
في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة ، المعرکة التي تمكّن وحشي من التربّص بحمزة وهو يقاتل المشركين كالأسد الهصور، فرماه برمح فقتله، فلقي الله شهيداً رضي الله عنه وأرضاه.
وفي هذه المعركة ، أبدى بعض المسلمين بطولات خارقة تفوق حد الوصف ، كما أبدى البعض الآخر خوفه وجبنه وارتيابه ! فكأن هذه الحرب كانت محكاً لأختبار مدى الإيمان واعتماله في نفوس المسلمين ، ومدى عمق التزامهم بأوامر الرسول الكريم (صلی الله عليه وآله وسلم)واتباع رأيه. فكشفت لنا حقيقة الأمر ، فأفرزت أبطالاً اشداء مؤمنين بالله ورسوله تعاقدوا على الموت دفاعاً عن الرسول والرسالة ، أمثال أمير المؤمنين علي وعمه الحمزة عليهماالسلام ، وأمثال مصعب بن عمير الذي استشهد دون لواء الإسلام ، وأبي دجانة الأنصاري وغيرهم رضوان الله عليهم.
كما أفرزت لنا هياكل خاوية انطوت على نفوس متزلزلة وقلوب ضعيفة ونوايا كاذبة ، نربأ بأنفسنا أن نذكر اسماء بعضهم هنا ، لأن ذلك لا يكون الا سبّة عار في تاريخنا الإسلامي.
وجميل بنا أن نذكر بعض أولئك الخالدين من أبطال الإسلام الذين استشهدوا يوم أحد ، فنشير إلى بعض مواقفهم الخالدة ، ومواقف أسرهم وذويهم. ولا ننسى هنا دور المرأة المسلمة في هذه الحرب ، أمثال سيدة النساء فاطمة ، والسيدة صفية بنت عبد المطلب ، والسيدة أم عمارة نسيبة بنت كعب رضي الله عنهم ، ونذكر الآن فيما يلي نبذاً من مواقفهم.
سعد بن الربيع
بعد أن انتهت المعركة ، قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)من ينظر إلي ما فعل سعد بن الربيع ؟فقال رجل من الأنصار : أنا أنظر إليك ـ يا رسول الله ـ فذهب يبحث عنه ، فوجده بين القتلى ، وبه رمق ! فقال له : إن رسول الله أمرني أن أنظر له في الأحياء انت ام في الأموات !
قال سعد : أنا في الأموات !! فأبلغ رسول الله عني السلام وقل له : إن سعد بن الربيع يقول لك : جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمّته !. وأبلغ عني قومك السلام وقل لهم : إن سعد بن الربيع يقول لكم : إنه لا عذر لكم عند الله ـ إن خَلُصَ إلى نبيكم ـ وفيكم عين تطرف !
ثم تنفس ، فخرج منه مثل دم الجزور ومات ، رحمهالله. فرجع الأنصاري الى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)وأخبره بحاله.
فقال (صلی الله عليه وآله وسلم): رحم الله سعداً ، نصرنا حيّاً وأوصى بنا ميتا !. (١)
عمرو بن الجموح
ومن اولئك الخالدين ، عمرو بن الجموح.وكان عمرو هذا رجلاً أعرج ، وكان له بنون أربعة مثل الأُسد يشهدون مع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)المشاهد ، فلما كان يوم أحد وقد خرج بنوه الأربعة مع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)، أراد هو أن يخرج أيضاً ؛ فحبسه قومه ، وقالوا له : لقد ذهب بنوك مع النبي ؛ وأنت رجل أعرج ، ولا حرج عليك !
فقال : بخ !! يذهبون الى الجنة ، وأجلس أنا عندكم !؟
قالت زوجته ـ هند بنت عمرو بن حزام ـ : كأني أنظر إليه موليّاً قد أخذ دِرقَته ، وهو يقول : اللهم لا تردني إلى أهلي !. فخرج ، ولحقه بعض قومه يكلمونه في القعود ، فأبى وجاء الى رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)فقال : يا رسول الله ، إن قومي يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك ، واني لأرجو الله أن أطأ بعرجتي هذه الجنة !!
فقال له النبي : أما أنت ، فقد عذرك الله ولا جهاد عليك ! فأبى.
فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)لقومه وبنيه : لا عليكم أن تمنعوه ، لعل الله يرزقه الشهادة ! فخلوا عنه.
قال بعضهم : لقد نظرت إلى عمرو بن الجموح حين انكشف المسلمون عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)ثم ثابوا ، وهو في الرعيل الأول ، لكأني أنظر إلى خلفه ـ وهو يعرج في مشيته ـ وهو يقول : أنا والله مشتاق إلى الجنة !! وابنه يعدو في أثره حتى قتلا جميعاً (2).
ولا ننسى هنا موقف زوجته السيدة هند بنت عمرو ، فإنها فقدت زوجها عَمراً وابنها خِلاد ، واخاها عبدالله ، وقد حملتهم جميعاً على بعير لتدفنهم في المدينة.
فقيل لها : ما وراءك ؟
فقالت : أما رسول الله ، فهو بخير. وكل مصيبةٍ بعده جَلَل ؛ واتخذ الله من المؤمنين شهداء ! وبينما هي تسوق بعيرها وإذا به يبرك بهم ، فلما زجرته ، وقف ! فوجهته إلى المدينة ، فعاد وبرك ! فرجعت به إلى أحد ، فأسرع ، وكأنه لم يحمل شيئاً !!
فرجعت إلى النبي ـ وكان لا يزال في أحد ـ وأخبرته بما جرى ! فقال (صلی الله عليه وآله وسلم): إنه لمأمور ! هل قال زوجك ـ حينما خرج ـ شيئاً ؟
قالت : نعم ، إنه لما توجه إلى أحد ، استقبل القبلة ، ثم قال : اللهم لا تردني إلى اهلي.
فقال لها (صلی الله عليه وآله وسلم): إن منكم ـ يا معشر الأنصار ـ من لو أقسم على الله ، لأبره ! منهم زوجك : عمرو بن الجموح. ثم دفنهم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)وقال لهند : يا هند ، لقد ترافقوا في الجنة ثلاثتهم.
فقالت : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني معهم ، فدعا لها بالخير (3).
حنظلة بن أبي عامر « غسيل الملائكة »
كان أبوه يدعى ب « أبو عامر الراهب » وكان مع المشركين ، وقد خرج إلى مكة مباعداً لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)ومعه خمسون غلاماً من الأوس ، فلما إلتقى الناس بأُحد ، كان أبو عامر أول من لقي المسلمين في الأحابيش وعبدان أهل مكة.
فنادى : يا معشر الأوس ؛ أنا أبو عامر !
قالوا : فلا أنعم الله بك عيناً ، يا فاسق. !!
فقال : لقد أصاب قومي بعدي شرُّ ! ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً حتى راضخهم بالحجارة .. (4)
أما حنظلة « ابن ابي عامر » فقد كان في صف النبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)وكان حديث عهدٍ بالزواج فقد تزوج من جميلة بنت عبدالله بن أبي سلول ، فأُدخلت عليه في الليلة التي كان في صبيحتها قتال أُحد. وكان قد إستأذن رسول الله أن يبيت عندها فأذن له ، فلما صلى الصبح ، غدا يريد رسول الله ، فلزمته جميلة ، فعاد إليها فكان معها ، وخرج إلى رسول الله مسرعاً ، ولم يغتسل من جنابته ! ـ وكانت جميلة قبل خروجه قد أشهدت عليه أربعة بأنه قد دخل بها ، فقيل لها بعد ذلك لما أشهدت عليه ؟! ـ فقالت : رأيت في الطيف كأن السماء قد انفجرت فدخل بها ، ثم أطبقت عليه ! فعلمت أنه سيقتل ، وقد حملت منه جميلة بعبد الله ابن حنظلة.
ولما استشهد حنظلة ، قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة ابن أبي عامر ، بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة !.
قال أبو أسيد الساعدي : فذهبنا ، فنظرنا إليه ، فإذا رأسه يقطرماءً فرجعت إلى رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)فأخبرته ، فأرسل إلى إمرأته فسألها ، فأخبرته انه خرج وهو جنب.
فقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): لذلك غسلته الملائكة.
وحنظلة هذا ، هو الوحيد الذي لم يمثِّل به المشركون ، لأن أباه نهاهم عن ذلك ، وقال : يا معشر قريش ؛ حنظلة لا يمثل به ، وان كان خالفني وخالفكم. (5)
السمداءُ بنتً قيس
وهي إحدى نساء بني دينار ، قتل ولداها بأحد مع النبي ، وهما : النعمان بن عبد عمرو ، وسليم بن الحارث ، فلما نُعيا إليها ، قالت : ما فعل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)؟ قالوا : بخير هو بحمد الله صالح على ما تحبين. فقالت : أرونيه ، أنظر اليه ! فأشاروا لها إليه ، فقالت :كل مصيبةٍ بعدك جَلَلٌ ـ يا رسول الله ـ.
وخرجت تسوق بابنيها بعيراً ، تردهما إلى المدينة ، فلقيتها عائشة ، فقالت لها : ما وراءك ؟ فأخبرتها. قالت : فمن هؤلاء معك ؟
قالت : إبناي ـ حِلْ ! حِلْ !! (حِل حِل : زجر البعير ، وهو دليل على عدم مبالاتها بمقتل ولديها لأنها مطمئنة أن مصيرهما إلى الجنة). ـ تحملهما الى القبر (6)
صفية بنت عبد المطلب
وقد ذكرنا عنها شيئاً حين وقوفها على مصرع أخيها الحمزة.
ولها موقف بطولي آخر يوم أحد ، حيث قتلت رجلاً يهودياً في حين جبن أحد الرجال المسلمين عن قتله. فهي تحدثنا بذلك فتقول :
لقد صعدنا يوم أحد على الآطام ـ رؤوس التلال ـ وكان معنا حسان بن ثابت وكان من أجبن الناس ! ونحن في فارع ، فجاء نفر من يهود يرومون الأطم ، فقلت : دونك يا بن الفُرَيَعة ـ تعني حسانا ـ فقال : لا والله لا أستطيع القتال ، ويصعد يهودي إلى الأطم فقلت : شدَّ على يدي السيف ، ففعل فضربت عنق اليهودي ورميت برأسه إليهم ، فلما رأوه إنكشفوا ! (7)
مخيرق
قال الواقدي : وكان مخيرق اليهودي من أحبار اليهود فقال يوم السبت ـ ورسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)في احد ـ يا معشر يهود ، والله إنكم لتعلمون أن محمداً نبي ، وان نصره عليكم حق.فقالوا : ويحك ! اليوم يوم السبت ، فقال : لا سبْت ، ثم أخذ سلاحه وحضر مع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)فأصيب ، فقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): مخيرق خير يهود.
وكان مخيرق قال حين خرج إلى أُحد : إن أصبتُ ، فأموالي لمحمّد يضعها حيث أراه الله فيه (8).
نسيبة بنت كعب
وتكنى أم عمارة ، وهي من اللواتي شهدن أحداً مع رسول الله وأبلين بلاءً حسناً.وكانت هذه المرأة البطلة قد خرجت في أول النهار ومعها شن تريد أن تسقي الجرحى ، فقاتلت يومئذٍ وأبلت بلاءً حسناً ، وجُرحت اثني عشر جرحاً بين طعنة برمح وضربةٍ بسيف.
وقد طلبت أم سعد منها أن تروي لها ما جرى عليها في أحد ، فقالت : خرجت أول النهار إلى أُحد وأنا أنظر ما يصنع الناس ، ومعي سقاء فيه ماء ، فانتهيت إلى رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)في الصحابة والدُوَلَة للمسلمين ، فلما انهزم المسلمون ، إنحزت إلى رسول فجعلت أباشر القتال ، وأذب عن رسول الله بالسيف وأرمي بالقوس ، حتى أصابتني الجراحات.
تقول أم سعد : فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور ، فقلت : يا أم عمارة ، من أصابك بهذا الجرح ؟
قالت : لقد أقبل أبن قمئة ـ وقد ولى الناس عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)ـ وهو يصيح : دلوني على محمد لا نجوت إن نجا ! فاعترضه مصعب بن عمير وناس معه كنت فيهم ، فضربني هذه الضربة ، ولقد ضربته ضربات ، ولكن عدو الله كان عليه درعان. (9)
وهذه المرأة ، هي التي أعطاها النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)وسام شرفٍ حين قال : « لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان ». (10)
لقد وقف أولئك الأبطال الأشاوس أعظم موقف في سبيل الدفاع عن الحق وعن العقيدة ، فسطروا بدمائهم أروع ملحمةٍ تاريخية كان رائدهم فيها الصدق والإخلاص ، صدق الإيمان وصدق العقيدة ، والإخلاص فيما عاهدوا الله عليه ، وقد بلغ عدد الذين استشهدوا من المسلمين نحواً من سبعين رجلاً.
أما الذين ثبتوا مع رسول الله في ساعة العسرة فإنهم لم يتجاوزوا السبعة نفر فإن جمهور المؤرخين يروي : انه لم يبق مع النبي صلىاللهعليهوآله إلا علي عليهالسلام وطلحة والزبير وأبو دجانة ، وقد روي عن ابن عباس أنه قال : ولهم خامس وهو عبدالله بن مسعود ، ومنهم من أثبت لهم سادساً ، وهو : المقداد بن عمرو (11).
ولما رجع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)إلى المدينة إستقبلته فاطمة (12) ومعها إناءٌ فيه ماء فغسل وجهه الكريم ، ثم لحقه أمير المؤمنين علي وقد خضب الدم يده إلى كتفه ومعه ذو الفقار ، فناوله فاطمة ، وقال : خذي هذا السيف ، فلقد صدقني هذا اليوم ، وأنشد :
أفاطم هاك السيف غير ذميم / فلست برعديد ولا بلئيم
لعمري لقد أعذرت في نصر أحمد / وطاعة ربٍ بالعباد عليم
اميطي دماء القوم عنه فإنه / سقى آل عبد الدار كاس حميم
وقال لها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): لقد أدى بعلك ما عليه ، وقتل الله بسيفه صناديد قريش (13).
المصادر :
1- سيرة المصطفى ٤٢٦.
2- شرح النهج ١٤ / ١٦١.
3- شرح النهج ١٤ / ٢٦٢.
4- الكامل ٢ / ١٤٩ ـ ١٥٠.
5- راجع شرح النهج ١٤ / ٢٦٩ ـ ٢٧١.
6- شرح النهج ١٥ / ٣٧.
7- المصدر السابق ١٥ / ١٥ و ١٦.
8- نفس المصدر ١٤ / ٢٦٠.
9- شرح النهج ١٤ / ٢٦٦.
10- شرح النهج ٥ / ٥٤.
11- البحار ٢٠ / ١٤١.
12- لا يمنع أن تكون فاطمة قد حضرت أحداً ثم سبقت رسول الله الى المدينة.
13- سيرة المصطفى / ٤٣٠ ورواه في فرائد السمطين قريباً من ذلك ١ / ٢٥٢ وفي شرح النهج ايضاً ١٥ / ٣٥