخروجه علينا فخل سبيله. ومن زعم أنه مؤمن فاضرب عنقه. »
وقد استلزم موقفهم من الله ان يطوحوا بحياتهم ، كما استلزم موقفهم من الطاغوت أن يطوحوا بدينهم وخلقهم. فاختار بعضهم الموقف الاول فعرضوا على السيف.
وجنح آخرون نحو الموقف الثاني فأرتاح لهم الحجاج وعفا عنهم.
كل ذلك والحجاج امير المسلمين يحكم بأسم « امير المؤمنين » نيابة عن رسول الله!!.
شهادة الزور
وهي : موبقة لا تقل شناعة عما سبقها. وقد استبشعها الاسلام ومنعها وعاقب عليها. ولشهادة الزور نتائج وخيمة ، مادية ومعنوية ، قريبة وبعيدة ، مباشرة وغير مباشرة. وتتعلق شهادة الزور ـ اشد التعلق ـ بالموبقات التي ذكرناها فتكون سببا لبعضها ونتيجة لبعض آخر. وفي معرض التحدث عن شهادة الزور قال مالك بن أنس (3) قيل لرسول الله ما الكبائر؟ فقال : « الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وشهادة الزور. » أي ان شهادة الزور ـ بنظر النبي ـ كالشرك بالله ، وهو أعظم منكر في الاسلام وكقتل النفس التي حرم الله.ولم يتردد الامويون من الاستعانة بهذا السلاح ـ الخطر ـ للتنكيل بخصومهم لا لذنب إقترفوه بل لأنهم يطالبون الامويين ، الذين يحكمون باسم الدين ، الا يخرجوا عليه.
ويرتكب الامويون ـ عند إستعانتهم بشهادة الزور ـ موبقتين في آن واحد : تلفيق الشهادة ، والعقاب على جرم ملفق.
وفي تاريخ الامويين من ذلك الشيء كثير. ولعل أشهر شهادات الزور في التاريخ الاموي تلك الشهادة التي يلفقوها ضد حجر بن عدي وأصحابه.
وإلى القارئ نصها (4) : هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى الاشعري لله رب العالمين. شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة وفارق الجماعة. وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلع امير المؤمنين ـ معاوية بن أبي سفيان ـ وكفر بالله عزوجل كفرة صلعاء.
فقال زياد بن سمية : على مثل هذه الشهادة فأشهدوا .. فشهد اسحق بن طلحة ابن عبيد الله وموسى بن طلحة واسماعيل بن طلحة والمنذر بن الزبير ...
والسري بن وقاص الحارثي ـ كتبت شهادته وهو غائب في عمله ـ ..
والهيثم بن الاسود النخعي ـ وكان يعتذر إليهم ـ ... وكتب في الشهود شريح بن الحارث القاضي وشريح بن هانئ الحارثي.
فأما شريح القاضي فقال : سالني عن حجر فأخبرته أنه كان صواما قواما.
وأما شريح بن هانئ الحارثي فكان يقول : ما شهدت. ولقد بلغني أن كتبت شهادتي فأكذبته ولمته. »
فهل يجيز الخلق الكريم شهادة الزور؟
وهل يستسيغها الاسلام؟ يهون الامر ـ على فظاعته ـ لو كان فاعله من عامة المسلمين. فكيف به وهو أمير من أمرائهم !!
وفي هذه الشهادة تزوير مضاعف :
فقد لفقت صيغتها بمجموعها كما لفقت شهادة من لم يكن حاضرا أثناء التلفيق.
وقد لفق تلك الشهادة حاكم يزعم أنه يحكم باسم « خليفة السلمين » و « امير المؤمنين » الذي ينوب في حكمه عن رسول الله.
أما الشهود ففي مقدمتهم ـ كما يلاحظ القارئ ـ : أبناء رجال يعتبرهم كثير من المسلمين من خيار صحابة الرسول. وقد قدم بعضهم شهادته الكاذبة ـ وأبوه ما زال حيا ـ ولم يمض على وفاة الرسول نصف قرن. فأبو بردة بن أبي موسى الاشعري بطل التحكيم الذي « خلع » معاوية يعتبر معاوية ـ الذي خلعه ابوه ـ اميرا للمؤمنين.
واسحق وموسى ، واسماعيل أبناء طلحة والمنذر بن الزبير يشهدون على حجر أنه خلع الطاعة وفارق الجماعة وجمع إليه الجموع ويدعوهم إلى نكث البيعة وخلع « امير المؤمنين » معاوية بن ابي سفيان.
وقد نسى السادة : اسحق وأخواه ـ موقف أبيهم طلحة من امام زمانه ونكثة البيعة وخروجه الى البصرة مع جمل السيدة عائشة ام المؤمنين.
كما نسي المنذر موقف أبيه الزبير.
وهذا من مفارقات التاريخ الاسلامي المملوء بالمفارقات ...
نقض العهد
وهو موبقة من أبشع الموبقات التي حاربها الاسلام لما يترتب عليها من فقدان الثقة بين الناس ومن نتائج مادية ومعنوية على جانب كبير من الوخامة والضرر.وتتجسم بشاعته إذا صدر من صاحب النفوذ ـ فكيف به إذا كان « اميرا » للمؤمنين !! ولهذه الموبقة علاقة وثقى بالموبقات التي ذكرناها.
جاء في سورة الفرقان : « وأوفوا العهد إن العهد كان مسؤولا. »
وذكر البخاري : بأسانيده المختلفة (5) عن حذيفة بن اليمان أنه « قال : ما منعني ان اشهد بدرا ، إلا أني خرجت أنا وأبي حيل. فأخذنا كفار قريش. فقالوا : إنكم تريدون محمدا فقلنا ما نريده. نريد المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله فأخبرناه الخبر. فقال : إنصرفا. نفى لهم بعهدهم ونستعين الله عزوجل. »
وقد ضرب الرسول للمسلمين أسمى مثل في المحافظة على العهد في القضية المذكورة. فقد أمر هذين الرجلين ـ اللذين ساقهما تفادي ما لا تحمد عقباه أن يعطيا ميثاقا للكفار بعدم الالتحاق بالنبي ـ بالمحافظة على ذلك الميثاق ـ للكفار الذين لا مواثيق عندهم ـ.
وفي وقت كان النبي أحوج ما يكون لنصرتها للمحافظة على بيضة الدين.
غير أن « خلفاء » الامويين قد ساروا ـ كما جرت عادتهم ـ سيرا يناقض سير النبي تمام المناقضة.
ويلوح للباحث أنهم ـ قد ورثوا ـ هذه الموبقة ـ من جاهليتهم كما ورثوا موبقاتهم الاخرى.
ذكر ابن هشام (6) موقف ابي سفيان « عندما اسر المسلمون في بدر إبنه عمرا » من المسلمين الذين تعاهد معهم بعدم التعرض لهم والاعتداء عليهم. إذ بينما كان عمرو محبوسا في المدينة خرج سعد بن النعمان بن أكال « أخو بني عمرو بن عوف » معتمرا. وكان شيخا مسلما.
فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو. وأنشد مفتخراً.
ارهط بن أكال أجيبوا دعـاءه / تعاقدتـم لا تسلموا السيد الكهلا
فان بني عمرو لئـام أذلــة / لئن لم يكفوا عن أسيرهم الكبلا
أما الامثلة الاخرى على نكث الامويين عهودهم وهم حكام المسلمين فكثيرة. وقد مر قسم كبير منها في الفقرات السابقة.
ويلوح للباحث بأن الوفاء بالعهد ركن من أهم الاركان الخلقية التي بنى عليها الاسلام. فقد نص عليه القرآن ـ كما رأينا ـ.
والتزم به رسول الله في أقواله وأفعاله على السواء.
وفي تاريخ النبي أمثلة كثيرة تؤيد ما نقول. وقد مر بنا ذكر بعضها.
أما الامثلة الاخرى فتشير إلى وفاء رسول الله بعهده للمسلمين والمشركين على السواء. ولا نظن أن موقفه في الحديبية ـ مع سهيل بن عمرو زعيم المشركين ـ غريب على كثير من القراء.
فقد اشترط سهيل ـ النبي كما هو معروف ـ « من جملة ما اشترط » أن يرد الرسول من يلتحق به من المشركين إلى أهله. ولا عكس.
وقد وافق الرسول على ذلك. !! فأقبل أبو جندل ـ بن سهيل عمرو ـ يحمل في القيود. وكان أسلم فأشفق أبوه اين يلحق بمحمد فقيده. فأقبل ابو جندل حتى ألقى نفسه بين رجال المؤمنين وقال :
أنشدكم الله والاسلام أن لا تردوني الى الكفار. فحماه ناس من أصحاب رسول الله فقال سهيل : للنبي أذكرك عهدك. فأمر رسول الله بابن سهيل ان يدفع إليه (7). » ولم يغب وفاء الرسول بالعهد ـ وفق مستلزمات الاسلام ـ حتى عن ذهن خصومه.
فهذا ابو سفيان ـ اشد خصوم النبي والاسلام ـ لم يستطع نكران ذلك عند محاورته مع هرقل حول النبي ـ خصمه اللدود ـ. قال الواقدي (8) : « وكان ابو سفيان عند هرقل في تجارة. فقال هرقل : يا ابا سفيان لقد كان يسرني ان القى رجل من اهل بلدك يخبرني عن هذا الرجل الذي خرج منكم.
فقال ابو سفيان : على الخبير سقطت. سلني عما شئت من أمره.
فقال هرقل : حدثني عنه ابني هو ام كذاب؟ فقال ابو سفيان : هو كذاب. قال هرقل : ما الذي يامركم به؟ وما الذي ينهاكم عنه؟
قال ابو سفيان : يأمرنا ان ننحني طرفي النهار كما تنحني النساء ، وأن نعطيه خراجا من اموالنا كل عام. وينهانا عن الميتة والدم ..
قال هرقل : أخبرني هل يغدر إذا واثق؟ قال ابو سفيان لا. ما غدر قط. »
المصادر :
1- راجع الطبري : « تاريخ الامم والملوك » / ٨ / ١٢٧.
2- ابن عبد ربه « العقد الفريد » ٣ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧.
3- صحيح مسلم بن الحجاج : ١ / ٤٩.
4- الطبيري ، تاريخ الامم والملوك ٦ / ١٤٩ ـ ١٥٥.
5- صحيح البخاري ٢ / ٨٩.
6- سيرة النبي محمد ٢ / ٢٩٤.
7- الواقدي « مغازي رسول الله » ص ٣١٠.
8- المصدر نفسه ص ٢٢٣.