علوم ومعارف الفقه

كان للبارزين في أبواب المعارف والعلوم المتعددة من علماء الإمامية لهم الدور الريادي والواسع ، والأثر الخالد في هذا المجال. نقف بإيجاز عند اثنين من أبرز علوم ذلك العهد ، لنتعرف على انجازاتهم فيهما ، وهي :
Wednesday, November 15, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
علوم ومعارف الفقه
 علوم ومعارف الفقه



 

كان للبارزين في أبواب المعارف والعلوم المتعددة من علماء الإمامية لهم الدور الريادي والواسع ، والأثر الخالد في هذا المجال. نقف بإيجاز عند اثنين من أبرز علوم ذلك العهد ، لنتعرف على انجازاتهم فيهما ، وهي :
القراءات ، والحكمة أو الكلام.
أولاً : القراءات : ومن أبرز قراء الشيعة في هذا العهد :
١ ـ محمد بن الحسن بن أبي سارة الرؤاسي الكوفي المتوفى بعد المائة بقليل ، له من الكتب : معاني القرآن ، إعراب القرآن ، الوقف والابتداء الكبير ، الوقف والابتداء الصغير.
٢ ـ زيد بن علي بن الحسين المتوفى سنة ١٢١ هـ ، له قراءة.
٣ ـ يحيى بن يعمر العدواني المتوفى سنة ١٢١ هـ ، له كتاب القراءات.
٤ ـ عاصم بن أبي النجود الكوفي المتوفى سنة ١٢٨ هـ ، أحد القراء السبعة. وقد استقر المصحف الشريف عند المشارقة على قراءته برواية حفص.
قال السيد الأمين : «قرأ عاصم على أبي عبد الرحمن السلمي القارئ ، على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولذا كانت قراءة عاصم أحب القراءات إلى علمائنا» (١).
٥ ـ حمران بن أعين الكوفي المتوفى حدود سنة ١٣٠ هـ.
٦ ـ أبان بن تغلب الكوفي المتوفى سنة ١٤١ هـ ، له : كتاب القراءات.
٧ ـ سليمان بن مهران الأعمش الكوفي المتوفى سنة ١٤٨ هـ.
٨ ـ زرارة بن أعين الكوفي المتوفى سنة ١٥٠ هـ.
٩ ـ أبو عمرو بن العلاء المازني البصري المتوفى سنة ١٥٤ هـ ، أحد القراء السبعة.
١٠ ـ حمزة بن حبيب الزيات الكوفي المتوفى سنة ١٥٦ هـ ، أحد القراء السبعة ، له من الكتب : القراءات ، الوقف والابتداء ، مقطوع القرآن وموصوله.
قال السيد الأمين : «وجد بخط الشهيد محمد بن مكي عن الشيخ جمال الدين أحمد بن محمد بن الحداد الحلي ماصورته : قرأ الكسائي على حمزة ، وقرأ حمزة على أبي عبداللّه الصادق ، وقرأ على أبيه ، وقرأ على أبيه ، وقرأ على أبيه ، وقرأ على أمير المؤمنين» (2).
١١ ـ الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري المتوفى سنة ١٧٠ هـ ، له كتاب النقط والشكل.
١٢ ـ علي بن حمزة الكسائي الكوفي المتوفى سنة ١٨٩ هـ ، أحد القراء السبعة ، وله من الكتب : القراءات ، معاني القرآن ، مقطوع القرآن وموصوله.
ثانيا : الحكمة والفلسفة وعلم الكلام : كان الإمام الصادق عليه‌السلام مؤسس مدرسة الفلسفة الإسلامية ، وقد تخرج في مدرسته من عظماء الفلسفة والكلام الاسلاميين ، وكبراء المنظرين وذوي الرأي فيهما ، أمثال :
١ ـ حمران بن أعين الكوفي.
٢ ـ زرارة بن أعين الكوفي.
وقد تقدم ذكرهما.
٣ ـ إبراهيم بن سلميان بن أبي داحة المزني البصري :
قال النجاشي والطوسي : كان وجه أصحابنا البصريين في الفقه والكلام والأدب والشعر (3).
٤ ـ مؤمن الطاق :
محمد بن علي بن النعمان البجلي الكوفي ، الملقب عند الشيعة بـ (مؤمن الطاق) ، وهو من شخصيات الكلام البارزة في منتصف القرن الثاني الهجري ، ومن رجالات الشيعة العلمية ، ذات الصلة الوثيقة بالإمام الصادق عليه‌السلام ، ومن تلاميذه الذين يثق بهم ، ويعتمد عليهم ، وهو معدود في التابعين.
ومن مؤلفاته :
ـ كتاب الإمامة. ـ كتاب الرد على المعتزلة في إمامة المفضول.
ـ كتاب المعرفة. ـ كتاب في أمر طلحة والزبير وعائشة.
ـ كتاب افعل ولا تفعل. ـ كتاب افعل لِمَ فعلت.
ـ كتاب الاحتجاج في إمامة علي عليه‌السلام. ـ كتاب كلامه مع الخوارج.
ـ كتاب مجالسه مع أبي حنيفة والمرجئة (4).
٥ ـ هشام بن الحكم :
من أبرز المفكرين والمتكلمين في القرن الثاني الهجري ، وأشهر شخصية علمية شيعية في عصره ، تتجسد فيه الروح العلمية والفكرية ، ويتمثل في آرائه ونظرياته الكثير من مبادئ الشيعة واتجاهاتهم تمثيلاً صريحا.
وهو من أعمدة الشيعة في العلم والكلام والآثار ، ومن خاصة الإمام الصادق عليه‌السلام ، وتلاميذه البارزين الذين أخذوا عنه وقاموا بأداء تعاليمه.
واشتهر بعمق تفكيره وقوة جدله ، وشدة عارضته ، وحدة ذكائه.
ذكر له من المؤلفات :
ـ كتاب الإمامة. ـ كتاب الدلالات على حدوث الأشياء.
ـ كتاب التوحيد. ـ كتاب الرد على أصحاب الإثنين.
ـ كتاب الجبر والقدر. ـ كتاب الرد على الطبيعيين.
ـ كتاب المعرفة. ـ كتاب الرد على أرسطاطاليس.
ـ كتاب الاستطاعة. ـ كتاب الرد على الزنادقة.
ـ كتاب الرد على المعتزلة ـ كتاب الحكمين.
ـ كتاب الميزان. ـ كتاب الوصية والرد على من أنكرها (5) ،وغيرها.
وفي مجال العلوم الأخرى : كانت مدرسة الإمامين الصادقين مدرسة جامعة لم يقتصر التدريس فيها على أصول العقيدة والفقة وأصوله ، وإنما تعدى هذه إلى تدريس الفلسة والكلام والعلوم الأخرى كالطب والفلك والكيمياء والفيزياء.
وأشهر من اشتهر من تلامذة هذه المدرسة الجامعة في هذا المجال : (جابر ابن حيان الكوفي) الذي دوّن محاضرات الإمام الصادق عليه‌السلام في علمي الكيمياء والطب في خمسمائة رسالة.
ونخلص في ختام حديثنا عن هذا العهد الزاهر إلى النتائج التالية :
١ ـ اعتبار هذا العهد ـ تاريخيا ـ عهد الانفراج بالنسبة إلى مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، وانتشار علومهم وآثارهم.
٢ ـ ارتفاع وازدياد نسبة الرواة ارتفاعا ملحوظا لم تشهده مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام في عهودها الأخرى.
٣ ـ توسع مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام في مواد التعليم حيث أضافت إلى العلوم الشرعية : المعارف العقلية والعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.
٤ ـ ارتفاع وازدياد نسبة التأليف ونسبة التوسع في نوعية محتويات الشيعة : ٦٣٣.
٥ ـ بروز حرية الرأي في الحوار والمناقشة والنقد وطرح الآراء حول ما كان يدور من قضايا ومسائل علمية في حلقات ولقاءات الدرس.
٦ ـ تغيير أسلوب التعليم من الحفظ والاستظهار إلى البحث والاستقراء ، وبانَ هذا بشكل واضح في حلقات التعليم.
٧ ـ وضع الأساس لتقعيد القواعد الأصولية والفقهية.
٨ ـ بروز مدينة الكوفة مركزا علميا للشيعة الامامية الاثني عشرية.
*نتائج عامة
أما النتائج العامة التي نخرج بها ـ هنا ـ بعد مواكبتنا لمسيره تاريخ التشريع الإسلامي الإمامي ، منذ عهد علي المرتضى عليه‌السلام حتى نهاية عهد أبناء الرضا عليه‌السلام ، فتتلخص بالتالي :
١ ـ إن النصوص الشرعية عند مدرسة أهل البيت كانت بالقدر الوافي بتزويد الفقيه في مجال الاستنباط بالمادة العلمية لاستخلاص الأحكام الشرعية الفرعية منها.
٢ ـ إن كثرة الرواة عن أئمة أهل البيت يعطينا مدى اهتمام مدرسة أهل البيت بأمر التشريع الإسلامي. وقد صعد الرقم البياني أيام الإمام الصادق عليه‌السلام صعودا كبيرا ، وملحوظا ، وذلك للأسباب التي ذكرناها في موضعها.
٣ ـ مدرسة قم والري
يبتدئ هذا العصر من الغيبة الكبرى ، (سنة / ٣٢٩ هـ) إلى النصف الأول من القرن الخامس.
في هذه الفترة انتقلت حركة التدريس والكتابة ، والبحث إلى مدينتي (قم والري) وظهر فيهما شيوخ كبار من اساتذة الفقه كان لهم أكبر الأثر في تطوير (الفقه الشيعي) فقد كانت (قم) منذ أيام الأئمة عليهم‌السلام حصنا من حصون الشيعة ، وموضع عناية خاصة من أهل البيت عليهم‌السلام.
وكانت (الري) في هذا التاريخ بلدة عامرة بالمدارس والمكاتب وحافلة بالعلماء والفقهاء والمحدثين (6).
وقد كان أحد أسباب انتقال مدرسة أهل البيت من العراق إلى ايران هو الضغط الشديد الذي كان يلاقيه فقهاء الشيعة وعلماؤهم من قبل العباسيين ، ومن قبلهم الأمويين لاسيّما في زمان السفّاك الحجاج بن يوسف الثقفي ، فقد كانوا يطاردون من يظهر باسم الشيعة بمختلف ألوان الأذى والتهمة. فالتجأ فقهاء الشيعة وعلماؤها إلى قم والري ، ووجدوا في هاتين البلدتين ركنا آمنا يطمئنون إليه لنشر فقه أهل البيت عليهم‌السلام وحديثهم.
وكانت (قم والري) بعد (سنة / ٣٣٤ هـ) تحت حكومة سلاطين آل بويه ، وعرف آل بويه في التاريخ بنزعتهم الشيعية وولائهم لأهل البيت عليهم‌السلام.
وفي (تاريخ قم) للحسن بن محمد بن الحسن القمي المتوفى سنة ٣٧٨ هـ : الباب السادس عشر ـ في ذكر أسماء بعض علماء قم ، وشيء من تراجمهم. يترجم لـ ٢٨٠ علما في قم ، بينهم من الشيعة ٢٦٦ علما ، و ١٤ من الفرق الأخرى.
فقد حفلت (قم والري) في هذه الفترة (القرن الرابع الهجري) بشيوخ كبار في الفقه والحديث : أمثال (الشيخ الكليني) المتوفى سنة ٣٢٩ هـ ، و (ابن بابويه والد الصدوق) المتوفى سنة ٣٢٩ هـ والمدفون بقم ، ومحمد بن الحسن بن الوحيد (ت / ٣٤٠ هـ) ، و (ابن قولويه) أستاذ (الشيخ المفيد) المتوفى سنة ٣٦٩ هجرية ، و (ابن الجنيد) المتوفى سنة ٣٨١ هجرية بالري ، و (الشيخ الصدوق) المتوفى سنة ٣٨١ هـ والمدفون بالري ، وغيرهم من كبار مشايخ الشيعة في الفقه والحديث.
ونشطت في هذه الفترة حركة التأليف والبحث الفقهي ، وتدوين المجاميع الحديثية الموسعة ، كـ (الكافي) و (من لايحضره الفقيه) ، وغيرهما من المجاميع الحديثية ، والكتب الفقهية.
وذكر ابن النديم في الفهرست جملة من كتب فقهاء هذه المدرسة. ويكفي في هذا أن كان للصدوق وحده نحوا من ثلاثمائة مؤلف (7). الأمر الذي يشير إلى وجود نشاط فكري وفقهي كبير في هذه المدرسة.
وكتاب (من لايحضره الفقيه) هو الموسوعة الحديثية الجامعة الثانية التي وصلتنا من كتب الفقه المؤلّفة في هذه الفترة بعد (الكافي) للكليني. ولا نريد أن نستقصي أسماء فقهاء ومحدثي هذه المدرسة.
ويكفي القارئ أن يراجع كتاب (مجالس المؤمنين) للقاضي نور اللّه التستري ، ليلمس سعة هذه المدرسة وضخامتها ، وما انجبته هذه المدرسة من كبار الفقهاء والمحدثين ، وما خلقته من موسوعات فقهية وحديثية وتراث فكري ضخم.

ملامح المدرسة :

وأولى هذه الملامح وأهمها : التوسعة في تدوين الحديث وجمعه في موسوعات حديثية شاملة.
وظهر في هذه الفترة لون جديد من الكتابة الفقهية ، وهي الرسائل الجوابية ، في المسائل الفقهية الواردة من السائلين ، وهي رسائل غالبا ما تكون استدلالية مفصلة تستقصي الأحاديث الواردة في المسألة.
وقد أسهم ذلك في تطوير البحث الفقهي في هذه الفترة ، فكانت نقطة بداية للرأي والنظر إن صح هذا الاعتبار.
ومع ذلك فقد كان البحث الفقهي في هذه الفترة يقضي مراحل نموه الأولية. ولم يتجاوز في الغالب حدود الفروع الفقهية المذكورة في حديث (أهل البيت عليهم‌السلام) ، ولم يفرغ الفقهاء بصورة كاملة لتفريع فروع جديدة
للمناقشة والرأي. وكانت الفتاوى فيالغالب نصوص الأحاديث مع إسقاط الأسناد وبعض الألفاظ في بعض الحالات.
٤ ـ مدرسة بغداد
في القرن الخامس الهجري انتقلت المدرسة من (قم والري) إلى (بغداد) حاضرة العالم الاسلامي عامة. وكان لهذا الانتقال أسباب عديدة :
الأول : ضعف جهاز الحكم العباسي ، حيث ضعفت سيطرتهم في هذه الفترة ، ودبَّ الانحلال في كيانه ، فلم يجد القوة الكافية لملاحقة الشيعة والضغط عليهم ، كما كان المنصور والرشيد والمتوكل والمعتصم وأضرابهم ، فوجد فقهاء الشيعة مجالا للظهور ونشر الفقه الشيعي ، وممارسة البحث الفقهي بصورة علنية.
الثاني : ظهور شخصيات فقهية من بيوتات كبيرة ، كالشيخ المفيد والسيد المرتضى ، فقد كان هؤلاء يستغلون مكانة بيوتهم الاجتماعية ، ومكاناتهم السياسية في نشر الفقه الشيعي وتطوير دراسة الفقه.
الثالث : كانت هذه البيئة الجديدة ـ بغداد ـ صالحة لتقبل هذه المدرسة ، وتطويرها وخدمتها. فهي مركز ثقافي كبير من مراكز الحركة العقلية في العالم الإسلامي ، يقطنها الآلاف من الفقهاء والمحدثين ، وتنتشر فيها آلاف المدارس والمكاتب والمساجد التي كان يحتشد فيها جماهير الطلاب والمدرسين والعلماء كل يوم للدرس والمطالعة ، والبحث والمناقشة.
فكان لانتقال المدرسة إلى هذا الجو الفكري على يد علماء كبار أمثال المفيد والمرتضى والطوسي أثر كبير في الحركة الفكرية القائمة في حينه ، فقد تكاملت مدرسة الفقه الشيعي في (قم والري) وتأصلت ، ثم ظهرت ملامح الاستقلال عليها وتبلورت أصولها وقواعدها في (بغداد).
ومن المستحسن بنا ـ ونحن بصدد دراسة الفقه الشيعي في هذا العصر ـ أن نمرّ سريعا على تراجم ألمع فقهاء هذه الدورة :
١ ـ المفيد (٣٣٦ ـ ٤١٢ هـ) : أبو عبداللّه محمد بن محمد بن النعمان المفيد البغدادي ، ولد في (عُكبرا) من نواحي الدجيل ، وانتقل منها في أيام صباه إلى بغداد بصحبة والده ، ونشأ في بغداد ، وتفرغ منذ نعومة أظفاره لطلب العلم ، فعرف وهو بعد صغير يرتاد حلقات الدراسة بالفضل والنبوغ.
وقد قدّر للشيخ المفيد أن يكون رائدا فكريا لهذا العصر من عصور الفقه الإسلامي. وأن يدخل تغييرات وتحسينات كثيرة على الفقه ويطور من مناهجه وقواعده.
ومن استعراض حياة المفيد يستظهر الباحث أن الشيخ المفيد استطاع أن يغيّر الجو الفكري في بغداد حاضرة العالم الإسلامي يومذاك ، وأن يعزز ندوات الفقه والكلام ، ويجذب إلى نفسه طلاب العلم حتى كاد أن يغطي على المدارس الفقهية والكلامية الأخرى والفقهاء والمتكلمين من أتباع سائر المذاهب.
وقد كان الفقهاء والمتكلمون يقصدونه من أقطار بعيدة ، وكان بيته ندوة عامرة بحديث الفقه والكلام ، والنقاش والأخذ والرد.
٢ ـ المرتضى (٣٥٥ ـ ٤٣٦ هـ) : تلمّذ المرتضى علم الهدى ، وأخوه الشريف الرضي ، على الشيخ المفيد وعنى بهما الشيخ عناية فائقة ، وتفرغ المرتضى في الفقه بجانب تخصصه في الأدب.
وقد خلف استاذه المفيد ، وتولّى بنفسه مهمة التدريس ، وزعامة الطائفة ، واحتشد حوله الطلاب. وكان يُجري عليهم حقوقا تختلف حسب مكانة الطالب منه ومؤهلاته.
وحاول السيد المرتضى أن يتابع خطوات أستاذه المفيد في تطوير مناهج الفقه ودراسة الأصول ، فأوتي حظا وافرا في هذا المجال ، وطوَّر كثيرا من مناهج الفقه ، وكتب الأصول ودرّسها.
وربما يصح اعتباره من أسبق من ارتاد هذا الحقل من حقول الفكر الاسلامي ، وفتح كثيرا من مسائل الأصول وبنى الفروع على الأصول.
وكتابه (الذريعة) خير شاهد على ما نقول ، فمن يقرأ (الذريعة) يجد فيه الملامح الأولية لنشوء علم الأصول.
٣ ـ الشيخ الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠ هـ) : ولد شيخ الطائفة في طوس في شهر رمضان سنة ٣٨٥ ، بعد أربع سنين من وفاة الشيخ الصدوق ، وهاجر إلى العراق ، فهبط بغداد سنة ٤٠٨ وهو ابن ثلاث وعشرين سنة ، وكانت زعامة المذهب
الجعفري يومذاك لشيخ الامة وعلم الشيعة محمد بن محمد بن النعمان الشهير بالشيخ المفيد ، فلازمه ملازمة الظل ، وعكف على الاستفادة منه ، وأدرك شيخه الحسين بن عبيداللّه ابن الغضائري المتوفى سنة ٤١١ ، وشارك النجاشي في جملة من مشائخه.
وكان للمفيد والمرتضى أثر كبير في تكوين ذهنية الشيخ الطوسي وثقافته. وكان في هذه الفترة يعيش تجربة تطوير البحث الفقهي والأصولي في ظل أستاذيه الكبيرين ، وكانت فترة مخاض تمخضت عنها المدرسة الفقهية الجديدة. التي تولّى زعامتها بعد وفاة أستاذه السيد المرتضى سنة ٤٣٦ هـ.
انتقل الشيخ الطوسي إلى النجف الأشرف سنة ٤٤٨ حينما كُبس على داره ببغداد وبقي في النجف حتى وفاته سنة ٤٦٠ هـ (8).
لقد اتيح للشيخ الطوسي أن يبلغ بالمدرسة ، التي فتح أبوابها أستاذه المفيد والمرتضى ، إلى القمة ، ويفرض وجودها على الأجواء الثقافية في بغداد وفي العراق عامة. حتى أن الخليفة القائم بأمر اللّه بن القادر باللّه جعل له كرسي الافادة والبحث ، ونصبه لهذا المكان الرفيع ، وكان لكرسي الافادة والكلام مقام كبير يومذاك ببغداد.
وفي بيان دور الشيخ الطوسي في الفقه وأصوله يقول السيد الخوئي أحد أبرز فقهاء عصره : «إنّ الشيخ الطوسي لم يكن وجوده ودوره على الخطّ العلمي تعبيرا عن مجرّد إضافة عددية إلى العلماء الذين سبقوه ، وإنّما كان منطلق رحلة جديدة من تطوّر الفكر الفقهي والأصولي في الإطار الشيعي ، وبالرغم من أنّ طاقات علمية تدريجية ـ مهّدت لهذا المنطلق ـ اندمجت فيه ، من قبيل العطاءات العلمية التي تعاقبت من ابن أبي عقيل ، وابن الجنيد ، والشيخ المفيد ، والسيد المرتضى قدّس اللّه أرواحهم ، فإنّ نبوغ الشيخ الطوسي هو الذي استطاع أن يصبّ كلّ تلك الطاقات في بناء علمي واحد ، ويضيف إليها من عطائه وإبداعه ما هيّأ للعلم أسباب الانتقال إلى مرحلة جديدة من مراحل النموّ والتطوّر» (9).

ملامح المدرسة :

١ ـ أولى هذه الملامح : أن الفقه خرج في هذا الدور عن الاقتصار على استعراض نصوص الكتاب ، وما صح من السنّة ، إلى معالجة النصوص ، واستخدام الأصول والقواعد.
وفي هذه المرحلة انقلبت عملية (الاستنباط) إلى صناعة علمية لها اصولها وقواعدها ، وانفصل البحث الأصولي عن البحث الفقهي وأفرد بدراسات ومطالعات خاصة ، وقام البحث الفقهي على نتائج هذه الدراسات والمطالعات.
٢ ـ ومن ملامح هذا العصر : تفريع المسائل الفقهية واستحداث فروع جديدة لم تتعرض لها نصوص الروايات.
والسر واضح ، فلم يقدَّر للفقه الجعفري أن يدخل قبل هذا العصر دور المعالجة والصناعة ، وتفريع فرع على فرع آخر ، أو حكم شرعي أو قاعدة شرعية تحتاج إلى شيء أكثر من استعراض نصوص الأحكام والقواعد ، فلا يتم ذلك عادة من غير المعالجة والصناعة ، وهذا لم يتوفر للبحث الفقهي قبل هذا العهد.
٣ ـ والظاهرة الثالثة من ملامح هذا العصر : ظهور (الفقه المقارن) أو (الخلافي). فحينما تمركزت المدرسة الشيعية في الفقه في بغداد وفرضت وجودها على الأجواء العلمية في حاضرة العالم الإسلامي ، أدّى ذلك إلى خصوبة البحث الفقهي ، فالخلاف والانشقاق دائما يؤدي إلى الخصوبة ، لا العقم.
وكان من آثار ذلك أن تفرغ فقهاء الشيعة لبحث المسائل الخلافية بصورة موضوعية ، وبشكل مسهب وظهر هذا النوع من البحث الفقهي لأول مرة في هذا العصر على يد المفيد والمرتضى والطوسي.
وتوسع الشيخ الطوسي بشكل خاص لدراسة هذا الجانب من البحث الفقهي في كتابه الكبير (الخلاف) بشكل موسع تناول فيه المسائل الفقهية لدى الشيعة والسنّة في مختلف أبواب الفقه ، وتعرض في كل مسألة لما يسند الجانبين من الأدلة ، وناقش آراء المذاهب الأخرى في كثير من المسائل. والكتاب ـ رغم قدمه ـ قيِّم لا يستغني عنه باحث فقيه.
وقبله كتب السيد المرتضى كتاب (الانتصار) ويقال إن له أيضا : (متفردات الامامية) صنفه للوزير عميد الدين في بيان الفروع التي شنع على الشيعة بأنهم خالفوا فيها الاجماع.
وقبل الجميع ظهر كتاب (الاعلام فيما اتفقت الامامية عليه من الاحكام مما اتفقت العامة على خلافهم فيه) للمفيد ، ألفه بطلب تلميذه المرتضى.
وبهذا يتّضح أنّ فقهاء الشيعة هم أوّل من فتح باب الدراسات الفقهية المقارنة بين المذاهب الإسلامية ، حيث لم يسبقهم إلى هذا أحد.
٤ ـ ومن ملامح هذا العصر : ظهور (الاجماعات) والاستدلال بها ، ذلك أن توسع البحث الفقهي وتكامله دفع الفقهاء إلى استكشاف أدلة جديدة للاستنباط ، فيما إذا لم يجدوا في المورد نصا أو لم يقتنعوا بسلامة النص من حيث السند ، أو الدلالة.
فوجدوا في إجماع فقهاء المذاهب عامة ، أو فقهاء الشيعة في عصر واحد ، دليلاً على وجود نص شرعي يجوز الاعتماد عليه.
وظهر الاحتجاج بالاجماع بصورة واضحة في هذا العصر وعند الشيخ الطوسي بصورة خاصة.
٥ ـ مدرسة الحلة ، ومدرسة حلب
مدرسة الحلة :
برزت (مدرسة الحلة الفقهية) قبل احتلال (بغداد) على يد هولاكو التتار سنة ٦٥٦ هـ.
وحينما أحتلت بغداد من قبل المغول اجتمع في الحلة عدد كبير من الطلاب والعلماء ، وانتقل معهم النشاط العلمي من (بغداد) إلى (الحلة) ، واحتفلت هذه البلدة وهي يومئذ من الحواضر الاسلامية الكبرى بما كانت تحتفل به (بغداد) من وجوه النشاط الفكري ، ندوات البحث والجدل ، وحلقات الدراسة ، والمكاتب ، والمدارس ، وغيرها.
المصادر :
1- أعيان الشيعة ١ : ١٣١.
2- أعيان الشيعة ١ : ١٣١ ـ ١٣٢.
3- الفهرست / الطوسي : ١٠ / ٣.
4- الشيخ عبداللّه نعمة / فلاسفة الشيعة : ٤٥٠.
5- الطوسي / الفهرست : ٤٩٣ / ٧٨٣ ، النديم / الفهرست : ٢١٧ ، فلاسفة
6- مجالس المؤمنين : ٩٢ ـ ٩٣.
7- الكنى والألقاب ١ : ٢١٢.
8- المنتظم ٨ : ١٧٩.
9- من رسالة السيد الخوئي إلى المؤتمر الألفي الذي عقد في مدينة مشهد المقدّسة بإيران سنة ١٣٨٥ هـ بمناسبة الذكرى الألفية لولادة الشيخ الطوسي قدس‌سره والرسالة مطبوعة في بداية الجزء الثاني من أعمال المؤتمر المذكور.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.