
ساهم الشيخ كاشف الغطاء ( ١٢٩٥ ـ ١٣٧٣ هـ / ١٨٧٦ ـ ١٩٥٤ م) في الحركات الجهادية في عهود السيطرة الاستعمارية في العراق ودول عربية أخرى ، وكان يستشعر الواقع الإسلامي ومشكلاته بمرارة وألم ، بين مشكلات هي نتاج الداخل الإسلامي ، ومشكلات هي نتاج الخارج ومن صنع المخطّطات الأجنبية ... والوعي بهذه الأوضاع كان يحفزه لممارسة دوره في حركة الأحداث.
سافر إلى الخارج وهناك اطّلع على أوضاع العالم العربي والإسلامي وما يتعرّض له من مؤامرات ومخطّطات في الهيمنة ومسخ الشخصية الإسلامية وتغريب الهوية الحضارية ، فازداد حماساً بدوره ، وجرأة في مواقفه ، وتصميماً في منهجه النهضوي.
كان منفتحاً على عصره وثقافاته ومجتمعه ممّا جعله واعياً. بما يدور فيه وواعياً لمسؤوليته الاصلاحية. وفي عصره تساءل البعض ـ لم يتدخّل سماحة الإمام كاشف الغطاء في السياسة وهو رجل دين روحاني؟
وكان يجيب عن ذلك بقوله : أمّا التدخّل بالسياسة فإن كان المعني بها هو الوعظ والإرشاد والنهي عن الفساد ، والنصيحة للحاكمين بل لعامة العباد ، والتحذير من الوقوع في حبائل الاستعمار والاستبعاد ، ووضع القيود والأغلال على البلاد وأبناء البلاد ، إن كانت السياسة هي هذه الأمور فأنا غارق فيها إلى هامتي وهي من واجباتي وأراني مسؤولاً عنها أمام الله والوجدان (١).
وحينما تحدّث عن الجهاد قال : لو أردنا أن نطلق عنان البيان للقلم في تصوير ما كان عليه الجهاد بالأمس عند المسلمين ، وما صار اليوم لتفجّرت العيون دماً ، ولتمزّقت القلوب أسفاً وندماً ، ولتسابقت العبرات والعبارات ، والكلوم والكلمات ولكن! أتراك فطنت لما حبس قلمي ، ولوى عناني ، وأجّج لوعتي ، وأهاج أحزاني ، وسلبني حتّى حريّة القول ، ونفثة المصدور (٢).
وقد كشف كتابه المثل العليا في الإسلام عن غيرته على الإسلام والبلاد الإسلامية ، فقد كان الكتاب خطاباً ملهماً بعث روحاً في الأُمّة ووصفه البعض : إنّ تأليف مثل هذا الكتاب من قبل العلّامة كاشف الغطاء ليبعث الأمل إلى النفوس بأنّ الكرامة الوطنية لها ركائز باقية فوق تربة الوطن ، وإنّ روح جمال الدين الأفغاني لم ينمحي أثرها من عقول بعض رجال الدين ، وإنّ الوطنية يمكن بعثها شاملة ما دام أمثال العلّامة كاشف الغطاء يمسك بمشعلها ليحرق به الاستعمار (٣).
لقد قابل جمهور الشعب في البلاد العربية والإسلامية ، والزعماء المخلصون الكتاب بارتياح عظيم ، واعتبره الناس معبّراً عن شعورهم ، وآلامهم ، وممثّلاً لآرائهم ومصالحهم (٤) ، وقد نفد الكتاب خلال بضعة أيام من صدوره.
وعن مشروعه في الوحدة والتقريب فقد كان من الفاعلين في دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة ، وقد أعطى زخماً كبيراً لمشروعات الوحدة الإسلامية ، وروحياً وفكرياً وعملياً. وكانت الوحدة في تفكيره مصلحة عليا لا يجوز التفريط فيها أو التهاون بها والتغافل عنها ، فكان يقدّمها كأولوية أساسية في منهجيته الحركية.
منهجيته في الوحدة :
إنّ تأمّلات الشيخ كاشف الغطاء في مجموعها تشكّل منهجاً علمياً في كيفية فهم الوحدة والتقريب ، والمنهج السليم في التعامل مع الاختلاف ومن مكوّنات ومعالم هذه المنهجية :١ ـ أن ليس المراد من التقريب بين المذاهب الإسلامية إزالة أصل الخلاف بينها ، بل أقصى المراد وجلّ الغرض هو إزالة أن يكون هذا الخلاف سبباً للعداء والبغضاء ، الغرض تبديل التباعد والتضارب بالإخاء والتقارب (5).
ومهمّا تعمقنا في البحث ومشيّنا على ضوء الأدلّة عقليّة أو شرعيّة ، وتجردنا من الهوى والهوس والعصبيات ، فلا نجد أيّ سبب مبرر للعداء والتضارب بين طوائف المسلمين مهما اتّسعت شقة الخلاف بينهم في كثير من المسائل (6).
٢ ـ ضرورة الرجوع إلى المصادر العلمية الأصلية لأي مذهب أو فكرة إذا ما أردنا الوصول إلى الحقيقة في هذا المذهب أو هذه الفكرة.
وما زال أهل العلم والنظر والدراسات الصحيحة يعنون أكبر العناية بالمصادر التي يعتمدون عليها في بحوثهم ، ويستندون إليها في أحكامهم ، ومن المعهود أنّ رجال الفرق ، وأهل العصبيّة للمذاهب ينقلون عن مخالفيهم آراء قد لا يعرفها هؤلاء المخالفون ، وقد يعرفونها على صورة أخرى تختلف اختلافاً قريباً أو بعيداً عن الصورة المنقولة.
لذلك كان شيوخ العلم ، وحذّاق النقد يوصون تلاميذهم بأن يعنوا بمصادرهم ، وألّا يقلّدوا في بحوثهم وأفكارهم تقليداً أعمى ، فيقعوا في الخطأ ، ويضلّوا عن سواء السبيل (7).
لذلك إنّ التثبّت واجب قبل الحكم وقد أمرنا الله به لئلا نصيب قوماً بجهالة فنصبح على ما فعلنا نادمين (8).
٣ ـ إنّ الوحدة الحقّة والإخاء الصحيح الذي جاء به الإسلام ، بل جاء بالإسلام وتمشّت عليه وضعية الأُمم الراقية وبلغت أوج العزّ والقوّة أن يرى كلّ فرد من الأُمّة أنّ المصلحة النوعية هي عين المصلحة الفردية ، بل هي فوقها ، وهذه الصفة خفيفة في اللسان ، ثقيلة في الميزان (9).
٤ ـ كفى بالقرآن جامعاً مهما بلغ الخلاف بين المذاهب ، فإن رابطة القرآن تجمعهم في كثير من الأصول والفروع ، تجمعهم في أشد الروابط من التوحيد والنبوّة والقبلة وأمثالها من الأركان والدعائم ، واختلاف الرأي فيما يستنبط أو يفهم من القرآن في بعض النواحي ، اختلاف اجتهادي لا يوجب التباغض والتعادي. والقرآن صريح في لزوم الاتفاق والإخاء والنهي عن التفرق والعداء ، قد جعل المسلمين إخوة فقال عز شأنه : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (10).
٥ ـ لا نزال نحن معاشر المسلمين بالنظر العام نتعلّق بحبال الآمال ، ونكتفي بالأقوال عن الأعمال ، وندور على دوائر الظواهر والمظاهر ، دون الحقائق والجواهر ، ندور على القشور ولا نعرف كيف نصل إلى اللبّ على العكس ممّا كان عليه أسلافنا ، أهل الجدّ والنشاط. أهل الصدق في العمل قبل القول ، وفي العزائم قبل الحديث.
نحن نحسب أنّنا إذا قلنا قد اتحدنا واتفقنا وملأنا بتلك الكلمات لهواتنا واشداقنا ، وشحنّا بها صحفنا وأوراقنا نحسب بهذا ومثله يحصل الغرض المهم من الاتحاد ، ونكون كأُمّة من الأُمم الحيّة التي نالت بوحدتها عزّها وشرفها ، وأخذت المستوى الذي يحقّ لها.
ولذلك تجدنا لا نزداد إلّا هبوطاً ، ولا تنال مساعينا إلّا إخفاقاً وإحباطاً. يستحيل لو بقي المسلمون على هذا الحال أن تقوم لهم قائمة ، أو تجتمع لهم كلمة ، أو تثبت لهم في المجتمع البشري دعامة ، ولو ملئوا الصحف والطوامير ، وشحنوا أرجاء الأرض وآفاق السماء بألفاظ الاتحاد والوحدة ، وكلّ ما يشتق منها ويراد منها.
كلّ ذلك لا يجدي إذا لم يندفعوا إلى العمل الجدّي والحركة الجوهرية (11).
أخلاقيات الوحدة :
٦ ـ أن يجد كلّ مسلم أنّ مصلحة أخيه المسلم هي مصلحة نفسه ، فيسعى لها كما يسعى لمصالح ذاته ، ذلك حيث ينزع الغلّ من صدره والحقد من قلبه وينظر كلّ من المسلمين إلى الآخر ـ مهما كان ـ نظر الإخاء لا نظر العداء وبعين الرضا لا بعين السخط ، وبلحاظ الرحمة لا الغضب والنقمة.ذلك حيث يحسّ بوجدانه ، ويجد بضرورة حسّه ، أنّ عزّه بعزّ إخوانه وقوّته بقوّة أعوانه ، وأنّ كلّ واحد منهم عون للآخر ، فهل يتقاعس عن تقوية عونه وتعزيز عزّه وصونه!
ثمّ إذا كان التخلّق بهذا الخلق الشريف عسيراً لا ينال ، وشأواً متعالياً لا يدرك ، ولا يستطيع المسلم أن يواسي أخاه المسلم وأن يحبّ لأخيه المسلم ما يحبّ لنفسه ، وأن يجد أنّ صلاحه بصلاح أُمّته ، وعزّه بعزّة قومه فلا أقلّ من التناصف والتعادل والمشاطرة والتوازن ، فلا يجحد المسلم لأخيه حقّاً ، ولا يبخسه كيلا ولا يطفّف له وزناً.
والأصل والملاك في كلّ ذلك اقتلاع رذيلة الحرص والجشع والغلبة والاستئثار والحسد والتنافس ، فإنّ هذه الرذائل سلسلة شقاء ، وحلقات بلاء يتصل بعضها ببعض ، ويجرّ بعضها إلى بعض ، حتّى تنتهي إلى هلاك الأُمّة (12).
٧ ـ إذا نظرنا إلى ما جرّه هذا الخلاف والعداء من الويلات والبليات على المسلمين ، وما ضاع على أثره من الممالك الإسلامية الكبرى كالأندلس ، والقوقاز ، وبخارى ، ونحوها ، ولو أنّ المسلمين كانوا في تلك الظروف يداً واحدة كما أمرهم الله لما انتزع من الإسلام شبراً واحداً ، وإذا لم يكفنا عبرة ما سجّله التاريخ من تلك الفجائع فليكفنا ما رأيناه بأعيننا من رزية المسلمين بفلسطين وهو الفردوس الثاني (13).
إنّ داء المسلمين تفرّقهم وتضارب بعضهم ببعض ، ودواءهم الذي لا يصلح آخرهم إلّا به كما لا يصلح إلّا عليه ، ألا وهو الاتّفاق والوحدة (14).
وقد عرف اليوم حتّى الأبكم والأصمّ من المسلمين أنّ لكلّ قطر من الأقطار الإسلامية حوتاً من حيتان الغرب ، وأفعى من أفاعي الاستعمار فاغراً فاه لالتهام ذلك القطر وما فيه ، أفلا يكفي هذا جامعاً للمسلمين ومؤجّجاً لنار الغيرة والحماس في عزائمهم ، أفلا تكون شدّة تلك الآلام وآلام تلك الشدّة باعثة لهم على الاتحاد (15).
٨ ـ ضرورة عقد المؤتمرات في كلّ عام أو عامين يجتمع فيها عقلاء المسلمين وعلماؤهم من الأقطار النائية ليتعارفوا أوّلاً ، ويتداولوا في شؤون الإسلام ثانياً ، بل وأوجب من هذا عقد المؤتمرات والمعاهدات بين حكّام المسلمين ، فيكونوا يداً واحدة بل كيدين لجسد واحد يدفعان عنه الأخطار المحدقة به من كلّ جانب (16).
نصف قرن من الدعوة إلى الوحدة :
يقول الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء : مضى عليّ أكثر من خمسين سنة وأنا أهيب بإخواني المسلمين أدعوهم إلى الاتفاق والوحدةوجمع الكلمة ونبذ ما يثير الحفائظ وينبش الدفائن والضغائن التي أضرّت بالإسلام وفرّقت كلمة المسلمين فأصبح الإسلام غريباً يستنجد بهم ، تكالب عليه أعداؤه وجاحدوه وخذله أهله وحاملوه.
ومن أراد شاهد صدق على ذلك فليراجع الجزء الأول من الدين والإسلام أو الدعوة الإسلامية الذي طبع منذ٤٤ سنة ولينظر أوّل صفحة منه إلى صفحة ٢٧ تحت عنوان البواعث والدواعي لهذه الدعوة. ثمّ يشفع هذه النظرة بآخرين في أوّل الجزء الثاني منه فيرى المقطوعة التي يقول أولها :
بني آدم إنّا جميعاً بنو أب *** لحفظ التآخي بيننا وبنو أم
ومنها يقول :
بني آدم رحماكم في قبيلكم *** بفقد جزتم بري العظام إلى الهشم
حناناً على هذي النفوس فإنّها *** سماوية من رشح ذيالك اليم
هلمّوا نعيش بالسلم عصراً *** فإنّنا قضينا عصوراً بالتضارب والدمِ
إليكم بني الأديان منّي دعوة *** دعوتكم فيها إلى الشرف الجمِّ
إلى السلم فيكم والتساهل بينكم *** فيا حبّذا شرع التساهل والسلمِ
ولم تزل نشراتي ومؤلّفاتي في أكثر من نصف قرن سلسلة متوالية الحلقات متصلة غير منقطعة كلّها في النصح والإرشاد والدعوة إلى الاتحاد ودفع الفساد ، وقد طبع أصل الشيعة تسع مرات في كلّ واحدة مقدّمة طويلة في الحثّ والبعث إلى الوعي واليقظة ، وإنّ البلاء على الإسلام قد أحاط بالمسلمين منهم ، ومن الملحدين ومن المشركين.
وفي خلال هذه البرهة تحمّلت الأسفار وركبت متون الأخطار في البرّ والبحر والهواء ، وأنا في المرحلة الأخيرة ومن الحياة المنهوكة بالعلل والأسقام والتي هي تحت أجنحة الحمام ، كلّ ذلك في سبيل الدعوة إلى الخير والحقّ ، وخدمة الإسلام خالصاً لوجهه الكريم لا نريد مالاً ولا جاهاً ولا جزاءً ولا شكوراً (17).
وقد قال عنه أحمد زكي ( لله دره فيما جادت به قريحته الوقادة وغيرته الصادقة على العلم وعلى إحقاق الحق ) (18).
وقال عنه أمير البيان شكيب أرسلان ( ان تأليفكم ضرورة لأهل الإسلام في هذا العصر ، ومنها يعرف ما اتفق فيه أهل السنّة والشيعة وما اختلفوا فيه. ثمّ إنكم باجتهاداتكم تقربون بين الفريقين وتضيقون فرجة الخلف ما أمكن ، وإذا حاججتم فعن باع طويل ، وبرهان ودليل ) (19). لقد كان صحوة في الوحدة الإسلامية ويقظة في روحها وبعثاً في حركتها ونهضة في وعيها.
المصادر :
1- المثل العليا في الإسلام : ٨١.
2- أصل الشيعة وأصولها : ٣٤٩.
3- المثل العليا في الإسلام : ٨٧.
4- المصدر السابق : ٨٤.
5- دعوة التقريب بين المذاهب الإسلامية : ٦٧.
6- المصدر السابق : ٦٩.
7- المصدر السابق : ٧٢.
8- دعوة التقريب بين المذاهب الإسلامية : ٧٥ ،
9- المثل العليا في الإسلام : ١١٩.
10- المصدر السابق : ٦٧ ، الحجرات (٤٩) : ١٠.
11- المثل العليا في الإسلام : ١١٣.
12- المثل العليا في الإسلام : ١٣٣ ـ ١١٤.
13- دعوة التقريب بين المذاهب الإسلامية : ٦٩.
14- المثل العليا في الإسلام : ١١١.
15- المصدر السابق : ١١٦.
16- المصدر السابق : ١١٩.
17- المثل العليا في الإسلام : ٦٧ ـ ٦٨.
18- أصل الشيعة وأصولها : ٣٥.
19- المصدر السابق : ٥١.