ثورات بعد عاشوراء

فلما استشهد الامام الحسين عليه‌السلام ، ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندم ، ورأت أنها قد أخطأت خطأ كبيرا بدعاء الامام الحسين إلى النصرة وتركهم إجابته ، ومقتله إلى جانبهم ولم ينصروه. ورأوا
Sunday, November 5, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
ثورات بعد عاشوراء
 ثورات بعد عاشوراء



 

ثورة التوابين
كان أول رد فعل مباشر لقتل الامام الحسين عليه‌السلام هو حركة التوابين في الكوفة.
فلما استشهد الامام الحسين عليه‌السلام ، ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندم ، ورأت أنها قد أخطأت خطأ كبيرا بدعاء الامام الحسين إلى النصرة وتركهم إجابته ، ومقتله إلى جانبهم ولم ينصروه. ورأوا أنه لايُغسل عارهم ، والإثم عنهم في مقتله إلاّ بقتل من قتله أو القتل فيه. ففزعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من رؤوس الشيعة : سليمان بن صرد الخزاعي ، والمسيب بن نجبة الفزاري ، وعبداللّه بن سعد بن نفيل الأزدي ، وعبداللّه بن وائل التميمي. ورفاعة بن شداد البجلي.
وكتب سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة بن اليمان ومن معه من الشيعة بالمدائن بأمرهم فأجابوه إلى دعوته. وكتب إلى المثنى بن محربة العبدي في البصرة والشيعة هناك فأجابوه إلى ذلك.
وكان أول ما ابتدأوا به أمرهم بعد قتل الامام الحسين عليه‌السلام سنة إحدى وستين ، فما زالوا بجمع آلة الحرب ودعاء الناس في السر إلى الطلب بدم الامام الحسين ، فكان يجيبهم القوم بعد القوم والنفر بعد النفر من الشيعة وغيرها. فلم يزالوا كذلك حتى هلك يزيد لعنه اللّه ، فخرجت طائفة منهم دعاة ، يدعون الناس ، فاستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد أضعاف من كان استجاب لهم قبل ذلك. وخرجوا يشترون السلاح ظاهرين ، ويجاهرون بجهازهم وما يصلحهم.
حتى إذا كانت ليلة الجمعة ، لخمس مضين من شهر ربيع الآخر ، سنة خمس وستين (٦٥ هـ) خرجوا ، وتوجهوا إلى قبر الامام الحسين عليه‌السلام فلما وصلوا إليه صاحوا صيحة واحدة ، فما رأي يوم أكثر باكيا منه ، وقالوا :
«يا رب. إنا قد خذلنا ابن بنت نبينا ، فاغفر لنا ما مضى ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، وارحم حسينا وأصحابه الشهداء الصديقين. وأنا نشهدك يا رب إنا على مثل ما قتلوا عليه ، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين».
وغادروا القبر مستقتلين ، فقاتلوا جيوش الأمويين حتى أبيدوا جميعا (١).
ولقد اعتبر التوابون أن المسؤول الأول والأهم عن قتل الامام الحسين عليه‌السلام هو النظام وليس الأشخاص ، ولذا نراهم توجهوا إلى الشام ولم يلقوا بالاً إلى من في الكوفة من قتلة الامام الحسين عليه‌السلام.
ونلاحظ هنا أن هذه الثورة قد انبعثت عن شعور بالإثم والندم ، وعن رغبة في التكفير. فمن يقرأ أقوالهم ، وكتبهم وخطبهم يلمس فيها الشعور العميق بالإثم والندم ، والرغبة الحارة في التكفير وكونها صادرة عن هذه البواعث جعلها ثورة إنتحارية ، فالثائرون هنا يريدون الإنتقام والتكفير. ولا يستهدفون شيئا آخر وراء ذلك ، فلا يريدون نصرا ، ولا ملكا ، ولا مغانم ، وإنما يريدون انتقاما فقط ، وقد خرجوا من ديارهم وهم على مثل اليقين بأنهم لايرجعون إليها ـ كانوا يريدون أن يموتوا ، ولقد بذل لهم الأمان فلم يقبلوا (2).
وإذن ، فلم تكن لهذه الثورة أهداف اجتماعية واضحة ومحددة. لقد كان الهدف الواضح منها هو الإنتقام والتكفير.
وكون هذه الثورة انتقامية انتحارية لاهدف للقائمين بها إلاّ الانتقام والموت في سبيله يفسر لنا قلة عدد المستجيبين لها إلى النهاية. فقد أحصى ديوان سليمان بن صرد ستة عشر ألف رجل لم يخرج معه منهم سوى أربعة آلاف (3).
ولم يستجب للدعوة من المدائن إلاّ مائة وسبعون رجلاً ، ومن البصرة إلاّ ثلاثمائة رجل (4).
فالعمل الانتحاري لايستهوي إلاّ أفرادا على مستوى عال من التضحية والتشبع بالمبدأ ، وهؤلاء قلة في كل زمان.
هذا ، ولكن الإنصاف للواقع يقتضينا أن نسجل أن هذه الثورة وإن كانت ثورة انتحارية ، ولم تكن لها أهداف اجتماعية واضحة ، إلاّ أنها أثرت في مجتمع الكوفة تأثيرا عميقا. فقد عبأت خطب قادة هذه الثورة وشعاراتهم الجماهير في الكوفة للثورة على الحكم الأموي ، ولذلك فلم يكد يبلغهم خبر هلاك يزيد حتى ثاروا على العامل الأموي عمرو بن حريث فأخرجوه من قصر الإمارة واصطلحوا على عامر بن مسعود الذي بايع لابن الزبير (5) ، فكان ذلك مطلع العهد الذي زال فيه سلطان الأمويين عن العراق إلى حين.
ثورة المختار الثقفي
ودخلت سنة ست وستين للهجرة (٦٦ هـ) فثار المختار بن أبي عبيدة الثقفي بالعراق طالبا ثار الامام الحسين عليه‌السلام.
ولكي نعرف السر في استجابة جماهير العراق لابن الزبير أول الأمر ثم إنقلابها عليه ، واستجابتها لدعوة المختار لابد أن نلاحظ أن مجتمع العراق كان يطلب إصلاحا اجتماعيا ، وكان يطلب الثأر من الأمويين وأعوانهم ، وعلى أمل الإصلاح الاجتماعي والإنتقام ، استجاب مجتمع العراق لابن الزبير ، فهو عدو الأمويين ، من جهة ، وهو يتظاهر بالإصلاح والزهد والرغبة عن الدنيا من جهة أخرى ، فلعل سلطانه أن يحقق كلا الأمرين.
ولكن سلطان ابن الزبير لم يكن خيرا من سلطان الأمويين ، لقد أخرج العراق عن سلطانهم ، ولكن قاتلي الامام الحسين كانوا مقربين إلى السلطة كما كانوا في عهد الأمويين. أن شمر بن ذي الجوشن ، وشبث بن ربعي ، وعمر بن سعد ، وعمرو بن الحجاج ، وغيرهم ، كانوا سادة المجتمع في ظل سلطان ابن الزبير ، كما كانوا سادته في ظل سلطان يزيد.
كما أنه لم يحقق لهم العدل الاجتماعي الذي يطلبونه. لقد كانوا يحنون إلى سيرة علي بن أبي طالب عليه‌السلام فيهم ، هذه السيرة التي حققت لهم أقصى ما يمكن من رفاه وعدل ، هذا عبداللّه بن مطيع العدوي عامل ابن الزبير على الكوفة يقول للناس أنه أمر أن يسير بسيرة عمر وعثمان فيقول له المتكلم بلسان أهل الكوفة :
« .. أما حمل فيئنا برضانا ، فأنا نشهد أنا لانرضى أن يحمل عنا فضله ، وإلاّ يقسم إلاّ فينا ، وأن لا يسار فينا إلاّ بسيرة علي بن أبي طالب ، التي سار بها في بلادنا هذه ، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا ، ولا في سيرة عمر بن الخطاب فينا ، وإن كانت أهون السيرتين علينا» (6).
كان هذا أو ذاك سببا في انخذال الناس عن ابن الزبير ، وتأييدهم لثورة المختار عليه ، ولقد ربط المختار دعوته بمحمد بن الحنفية ، ابن علي بن أبي طالب ، وهذا ما جعلهم يطمئنون إلى عدل السيرة والإصلاح. ولقد جعل شعاره «يا لثارات الامام الحسين» وهذا يحقق لهم الهدف الثاني.
ولقد حارب عبداللّه بن مطيع ، عامل ابن الزبير في الكوفة ، الثائرين مع المختار بالرجال الذين تولوا قتل الامام الحسين لقد حاربهم بشمر بن ذي الجوشن ، وعمرو بن الحجاج ، وشبث بن ربعي ، وأمثالهم وكان هذا كافيا في حفز الثائرين على المضي في ثورتهم والتصميم على النصر.
وقد أنصف المختار عندما تولى الحكم طبقة في المجتمع الاسلامي كانت مضطهدة في عهد الأمويين ، واستمر اضطهادها في عهد ابن الزبير ، وهي طبقة الموالي «المسلمين غير العرب» فقد كانت عليهم واجبات المسلمين ولم تكن لهم حقوقهم ، فلما استتب الأمر للمختار انصفهم فجعل لهم من الحقوق مثل ما لغيرهم من عامة المسلمين.
وقد أثار هذا العمل الأشراف وسادة القبائل فتكتلوا ضد المختار ، وتآمروا عليه ، وأجمعوا على حربه. وكان على رأس هؤلاء المتمردين قتلة الامام الحسين. ولكنهم فشلوا في حركتهم (7).
ثورة زيد بن علي بن الامام الحسين
وفي سنة ١٢١ هـ ، تهيأ زيد بن علي بن الامام الحسين للثورة في الكوفة وثار في سنة ١٢٢ هـ ، وخنقت الثورة في مهدها بسبب الجيش الأموي الذي كان مرابطا في العراق.
وكانت شعارات الثائرين مع زيد «يا أهل الكوفة ، اخرجوا من الذل إلى العز ، وإلى الدين والدنيا» (8).
ويبدو أن الدعوة إلى الثورة لقيت استجابة واسعة من الجماهير المسلمة في أقطار كثيرة من بلاد الإسلام ، فقد بويع زيد على الثورة في الكوفة ، والبصرة وواسط ، والموصل ، وخراسان ، والري ، وجرجان. ولقد كان حريا بثورته أن تنجح لولا اختلال التوقيت ، فقد حدث ما دفع زيدا إلى إعلان الثورة قبل الموعد الذي بينه وبين أهل الأمصار (9).
وقد تكوّن بفضل هذه الثورة جهاز ثوري دائم على استعداد للمساهمة في كل عمل ثوري ضد السلطة. وهو طائفة الزيدية الذين يرون أن الإمام المفترض الطاعة هو كل قائم بالسيف ذودا عن الدين ضد الظالمين.
قال ولهاوزن :
«ولئن كان عصيان زيد قد انتهى انتهاءً مفجعا فإنّه مهم. ذلك أن ثورات الشعب التي حدثت بعده والتي أدت إلى انهيار دولة دمشق انهيارا نهائيا كانت ذات علاقة بها ، وسرعان ما ظهر أبو مسلم بعد وفاة يحيى آخذا بثأره قاتلاً قتلته» (10).
وهذا يبرز بوضوح عظيم تأثير ثورة الامام الحسين عليه‌السلام في تغذية الروح الثورية ومدها بالعطاء. فما ثورة زيد إلاّ قبس من ثورة جده في كربلاء.
ثورة النفس الزكية وأخيه
هو محمد بن عبداللّه بن الحسن السبط ، المعروف بالنفس الزكية لزهده ونسكه. وكان أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور قد بايعا له بالخلافة أيام التخطيط للثورة ضد الأمويين ، وتحت شعار «الرضا من آل محمد». غير أن العباسيين كانوا يضمرون سرا آخر ، فحرفوا مسير الثورة واستقلوا بها ، فامتنع النفس الزكية وأخوه إبراهيم عن البيعة لهم. ولم تتصد لهم الدولة الجديدة لانشغالها في توطيد أمرها ومواجهة مشكلاتها الأخرى. فلما كانت أيام أبي جعفر الدوانيقي (المنصور) أفرغ اهتمامه لإخضاعهما ، فكانا يفران من مدينة إلى أخرى ويدعوان الناس إلى النصرة ، وفي هذه الاثناء كان المنصور الدوانيقي قد اعتقل أباهما عبداللّه بن الحسن والعديد من العلويين.
وفي سنة ١٤٥ هـ ، حيث توالت الأحداث وطالت المطاردة ، علم المنصور أن النفس الزكية قد عاد إلى المدينة المنورة ، وأخذ البيعة من الناس بالخلافة وتلقب بأمير المؤمنين ، وقد تابعه العديد من القبائل العربية في الحجاز ، وأنفذ دعاته إلى الآفاق ، حتى إن مالك بن أنس قد أفتى بالخروج معه ، فلما قال بعض أهل المدينة : إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر قال : إنّما بايعتم مكرهين وليس على المكره يمين.
لم يكن النفس الزكية يريد إعلان الثورة في هذا الوقت ، حتى يستكمل دعاته في الأمصار مهماتهم ، غير أن جملة الأحداث قد ألجأته إلى هذا تحت ضغط إلحاح عامة رجاله.
أرسل أبو جعفر لمواجهة هذه الثورة جيشا معظمه من الخراسانيين الموالين للدولة العباسية ، بقيادة ولي عهده عيسى بن موسى العباسي ، فحاصر المدينة ، واستمرت الحرب أياما حتى قتل محمد النفس الزكية رحمه‌الله.
ولم تخل هذه الثورة من شائبة توضيف بعض المعتقدات الدينية بطريقة خاطئة للاستحواذ على عواطف الناس ، وإن لم يكن صاحب الثورة هو سببها والمسؤول الأوّل عنها ، إذ أشاع بعض أتباعه أن محمدا هذا هو المهدي الموعود الذي أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله به وبظهوره ، ومن هنا كان أول ظهور لزيادة في تسمية المهدي الموعود على الحديث النبي المعروف «لاتقوم الساعة حتى يملك الناس رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي» فجاءت الزيادة عليه «واسم أبيه اسم أبي» إذ النفس الزكية هو محمد بن عبداللّه بن الحسن ، فإسم أبيه أيضا يواطئ اسم أب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (11).
لذلك كان الأمام جعفر الصادق عليه‌السلام إذا رأى محمد النفس الزكية تغرغرت عيناه ، ثم يقول : بنفسي هو ، إن الناس ليقولون فيه إنه المهدي ، وإنه لمقتول ، ليس هذا في كتاب أبيه علي من خلفاء هذه الأمة (12).
وانتهت ثورة النفس الزكية ، وبقي أخوه إبراهيم الذي لايزال متخفيا في البصرة يدعو الناس إلى البيعة لأخيه ، بعد جولة طويلة من التخفي والدعوة قضاها في مدن عديدة ، منها : عدن ، والكوفة ، والموصل ، والانبار ، وبغداد ، والمدائن ، وواسط ، وقد نجحت دعوته في البصرة إلى حد كبير ، وامتدت إلى الأهواز ، وتسلل إليه الكثير من الناس من المدن الأخرى يبايعون له.
أدرك أبو جعفر خطورة الأمر ، فأرسل إلى قائد جيشه الذي كان يقاتل الخوارج في الجزيرة يأمره بالعودة والتوجه إلى البصرة ، لكن أهالي بعض المدن الواقعة على الطريق اعترضوا هذه الجيش بقولهم : لا ندعك تجوز لتنصر أباجعفر على إبراهيم. وكانت معارك من هذا القبيل تدور في أنحاء مختلفة.
هنا أعلن إبراهيم ثورته ، في عام ١٤٥ هـ نفسه ، وحاصر مع بعض جنده دار الإمارة بالبصرة واستولى عليها ، ثم استولى على الأهواز وماجاورها ، ونجح في إلحاق الهزيمة بالجيش العباسي في هذه المدن كلها ، يقول الطبري : فصارت البصرة والأهواز وفارس في سلطان إبراهيم.
وكان إلى جانب إبراهيم ومن أهم رجاله : عيسى بن زيد بن علي بن الحسن بن علي بن الامام الحسين السبط ، وهو زعيم الشيعة الزيدية في عصره. ومعه أيضا رجال المعتزلة ، وأعلن أبو حنيفة تأييده له جهرا ، وأفتى الناس بالخروج معه. فكان لهذه المواقف أثر كبير في انضمام الأنصار لهذه الثورة ، وفي تعزيز موقعها في القلوب والنفوس.
وكان الموقف أكثر من ذلك ، إذ يقول أبو الفرج الاصفهاني : «ولم يتخلف أحد من الفقهاء ـ عن نصرة هذه الثورة ـ ومن هؤلاء الفقهاء : عباد بن العوام ، وأبو العوام القطان ، وهو من جملة محدثي البصري ومن أصحاب الحسن البصري».
لم يكن بين الأخوين تنسيق تام في العمل العسكري ، فخرج محمد النفس الزكية تحت ضغط أنصاره ، فيما كان إبراهيم يحقق نجاحا متواصلاً في التوطيد للثورة العامة في التوقيت المناسب ، فبلغه استشهاد أخيه ومقتل العديد من أصحابه وتفرق الآخرين. وهذا وإن كان قد زاد إبراهيم وأصحابه حماسا إلاّ أنه قد قلّص من مساحة الثورة واختزل الكثير من أنصارها وامتداداتها. وكان موقف الخليفة العباسي حرجا أمام توسع سلطان إبراهيم إذ لم يكن معه من الجند في العاصمة سوى ألفين معظمهم من السودان ، فاستخدم الحيل ليوهم أهل الكوفة بعضمة جيشه كي لايجسروا على الثورة ، ثم كتب إلى عيسى بن موسى يستحثه على الرجوع ، ودعا مسلم بن قتيبة من الريّ ، فضم الجيشين معا ، وجيشا من الري وجهه إلى الأهواز ، ودارت المعارك فانهزم الجيش العباسي هزيمة نكراء ، حتى أمر أبو جعفر باعداد الدواب على أبواب الكوفة ليهرب عليها. غير أن الخبرة في فنون الحرب خانت أصحاب إبراهيم إذ نادى مناديهم : «لا تتبعوا مدبرا»! هذا بالرغم من أن أبا حنيفة قد بعث إلى إبراهيم كتابا يقول فيه :
«إذا أظفرك اللّه بعيسى وأصحابه ، فلا تسرفيهم مسيرة أبيك يعني أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام في أهل الجمل ، فإنّه لم يقتل المنهزم ولم يأخذ الأموال ولم يتبع مدبرا ولم يذفف على جريح لأنّ القوم لم يكن لهم فئة ، ولكن سرفيهم بسيرته يوم صفين فإنّه سبى الذرية وذفف على الجريح وقسم الغنيمة ، لأنّ أهل الشام كانت لهم فئة وكانوا في بلادهم». فتمكّن لذلك الجيش العباسي من إعادة جمع فلوله والهجوم ثانية ، فاصيب إبراهيم بسهم قاتل ، وانهزم جيشه ، في ٢٥ ذي القعدة من سنة ١٤٥ هـ ، في مدينة باخمرى قرب الكوفة (13).
ثورة الامام الحسين بن علي صاحب فخّ
هو الامام الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام.
كانت ثورته في أيام الهادي العباسي الذي شدّد السطوة على العلويين ، وجعل على المدينة عمر بن عبد العزيز بن عبداللّه بن عبداللّه بن عمر بن الخطاب فكان شديد الاضطهاد للعلويين حتى طالبهم بعرض أنفسهم عليه كل يوم. وقدم الامام الحسين بن علي على والي المدينة ينفي عن العلويين الاتهامات التي ألصقها بهم ، ومنها أنه اتهم بعضهم بشرب الخمر! فعفا عنهم لكنه عهد إلى أحد عماله بتفقد العلويين في كل يوم ، فعرضهم يوما في المسجد بعد صلاة الجمعة فلم يجد فيهم الحسن بن محمد الذي كان قد تزوج قبل ثلاثة أيام ، فطالبهم باحضاره ، ونشب جدال طويل وعنيف ، ثم استدعى الوالي الامام الحسين ابن علي ويحيى بن عبداللّه بن الحسن فوبخهما وهددهما.
فأراد الامام الحسين أن يخفف من ثورة الوالي ، فقال له : أنت مغضب يا أبا حفص. فأبدى مزيدا من الغضب ، فقال : أتهزأ بي وتخاطبني بكنيتي؟ فقال الامام الحسين : قد كان أبوبكر وعمر ، وهما خير منك ، يخاطبان بالكنى فلا ينكران ذلك ، وأنت تكره الكنية وتريد المخاطبة بالولاية.
فقال الوالي : آخر قولك شر من أوله ..
فتدخّل يحيى بن عبداللّه ، فقال : فما تريد منا؟
قال : أريد أن تأتياني بالحسن بن محمد.
قال يحيى : فابعث إلى آل عمر بن الخطاب فاجمعهم كما جمعتنا ثم اعرضهم رجلاً رجلاً ، فإن لم تجد فيهم من قد غاب أكثر من غيبة الحسن عنك فقد انصفتنا. لكن الوالي كان يزداد غضبا ، حتى أقسم أن يحرق دار الامام الحسين بن علي ويضربه ألف سوط إن لم يحضر الحسن إليه في يوم وليلة. كما أقسم أن يقتل الحسن إذا رآه.
فبعث الامام الحسين بن علي إلى الحسن بن محمد أن يهرب من المدينة ، فقال الحسن : لا واللّه يابن عمي ، بل أجيء معك الساعة حتى أضع يدي في يده.
فقال الامام الحسين : ما كان اللّه ليطلّع علي وأنا أجيء الى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو خصمي وحجيجي في دمك ، ولكن أقيك بنفسي لعلّ اللّه أن يعفيني من النار.
فاجتمع ستة وعشرون رجلاً من ولد علي بن أبي طالب عليه‌السلام ومعهم نفر من أنصارهم. فدخلوا مسجد النبي عند أذان الفجر ، ونادوا : «أحد ، أحد» ثم تقدم أحدهم الى المؤذن وبيده السيف فقال له : أذن بحيّ على خير العمل. فأذن بها. فلما سمع ذلك العمري دهش واضطرب في كلامه. ثم هرب وله ضراط حتى نجا بنفسه. وصلى الامام الحسين بالناس ، ثم دعا بالشهود الذين حضروا قسم العمري ، فقال لهم : هذا الحسن قد جئت به ، فهاتوا العمري وإلا واللّه خرجت من يميني ومما عليَّ. وخطب بالناس فقال : «أنا ابن رسول اللّه ، على منبر رسول اللّه ، وفي حرم رسول اللّه. أدعوكم الى سنة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .
أيها الناس ، أتطلبون آثار رسول اللّه في الحجر والعود ، وتتمسحون بذلك ، وتضيعون بضعةً منه؟!»
ثم خرجوا قاصدين مكة وهم نحو ثلاثمئة رجل ، فتلقتهم الجيوش بأرض يقال لها «فخ» وقادتها : موسى بن عيسى ، والعباس بن محمد بن سليمان ، ومبارك التركي وآخرون ، فقتل الامام الحسين وأصحابه بعد معركة وكرّ وفر وحصار.
ثم دعا القادة العباسيون أبناء الحسن والامام الحسين ممن بقي في المدينة ، وطرحوا بينهم رؤوس الشهداء ، فتكلم الإمام موسى بن جعفر الصادق عليه‌السلام حين قال له العباس : هذا رأس الامام الحسين!
فقال : «نعم : إنا للّه وإنا اليه راجعون ، مضى واللّه مسلما صالحا صوّاما قوّاما ، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ، ما كان في أهل بيته مثله» فلم يجيبوه بشيء (14).
هذه حلقات من سلسلة الانتفاضات الطويلة التي كان سببها دائما المبالغة في الاضطهاد والامتهان ، كما كان قادتها دائما من رموز الاسلام وخيار رجاله دينا وعلما وشرفا.
المصادر :
1- تاريخ الطبري ٤ : ٤٢٦ ـ ٤٣٦ و ٤٤٩ ـ ٤٧٣.
2- تاريخ الطبري ٤ : ٤٦٩.
3- تاريخ الطبري ٤ : ٤٦٩.
4- تاريخ الطبري ٤ : ٤٦٤.
5- تاريخ الطبري ٤ : ٤٠٤.
6- أنساب الأشراف ٥ : ٢٢٠ ـ ٢٢١.
7- تاريخ الطبري ٤ : ٥١٧.
8- مقاتل الطالبيين : ١٣٩.
9- مقاتل الطالبيين : ١٣٥ ـ ١٣٦.
10- الدولة العربية : ٢٧١.
11- راجع في تحقيق ذلك : الدكتور السيد ثامر هاشم العميدي / المهدي المنتظر في الفكر الاسلامي : ٧٦ ـ ٨١ ، مركز الرسالة ، ط ٢ ، ١٤٢٥ هـ.
12- تفصيل أخبار هذه الثورة في : مقاتل الطالبيين : ٢٠٦ ـ ٢١٧ ، تاريخ الطبري٧ : ٥١٧ ـ ٦٠٩ ، الكامل في التاريخ ٥ : ١٣٧ ـ أحداث سنة ١٤٤ و ١٤٥ هـ ، الفخري في الآداب السلطانية : ١٦١ ـ ١٦٣.
13- تفصيل أخبار هذه الثورة في : مقاتل الطالبيين : ٢٧٢ ـ ٣٣١ ، تاريخ الطبري ، والكامل في التاريخ : حوادث سنة ١٤٥ هـ ، الفخري في الآداب السلطانية : ١٦٣ ، وينظر في ذلك كتاب (غيبة الإمام المهدي عند الإمام الصادق عليهما‌السلام) للسيد الدكتور ثامر العميدي ، الباب الثالث ، الفصل الثالث : ٢١٥ ـ ٢٤٨ ففيه تفصيل ثورة محمد النفس الزكية وأسبابها ومن اشترك فيها وإخمادها.
14- أخبار هذه الثورة في مقاتل الطالبيين : ٣٦٤ ـ ٣٨٥.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.