الشيخ علي أبو الحسن الخنيزي

الشيخ علي أبو الحسن الخنيزي ) ١٢٩١ ـ ١٣٦٣ هـ / ١٨٧٤ ـ ١٩٤٤ م( من كبار أعلام الجزيرة العربية ( السعودية ) وباعث النهضة العلمية في منطقة القطيف ... كان من رجال الوحدة الإسلامية له كتاب يقع في ( ٩٤٩ )
Saturday, November 11, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الشيخ علي أبو الحسن الخنيزي
الشيخ علي أبو الحسن الخنيزي



 


الشيخ علي أبو الحسن الخنيزي ) ١٢٩١ ـ ١٣٦٣ هـ / ١٨٧٤ ـ ١٩٤٤ م( من كبار أعلام الجزيرة العربية ( السعودية ) وباعث النهضة العلمية في منطقة القطيف ... كان من رجال الوحدة الإسلامية له كتاب يقع في ( ٩٤٩ ) صفحة من القطع الكبير في مجلدين ، صدر عن دار الفكر في بيروت سنة ١٣٧٦ هـ / ١٩٥٦ م ، يكشف عن معالم منهجية الشيخ الخنيزي في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية ...
وقد جاء في الصفحة الأولى في تعريف الكتاب إنّه معول يهدّ من الطائفية البغيضة : أسسها المنهارة ، ويدعو للوحدة والتآلف ، دعوة تتمثّل هذه في الآية الكريمة : (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١).
وهذا الكتاب هو آخر مؤلّفات الإمام الخنيزي ما إن أكمله حتّى عاجلته المنية فكأنّه وصيته الأخيرة لمجتمعه وأُمّته.
ومن اطّلع على هذا الكتاب من الباحثين والمحقّقين كالعلّامة السيّد مرتضى العسكري وآخرين كان رأيهم أنّ هذا الكتاب من أقوى كتب الحوار والمناظرة في المسائل الخلافية من حيث قوّة الدليل ، وحجّة البيان ، وان صاف الآخر.
وقال عنه الشيخ محمّد جواد مغنية في تقديمه على الكتاب : نجد فيه الحقيقة والهدوء ، والإخلاص والإنصاف ، وما إلى هذه الصفات ، التي يتجلّى بها العالِم القدير والمجتهد الكبير (2).
وكان من الموضوعي أن يكتسب هذا الكتاب شهرة لا يقلّ مكانة عن غيره في موضوعه.
معالم من منهجه في الوحدة الإسلامية

من معالم هذه المنهجية :

ـ إنّ الحوار هو المنهج السليم في حلّ المشكلات ، وهو الطريق إلى الاعتراف بالآخر والتعايش معه. وفي الدعوة إلى الحوار جاء كتاب الدعوة الإسلامية إلى وحدة أهل السنّة والإمامية والذي هو نقد هادئ في قضية صاخبة على كتاب الصراع بين الإسلام والوثنية للشيخ عبد الله بن علي القصيمي ، وهكذا جاء كتاب المناظرات (3) الذي يتناول بعض المسائل الخلافية بين المذاهب الإسلامية ، على ضوء الهدي الإسلامي والمناظرة الهادئة التي لا تهدف سوى إحقاق الحقّ.
ـ الذهاب إلى الدليل أينما كان ، والوقوف على البرهان أينما وجد ، والتمسّك بالحجّة الدامغة فكتاباته رحمة الله عليه كتابات استدلالية يجتهد فيها بالدليل وإلى الدليل لا تأخذه مصلحة أو عاطفة أو عصبية.
وفي ذلك يقول الشيخ سليمان ظاهر عضو المجمع العلمي العربي : تنمّ مؤلّفاته الكثيرة عن : علم جم ، وفكر نيّر بعيد النظر ، وخلق كريم ، إن جادل فبالتي هي أحسن ، أو قارع الخصوم فببالغ الحجّة ، وواضح البرهان ، ورائده تحرير الحقّ من رقّ الباطل ، وغايته القصوى ، وهدفه الأسمى في كلّ ما خبر وحرّر في حياته ، وما أخرج من المطبوعات متمحضّ للتقارب الإسلامي ، وتوحيد كلمة التوحيد ، في عصر يحيق الخطر على الإسلام (4).
ـ إنّ الوصول إلى الوحدة لابدّ أولاً من إلغاء التفرقة المذهبية فيقول : لا يكون النظم والاجتماع والإلتآم ، بإلغاء التفرقة المذهبية ، فلا سنّية ، ولا شيعية ، ولا خارجية ولا معتزلية ، ولا أشعرية فيكون الناظم لهذا العقد ، الذي تفرّقت خرزه ، والجامع لهذا الشمل المنصدع ، الانصداعات المتفاقمة ، هو الدين الإسلامي : لا إله إلّا الله محمّد رسول الله. فهناك تحصل القوّة الرابطة ، والنشاط الجامع ، وتصفو داخلية الإسلام ، ويطيب هواؤه ، وتنقى جوانبه ، وتعود له الروح التي فيه أيّامه وأيّام الخلفاء المرضيين (5).

ـ التحرّر من أيّة عصبية كانت تاريخية أو اجتماعية أو عقيدية ففي مقدّمته على كتابه روضة المسائل في إثبات أصول الدين بالدلائل يقول : حرّرتها لمن طلب حقّ اليقين من أيّ فرقة كان من المسلمين أو غير المسلمين خلعت فيها ربقة التعصّب والعناد ، ونزعت فيها حلّة مذهب الآباء والأجداد ، وسلكت طريق الإنصاف والاقتصاد فأرجو ممن وقف عليها النظر بعين الانصاف والألطاف لا بعين التعصّب والاعتساف ، ولا بلحاظ مذهب المتقدّمين والأسلاف (6).
ـ التسامح مع الآخر وإن اختلف معنا. فقد كان رحمة الله عليه طبعه
التسامح والتودّد ... في بيئة هي أشدّ ما تكون في حاجة إلى التسامح.

قصّة التقريب :

هل في طاقة المسلمين أن يعالجوا مشاكلهم بأنفسهم؟
هل هناك مبادئ من صميم الإسلام تضمن للأُمّة الإسلامية وحدتها ، وبالتالي تضمن لها عزّها ومجدها؟
هل يفهم المسلمون أنّ التقريب معناه نبذ كلّ خلاف؟ أو أنّهم لا يرون بأساً بأيّ خلاف يتبع الدليل ، ويراعي الأصول التي لا يحقّ لمسلم أن يخرج عليها؟
هل تتحكّم المصلحة في النهاية أو يسيطر التعصّب؟
وأخيراً. هل المسلمون يريدون حقّاً أن يعيشوا أو أنّهم سيظلّون يتهاونون حتّى في وجودهم ويتركون الأمر لأعدائهم الذين يعرفون كيف ينتهزون الفرصة ، ويحسنون الانتفاع بموقف كلّ من المتزمتين الذين يسيطر عليهم الجمود ، وأصحاب الهوى الذين يخدمون السياسات الأجنبية؟
وبذلك يزداد ضعفهم ويعجزهم صدّ أيّ تيار خارج على مبادئهم ، فيسهل تحطيمهم والقضاء عليهم؟
كانت هذه الأسئلة تدور بخلد كلّ من يفكّر في الإصلاح ، وتراود عقل كلّ من يرغب في العمل لخدمة الدين والأُمّة.
وكان لابدّ للردّ عليها من تجربة تنير الطريق ، وتكشف عن حقيقة حال المسلمين.
وكانت فكرة التقريب هي التجربة الأولى من نوعها في هذا المجال!
ولو أنّ هذه التجربة فشلت ـ والعياذ بالله ـ لكان الجواب على تلك الأسئلة صريحاً واضحاً ؛ فإنّ فشلها وإن كان في ظاهره مجرّد ضياع فكرة ، إلّا أنّه في حقيقته يكون حكماً بعدم صلاحيتنا لعلاج أمورنا ، وعدم بلوغنا مرتبة الوعي والرشد ، بل يكون دليلاً حتّى عند أكثر الناس إنصافاً لنا ، على أنّنا لسنا أهلاً لحمل رسالة الإسلام الذي جاء ليحقّق السلام ، ويضمن الخير للبشر أجمعين!
ولو أنّها فشلت ، لما اقتصر أثرها على ضياع هذه الفكرة ، بل كان يمتدّ على الزمن فيثبط ـ في المستقبل ـ عزيمة كلّ من يحاول إنجاز عمل إسلامي ، أو تحقيق غاية إسلامية. بل ربّما ألقى هذا الفشل ، ظلّاً من التشكّك في مبادئنا الإسلامية نفسها ، فنظلم الإسلام ، ونتيح للبسطاء أو المغرضين أن يحكموا عليه بتصرّفاتنا نحن ، وشتّان بين حقيقة الإسلام وواقع المسلمين.
كان الوضع قبل تكوين جماعة التقريب يثير الشجن ، فالشيعي والسنّي كلّ كان يعتزل الآخر ، وكلّ كان يعيش على أوهام ولدتها في نفسه الظنون ، أو أدخلتها عليه سياسة الحكم والحكّام ، أو زينتها له الدعايات المغرضة ، وساعد على بقائها قلّة الرغبة في الاطّلاع.
كانت الكتب المشحونة بالطعن والتجريح تتداول بين أبناء كلّ فريق ، وتلقّى عند كلّ أحسن القبول حتّى ولو تكلّمت عن طوائف وعقائد لا وجود لها على سطح البسيطة ، كما في كتاب الملل والنحل الذي يبدو لقارئه في بعض الأحيان كأنّه يتكلّم عن خلق آخرين في الكواكب الأخرى.
وفي الجملة ؛ كان يسود الفريقين جو من الظلام ، فلا يرى أحدهما من صورة الآخر إلّا شبحاً تحوطه الظلمة ، ولا يتكلّم عنه إلّا بما توحي به الظلمة ، ولا يقرأ عنه إلّا ما تسمح به حلكة الظلام.
فإذا ألّف أحد من أبناء الفريقين كتاباً ، فهو لا يعرض إلّا آراء مذهبه ، ولا يدافع إلّا عنها ، ولا يسير إلّا إليها ، وإذا طلب الأمر إشارة إلى ما في غير مذهبه ، فلا تكون إشارته إلّا طعناً واتهاماً ، وإلّا ترديداً لما سمعه أو قرأه أو ورثه عن آبائه!
وبذلك كبّروا الخلافات وضخّموها ، وردّدوا الشكوك وأسفوا فيها ؛ حتّى أصبح كلّ معنى يؤيّد الوحدة يفسّر في ظلّ الشكوك بما يوجب الفرقة.
بل وصل الأمر إلى التشكك في وحدة المصحف ، وشكّ كثير من أهل السنّة في أن يكون مصحف الشيعة هو المصحف الذي في أيدي سائر المسلمين ، ومع ذلك لم يكلّف أحدهم نفسه مؤنة التقليب في نسخة من ملايين النسخ التي في متناول يده ، ولو أنّهم فعلوا ، لذهب الشكّ وحلت المشكلة ، ولكنّهم حكموا على الموجود المحسوس لما ليس فيه اعتماداً على قول مؤلّف مغرض مات قبل قرون!
إنّ هناك قصة تروى لست أدري إن كانت واقعية أم صنعها الخيال :
لقد رووا أنّ قاضياً في إحدى البلاد رأى يوماً نفراً يمسكون بتلابيب رجل ويجرّونه إليه ويقولون : هذا الرجل يكذّب المؤمنين العدول. فقد شهد شاهدان عدلان بوفاته منذ سنين. ثمّ هو يظهر بين ظهرانينا وهو بوجوده هذا يقذف في عدالة الشهود!
فما كان من القاضي الألمعي إلّا أن قال : كيف نصدّق أنّك حيّ ، ونكذّب شاهدين عدلين شهدا بموتك من قبل؟! وحكم بعدم وجوده.
سواء أصحّت هذه القصّة أم كانت من صنع الخيال ، فإنّها تعبّر عن واقع المسلمين الذين لا يصدّقون عشرات الملايين من المصاحف الموجودة أمامهم ، ويحكمون عليها بما قاله مؤلّف انقضى على عصره قرون ، أتراهم ألفو تقديس كلّ ما هو قديم ولو كذّبه الواقع الملموس؟!
فإذا أضفنا إلى ذلك تحكم عنصر الوراثة ، وحرص الأبناء على الأخذ بما وجدوا عليه آباءهم أو سمعوه منهم ؛ تبيّن بوضوح أنّ محاولة التقريب كانت تبدو مستحيلة التحقيق. أجل! ولقد ظلت الفرقة بين المسلمين غذاءً مناسباً للحكم والحكّام قروناً عدّة ، دأب فيها كلّ حاكم على استغلالها لتثبيت سلطانه ، ولتحطيم عدوه ثمّ جاءت السياسات الأجنبية فوجدت في هذه الفرقة خير وسيلة تدخّلها ، وبثّ نفوذها ودعم سلطانها وفرض سيادتها.
والسياسات الأجنبية هي التي أوحت إلى كثير من أعدائنا الذين يتستّر بعضهم وراء اسم المستشرقين بالعمل ليكملوا إحكام الحلقة حولنا ببحوثهم التي تقوم على دسّ السموم ، وانخدع بهم بسطاؤنا فكان بعضهم يحكم على بعض بما كتبه هذا المستشرق أو ذاك!
وهكذا صدقنا هؤلاء المستشرقين ، كما كنّا نصدّق المؤرّخين الدسّاسين وكتبة الأوهام وواضعي الأحاديث. وسيطرت علينا جاذبية الجديد البرّاق ، كما سيطرت علينا هيبة القديم المألوف ، فحرمنا أنفسنا حقّ التفكير فيما ذكره هؤلاء وهؤلاء ، وأنكرنا على أنفسنا أن يكون لنا تفكير مستقل ندرس به أنفسنا من واقعنا!
وبجانب هذا وقفت السياسات الأجنبية المسيطرة علينا ، وقفت بالمرصاد في وجه كلّ فكرة إصلاحية ترمي إلى توحيد كلمة المسلمين.
لقد تقرّر توقيفية أسماء الله تعالى ، فليس لأحد أن يبتكر من عند نفسه اسماً لله لم يرد عن الله ، وتقرّر توقيفية العبادات ، فليس لأحد أن يبتدع عبادة لم تشرّع.
أمّا أن يقوم المسلم ـ وهو الذي فتح الله أمامه أبواب التفكير في السماوات والأرض ـ بتوقيفية البحث والتفكير ، فهذا ما لم نكن نتصوّره. ولكنّه مع الأسف الشديد كان سيرتنا في التعصّبات الطائفية.
إنّ الأسر التي حكمت باسم الخلافة الإسلامية قروناً طويلة ، كانت ترى في آل علي المعارض الوحيد الخطير عليها ، فكانت تسيء إلى شيعة آل علي وتستخدم الأقلام والألسنة ضدّهم ، حتّى أوجدوا حول الشيعة كثيراً من الخلط ، وكثيراً من التشويش. وكان يمكن لأي مصلح يتصدّى للدفاع عنهم أن يدرأ عن المسلمين شرّ التفرّق ، ولكن القوّة التي بيد الخلفاء ومقاومة بعض الحكام من الجانب الآخر كلاهما سخّر الأقلام والضمائر ضد كلّ محاولة من هذا القبيل ، وقضى عليها.
نعم ، هناك محاولات وقعت فيما مضى ، إلّا أنّها كانت فردية من جهة ، ولم تكن على أساس مدروس من جهة أخرى ، وكانت تارة سياسية ترمي إلى وحدة الحكم ، وتارة غير عملية كمحاولة توحّد المذاهب سنيها وشيعيها ، وبجانب هذا لم يكن الرأي العام يدرك حينئذ ما في التفرّق أضرار.
من أجل ذلك كلّه ، لم تنجح واحدة من تلك المحاولات المشكورة ، وإن تركت آثاراً في نفوس قلّة من المفكّرين.
وبعد هذا ساق الله الظروف المواتية لإيقاظ المسلمين ، وهيّأ الأسباب التي تعين على ذلك في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
فإنّ الدول القوية التي كانت تهيمن على مقدّراتنا ، وترسم لنا سياستنا منذ أمد طويل ـ هذه الدول خرجت من الحرب منهكّة القوى مخضودة الشوكة سواء في ذلك الدول الغالبة والمغلوبة.
وقبل أن تستردّ الدول الغالبة أنفاسها بدأت بينها حرب ثالثة غير أنّها كانت حرباً باردة.
فجعل بعضهم يضرب بعضاً ، وجعل كلّ منهم يخلق المشكلات للآخرين ، حتّى سقطت هيبتهم جميعاً ، وبذلك سقطت هيبة الدول التي كنّا نؤخذ بها ونسحر بقوّتها ، وانهارت كبرياؤها وشغلت عن تجديد مساعيها للتفرقة بيننا ، بمشاكلها التي أصبحت تهدّد كيانها ، وبذلك ضعفت قبضتها علينا!
وهناك جانب آخر من الواقع في هذه الحرب وما ترتّب عليها من آثار :
ذلك أنّها أوجدت في الشعوب الإسلامية لونا من الاعتزاز بالنفس والاعتزاز بالمبادئ الإسلامية ، فقد رأوا بأعينهم ما جرته المدنية الحديثة على صنّاعها من ويلات وبلايا ومن فتك ذريع ومن جرائم وحشية اقترفها أساتذة المدنية الحديثة ضدّ الإنسانية ، حبّا في السيطرة.
وأدركوا بيقين أنّ المدنية والمذاهب الاجتماعية التي كان يتيه بها أصحابها في الشرق أو الغرب والمثل التي يتشدّق بها هؤلاء وهؤلاء ، لم تستطع أن تكبح من ضراوتهم ، أو تحدّ من وحشيتهم وأنّ الأسلحة الفتّاكة التي طالما هدّدونا بها استخدمت في القضاء عليهم.
لقد كان هذا كلّه بمثابة ضجّة أيقظت المسلمين من سباتهم ، ودفعتهم إلى الاهتمام بما عندهم من مبادئ إنسانية ، ومن مثل عليا خدعهم عنها العدو الطامع فيهم بأباطيله حيناً من الدهر ، وهكذا كان التنافس بين الدولة الغالبة المضعضعة ، وشعور الاعتزاز عند المسلمين كلاهما من الأسباب المهيّئة لظهور فكرة إصلاحية جديدة.
وفي هذا الوقت الذي أرهفت فيه مشاعر المسلمين وقعت حادثة هزّت عواطفهم هزّة عنيفة ، مع أنّها لو وقعت في غير وقت الحسّاسية لمرّت عادية ولم تترك أثراً ، والحوادث العادية إن وقعت في زمن الحساسية فغالباً ما تصنع المعجزات!
وقعت الحادثة في الحرم الآمن وفي الشهر الحرام وفي أيام الحجّ بالذات وراح ضحيتها شاب مسلم قصد إلى الحجّ ، وقطع أكثر مراحل سفره سائراً على قدميه حتّى وصل البيت الحرام ، وهناك أصابه مرض ، فغلبه القيء فتلقّاه في حجره حرصاً على طهارة البيت ، ولكن حظّه السيئ خيل لبعض الطائفين أنّه يحمل ما يحمل يريد به تلويث البيت فصاح بذلك في الناس ، وليس من عادة الجماهير أن تتثبت إذا هيّجها مهيّج ، فشهدوا عليه بما كان منه بريئاً ، وقتلوه مظلوماً ، وهو في رحاب الحرم الشريف الآمن!
وإنّما كان مبعث ذلك سوء ظن طائفة بطائفة ، وكان يمكن أن تؤدّي هذه الحادثة إلى أسوأ النتائج ، وأن تثير الأحقاد ، وأن تهيج العصبيات القديمة ، وأن تقطع الصلات بين فريقي المسلمين ، ولكن هذه الحادثة أثّرت في كثير من المفكّرين تأثيراً كان له عاقبة محمودة ، ووضعت الأصبع على موضع الداء ، فكأنّما أراد الله أن تكون موجهة للمصلحين إلى الاهتمام بهذا الداء الوبيل داء التفرّق الطائفي بالذات.
ولا عجب أن تكون هذه الواقعة مع ما اكتنفها من خطورة مفزعة حافزاً على التفكير ، وعلى العمل فكثيراً ما يأتي الشرّ بالخير لقد بدأوا بسؤال أنفسهم : كيف تعيش أمّة موزّعة على نفسها في دنيا الأقوياء؟ كيف يمكن أن تقدّم المبادئ الإسلامية إلى العالم والإسلام في حرب بين أبنائه داخل بلادهم؟ وكيف يتمكّن الذي تسوء حالته الداخلية من إصلاح مركزه الخارجي؟
هكذا بدأنا التفكير في التقريب ، ثمّ سلخنا بعد ذلك شهوراً نبحث في سبل العلاج فدرسنا الدعوات التي سبقتنا وأفدنا منها كثيراً ، ودرسنا المشاكل الطائفية برمّتها ، والكتب المعتمدة عند كلّ فريق لتحدّد الطوائف التي تتفق في الأصول الإسلامية ، ودرسنا الخلافات الفرعية والفقهية ومبلغ ما وصلنا إليه. ثمّ حدّدنا أنجح طريقة للوصول بفكرتنا إلى الأعماق.
وقد أدّى بنا إلى أن هذه الدعوة يجب أن تقوم بها جماعة بدل أن يقوم بها فرد يتعرّض لكثير من الأخطار ، وأن تكون الدعوة إلى التقريب بين أرباب المذاهب لا إلى جمع المسلمين على مذهب واحد ، فيبقى الشيعي شيعياً والسني سنياً ، وأن يسود بين الجميع مبدأ احترام الرأي الذي يؤيده الدليل ، وأن تكون الجماعة ممثّلة للمذاهب الأربعة المعروفة عند أهل السنّة ، ومذهبي الشيعة الإمامية والزيدية. وأن يمثّل كلّ مذهب علماء من ذوي الرأي والمكانة فيه ، وأن تكون الجماعة بمعزل عن السياسة ، وأن تكون محددة الأهداف ، وأن يكون سعيها على أساس البحث والعلم كي تثبت أمام المعارضة ، وتكسب الأنصار عن سبيل الإقناع والاقتناع ، ولكي تستطيع بسلاح العلم محاربة الأفكار الخرافية الطفيلية التي لا تعيش إلّا في ظلّ الأسرار والأجواء المظلمة. ولكي تتمكّن في الوقت نفسه من مقاومة الطوائف والنحل التي ليست من الإسلام في شيء والتي يحسبها الشيعي سنّية ، والسنّي شيعية ، بينما هي في حقيقتها حرب على الإسلام.
وهكذا تكوّنت جماعة التقريب معتمدة على الله وعكفت على البحث الدائب والعمل المستمر ، والاتصال بالمراكز الدينية في كلّ بلد إسلامي اتصالاً هادئاً مثمراً ، وابتعدت بنفسها عن الدعاية ، ولكن الدعاية جاءتها من قبل المعارضين. فإنّ المتعصّبين والمتزمتين وذوي النزعات والأغراض ؛ رأوا في نشاط الجماعة بدعة لا يصحّ السكوت عليها ؛ فبدأوا هجومهم على الفكرة وعلى الجماعة ، وأشتدّ هجومهم على الأيام ، وليس بيننا من لم يأخذ نصيبه من هجومهم كاملاً غير منقوص.
لكن الجماعة هيأت نفسها لهذا من أوّل الأمر ؛ لأنّها تعلم أنّها تواجه رواسب قرون ، وكانت تتوقّع حملات فيها الطعن والتجريح ، وبدل أن تضعف الهجمات العزائم شحذت الهمم وقوت الجماعة على السير بالفكرة إلى النهاية.
وكانت هذه الهجمات نفسها دليلاً على ضرورة فكرة التقريب للمجتمع الإسلامي كي يتخلّص من العناصر البغيضة ذات التفكير السقيم الذي يبلبل الخواطر ، ويصرف الأذهان عما ينفع الناس ، ويمكث في الأرض.
أذكر أنّ أحد هؤلاء المتعصّبين ملأ كتاباً بالطعن على الشيعة والهجوم على جماعة التقريب لقيامهم بهذه الفعلة النكراء فعلة التقريب بين السنّة والشيعة!
وفي الوقت نفسه وصلنا كتاب عن الطرف الآخر من تلك الكتب المؤلّفة في عهد الصفوية مليء بالهجوم على أهل السنّة ، وكلا الكتابين التقى مع الآخر في الهجوم على الجماعة ، فماذا تظن كان موقف الجماعة؟
إنّهم قرؤوا بهدوء تلك المهاجمات العنيفة ، ولكنّهم لم يتأثّروا ، ولم يكفّوا عن الجهاد ، كما كان المؤلّفان المتجنيان المتعصّبان ـ سامحهما الله ـ يأملان ، بل إنّهم أجمعوا على أنّ الحاجة ملحّة إلى بذل نشاط أكبر ما دام في العالم الإسلامي هذا النوع من الأشخاص ، وهذا اللون من التفكير ، وهذا الإضرار على محاولة التفرقة.
ولم يقف الأمر عند هذين الكتابين بل جاء من مثلهما الكثير ، وكثر كذلك الكلام هنا وهناك ، وكلّ هذا في جملته كان يحفّز الجماعة إلى أن تسعى لتحقيق ما حسبه البعض مستحيلاً.
لقد كان أكثر الناس يسمّي هذا النشاط محاولة هيهات أن تؤدّي إلى نتيجة ، وكان منهم من يرى هذه المحاولة مستحيلة ، وكان فريق آخر يظنّها سياسة على المألوف من الذين تعوّدوا إلّا تنبع أفكارهم من ذوات نفوسهم ، مع وضوح أنّه لا يمكن أن يكون لسياسة أجنبية ما رغبة في تجمّع على أساس وحدة المبادئ الدينية لثقتها بأنّ ذلك هو عين القضاء عليها.
كلّ هذا كان دعاية نافعة لجماعة التقريب ، لفتت إليها الأنظار ، وجعلت كثيراً من الناس يدرسون فيعرفون فيصبحون جنوداً ، فكثر بذلك أنصارها ، وضمّ كثير من المفكّرين وعلماء الدين في مختلف البلاد جهودهم إلى جهودها ، فأصبحت هذا الجماعة التي تكوّنت في القاهرة مركزاً فكرياً علمياً أعضاؤه من أولي العلم وأصحاب التوجيه والرأي في العالم الإسلامي كلّه وضاقت الأرض على الأقلام المفرّقة ونبّاشي القبور الذين لا همّ لهم إلّا تحريك الماضي المتعفّن وإثارة العواطف البغيضة!
إنّ تكوين الجماعة نفسه كان توفيقاً ، لأنّهم هيئوا للمسلمين مركزاً يصلح للنظر في مشكلاتهم ويلتقي فيه رجال الإسلام من كلتا الطائفتين ، ويظلّه الهدوء وتقدير المصلحة ، ويسوده الوفاق لا الخصام.
وكأن المسلمين بمشاكلهم الطائفية كانوا في ظلام لا يرى بعضهم من بعض إلّا أشباحاً مخيفة ، وكأنّ الجماعة أضاءت لهم ، لترى كلّ طائفة أختها على حقيقتها لا على وحي الظلام ، ولقد كان للسان الجماعة : مجلة رسالة الإسلام ، دور عظيم ، إذ جعلت توصل الفكرة إلى مكتبات العلماء ورجال الفكر ، وكان كلّ عدد منها يزيل الستار عن جزء من المحجوب ، ويكسب عدداً أكبر لجانب التقريب ، وتبيّن بوضوح أنّ المسلمين لا يختلفون في كتابهم ولا في صلواتهم ولا في صومهم ولا في حجّهم بالإضافة إلى اتفاقهم المطلق في أصول العقائد وأصول الدين والتوحيد والنبوّة ، وليس يضيرهم أن يكون لبعضهم أصول مذهبية خاصّة كالولاية عند الشيعة الذين يرون أنّ علياً وأولاده أحقّ بها من غيرهم.
لقد قرأ السنّي عن الشيعة أبحاثهم واستنباطهم وأعجب بالكثير منها ، وقرأ الشيعي عن السنّة أنّ أهل البيت مجمع بينهم على حبّهم وإكرامهم وإنّ ما صدر عن بعض الظالمين لا يمثّل رأي السنّة في أهل البيت.
وعرف أهل السنّة أنّ الشيعة يعتبرون الغلاة نجساً ويحكمون بكفرهم ، ويحكمون بخروج أصحاب الحلول كذلك.
وإذن فشتان بين الشيعة على حقيقتها ، والشيعة التي تصوّرها المتصوّرون. وشتان بين الناصبي الذي كان يناصب أهل البيت العداء ، وأهل السنّة الذين يرون في حبّ أهل البيت عبادة ويصلّون عليهم في تشهدهم اللّهم صل على محمّد وآل محمّد ... وبارك على محمّد وآل محمّد.
ولم تكن سنّة التدرج تفارق الفكرة ، إلى أن جاء دور جعل الجامعات الدينية إسلامية عامة ، وهو نصّ في القانون الأساسي للجماعة منذ نشأتها ، فالمادّة الثالثة ( هـ ) تذكر من بين أغراضها : العمل على أن تقوم الجامعات الإسلامية في جميع الأقطار بتدريس فقه المذاهب الإسلامية حتّى تصبح جامعات إسلامية عامة.
فلمّا تهيّأت الأفكار بعد أن قامت الدار بطبع بعض الكتب الفقهية على نفقة وزارة الأوقاف المصرية وتوزيعها ، جاءت الخطوة الحاسمة بعد ذلك : خطوة تقرير دراسة فقه المذاهب الإسلامية الشيعية مع السنيّة في أقدم جامعة إسلامية وهي الأزهر الشريف.
ولم تكن الفكرة ارتجالية ، بل كانت مبدأ نادت به الجماعة منذ نشأتها ، فلمّا قدر لرجل مصلح من رجالها المجاهدين ـ له مركزه الديني الكبير ـ أن يجلس على كرسي مشيخة الأزهر كان من الطبيعي أن ينفذ ما عاهد الله عليه لخير الإسلام وصالح المسلمين.
ولقد زلزل هذا القرار كثيراً من الانتهازيين وقضى على آمال كثير من المتربصين ، ولكن التاريخ لا يخدع ، وقد سجّل هذه الخطوة كحديث هام في تاريخ الإسلام والمسلمين ، لم يكن سجّل مثله منذ بدأ الخلاف بين الطائفتين إلى اليوم.
فنحمد الله على أنّ المسلمين أثبتوا أنّهم جديرون بإصلاح شؤونهم ، قادرون على علاج مشاكلهم. فإنّ نجاح الفكرة كفكرة التقريب رغم المعارضة التي قامت في وجهها والعراقيل التي وضعت في طريقها ، في زمن لم يتجاوز ثلاثة عشر عاماً تجعلنا نأمل خيراً كثيراً في مستقبل الزمن.
ولا نحبّ أن ننسى أنّ أمامنا فريقين من المعارضين فريقاً له إيمانه بفكرته ، وله عذره من بيئته أو ثقافته أو غيرته ، وهؤلاء لنا فيهم أمل ورجاء ؛ لأنّ المخلص لابدّ أن ينتهي به إخلاصه إلى معرفة الحقّ والرجوع إليه يوماً ما ، أمّا الفريق الآخر ففريق كان أمثالهم يقولون في عهد نزول القرآن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) (7) ، وهؤلاء لا شأن لنا بهم ، ولعلّهم لا يعيشون إلّا بالفرقة ، أو يحسّون لها لذّة لا يحبّون أن يفقدوها.
وإنّي لعلى يقين من أنّ هذه الفكرة ستكون نقطة الانطلاق لكثير من الأفكار الإصلاحية ، ولا يزال أمامنا خطوات جديدة تحتاج إلى تعضيد فكري كبير لنقدّم للإسلام كلّ ما أخذناه على عاتقنا في القانون الأساسي.
أكتب هذا ولا تزال في خاطري صورة أوّل اجتماع بدار التقريب ـ ولعلّه أيضاً أوّل اجتماع من نوعه في الإسلام ـ جلس فيه علماء من السنّة والشيعة حول مائدة واحدة ، في هدوء العلماء المتضلّعين وفي وجوههم تصميم المجاهدين وقلّبوا وجوه الرأي لعلاج داء التفرق ، على هدى رسالة الإسلام والمبادئ الإسلامية ، فكتبوا بعملهم هذا فصلاً من فصول التاريخ الإسلامي المجيد.
وهكذا قدّر الله لهم أن يكونوا من صانعي التاريخ ، وقدّر للمسلمين مرّة أخرى أن يعيشوا في نشوة النداء الإلهي الكريم : (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (8).

المصادر :
1- النحل (١٦) : ١٢٥.
2- الدعوة الإسلامية إلى وحدة أهل السنّة والإمامية ١ : ص٥.
3- صدر الكتاب عن مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة ، حقّقه وعلّق عليه الشيخ عبد الله الخنيزي.
4- الدعوة الإسلامية ٢ : ص ب.
5- المصدر السابق ١ : ٢٢٥.
6- روضة المسائل في أثبات أصول الدين بالدلائل : ٢.
7- فصلت (٤١) : ٥.
8- آل عمران (٣) : ١٠٣.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.