الدبلوماسية الأمريكية

مع انتهاء حرب السنوات السبع عام ١٧٦٣، سيطرت بريطانيا العظمى على أكبر إمبراطورية منذ سقوط روما، غير أن انتصارها في هذه الحرب استوجب معه إعادة تنظيم السيطرة على أراضي أمريكا الشمالية الشاسعة المنتزَعة
Thursday, November 2, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الدبلوماسية الأمريكية
 الدبلوماسية الأمريكية



 

مع انتهاء حرب السنوات السبع عام ١٧٦٣، سيطرت بريطانيا العظمى على أكبر إمبراطورية منذ سقوط روما، غير أن انتصارها في هذه الحرب استوجب معه إعادة تنظيم السيطرة على أراضي أمريكا الشمالية الشاسعة المنتزَعة من فرنسا وإسبانيا. وسعيًا لمنع اندلاع المزيد من الحروب مع الهنود، حظر إعلان عام ١٧٦٣ إقامة المستوطنين البيض فيما وراء منطقة جبال الأبالاش الشاسعة؛ ومن ثَمَّ، نشرت الحكومة البريطانية جيشًا دائمًا لم يسبق له مثيل في منطقة البر الرئيسي للقارة الأمريكية؛ بهدف الدفاع والحفاظ على الأمن في تلك المنطقة. ولمواجهة تكلفة هذه الالتزامات، والتحرر من العبء المادي الثقيل الذي خلفته الحرب، سعت لندن إلى فرض ضرائب جديدة، وقوانين تجارية إمبريالية تَلافى المستعمرون فرضها طويلًا؛ ومن ثَمَّ، تعد نهاية الحرب الفرنسية والهندية -وهو الاسم الذي اشتُهرت به حرب السنوات السبع في أمريكا -نهاية ما يسمى «سياسة التجاهل الصحي».
اتُّخذَت إجراءات بريطانية لا تهدف فقط إلى إحلال السلام والاستقرار بأمريكا الشمالية، بل أيضًا إلى مطالبة المستعمرات بالمشاركة في تكاليف الدفاع والإدارة. غير أن المستعمرات بحلول ذلك الوقت كانت تنظر إلى نفسها بصفتها كيانًا يتمتع بالحكم الذاتي؛ أو «ذات سيادة مستقلة» بالتعبير الأحدث، ورفضت أن يفرض عليها البرلمان البريطاني وملك بريطانيا ضرائبها. من جهة أخرى، رفض الملك والبرلمان البريطاني قبول هذا المنظور الحديث لمفهوم الإمبراطوريات؛ ومن ثَمَّ وجدت بريطانيا العظمى نفسها تخوض حربًا، ليس ضد مستعمراتها فحسب، بل ضد أغلب دول أوروبا كذلك في نهاية المطاف. ورغم أن تلك الحرب لم تشكل كارثة مكتملة الأركان على الجيش البريطاني، فإنها سلبت بريطانيا العظمى أثمن ممتلكاتها الاستعمارية، وأطاحت بها من فوق عرش القوة الذي صعدت إليه بمعاهدة باريس عام ١٧٦٣.
لم يكن الهدف المبدئي للثورات المسلحة الاستقلال، بل استعادة وإقرار ما آمن أهل المستعمرات أنه حقهم بصفتهم رعايا بريطانيين. كانت المستعمرات قد أعلنت قبولها لوضعها القانوني تحت السياسة البريطانية قبل عام ١٧٦٣، ولكن تحوُّل المستعمرات إلى البحث عن الاستقلال في العام الثاني من الصراع يرجع جزئيًّا إلى رفض الحكومة البريطانية لأي حلول وسط، وتبنِّيها عوضًا عن ذلك لإجراءات قمعية، كما يرجع إلى الوعي المتنامي للمزايا التي قد تتحقق لها من الاستقلال.
لم ينجح أحد في طرح الحجج المؤيدة للاستقلال بهذه الدرجة من الإقناع مثل ذلك المُهاجِر الذي وفد حديثًا من إنجلترا، والذي يدعى توماس بين. كان توماس بين قد هاجر إلى أمريكا في أواخر عام ١٧٧٤ تاركًا وراءه العديد من الوظائف التي فشل فيها، وبعد أقل من عامين، في يناير عام ١٧٧٦، نشر كتيبًا بعنوان «المنطق السليم». بيع من هذا الكتيب ما يقرب من ١٢٠ ألف نسخة في الشهور الثلاثة الأولى، وكان بمنزلة الدفاع الأكثر فعالية عن قضية الاستقلال. وقد تضمنت الحجج التي طرحها توماس بين في الكتيب حُجَتين كانت لهما أهمية كبيرة لسياسة الولايات المتحدة الخارجية مستقبلًا. دفع بين بأن الاستقلال من شأنه أن يحرر المستعمرات السابقة من الوقوع في شراك الحروب الأوروبية التي لا علاقة للمستعمرات بها، وأن إعلان الاستقلال سيعزز فرصها أيضًا في الحصول على المساعدات الأجنبية.

السعي للحصول على المساعدات الأجنبية

نظرًا لما كانت تعانيه المستعمرات من تدنِّي حالها كثيرًا مقارنةً بالدولة الأم التي تتبعها من حيث عدد السكان والثروة والصناعة والقوة العسكرية والبحرية، لم يكن باستطاعة المستعمرات أن تأمل في إحراز نصر عسكري حاسم إلا بمساعدة إحدى القوى الأوروبية الكبرى. كان الكونجرس قبل أشهر من اتخاذ قرار الاستقلال قد أسَّس لجنة سرية للتواصل مع أصدقاء أمريكا بالخارج، فأرسلت تلك اللجنة إلى باريس عميلًا سريًّا مُتخفِّيًا كأحد التجار طلبًا للإمدادات ولاعتمادٍ مالي.
وسرعان ما وجد هذا العميل -وهو سيلاس دين من ولاية كونيتيكت، الذي بلغ باريس في يوليو عام ١٧٧٦ -أن الحكومة الفرنسية على استعداد لدعم المستعمرات المتمردة على بريطانيا سرًّا. كان وزراء فرنسا في الواقع يتحيَّنون الفرصة المناسبة منذ عام ١٧٦٣ لتقويض بريطانيا العظمى وإذلالها، غريمة فرنسا التي انتصرت عليها. وقد رأى الكاتب المسرحي الفرنسي الشهير والدبلوماسي الهاوي، كارون دو بومارشيه، الذي كان بالفعل على تواصل آنذاك مع عميل آخر من المستعمرات هو آرثر لي في لندن؛ أن الفرصة قد سنحت أمامهم لاغتنامها. وكان هذا أيضًا هو رأي وزير الخارجية الفرنسي، كونت دو فيرجين، الذي تمكَّن مع بومارشيه من إقناع ملك فرنسا لويس السادس عشر بأن تقديم المساعدات إلى المستعمرات يصب في مصلحة فرنسا.
غير أن فرنسا حتى تلك اللحظة لم تكن على استعداد لإعلان صداقتها للمستعمرات البريطانية؛ لذا أمدتها بالمساعدات المادية سرًّا فقط. وقد نجح ذلك عبر تأسيس بومارشيه لشركة تجارية وهمية، تُدعى شركة رودريج هورتاليز إيه كومباني، انتقل عبرها البارود وغيره من الإمدادات الأساسية من مخازن الأسلحة الفرنسية إلى جيوش جورج واشنطن. كما أقنعت فرنسا إسبانيا أيضًا بإمداد المستعمرات بالمساعدات بهذه الطريقة وعبر وسائل أخرى؛ فأسهمت فرنسا إجمالًا في القضية الأمريكية بمساعدات مالية تقدَّر بقرابة مليونَي دولار، وفقًا لقيمة الدولار آنذاك، وقروض تربو قيمتها على ٦ ملايين و٣٥٠ ألف دولار، فيما أسهمت إسبانيا بمساعدات مالية بلغت قيمتها ٤٠٠ ألف دولار، وقروض بلغت قيمتها ٢٥٠ ألف دولار.

التحالف الفرنسي

بدأ اعتماد هذه التدابير لبرنامج المساعدات السرية قبل وصول سيلاس دين إلى باريس. وبعد صدور إعلان الاستقلال الأمريكي، أرسل الكونجرس إلى فرنسا الدبلوماسي الأمريكي الأشهر والأكثر قدرةً على الإقناع وإثارةً للإعجاب في عصره: بنجامين فرانكلين. وفي باريس، انضم فرانكلين إلى سيلاس دين، وآرثر لي، الذي قدِم من لندن ليشكل الثلاثةُ معًا لجنة أمريكية ثلاثية.
وقد هدد عملاءُ بريطانيا جهودَ اللجنة على نحوٍ شديد؛ مما قاد المؤرخ جوناثان دَل إلى وصف اللجنة بأنها «بمنزلة مكتب توظيف لعملاء المخابرات البريطانية.» كان أحد أهم عملاء بريطانيا هو الدكتور إدوارد بانكروفت -وهو أحد سكان ولاية ماساتشوستس الأصليين -الذي كان يعمل سكرتيرًا لسيلاس دين. كان بانكروفت يعمل سرًّا لدى الحكومة البريطانية، وينقل إليها بإخلاص جهود اللجنة وعلاقاتها مع الوزراء الفرنسيين. وكان آرثر لي موقنًا من خيانة بانكروفت، لكنه لم يستطع زعزعة ثقة بنجامين فرانكلين ودين به. وعلاوةً على الدور الذي لعبه عملاء بريطانيا، سرَّب فرانكلين بين الحين والآخر معلومات لأسباب سياسية، فيما استغل دين معلومات سرية سعيًا لتحقيق بعض الخطط التي انطوت على مجازفة.
كان الهدف الرئيسي لمهمة فرانكلين هو ضمان اعتراف الحكومة الفرنسية الرسمي بالولايات المتحدة كدولة مستقلة؛ الأمر الذي أمكن تحقيقه بتوقيع معاهدة بين فرنسا والولايات المتحدة؛ إذ كان فرانكلين قد أحضر معه إلى باريس مسودة معاهدة صداقة وتجارة مقترحة، أعدتها لجنة تابعة للكونجرس، جسَّدت المبادئ الليبرالية التجارية التي كان الكونجرس يأمل أن تتبناها دول العالم التجارية كافة، وليس فرنسا فحسب. وقد اعتبرت خطة المعاهدات لعام ١٧٧٦ أول وثيقة وطنية هامة تتناول السياسة الخارجية الأمريكية، وتكون بمنزلة دليل إرشادي لصانعي السياسات الخارجية الأمريكية إلى ما هو أبعد من مقتضيات الثورة الأمريكية.
وقد أكد جون آدامز -المسئول الرئيسي عن وضع نموذج المعاهدة -مرارًا على أن أي معاهدة فرنسية-أمريكية يجب أن تكون في شكل علاقات تجارية دون أي ارتباطات عسكرية أو سياسية، فقال عن فرنسا: علينا ألا نعقد أي تحالف معها يورطنا مستقبلًا في أي حروب بأوروبا … وعلينا أن نرسخ هذا الأمر كمبدأ أساسي وشعار لا يُنسى؛ التمسك بمبدأ الحيادية الكاملة في جميع الحروب الأوروبية التي قد تحدث مستقبلًا.
رغم صداقته مع الولايات المتحدة، رفض كونت فيرجين أن يمنحها اعترافًا رسميًّا -وهو الذي كان من شأنه أن يعرضها للدخول في حرب مع إنجلترا -إلى أن يبرهن الأمريكيون على قدرتهم على القيام بدورهم والانتصار في الحرب. فمن المتفهم أنه لم يرغب في توريط فرنسا في حرب بسبب قضية خاسرة، إلا أن هذا البرهان لم يَلُحْ في الأفق حتى ديسمبر من عام ١٧٧٧، عندما تنامت أنباء أن جيش الجنرال بورجوين البريطاني -الذي اندفع من مونتريال إلى نيويورك -اضطُر إلى الاستسلام أمام جيش الجنرال جيتس بمقاطعة ساراتوجا؛ فكانت تلك هي الإشارة التي انتظرها فيرجين الذي حاول الاستعانة بإسبانيا لنصرة هذه القضية، فلما ماطلت إسبانيا قرر أن تمضيَ فرنسا من دونها في هذا الأمر.
أُبلغ أعضاء اللجنة الأمريكية في ١٧ ديسمبر بموافقة فرنسا على منح الولايات المتحدة الأمريكية اعترافًا رسميًّا بها، وإبرام معاهدة معها. وفي ٦ فبراير من عام ١٧٧٨، تم توقيع معاهدة صداقة وتجارة، ومعاهدة تحالف بين فرنسا وأمريكا في باريس؛ على أن تصبح معاهدة التحالف سارية حال خوض بريطانيا العظمى حربًا مع فرنسا بسبب اتفاقية الصداقة والتجارة. وهكذا، عكست معاهدة الصداقة والتجارة بوضوحٍ المبادئ التي أرساها آدامز في خطة المعاهدات التي صدرت عام ١٧٧٦، غير أن معاهدة التحالف جاءت مناقضة لدعوته إلى تجنُّب الدخول في تحالف مع فرنسا «وهو ما قد يضعنا في موقف حرج فيما بعدُ، ويورطنا في الحروب الأوروبية مستقبلًا.»
وكان الكونت فيرجين قد سارع باتخاذ هذا الإجراء خشية دخول إنجلترا في تصالح مع مستعمراتها السابقة؛ إذ كان استسلام جيش بورجوين قد أثار ضجة في إنجلترا، وقاد وزارة الخارجية البريطانية إلى عرض شروط تسوية سخية مع الأمريكيين. وفي شهر مارس من ذاك العام، أقر البرلمان البريطاني سلسلة من القوانين التي تُلغي كل التشريعات التي سُنَّت منذ عام ١٧٦٣ التي شكا منها مواطنو المستعمرات، وفي شهر أبريل، نُدبت إلى أمريكا لجنة رأسها إيرل مدينة كارلايال، خُوِّلت بالموافقة على جميع مطالب الكونجرس الأمريكي فيما عدا الاستقلال، إن توقفت المستعمرات السابقة عن القتال وظلَّت على ولائها للتاج البريطاني.
ويُستدَل على مدى استعداد بريطانيا العظمى لإنقاذ إمبراطوريتها بالتمزق من الشروط التي عرضتها اللجنة؛ كحق التحكم بالضرائب، وانتخاب حكام الولايات وغيرهم من المسئولين الحكوميين الذين كانوا فيما مضى يُعيَّنون، وحق التمثيل في البرلمان البريطاني إن رغبوا في ذلك، ومواصلة انعقاد الكونجرس كهيئة تشريعية أمريكية، وإعفاء المواطنين من أجرة الإبراء (وهو إيجار يُسدد بدلًا من بعض الخدمات الإقطاعية المطلوبة)، وضمان عدم إجراء تعديلات على اتفاقيات المستعمرات إلا بموافقتها، والعفو الشامل عن جميع المشاركين بالتمرد. بعبارة أخرى، كانت هذه الشروط تمنح أمريكا فعليًّا صفة الدولة ذات السيادة.
لو أن مثل هذا العرض قد قُدِّم في أي وقتٍ سابق لإعلان الاستقلال -أو ربما في أي وقت قبل استسلام بورجوين -لكان على الأرجح سيجد القبول، وكانت الولايات الثلاث عشرة المزعجة ستشكل معًا عندئذٍ أول دولة مستقلة ذات سيادة تابعة للتاج البريطاني، غير أن العرض جاء متأخرًا. ومع اعتراف فرنسا بأمريكا، وتعهدها بالتحالف معها، وتقديم مساعدات علانية لها، بدا الاستقلال أكيدًا، ولم يعد هناك مجال للتراجع؛ ومن ثَمَّ صدَّق الكونجرس الأمريكي على المعاهدات مع فرنسا دون التوقف لحظةً للتفاوض مع لجنة كارلايل.
جعلت معاهدة الصداقة والتجارة من كلتا الدولتين «الدولة الأولى بالرعاية» لدى الأخرى، وجسدت -بلا تغيير من الناحية العملية -المبادئ الليبرالية نفسها لخطة المعاهدات التي رُسمت عام ١٧٧٦، وهي المبادئ التي ستحمي مصالح الطرفين الموقِّعَين للمعاهدة واللذين قد يتصادف أن يكون أحدهما على الحياد في حين يخوض الطرف الآخر حربًا.
كانت معاهدة التحالف ستصبح سارية فقط إذا تورطت فرنسا في الحرب القائمة مع بريطانيا العظمى، وكان هدفها «الحفاظ بفعالية على حرية الولايات المتحدة الأمريكية وسيادتها واستقلالها «بشكلٍ تامٍّ ومطلق».» رفضت فرنسا تمامًا وضع أي خطط للاستيلاء على منطقة برمودا، أو أي منطقة أخرى من قارة أمريكا الشمالية التي كانت قبل إبرام معاهدة باريس في عام ١٧٦٣ -أو بموجب تلك المعاهدة -تتبع بريطانيا العظمى أو المستعمرات البريطانية السابقة، لكنها احتفظت لنفسها بحق الاستيلاء على أيٍّ من المستعمرات البريطانية بغرب الهند. أما الولايات المتحدة من جهة أخرى، فكانت لديها الحرية في غزو منطقة برمودا والاستيلاء عليها، أو على أيٍّ من مستعمرات البر الرئيسي التابعة لبريطانيا العظمى.
كما قضت المعاهدة بألا يعقد أيٌّ من الطرفين معاهدة سلام منفصلة مع بريطانيا العظمى، أو يوقف القتال معها إلى أن تُحقق حرب الاستقلال الأمريكية انتصارها. وتعهد كلا الطرفين بأن يضمن «بدءًا من لحظة توقيع المعاهدة إلى الأبد، ومهما كانت القوى المضادة» الحفاظ على الأراضي الأمريكية التي تخضع لسيطرتها آنذاك، والتي قد تظفر بها من الحرب، وتعهدت فرنسا -بالإضافة إلى ذلك -بضمان حرية الولايات المتحدة الأمريكية وسيادتها واستقلالها.
شكلت المعاهدة التي أشرنا إليها توًّا «التحالف المُورِّط» الوحيد الذي شاركت به الولايات المتحدة الأمريكية حتى منتصف القرن العشرين، وكان من شأن هذا التحالف أن يسبب متاعب كبيرة قبل أن يُنبَذ عام ١٨٠٠، غير أنه كان تحالفًا ضروريًّا لتحقيق استقلال الولايات المتحدة. فأرسلت فرنسا إلى أمريكا جيشًا بقيادة الجنرال روشامبو، وكذلك بُعثت أساطيل فرنسية بقيادة الأميرال ديستان والأميرال دوجراس قبالة الساحل الأمريكي. وتتجلى أهمية المساعدات الفرنسية للولايات المتحدة في المشهد الأخير من الثورة الأمريكية في معركة يورك تاون التي حوصر فيها جيش الماركيز كورن واليس البريطاني بين أسطول فرنسي وجيش حلفاء شكَّل الفرنسيون ثلثيه.

إسبانيا والثورة الأمريكية

تأخرت إسبانيا عن المشاركة في الحرب لأكثر من عام بعد خوض فرنسا لها رغم تحالف أسرتَي الدولتين الحاكمتين (عبر الميثاق الأسري)، ورغم تقديمها المساعدات سرًّا للولايات المتحدة الأمريكية. كانت هناك مزايا يمكن لإسبانيا أن تجنيَها من الفوز في الحرب على إنجلترا، تمثلت في إمكانية استعادة منطقة جبل طارق (التي خسرتها عام ١٧١٣) وفلوريدا (التي خسرتها عام ١٧٦٣)، وقد أمل البلاط الإسباني في استعادة منطقة جبل طارق -الأكثر أهميةً بين المنطقتين -سلميًّا كمكافأة على دوره في الوساطة بين بريطانيا العظمى وفرنسا؛ ومن ثَمَّ، لم توقع إسبانيا معاهدة تحالف واضحة مع فرنسا (معاهدة آرانخويث في ١٢ أبريل عام ١٧٧٩) إلا عندما رفضت بريطانيا العظمى خدماتها في الوساطة، لتعلن بعدها الحرب على بريطانيا العظمى في ٢١ يونيو ١٧٧٩. وكانت معاهدة التحالف الفرنسية الأمريكية قد كفلت لإسبانيا الحق في الانضمام بصفتها عضوًا في التحالف، لكن إسبانيا رفضت التوقيع على المعاهدة أو إبرام أي معاهدات من أي نوع مع الولايات المتحدة؛ فبوصفها هي نفسها قوة استعمارية، ترددت إسبانيا في الاعتراف رسميًّا بالتمرد في مستعمرات بريطانيا العظمى. وقد أمضى الدبلوماسي الأمريكي، جون جاي، شهورًا عديدة مريرة في مدريد ملتمسًا الاعتراف بالولايات المتحدة دولة مستقلة، لكن بلا جدوى.
ولم يكن حتى عرض التنازل عن مطالبة أمريكا بحق الملاحة عبر نهر المسيسيبي ليقنع الحكومة الإسبانية بالاعتراف بالجمهورية الوليدة. وبموجب معاهدة آرانخويث، وافقت فرنسا وإسبانيا على أنه لا يحق لإحداهما إبرام معاهدة سلام مع بريطانيا حتى استعادة إسبانيا لمنطقة جبل طارق، ونظرًا لأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد تعهدت بعدم عقد معاهدة سلام مع بريطانيا دون فرنسا، فإنها لم يعد بمقدورها -مع وضع شروط المعاهدات في الاعتبار -إبرام معاهدة سلام حتى استعادة إسبانيا لمنطقة جبل طارق.
وفي أمريكا، تعارضت مصالح إسبانيا مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، فكانت الولايات المتحدة من جهةٍ تريد أن يكون نهر المسيسيبي هو الحد الغربي لها، وأن تتمتع بحق الملاحة فيه عبر الأراضي الإسبانية حتى خليج المكسيك. غير أن إسبانيا من جهة أخرى، حرصًا على احتكار الملاحة والتجارة في نهر المسيسيبي وخليج المكسيك قدر الإمكان، رفضت التنازل للأمريكيين عن حق استخدام النهر، أو أن تترك لهم موطئ قدم على ضفته الشرقية. بعبارة أخرى، كانت الحدود الغربية للولايات المتحدة ستغدو أقرب ما يكون إلى قمة جبال الأبالاش إن كانت إسبانيا قد تعاملت مع الأمر بصورةٍ أفضل.
عزز موقف إسبانيا في المساومة جرأة وحماسة حاكم ولاية لويزيانا الشاب برناردو دي جالفيز، الذي هزم البريطانيين -بعد أقل من عامين من دخول إسبانيا في الحرب -هزيمة منكرة، وطردهم من كل أنحاء غرب فلوريدا، من مدينة ناتشيز شمالًا إلى بينساكولا شرقًا؛ ليعزز موقف إسبانيا في المطالبة بالتخلي عن فلوريدا في نهاية الحرب، والتمتع بالسيطرة الكاملة على منطقة جنوب المسيسيبي.
المصادر:  راسخون 2017
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.