
برزت مدرسة الحلة الفقهية قبل احتلال بغداد على يد هولاكو التتار سنة ٦٥٦ هـ.
وحينما أحتلت بغداد من قبل المغول اجتمع في الحلة عدد كبير من الطلاب والعلماء ، وانتقل معهم النشاط العلمي من بغداد إلى الحلة ، واحتفلت هذه البلدة وهي يومئذ من الحواضر الاسلامية الكبرى بما كانت تحتفل به بغداد من وجوه النشاط الفكري ، ندوات البحث والجدل ، وحلقات الدراسة ، والمكاتب ، والمدارس ، وغيرها.
ولكي نلمس أثر هذا العصر وفقهائه في تطوير مناهج البحث الفقهي نستعرض بايجاز تراجم بعض رجال هذه المدرسة :
١ ـ ابن إدريس الحلي (ت / ٥٩٨ هـ) :
كانت بداية خروج الفكر الفقهي عن دور التوقّف النسبي الذي أصاب مدرسة النجف بعد وفاة الشيخ الطوسي سنة ٤٦٠ه ، على يد الفقيه المبدع محمد بن أحمد بن إدريس الحلي ، إذ بث في الفكر الفقهي روحا جديدة ، وكان كتابه الفقهي (السرائر) إيذانا ببلوغ الفكر العلمي في مدرسة الشيخ إلى مستوى التفاعل مع أفكار الشيخ ونقدها وتمحيصها ، حيث أبرز في كتابه هذا العناصر الأصولية في البحث الفقهي وعلاقتها به بصورة أوسع ممّا يقوم به كتاب المبسوط للشيخ الطوسي ، كما إنّ الاستدلال الفقهي في السرائر أوسع منه في كتاب المبسوط.
إنّ الفكر العلمي قد نما واتّسع في عهد ابن إدريس وعلى يديه بكلا جناحية الأصولي والفقهي حتى وصل إلى المستوى الذي يصحّ للتفاعل مع أراء الشيخ الطوسي ومحاكمتها.
واستمرّت الحركة العلمية التي نشطت في عصر ابن إدريس تنمو وتتّسع وتزداد ثراء عبر الأجيال ، وبرز في تلك الأجيال نوابغ كبار صنّفوا في الأصول والفقه وأبدعوا ، سنقتصر على ذكر بعضهم ، ويأتي في طليعتهم :
٢ ـ المحقق الحلي (٦٧٦ هـ) : نجم الدين أبو القاسم جعفر بن سعيد الحلي ، رائد مدرسة الحلة الفقهية ومن كبار فقهاء الشيعة.
وكان مجلسه يزدحم بالعلماء والفضلاء ممن كانوا يقصدونه للاستفادة من حديثه ، والاستزادة من علمه (١).
خلّف المحقق الحلّي كتبا قيمة في الفقه لايزال الفقهاء يتناولونها ، ويتعاطونها باعتزاز كـ (شرايع الاسلام) في مجلدين ، وكتاب (النافع) ، وكتاب (المختصر النافع) ، وكتاب (المعتبر) في شرح المختصر ، وكتاب (نكت النهاية) ، وكتاب (المعارج) في أصول الفقه وغيرها.
٣ ـ العلامة الحلي (٦٤٨ ـ ٧٢٦ هـ) : جمال الدين حسن بن يوسف بن علي بن المطهر ، ولد في الحلة سنة ٦٤٨ هـ ونشأ فيها ، وتوفي سنة ٧٢٦ هـ.
تتلمذ في الفقه على خاله المحقق الحلي ، وفي الفلسفة والرياضيات على المحقق الطوسي ، فنشأ كما أراد أستاذاه ، وانتقلت الزعامة في التدريس والفتيا إليه بعد وفاة أستاذه المحقق الحلي.
وقد قُدّر للعلامة الحلي بفضل ذلك أن يسهم إسهاما فعالاً في تطوير مناهج الفقه والأصول ، وأن يوسع دراسة الفقه.
وتعتبر موسوعتة الفقهية الجليلة (التذكرة) أول موسوعة فقهية من نوعها في تاريخ تطوير الفقه الشيعي من حيث السعة والمقارنة والشمول ، وتطور مناهج البحث. كما قُدّر له أن يتفرغ لدراسة المسائل الخلافية بين (فقهاء الشيعة) بصورة مستقلة في كتابه الكبير (المختلف).
٤ ـ فخر المحققين (٧٧١ هـ) : أبو طالب محمد بن الحسن بن يوسف بن المطهر من وجوه الطائفة وأعيانها ، تلمذ على أبيه العلامة الحلي ، ونشأ برعايته ، وقرأ عليه مختلف العلوم النقلية والعقلية ، وبرز في ذلك كله.
أكمل بعض تآليف والده العلامة كـ (الألفين) وغيره ، وشرح البعض الآخر كـ (القواعد).
٥ ـ الشهيد الأول (٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ) : أبو عبداللّه محمد بن الشيخ جمال الدين مكي بن شمس الدين محمد الدمشقي الجزيني.
ولد في جزين من بلدان جبل عامل ، وهاجر إلى الحلة لطلب العلم. تتلمذ على فخر المحققين بالحلة ولازمه ، وتتلمذ على آخرين من تلاميذ العلامة الحلي في الفقه وأصوله ، أشهرهم الفقيه السيد عميد الدين الحسيني (ت / ٧٥١ هـ) ، ابن أخت العلاّمة الحلي.
زار كثيرا من حواضر العالم الاسلامي في وقته ، كـ (مكة المكرمة) و (المدينة المنورة) و (بغداد) و (مصر) و (دمشق) و (بيت المقدس) و (مقام الخليل إبراهيم) ، واجتمع فيها بمشايخ أهل السنّة ، وأتاحت له هذه الأسفار نوعا من التلاقح الفكري بين مناهج البحث الفقهي والأصولي عند الشيعة والسنّة.
وقرأ كثيرا من كتب السنّة في الفقه والحديث وروى عنهم ، حتى قال في إجازته لابن الخازن : «إني أروي عن نحو أربعين شيخا من علمائهم بمكة والمدينة ودارالسلام بغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام الخليل إبراهيم».
خلف كتبا كثيرة تمتاز بروعة البيان ، ودقة الملاحظة ، وعمق الفكرة وسعة الأفق :
منها (الذكرى) و (الدروس الشرعية في فقه الامامية) و (غاية المراد في شرح نكت الارشاد) وكتاب (البيان) و (الباقيات الصالحات) و (اللمعة الدمشقية) و (الألفية) (والنقلية) و (الاربعون حديثا) وكتاب (المزار) و (خلاصة الاعتبار في الفقه والاعتمار) و (القواعد) وغير ذلك.
استشهد رضياللهعنه بدمشق. حيث قتل فيها بالسيف ، ثم صلب ، ثم رجم ثم أحرق بفتوى خبيثة طائفية ظالمة أصدرها بحقّه بعض الخبثاء لعنهم اللّه ، بعد ما حبس سنة كاملة في قلعة الشام في محنةٍ أليمةٍ نعرض عنها هنا.
ملامح المدرسة :
١ ـ تنظيم أبواب الفقه :
في هذه المدرسة لأول مرة نلتقي بكتاب (الشرايع) للمحقق الحلي رحمهالله بتنظيم رائع لابواب الفقه ، استمر عليه فقهاء الشيعة بعد ذلك إلى العصر الحاضر. فقد قسم المحقق الحلي كتابه (شرايع الاسلام) إلى أقسام أربعة :
الأوّل العبادات ، الثاني العقود ، الثالث الايقاعات ، الرابع الأحكام.
وينطلق إلى هذا التقسيم الرباعي بالشكل الثاني :
الحكم الشرعي إما أن يتقوَّم بقصد القربة أم لا ، والأوّل العبادات.
والثاني إما أن يحتاج إلى اللفظ من الجانبين الموجب والقابل أو من جانب واحد ، أو لايحتاج إلى اللفظ ، فالأوّل العقود ، والثاني الايقاعات ، والثالث الأحكام ، وبذلك تندرج أبواب الفقه في أقسام أربعة كما تقدم.
وهذا تقسيم رائع يجمع مختلف أبواب الفقه ، وهي من حصيلة هذه المدرسة ، وتمت على يد (المحقق الحلي) بالذات.
٢ ـ وظهرت في هذه الدورة الكتابة الفقهية الموسوعية ، فألف العلامة الحلي موسوعته القيِّمة (تذكرة الفقهاء) في الفقه المقارن ، وهو عمل فقهي جليل لم يؤلَّف مثله بعده في الفقه المقارن في السعة والاستيعاب.
فقد حاول في كتابه هذا أن يجمع آراء مختلف المذاهب الاسلامية ، ويناقش ذلك كله بموضوعية وهدوء يعز مثله في الدراسات المقارنة الأخرى.
٣ ـ حصل الاختلاف في بعض مسائل الفروع الفقهية في هذا العصر بين فقهاء الامامية أنفسهم نتيجة لابتعادهم عن عصر الإمام ، واختلافهم في سلامة الروايات من حيث السند والدلالة. وكان لابد للفقيه نتيجة لتشعب الآراء والمذاهب في استنباط الأحكام وتذوّق المسائل ، أن يلمَّ بمختلف وجوه الرأي في المسألة حتى يستطيع أن يحكم في المسألة على ضوء استنباطه.
فلبّى هذه الحاجة العلامة الحلي ، حيث جمع المسائل المختلف فيها بين علماء الطائفة في كتابه الكبير الضخم (المختلف).
ولئن كان الشيخ الطوسي بلغ قمة الفكر الفقهي لمدرسة بغداد فقد بلغ العلامة الحلي قمة الفكر الفقهي لمدرسة الحلة.
المصادر :
1- الكنى والألقاب ٣ : ١٣٤ ، مجالس المؤمنين ١ : ٥٧ مترجم عن الفارسية.